الأحد، 27 فبراير 2011

كارثة عدم فهم الرئيس



المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
كتب أحد المعلقين على "توتير"، الشبكة الاجتماعية الالكترونية العالمية الشهيرة، قائلاً: "يبدو أن الرئيس اليمني سيرحل عن السلطة دون أن يقول لشعبه فهمتكم، لأنه إن قالها فقد كذب".
في الواقع، كان الكاتب –وهو بالمناسبة أجنبي- قد اعتبر -على سبيل النكتة- أن رئيسنا ضعيف الفهم.

وبالأمس فقط، كان منسوب تلك الاحتمالية يرتفع مقترباً أكثر من تحول النكتة إلى حقيقة ملموسة. ذلك حينما قال الرئيس خلال مؤتمر صحفي:" أنتم تطالبون برحيل النظام، تعالوا نرحل عن طريق صناديق الاقتراع"! وكان سعيداً –كما وصف نفسه– وهو يتحدث أمام وسائل الإعلام عن ما يحدث في اليمن منذ أيام من اعتصامات ومظاهرات قال إنها "تندرج في إطار التعبير عن الرأي، وفي إطار حرية الصحافة". وقبلها بأيام كان يتحدث عن وجود أجندات خارجية ومحاولات للانقلاب على "الشرعية الدستورية".

هل هذا يؤكد فعلاً، أن الرئيس لا يمكنه أن يفهم؟ أم أنه فهم، لكنه كان يعتمد سياسة الحرب النفسية؟
في الواقع، أياً يكن الأمر، فكلا الأمرين يؤديان إلى حتمية واحدة: أن هذا النظام غير راشد، وأن الواجب، اليوم، بات يحتم علينا تغيير أسسه ومقوماته، وخلعه من جذوره. سواء لكونه لم يفهم تطلعات شعبه، وما يمكن أن ينتج عنها، وتفضيل مواصلة السير عكس اتجاه حركة التاريخ والحياة العصرية بدون بصيرة. أم لكونه يتعامى أو يتجاهل -أو بالأحرى– يقلل من شأن قدرات الشعب لتحقيق تطلعاته، تحت حسابات القوة المجردة.

إن حديث الرئيس المتكرر عن أن التغيير يجب أن يكون عبر صناديق الاقتراع (وردت تلك التصريحات تقريباً في معظم خطاباته التي ألقاها أثناء لقاءاته الأخيرة المتقاربة مع مجاميع من المشايخ القبلية وبعض فعاليات المجتمع المدني التي نفذها بشكل شبه يومي خلال الأيام العشرة الماضية) يكشف ضعفاً في فهم واستيعاب حركة التغيير المجتمعية الحديثة، التي انطلقت مع أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة (ديسمبر 2010/ تونس)، وتحققت فعالياتها مع مطلع العقد الثاني منها 2011 (يناير/ تونس، فبراير/ مصر).

ومن خلال تشديده المتكرر لمثل تلك العبارات، ربما أمكننا القول –إلى حد قد يتوافق تماماً مع ما يحدث على أرض الواقع– أن الرئيس لم يستوعب أنه وفي كلا النظامين الاستبداديين البائدين، كان العامل المشترك فيهما –إلى جانب التشابه الكبير في سياقات الفعل الإدارية الأخرى– هو : وجود صناديق الاقتراع تلك، الأشبه بآلة فرز مبرمجة تخضع لأوامر وتوجيهات الحاكم نفسه، وتغذى بأموال وخزينة الشعب حتى لا تنحرف لتفرز أشياء أخرى غير مرغوبة ربما بعيداً عن شعارات وصور وأكليشيهات الحزب الحاكم.

وحين قال الرئيس التونسي المخلوع لشعبه "فهمتكم"، وقال المصري المعنى ذاته -وإن بألفاظ أخرى– كانا قد أدركا تماماً ولكن في وقت متأخر أن ديمقراطية صناديق الاقتراع تلك، لم تعد قادرة على مواصلة مفعولها السحري. وكان آخر الرجاء محاولة التماس الشعب للموافقة على استكمال ما تبقى لهما من شرعية رئاسية –هي ليست كذلك إلا في عرفهما فقط. كانا يهدفان التهدئة عبر التعهد بإحداث إصلاحات تطال تلك العملية الديمقراطية المزيفة. والتي، في خلاصة الأمر، اعتبر قرار الضرورة لتغييرها، اعترافا ضمنياً بانتفاء شرعية الأغلبية التي مكنتهما من الحكم والبقاء في السلطة طوال تلك الفترة. والتي ما زال رئيسنا لا يخجل من التحدث عنها أمام عدسات القنوات الفضائية بسعادة بالغة.

لم يفهم أن موجة التغيير الحديثة القادمة عبر الفئات العمرية الشابة في كلا النظامين، كانت قد بلغت ذروة الإدراك والفعل الإيجابي بحيث لم تعد قادرة حتى على قبول أن فكرة التغيير (رحيل النظام وفقاً للمعنى الآخر الذي ما زال الرئيس يعتبره أمراً مرفوضاً) يمكن استعاضتها بإصلاحات تطال منظومة النظام القائم، بمعنى: إتاحة فرصة أخرى، وتأخير التغيير على أمل بلوغه قريباً –بتكلفة أقل- عبر صناديق اقتراع جديدة.

بالنسبة لرئيسنا، يبدو مؤسفاً للغاية عدم بلوغه استيعاب تلك الطبيعة العصرية للتغير الشعبي التي يمكن أن نطلق عليها "الموجة الشعبية الجديدة لحركة التغيير الاجتماعي". تلك التي بدأت تغزو المجتمعات العربية الطامحة للتغيير، عقب أن نجحت بإزالة وقلع أنظمة أبوية متجذرة التصقت منذ القدم بالسلطة. لقد حدث ذلك على الرغم من أن هذه الأنظمة عمدت -طوال فترات حكمها، المتجاوزة لعمر جيل– في محاصرة فكرة التغيير، من خلال العمل بكل الوسائل لتشويه الحياة الديمقراطية، بل والحياة العامة برمتها، بهدف إفقاد الإنسان معنى الحرية، لأنه بذلك سيمكنه بسهولة من القبول بفقد كرامته وعزته، والتخلي طواعية عن كونه الأفضل تعليما، أو الأقدر على العمل في مواقع عليا، أو الأكثر كفاءة من أفراد الأسرة الحاكمة، أو المقربين منها، أو حتى من أولئك الذين يدينون للحاكم بالولاء، ويتبوءون مناصب عليا في النظام، مع ثروة طائلة يسمح لهم بجمعها بحسب القدرة والمهارة في عمل ذلك.

مع ذلك كله، يبدو مؤسفاً للغاية، أن الرئيس ما زال قادراً على الحديث –بدون أن تحمر جبهته خجلاً- عن "الشرعية" والتغيير الديمقراطي عبر صناديق الاقتراع تلك، مؤمناً -بشكل مخيف وغير طبيعي- أن تلك الموجة الحديثة من الحركات التغييرية: "إنما هي عدوى هبت من تونس إلى مصر إلى بعض الأقطار"! ولا يتورع من تشبيهها بالأنفلونزا "وبمجرد أن تجلس مع واحد مصاب بالأنفلونزا تنتقل العدوى إليك".

على أن التناقض الصارخ يأتي من الانفصام الجلي بين هذه التصريحات، وبين الموقف الرسمي المعلن إزاء تلك الثورات. كان نظامنا هذا -وعقب سقوط نظامي بن علي ومبارك– يلزم نفسه بإعلان موقف رسمي عبر وكالة الأنباء الرسمية يؤكد فيه "احترام اليمن لرغبة الشعوب في التغيير".

وإذا كان من الواضح أن مثل هذا الموقف يتوافق مع تطلعات ومشاعر شعوب المنطقة العربية المستثارة بضمنها موقف ومشاعر الشعب اليمني المتعاطف (الذي خرج ليلة إعلان مبارك تنحيه وبشكل عفوي ليحتفل ويطلق الرصاص في الهواء ويوزع المشروبات والكعك)، إلا أنه من غير الواضح تماماً أن النظام استوعب جيداً: أن تلك الرغبة الشعبية، بإسقاط النظامين البائدين، لم تأت عبر الشارع فحسب، بل أنها رفضت رفضاً قاطعاً الاحتكام لصناديق اقتراع وانتخابات قال عنها رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان قولته المشهورة "أن انتخابات معروفة نتيجتها سلفاً، لا تعتبر انتخابات". إن هذه الحقيقة، ربما كان الرئيس يدركها أكثر –قبل الشعب اليمني ومعه العالم أيضا– من أي حقيقة أخرى. في معنى أن تجرى انتخابات في أنظمة ديمقراطية هجينة لا تؤمن بالانتخابات إلا كما تؤمن بضرورة بقائها متفردة بالسلطة.

إن معنى الاستبداد في اصطلاح أهل السياسة يعني: "تصرف فرد أو جماعة بحقوق شعب دون الخوف من المؤاخذة والاستجواب". كما يعرفه الكواكبي، الذي يراه أيضاً منعكساً على "صفات الحاكم المنفرد والمطلق العنان، الذي يتصرف في أمور رعيته بإرادته دون خوف من المحاسبة أو العقاب".
ولو لم تميع هذه الأنظمة آليات المحاسبة والعقاب وتنزعها من شعوبها، لما استطاعت أن تمدد قدميها وتفعل ما تشاء حتى بلغ بها الاستبداد ذروته، والنتيجة الحتمية: انغماسها في ظلمة الفساد الذي لا يمكن إلا أن يقود إلى ما هو أسوأ كما يقول الكواكبي. وقد كان هو الأسوأ فعلاً.

في الناحية الأخرى: إذا كان الرئيس قد فهم رسالة الشعب فعلاً، إلا أن تصريحاته تلك قصد بها مناورة سياسية في سياق الحرب النفسية بحيث أراد أن يوصل رسالة يقلل بها من قوة ونجاعة تلك الطموحات الشعبية السامية، ليقول إنه أقوى وأكثر تحصناً ولا يأبه بما يحدث، ويدعم ذلك حديثه عن أن المعارضة موجودة في الشارع منذ أربع سنوات ولم تستطع عمل شيء، وأن الشعب الذي منحه الثقة هو الذي يقرر تنحيته من عدمه..الخ. فإنه بذلك يكون أيضاً قد أبلغنا وأبلغ العالم بعدم فهمه أو استيعابه حقيقة درسي تونس ومصر بالطريقة المفترضة.

ويقول أرسطو إن الغاية النهائية للطاغية كي يحتفظ بعرشه هي تدمير روح المواطنين وجعلهم عاجزين عن فعل أي شيء إيجابي، وفي سبيل تحقيق ذلك فهو يلجأ إلى القضاء –بوسائل مختلفة– على الطبقة المثقفة التي قد تشكل خطرا على حكمه.

وفي السياق ذاته، يشبه الكواكبي المستبد في نسبته إلى رعيته "بالوصي الخائن على أيتام يتصرف بأموالهم كما يهوى ما داموا قاصرين، فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم كذلك ليس من مصلحة المستبد أن تتنور الرعية بالعلم".

لكن الحقيقة الأكثر وضوحاً اليوم، أن جيل الموجة الجديدة للتغيير الذي قاد ثورتي تونس ومصر، لم يكن من السهل على الحاكم المستبد أن يجهله ويمنعه من التنور أمام هذه الثورة التكنولوجية المفتوحة على العالم.
وبالمقابل، كانت هناك حقيقة أخرى تتسق مع هذا العصر الجديد. لتؤكد لنا أن حسابات القوة تتعطل في مواجهة هذه الموجة الحديثة التي يقودها الشباب العازم على إحداث التغيير. وأنه لا يمكن الركون إلى تلك العملية الحسابية فقط وفقاً لحساب كلا المعيارين: سواء القوة الشعبية (وفقاً لانتخابات تم سرقتها بالمال العام، وتوجيهها بأدوات وإمكانيات السلطة)! أو قوة الأمن والجيش التي يعتقد أنه تم بناؤها أصلا لمثل هذا المواقف العصيبة.
إن الاعتماد فقط على تلك العملية الحسابية، وتجريدها من كافة العوامل المجتمعية أخرى، لم تثبت على مر التاريخ –دون استثناءات– أن أي حاكم، ملك، أو امبراطور ظالم أو باغ، مستبد، قد استطاع أن يقف في وجه شعبه، ومنعه إلى الأبد من إسقاطه.

على أن الحديث عن ثورات الشعوب المنتصرة على حكامها المستبدين، لا يجعلنا نغفل ونذهب بعيداً عن حقيقة النظر في حسابات القدرة الإلهية المنحازة للشعوب المظلومة دائماً، ساعة أن يأتي "أمر الله" بإسقاطه.
ولنا عبرة واضحة "لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" في آخر نموذجين مازالت آثارهما مستقرة في السطح الخارجي للذاكرة الشعبية العامة. فوفقاً لحسابات القوة المجردة: من كان يتوقع –حتى مجرد التوقع– أن تسقط أعتى الأنظمة البوليسية القمعية كنظامي تونس ومصر بهذه السهولة كأنها قصب من الشمع؟
في السابق، كنا نتابع مهزلة مهرجانات الانتخابات حينما كانت الشعوب تخرج رافعة صورة الزعيم الفائز بنسبة 96%، و85% من الأصوات. لكن ذلك كان يحدث قبل أن نشهد الانتقال الأخير للموجة الحديثة للتغيير. حتى بتنا اليوم نشهد ونتابع تلك الشعوب نفسها تخرج يتقدمها الشباب وهم يهتفون بشعار موحد: "الشعب يريد إسقاط النظام". بصدور عارية لا يملكون غيرها لمواجهة آلة القتل ورصاص ومدرعات السلطان.

وفي ليبيا التي يحكمها الديكتاتور القذافي منذ مدة طويلة، أيضا، من كان يتوقع أن ينتفض شعبها ويخرج لمواجهة الرصاص الخارق والقذائف الحارقة؟ إن هذا الشعب الذي ظل الرجل ينهب ثرواته منذ 42 عاماً ويشبعه فقط بخطابات خادعة؟ من كان بمقدوره أن يتوقع –وفقاً لحسابات القوة فقط– أنه هو الشعب ذاته الذي رفع بالأمس أحذيته أمام شاشات التلفزيون في وجه أبن الديكتاتور حينما أرعد وأزبد وهدد بالقتل والدمار!؟

الخلاصة: إن كان الرئيس عاجزاً عن الفهم، أو فهم لكنه لم يستوعب الدرس بطريقة صحيحة، فإنه سيتوجب على معاونيه ومستشاريه العقلاء المخلصين أن يساعدوه على الفهم أكثر. فمثلاً، حينما يستغرب حول أن تنازلاته للمعارضة جعلتهم يرفعون سقف مطالبهم، فهنا سيتوجب عليهم إفهامه أن التأخر في تقديم المبادرات عن وقتها، سيعني بالضرورة وكأنه لم يقدم شيئاً. ذلك أن الأمور ستكون قد خرجت عن سياقها الطبيعي، لأن الشعب الذي خرج إلى الشارع مطالباً برحيله، بات هو العامل المضاف للمعادلة، ولن يكون باستطاعة أحد أن يتجاوز مطالبه.
وحينما خرج الشعب التونسي، كانت أفضل طموحاته، أن يقوم النظام بإحداث إصلاحات طفيفة، لكن تأخر الرئيس عن تلبيتها في البداية، رفع من سقف المطالب حتى تحولت الأصوات لتهتف "الشعب يريد إسقاط النظام"، وكانت المفاجأة حينما سقط النظام فعلاً.

ومثله خرج الشباب المصري، وكانت أعلى طموحاته: إعادة الانتخابات المزورة، إلغاء حالة الطوارئ، تعديل الدستور..الخ. لكن الأمور تصاعدات بشكل سريع لتخرج عن السيطرة ولم تنته إلا بإسقاط النظام.

إن الدماء التي تسال على الأرض، تضاف وتتراكم لتتحول إلى جزء من أجزاء الثورة لا يمكن التنازل عنها لأن ذلك سيعتبر خيانة كبرى. حتى إن الجميع يسائل مثلاً: ما ذنبه ليقتل إذ خرج باحثاً عن كرامتنا؟ يتطور الأمر وربما يتخيل: ماذا لو كنت أنا من أصابته تلك الرصاصة ثم تراجع الآخرون عن الهدف الذي قتلت من أجله؟

نظرت أم أحد شهداء الثورة المصرية، نحو امرأة تهتم بولدها الشاب وتخشى عليه الذهاب للتظاهر فيقتل برصاصة طائشة، فقالت لها: ما الفائدة، إنك تربيه بعناية ليأتي اليوم الذي يقتله النظام بدم بارد، دون أي اعتبار لمشاعرك، فعليك اليوم أن تسمحي له بالانضمام لحماية مستقبله وإن استشهد فقد ضحى من أجل حماية مستقبل أبناء مصر.

الشباب اليمني يعيشون حياة أخرى في وطن جديد اسمه "ساحة التغيير"


لاذوا بحياة أخرى في مساكن من قماش، بدءوها في مساحة صغيرة، فوجدوها أفسح من وطن أضيق من خرم إبرة

المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال

وأخيراً، حظي الشباب بمدينة جديدة، سموها على أمل بـ "ساحة التغيير". إنه وطن، في ظرف أسبوع واحد، بدأت ملامحه تتضح وتتشكل وسط العاصمة.

لطالما حلم الشباب اليمني، بمدينتهم الفاضلة. المدينة التي حلم بها آبائهم وأجدادهم من قبل، فضحوا بأرواحهم لتوريثها لهم. لكنهم، ومنذ قامت الثورة اليمنية المبجلة، قبل ما يقارب نصف قرن في (1962)، وحتى اليوم، ما ورثوا أكثر من الحلم نفسه. ذلك الجاثم فوق صدورهم المثخنة بالمآسي والآلام.

وهاهم اليوم، بات لهم وطنهم المفعم بالحيوية والنشاط والحب. مدينة أخرى تحرسها إرادة صلبة، وتقودها رغبة شبابية جامحة نحو "المدينة الفاضلة".

مركزها الساحة التي يتأنق وسطها نصب "الأيمان يمان والحكمة يمانية"، وحدودها تمتد غرباً على طول المسافة حتى بوابة الجامعة الجديدة، لتتجه شرقاً على مد النظر باتجاه شارع العدل، وإلى الشمال تكاد تلامس جولة "السنباني"، وبينها وبين جولة "القادسية" بضعة أمتار باتجاه الجنوب.
مدينة "ساحة التغيير"، هي الآن لا تعدو أن تكون مساحات محدودة، بيد أنها تشكل نواة لحلم كبير.

حين أتيتها من جولة القادسية، كانت عقارب الساعة تشير للواحدة والنصف من فجر يوم الأربعاء، استقبلتني آثار دمار سيارتين محترقتين كتب عليها عبارات "سيارات بلطجية النظام"، و "إرحل"..أو ما شابه. مازالت هناك كنصب تذكاري يدل على آثارهم ليلة أن حالوا اقتحام المدينة الجديدة عنوة وصدهم الشباب فحدثت المعركة التي راح ضحيتها شابان وجرح قرابة 20.

حياة أخرى في مساكن من القماشوقبل أن تلج إلى تفاصيل مدينة "ساحة التغيير"، تواجهك ثلاثة أسيجة أمنية منيعة. كل سياج مكون من مجاميع شبابية مصطفون هناك لتفتيشك.
تبدأ الرحلة بعبور أسفلت كان يزدحم بالسيارات، لكنه اليوم مكسو بالخيام الكبيرة. هذه الخيمة كتب عليها "خيمة الشهداء"، وتلك خيمة "شهيد التغيير: عوض السريحي" وعليها وضعت صوره في كافة الاتجاهات، وآيات وعبارات تمجد الشهداء وتعاهدهم بالوفاء وعدم نسيان دمائهم. استشهد السريحي برصاص غادرة حين داهم البلطجية الساحة بأسلحتهم وهراواتهم مساء الثلاثاء (15 فبراير).

وهنا خيمة أخرى كتب عليها خيمة "أبناء مأرب"، وتلك خيمة "شباب البيضاء"، وهذه خيمة "شباب التغيير"، وهناك خيمة "شباب الثورة"، خيام وخيام سميت بمسميات مختلفة، وعلقت عليها صور، أعلام، رسومات، وعبارات تنوعت صياغتها من خيمة إلى أخرى، ومن جدار إلى آخر، ومثلها على اللوحات القماشية التي توزعت في الأرجاء. هنا فقط، كسروا حاجز الخوف ومارسوا حريتهم بشراهة. كانت محاورها تدور حول: المطالبة برحيل وإسقاط النظام، الإرادة والعزيمة والإصرار، الفساد، التوريث، سخريات من الواقع، وآيات قرآنية، وأشعار ثورية وأخرى تبعث الحماس، وأشعار ساخرة. بينما تنوعت الصور لتشمل إلى جانب صور الشهداء، صوراً لقادة يمنيين سابقين كالنعمان، والحمدي، وقادة عالميين كتشي جيفارا. وهناك وسط الساحة علقت لوحة الشرف متضمنة صور النواب الشرفاء الذين قدموا استقالتهم من الحزب الحاكم.

هنا قرب باب إحدى الخيام، يتحلق مجموعة من الشباب حول شخص يتحدث عن شيئاً ما، لا أكاد أبلغ سماعه من شدة الزحام. وهناك في المقابل شباب يجلسون على الأرصفة الجانبية حيث ينشدون الهدوء ليعكفوا على ملازمهم وينهمكون بقراءتها. وهنا ينام البعض على الرصيف فوق لحافات خفيفة، بينما لا تخلو الساحة من مجاميع شبابية وكبيرة السن وهم يغدون ويروحون.

لوحة بديعة يرسمها ويسطرها الشباب والشيوخ من شتى المدن والمناطق والقبائل اليمنية. كلما تعمقت في الدخول أكثر، كلما وجدت أن الحياة تزداد نشاطاً وحيوية. فهنا حماس لا ينام، ومن مكان قريب تأتيك أصوات مظاهرة تهتف بسقوط النظام، ورحيله، وهناك في العمق البعيد، تكاد تصل إلى مسامعك أصوات شباب يرقصون ويبترعون على إيقاع الطبول، وهم يلهجون بأهازيج ثورية وزوامل وطنية.

الحياة في قلب ساحة التغييرتقترب من قلب الوطن الجديد، فتستقبلك بقالة مزدحمة، وبوفية مليئة بالحياة. على أضوائها الباهرة تشهد حراكاً كخلية نحل، وعمالها يجهدون أنفسهم لتلبية مطالب الشباب. وبالقرب تلمح شباباً يتحلقون حول وجبة طعام خفيفة، علها تقيم صلبهم لمواصلة السهر.

في قلب الساحة، أنى التفت، تجد مجاميع من الناس بعضهم يمضغ القات، وآخرين يخوضون نقاشات هادئة حول أمر ما، أجزم أنه لا يخلو من الحدث. إلى أي اتجاه تنتقل عيناك، تجد من العبارات والحكم والنضج والإدراك والوعي ما يبعث فيك القوة والحماسة، ومن كتل الشباب المتحفز ما يثلج الحماسة في صدرك.

من هنا مثلاً، يمكنك أن تشاهد هناك، على امتداد النظر باتجاه شارع العدل، لوحة عملاقة، كتب عليها عبارات أرحل بلهجات يمنية عدة، وفي مكان أخر تجد لوحة أخرى كتبت عليها العبارة نفسها بلغات عالمية عدة. وعلى الأرض أيضا كتبت بخط أبيض كبير. وفي إحدى الجزر المرتفعة تجد لوحة عليها صور مجاميع من البلطجية كتب عليها "مطلوبون للعدالة". وعلى عمود كهربائي بالجوار تقرأ عبارات تستحث الأمن والجيش لحماية المواطنين والدفاع عن الوطن لا عن أصحاب الكراسي.

وهنا في مركز الحياة الجديدة، صفت الخيام الصغيرة على امتداد المساحة، من نصب "الأيمان يمان والحكمة يمانية" حتى بوابة الجامعة على الامتداد في كلا الجانبين والوسط، حتى أنك لا تكاد تجد مساحة خالية أكثر من ممر ضيق للعبور. كل خيمة كانت شبه مغطاة بلوحات ورقية كتبت عليها عبارات مختلفة، تعكس مدى الوعي والفهم والثقافة التي يتمتع بها هؤلاء الثوار ضد سلب حريتهم ونهب وطنهم، وقوة إرادتهم اليوم لتغيير ذلك كله.
من أعينهم، وملامح وجوههم العاكسة لقسوة الحياة، مع أني أستطيع اليوم أن أقرأ عليها شيئاً ما يشبه بداية التحول، فإن الحياة في مخيم صغير كهذا، ربما بدت لهؤلاء، أوسع وأفضل من حياة أسفنجية لا تحدها المساحة لكنها بدت أكثر ضيقاً من خرم إبرة.

هنا على اليسار تجد خيمة صغيرة كتب أعلى بابها "اللجنة الإعلامية"، وإلى جوارها خيمة "لجنة التنظيم"، وتلك خيمة "لجنة الخدمات"، على أمتار قليلة من خيمة "اللجنة الأمنية". وعلى مساحة أكبر تجد خيمة "اللجنة الطبية" داخلها وعلى بابها يقف شباب الصحة وهم يلبسون الأبيض. هنا تتجسد كل معاني الدولة التي سلبت منهم. تلك التي لم تمنحهم الفرصة ليفرغوا طاقتهم وقدراتهم وإبداعاتهم من أجلها.

حماسة لا تنام، وأعين تشعر بالأمانالآن، عقارب الساعة تقترب من الثانية والنصف، بعد منتصف الليل، ومازالت الحماسة تسكن الأجواء إذ تنضح من تلك المجاميع الشبابية وهم يحملون على أكتافهم النائب المستقيل من البرلمان "فؤاد دحابة" يجوبون به الساحة ويهتفون خلفه بسقوط النظام.

لم يسبق أن توحدت اليمن مثلما هي الآن. ويبدو أن الحسنة الوحيدة لهذا النظام– إذا كانت له حسنات – أنه عمل على توحيد هؤلاء الشباب القادمين من مختلف المناطق اليمنية والمشارب الفكرية. لفت أحد الزملاء انتباهنا لهذا المعنى المكتسب من هذه الحياة التي تعاش هنا في هذه المدينة الجديدة.
كانت فرقة النظافة تجوب الساحة بأكياس صغيرة يرفعون الأوراق ويجمعون من على الأرض ما أسقطتها أنشطتهم ومظاهراتهم النهارية. لابد أن يقوموا بهذا حفاظاً على نظافة وطنهم الجديد.

يا الله، هذا شاب ثلاثيني، ثيابه بسيطة، ويجعل من الأرض والحصى سريره، ومن الرصيف الحجري مخدته. مدد جسده بحميمية، وأغمض عينيه، دون أن تفارق شفتيه بسمة تنم عن سعادة بالغة. في هذه اللحظة لم أكن بحاجة لمزيد من الوقت للتخلص من لا وطنية مخيلتي إذ تنقلني باتجاه تلك الفلل الضخمة والأسوار المرتفعة التي تحيط غرفاً فاخرة مليئة بأسرة تغطيها فرش وثيرة، لكن أشخاصها أنى لهم أن يغمضوا أعينهم اليوم مثل هذا الشاب المسجي بجسده على هذه الأرض الصلدة.

الآن أنظر إلى ابتسامته وعينيه المغمضة بأمان، والآن بإمكاني أن أقرأ الفرق بينه وبين أولئك. إنه ينام على أرضه، حيث لا أحد اليوم يمكنه أن يطلب منه الرحيل، بينما أنهم يعجزون عن النوم لأن هذا الشاب وأمثاله باتوا يدركون أن هناك من نام طويلاً في أماكن ما كان يجب عليهم أن يناموا عليها أكثر من اللازم، فخرج، مع هؤلاء الشباب، ليهتف معهم بصوت واحد: الشعب يريد إسقاط النظام.
 

الثلاثاء، 22 فبراير 2011

مع السلامة صالح!


مجلة السياسة الخارجية الأمريكية:

دعونا نكون صادقين.. لا نحتاج إلى الرئيس اليمني لمحاربة تنظيم القاعدة



المصدر أونلاين ـ ترجمة خاصة: عبدالحكيم هلال
  • بواسطة إلين نيكماير (ELLEN KNICKMEYER)*
  • بينما كانت كاميرات الأخبار في العالم تنتقل من تونس إلى القاهرة إلى عمان، كان مراسلو التلفزيون يتكهنون بتلهف أين ستنطلق الحركة الديمقراطية التالية في العالم العربي؟ إلا أن الحماس يتحول إلى قلق لا مفر منه عندما تنتقل الصور بسرعة إلى صنعاء، عاصمة اليمن، البلاد النائية، لتلتقط هتافات المتظاهرين ورفرفة اللافتات التي يحملونها.
  •  
  • وفيما كانت الجماعات المحلية المهمشة كالإخوان المسلمين في مصر، والمعارضة الإسلامية في تونس، مفيدة في الغالب كفزاعات [أو كأوراق القصدير اللامعة] لإقناع الغرب على الاستمرار في إرسال المساعدات العسكرية، إلا أن المعادلة في اليمن مختلفة: حيث يقع فرع تنظيم القاعدة الأكثر نشاطا هناك. ومع ذلك فالنتيجة، تؤكد أن قلة قليلة فقط في الغرب من يتحمسون كثيراً للديمقراطية في صنعاء، حيث يُحكم الرئيس اليمني علي عبدالله صالح وأجهزته الأمنية القبضة على السلطة في اليمن الشمالي منذ عام 1978 واليمن الموحد منذ العام 1990.

إلا أن ما جعل صالح يخرج عن دائرة الجدل هو الزعم أنه وحده القادر على قيادة بلد صعب مثل اليمن، وأنه يقاتل فرع تنظيم القاعدة المتنامي في البلاد، ويمنع المنطقة من الانفجار. وفي المقابلات، يستخدم صالح استعارة لفظية لوظيفته لطالما سعى من خلالها إلى تضليل الإعلاميين الغربيين الذين يقابلونه بقوله: حكم اليمن "يشبه الرقص على رؤوس الثعابين".

والغريب أن تلك الحيلة انطلت على الغرب ليؤمن فعلاً أن صالح هو –راقصه– المثالي [البارع] على رؤوس الثعابين، ولاسيما منذ أن بدأ فرع تنظيم القاعدة في اليمن بتصعيد الهجمات ضد الغرب، بما في ذلك محاولة إسقاط الطائرة التي كانت متجهة إلى ديترويت أواخر عام 2009.

وعلى سبيل المثال، في مقالة كتبتها في صحيفة نيويورك تايمز في 5 فبراير، دافعت الصحفية فيكتوريا كلارك عن مسألة كفاءة صالح، حيث قالت إنه وبالمقارنة مع المتظاهرين اليمنيين المناصرين للديمقراطية في اليمن: فإن "السيد صالح لا زال يبرع في مهمة قيادة اليمن، البلد الأفقر في العالم العربي، وهي المهمة غير المغرية التي غالباً ما يشبهها بـ 'الرقص على رؤوس الثعابين". (وكلارك هي مؤلفة كتاب عن اليمن عنونته، كما قد يتبادر إلى ذهنكم، بـ اليمن: والرقص على رؤوس الثعابين).

عندما يتعلق الأمر بصالح ونظامه، فعلى أية حال، فإن كلارك -مثل الكثير من المراقبين الغربيين– يخلطون "القيادة [السيطرة]" بـ "البقاء في السلطة". فصالح قد يكون قادراً في المحافظة على رئاسته الخاصة، إلا أنه لم يفعل شيئا يذكر لرفاهية بلده الذي ينهار.

فقد أمسك صالح البلد الأكثر خصوبة في العالم العربي الذي يفترض أنه يمتلك ما يكفي من النفط لتلبية متطلبات التنمية الاقتصادية لعقود مقبلة، إلا أنه حولها تقريباً إلى أشبه بالصحراء المقفرة وفقاً للأرقام الإحصائية الخاصة بالصحة التي تعتبر البلد هي الأسوأ مما كانت عليه معظم البلدان الإفريقية في جنوب الصحراء الكبرى.

إن صالح ونظامه المرتكز أساسا على الجيش يقود البلاد إلى حقل ألغام سياسي وديموغرافي (سكاني)، وأنه كما ثبت بالفعل أبعد بكثير من قدرتهم الاستيعابية للخلاص منه. إن الانتقال المفاجئ بين عشية وضحاها إلى الديمقراطية قد لا يكون هو الحل; إلا أن استمرار صالح في قيادة البلاد هو النقيض تماماً لحل مشاكل اليمن العديدة، بل إن الحقيقة الوحيدة الأكثر ترجيحاً هي أن الأزمات المتعلقة بالأمن، والاقتصاد، والسياسة، أو جميعها معاً، سوف تضرب البلاد في القريب العاجل.

إن المشكلة الأكثر إلحاحا لصالح هي المال. فالصادرات النفطية التي تشكل أكثر من 60 في المئة من عائدات الحكومة، يتوقع البنك الدولي نضوبها خلال أقل من ست سنوات. وبالفعل فقد ثبت أن عائدات الحكومة من النفط بدأت بالتراجع إلى النصف منذ العام 2008، وذكر دبلوماسيون غربيون أن المسئولين اليمنيين خفضوا جميع بنود الميزانية، ولكن من غير تلك المتعلقة بالأمن.

ومع ذلك، ففي سبيل بقائه في السلطة يعتمد صالح على دفع أموال المحاباة والإحسان لشراء النخب في البلاد. وهو ليقوم بمثل تلك التصرفات لا يخالجه أي وخز للضمير يمنعه من استنزاف موارد البلد كلياً، وفي دراسة الفساد التي قدمتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية للعام 2006 ، تكشف، من بين أمور أخرى، أن 40 في المئة فقط من عائدات الضرائب تصل إلى خزينة الدولة. وفي الإنفاق على الرعاية الاجتماعية تباغتك الصدمة أيضا: فبحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، فإن اليمن تنفق على الصحة العامة أقل من أية حكومة في الشرق الأوسط، بل حتى إن نصف هذا المبلغ الضئيل يسرق أو بطريقة أخرى يمكن القول إنه يهدر.

بل يتجلى قلة اهتمام الحكومة بشعبها من خلال انعكاس ذلك على بعض الإحصاءات العالمية الحيوية المتعلقة بحياة المواطن. فعلى سبيل المثال تعتبر اليمن هي الأسوأ في معدل سوء التغذية ووفيات الأطفال على مستوى العالم. كما أنه ينعكس أيضا من خلال الأرقام التي تؤكد أن 40% في المئة من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر، وهو ما يعني أنهم غير قادرين على الوفاء بأدنى متطلبات الغذاء للبقاء على قيد الحياة. وقد أصبح نصف أطفال البلاد معاقين بسبب سوء التغذية.

بل وأكثر من أي بلد زرته، فإن الجوع المستوطن في اليمن منحني القدرة على سهولة التمييز بين الميسورين من المعدمين: فمثلاً، رجال صالح الذين هم في الأعلى يميلون إلى أن يكونوا ضخام البنية وكروشهم منتفخة، في حين أن الرجال اليمنيين العاديين الذين التقيت بهم في شوارع صنعاء، الغالبية الساحقة منهم بدوا ليكونوا أقرب إلى طولي أو أقصر بقليل (طولي أنا بالتحديد يساوي 5 أقدام و3 بوصات).

ونتيجة للظروف القاسية والصعبة التي يمرون بها فإن اليمنيين لجئوا إلى استراتيجية قديمة للبقاء: امتلاك الكثير من الأطفال. الكثير والكثير من الأطفال. وبالفعل، حوالي ثلاثة أرباع سكان البلاد هم دون سن الـ 30 طبقاً للأرقام التي جمعت من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومبادرة الشرق الأوسط للشباب، وهو مشروع مشترك بين معهد بروكنغز وكلية دبي الحكومية. (وفي الوقت الذي يعتبر فيه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأعلى معدلاً لمن هم دون سن الـ 30 في العالم؛ إلا أن النسبة في اليمن تعتبر الأعلى حتى من المعدلات الإقليمية) وحتى مع ذلك الازدهار الشبابي الذي وصل إلى ذروته في معظم بلدان المنطقة، إلا أنه ظل يتدفق بشكل أكبر من غيره في اليمن. وطبقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإنه من المتوقع أن يتضاعف عدد السكان اليمنيين في غضون الـ 20 سنة المقبلة من إجمالي 23 مليون ليصل إلى الضعف، ووفقاً لمكتب الدليل السكاني غير الربحي الذي مقره في الولايات المتحدة، فإن النسبة المئوية للشباب هي الأخرى مرشحة للزيادة.

وفي الوقت الذي سيكون فيه الكثير من العمال قد انضموا إلى متطلبات سوق العمل، ستكون الوظائف نادرة جداً ومن الصعب الحصول عليها. ولأن عائدات اليمن قد ذهبت نحو إثراء النخبة بدلا من العمل على تطوير البلاد، فإن 90 في المائة على الأقل من الأعمال تقتصر على الزراعة والرعي. بيد أنه أيضاً وبسبب أن الحكومة لم تهتم مطلقاً بالأعمال الروتينية ذات المرتبة الدنيا، فإن ذلك أدى بدوره إلى تصاعد وتيرة عمليات الحفر العشوائي لآبار المياه من أجل زراعة القات المخدر كونه الأكثر إرباحاً من غيره، وهو ورقة تمضغ في الفم حتى الثمالة وتسبب نشاطاً إلى حد ما. وكنتيجة لذلك، فمن المتوقع أن تستنفد المياه في اليمن في غضون مدة لا تتجاوز الـ 20 سنة القادمة.

ويحذر الخبراء من أن هذا المزيج الفعال من شأنه أن يثير أو يحرض الغضب، على الأقل في حده الأدنى، حول أزمة الغذاء والتوظيف.

ومع ذلك، فإنه ومن خلال نظرته القاصرة جداً، كان الشيء الوحيد الذي واصل صالح القيام به هو الإبقاء على الإنفاق. حتى أنه وبعد أن اندلعت الاحتجاجات في اليمن على مدى الأسابيع القليلة الماضية، جاء رد الرئيس صالح عن طريق تعهده بتخفيض الضرائب، وزيادة الإعانات المالية، وزيادة الرواتب. على أن كل ما سبق من شأنه فقط أن يفاقم الأزمة الاقتصادية للحكومة. وفي وقت قريب تعرض صالح لردود فعل شديدة من الصحافة حينما وزع البنك المركزي للبلاد طبعة مالية حديثة كان الهدف منها تعويم العملة الحكومية.

ولكن مع هذا كله، إلا أن صالح دائماً ما كان يصور شكواه على أن بلاده بحاجة ماسة لمساعدات تتعلق بتعزيز الأجهزة الأمنية، أكثر من الحاجة لتوفير الخدمات العامة. ذلك أن الولايات المتحدة ترى بأن قلقها الجوهري في اليمن يتمثل بتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وليس معدلات وفيات الأطفال الرضع. وزاد من ذلك أنه ومنذ تشكل الاتحاد الاندماجي بين فرعي تنظيم القاعدة اليمني والسعودي مطلع العام 2009، فإن المجموعة، التي اتخذت من اليمن مقراً لها، أثبتت شراسة وعدوانية أكثر من أي فرع للشبكة الإرهابية على مستوى العالم. حيث هاجمت تلك المجموعة الجديدة قوات الأمن اليمنية الخاصة كما جندت المتطوعين للقيام بمحاولات متكررة على أهداف الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وغيرها.

ومع ذلك، فحتى مع تنظيم القاعدة في اليمن، على أية حال، فإن صالح ونظامه تسببا بخلق المشكلة، بدلا من السيطرة عليها.
فخلافا لمعظم الحكومات العربية، رحبت حكومة صالح بعودة مقاتلي القاعدة وغيرهم من الجهاديين العائدين من الحرب الأفغانية ضد السوفييت. وسمح صالح لمقاتلي تنظيم القاعدة من الوصول إلى منازلهم في اليمن، وهو ما جعل المحلل غريغوري جونسن، وهو خبير في شأن تنظيم القاعدة في اليمن، يصف ذلك على أنه عبارة عن "معاهدة ضمنية بعدم الاعتداء" بمعنى أنه: يمكن لأعضاء وزعماء القاعدة البقاء [الإقامة] في اليمن طالما وأنهم لم يهاجموا أهدافاً يمنية، وهي الصفقة التي ثبتت لغاية العقد الماضي. ليس ذلك فحسب، بل إن قوات صالح الأمنية أيضاً جندت أعضاء في الجماعة الإرهابية إلى جانب جهاديين آخرين للقيام بشن حملات عسكرية ضد المنشقين سواء في شمال اليمن أم في جنوبه. و بحسب ما جاء في البرقيات الدبلوماسية الصادرة عن ويكيليكس، فإنه وفي وقت متأخر من العام 2007، أثار الرئيس صالح حفيظة الدبلوماسيين الأمريكيين أثناء حديثه معهم حول آخر محادثة شخصية أجراها مع جمال البدوي، مهندس الهجوم الذي تعرضت له المدمرة الأمريكية كول عام 2000.

وبعد أن دبر مقاتلي القاعدة في اليمن المؤامرة شبه الناجحة التي استهدفت تفجير طائرة ركاب أميركية في ديسمبر 2009، حاولت إدارة باراك أوباما الضغط على صالح من أجل اتخاذ إجراءات صارمة لمنع تكرار مثل تلك الهجمات في المستقبل. وفي حينه شن جيش صالح غارات طفيفة على اثنين من معاقل تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وبفرح رحبت حكومة صالح بمضاعفة المساعدات الأميركية تحت اسم مكافحة تنظيم القاعدة. ومع ذلك إلا أن النظام أخفق في قتل أو اعتقال واحد من زعماء تنظيم القاعدة على مدى العامين الماضيين. بل إن البرقيات الدبلوماسية التي نشرها موقع ويكيليكس تسرد تلك الاحتجاجات الخرقاء للدبلوماسيين الأمريكيين بعد أن اكتشفوا أن صالح على ما يبدو قد انحرف بالمساعدات العسكرية الأمريكية المخصصة لمكافحة تنظيم القاعدة باتجاه دعم حملته المحلية ضد المتمردين في الشمال الذين لم يكن لديهم أي ارتباط مع تلك الجماعة الإرهابية.

وأياً يكن الأمر، فإن موجة القاعدة في اليمن كانت بمثابة الهدية [الهبة الآلهية] بالنسبة لصالح، يجني بواسطتها مليارات الدولارات من المساعدات الدولية، ومن اللافت أن ذلك جاء في الوقت الذي بدأت فيه عائدات النفط اليمنية تنفذ. ولقد أظهرت إدارة الرئيس صالح كل همتها لاستغلال المخاوف الأمنية الأمريكية بشأن تنظيم القاعدة حتى يثبتوا أنهم يستحقون كل ذلك.

بل كان نظامه ذكياً في تضخيم المخاوف الغربية من أن أي تحديات شعبية لنظامه قد توفر المناخ لتنظيم القاعدة. وفي مقابلة أجرتها معه قناة السي إن إن في 8 فبراير حول الاحتجاجات في اليمن، سئل رئيس الوزراء علي مجور السؤال التالي: "هل هناك مستوى مواز من القلق في اليمن كما هو هنا من حيث أن المزيد من الاضطراب السياسي هناك، من شأنه أن يتيح مناخاً أوسع لجماعة مثل تنظيم القاعدة للاستفادة أكثر"؟

"بالتأكيد" أجاب رئيس الوزراء، مضيفاً: "كل شيء ممكن. وبصراحة، كل شيء ممكن".
وكان الرئيس صالح قد ضمن بقاءه في السلطة منذ مدة طويلة بإبقائه اليمنيين على حافة الهاوية، وبإبقائه الحلفاء والمنافسين قلقين وبإثارته إعجاب أنصاره بقدرته على تجنب الأخطار. وإنه في الوقت الحالي يفعل الشيء نفسه مع الولايات المتحدة وتنظيم القاعدة.

ومع إنه من الصعب تخيل هذا البلد ذو الأهمية الحيوية البالغة، يمكن أن تثمر فيه تحركات الولايات المتحدة من أجل وضع حد للفوضى الآن، إلا أنه من خلال الدفع به لتشكيل نظام سياسي يعتمد على التمثيل البرلماني لشريحة شعبية واسعة ومتنوعة، وبحيث يكون خاضعاً للمساءلة القانونية والشعبية، هو الأمر الذي من شأنه أن يوفر الاستقرار الحقيقي. وسيكون من الحكمة أن نبدأ التحرك الآن. ومهما تكن إدعاءات البراعة العالية في الرقص على رؤؤس الثعابين، فإن صالح ليس هو الرجل الوحيد القادر على حكم اليمن، بل إنه – في حقيقة الأمر - أبعد بكثير من أن يكون الأنسب. حيث أن البلاد تتمتع بالكثير من القيادات التكنوقراط وزعماء القبائل ورجال الأعمال الذين يمكنهم أن يبرزوا كمرشحين قادرين على المنافسة الديمقراطية.

وحتى يتحقق ذلك، يتوجب على الولايات المتحدة أن تربط مساعداتها باشتراطها على الرئيس صالح بضرورة إحداث المزيد من الانفتاح السياسي الحقيقي، الأمر الذي من شأنه أن يتيح للمشاركة المدنية والسياسية –المحصورة حالياً على الشبكات التي يرعاها ويدعمها الرئيس صالح- من تقديم زعماء يمنيين أكثر قدرة على مواجهة المشاكل في المستقبل.

إن ذلك يجب أن يتم بشكل عاجل لإنقاذ البلاد، ذلك أن الحقيقة الوحيدة المؤكدة حول صالح هي أنه سوف يجلب على اليمن من المشاكل ما هو أكثر من ذلك بكثير.
--------------------
* صحفي كتب تقارير عن اليمن منذ العام 2007 ويجري في الوقت الراهن بحثاً سياسياً من الشرق الأوسط. وقد ساهم مركز بوليتزر لإعداد التقارير حول الأزمات في تمويل هذه المقالة
- نشرت هذه المادة بتاريخ 10 - فبراير 2011 - بمجلة الفورين بوليسي الأكثر شهرة وتأثيراً في صناعة القرار في أمريكا.

الخميس، 17 فبراير 2011

خيارات مدمرة لنظام يبدو أنه فقد السيطرة وترنح سريعاً


البلطجية يتزايدون، وشعارات مناطقية تستخدم لمواجهة توسع الاحتجاجات


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
أمس الأربعاء 16 فبراير، تخضبت الانتفاضة الشبابية اليمنية بالدم، بعد مقتل اثنين من المتظاهرين في مدينة عدن وإصابة أكثر من 20 آخرين برصاص قوات الأمن (بعض المعلومات تشير إلى مقتل 4 محتجين).

ويأتي هذا التطور الكبير، بعد أن مضت الأيام الستة الأولى على اندلاع الاحتجاجات المنادية بإسقاط النظام، في كل من تعز، أمانة العاصمة، عدن، الحديدة، ومدن أخرى (منذ السبت الماضي)، مقتصرة فقط على مواجهات كانت معظمها تسفر عن اعتقالات بالعشرات، وإصابات تعرض لها المحتجون بواسطة عصي وهراوات رجال الأمن والبلطجية الذين ثبت توجيههم من قبل قيادات عليا في السلطة، بعضهم يدير مؤسسات حكومية تتبع رئاسة الجمهورية مباشرة.

ومع استمرار الاحتجاجات وتصاعد وتيرتها بطريقة دراماتيكية في محافظات عدة، خصوصاً عقب سقوط نظام مبارك، فقد بدا واضحاً اليوم أن النظام الحالي، بقيادة الرئيس صالح، لم يعد قادراً على مواجهة هذه المتوالية الاحتجاجية التوسعية الغاضبة، وفقاً لأساليبه القديمة التي دأب عليها منذ سنوات لإخماد أي احتجاجات أو مظاهرات سلمية.

وقياساً بما كان يستخدم من أساليب في السابق لمواجهة المظاهرات والاحتجاجات التي كانت تندلع بين الحين والآخر في بعض المحافظات والمناطق اليمنية، فقد ظهر اليوم، أن هذا النظام، الباسط على كافة الأجهزة التنفيذية والأمنية والعسكرية منذ 32 عاماً، أعجز ما يكون، متخبطاً وغير قادر على إدارة الأزمة الجديدة التي تضرب البلاد عبر احتجاجات شبابية غاضبة ومتصاعدة، يحتم الإنصاف القول أنها لا تستند لأي مرجعيات سياسية أو حزبية.

وبحسب متابعين فإن النظام اليوم، ذهب – ربما - جاهلاً، ليس فقط نحو استنساخ تجربتي تونس ومصر اللتان ثبتت فشلهما في مواجهة غضب الشباب الثائر، بل أكثر من ذلك ذهب عامداً في إشعال جمار المناطقية والطائفية، من حيث يعتقد أنها قد تكون الطريقة الأنسب للإبقاء على الأمور تحت السيطرة.

ويرجح آخرون أن إحساسه باقتراب الخطر يوماً إثر آخر، والشعور بدنو أجله، أمام عجزه وحيرته من عمل شيء إزاء منع الانهيار المحتم، هو ما جعله يلجأ إلى استخدام بعض الخيارات المدمرة، والتي - يرى هؤلاء - أنها قد تكون ضمن مجموعة من الخيارات الأخرى التي من المحتمل أن يكون خطط لها من قبل مجموعة استشارية تعتقد أن بإمكانها مواجهة هذه الثورة الشبابية التي عجزت عن مواجهتها أعتي وأقوى الأنظمة الأمنية والبوليسية في المنطقة. 

فيما ينظر آخرون إلى أن خيار استخدام ورقة المناطقية الذي ظهر بقوة خلال اليومين الماضيين، سواء من قبل البلطجية أو من جهة أعلى هرم في السلطة - قد تكون بمثابة الخيار الأخير المتاح، اعتقادا منه أنه سوف ينجح في إحداث اصطفاف مناطقي للحفاظ على السلطة. مع أن الأكثر ترجيحاً، أنه سيكون الخيار الأكثر تدميراً، ذلك أنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال العمل كمانع لإسقاط النظام، بل إنه عند أفضل الاحتمالات من الممكن فقط المساعدة على تأخير سقوطه، لكنه في نهاية المطاف سيكون بمثابة حقل ألغام من شأنه أن يساعد على إحداث سقوط مدوي، أشد وأقوى وأكثر إيلاماً مما حدث لأنظمة شبيهة.

إن استخدام أساليب البلطجة وتوظيف السلطة لمواطنين يرفعون صور الرئيس، ويستخدمون العصي والهراوات لمتابعة المتظاهرين من شارع إلى آخر بغية قمعهم والاعتداء عليهم تحت حماية الأمن، له الأسلوب ذاته الذي فشل نظام مبارك في استخدامه لقمع الثورة الشبابية المصرية في مهدها.

وتؤكد بعض المصادر السياسية والصحفية أن جهاز أمن الرئيس المصري المخلوع كان يدير ما بين 100 إلى 150 ألف ممن يسمونهم بالبلطجية، وهو الأمر عينه الذي فشل في استخدامه جهاز أمن الرئيس التونسي المطرود، مع الأيام الأولى لانطلاقة ثورة تونس الشبابية.

وإذا كان نظام صالح اليوم يستغل بعض العاطلين عن العمل ليمنح لهم فقط 3 الف ريال يومياً لممارسة البلطجة، فإن نظامي الرئيسين المخلوعين كان يدفع لهم أكثر بكثير، بل كان غالبيتهم يستلمون مرتبات شهرية.

على أن الأمر الأكثر خطورة من استغلال مشاعر العاطلين عن العمل وحاجتهم لمصاريف يومية لإعاشة أنفسهم وأسرهم، هو استخدام ورقة المناطقية التي حذرت منها منظمات ومؤسسات المجتمع المدني في بيان لها الثلاثاء كونها "تهدد بشكل خطير السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية" حسب البيان الذي قال أنه يتم توظيفها في الشارع اليوم "امتدادا لتحركات رئيس الجمهورية وكذا بعض قيادات الحكومة بين مناطق القبائل خلال الأيام الماضية وذلك لتحريضها في مواجهة المحتجين مما يعيد إلى الذاكرة إباحة صنعاء عام 1948 أمام القبائل".

يدرك النظام الحالي، أن الاحتجاجات الجماهيرية اليوم، لا تقتصر على منطقة أو فئة محددة، بل أن منبعها الشارع اليمني ككل، لاسيما الشباب الطامحين والباحثين عن سبل عيش كريمة، نتيجة تهمشيهم على مدى العقود الثلاثة الماضية، مقابل إستئثار بالسلطة والوظيفة العامة، وفساد مالي وإداري لم يعد خافياً على أحد استشرائه من أعلى قمة في النظام إلى أصغر إدارة فيه. الأمر الذي بات من الصعب، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، الاستمرار بقبول فكرة الحديث عن أن نظاما تجذرت مفاصل القوى المتعيشة من استمراره، يمكنه أن يتحول إلى نظام ديمقراطي حقيقي يعمل على إصلاح الأوضاع، كما ويتيح مسائلته ومحاسبته وفقاً لأبسط المبادئ الديمقراطية العالمية. ناهيك عن قبول فكرة أنه يمكنه تصحيح الانحرافات الوظيفية القائمة على سيطرة الأبناء والأخوان والأقارب على مفاصل الدولة العسكرية والتنفيذية.

وعوضاً من أن يسعى الرئيس لإثبات جديته في إحداث إصلاحات جوهرية تطال الوظيفة العامة والعسكرية بالتصحيح، ومحاربة الفساد، وتعزيز الديمقراطية والمساءلة الشعبية، بحيث يمكن أن يساعده ذلك على تغيير النظرة المترسخة حول نظامه لما من شأنه إتاحة فرصة أخيرة تمنحه خروجاً مشرفاً من السلطة، إلا أنه بدا وكأنه يحاول التشبث بالسلطة بطرق ووسائل أخرى أكثر تدميراً، تلك التي كان يفترض أن اليمن قد تجاوزها قبل عشرات السنيين.

وكانت أحزاب المعارضة – على ما كانت تدرك فداحة الثمن الذي ستدفعه - عمدت الذهاب بعيداً عن رغبة قواعدها في الشارع، حين منحت الرئيس ونظامه ما يمكن أن يقال أنها تلك "الفرصة الأخيرة" للتحول نحو الإصلاح. ذلك حين قالت أنها لم ترفض تعهداته الأخيرة للإصلاح، لكن تحت شروطاً معينة، إلا أن ما حدث لاحقاً من قبل السلطة باستخدامها بعض البلطجية لقمع المحتجين، وتحركات الرئيس الأخيرة بين مشائخ بعض القبائل، أكد بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام قد أختار المضي وفق خياراته الكارثية.

بل وربما لغرض ما قد يهدف إلى تعزز حدوث مثل تلك التصرفات، تعمد موقع الحزب الحاكم على الأنترنت، إلى نشر خبراً تحت عنوان " نواب ينتقدون شعارات مناطقية بالمظاهرات ووزراء يردون على مساءلات".

ولأول مرة – بحسب ما أعتقد – يتم نشر خبراً ذو محتوىً انتقادي للسلطة، أنتقد فيه أعضاء في الحزب الحاكم ما قالوا أنها "شعارات مناطقية رددتها مجاميع قبلية في صنعاء، أثناء مظاهرات مؤيدة للرئيس أمس". ومع أنه وبالنظر إلى الأشخاص الذين صدرت منهم تلك الانتقادات، يمكن بسهولة معرفة أنهم ينضوون في إطار أعضاء كتلة الحزب الحاكم، المشهود لهم بالكثير من المواقف النزيهة المعارضة للسلطة.

إلا أن إجازة نشر تلك الانتقادات - على غير العادة - قد يبدو مثيراً للشبهة، ومن غير الممكن تمريره هكذا دون التوقف عنده، لاسيما في مثل هذا التوقيت المشوب بالحذر والتوتر، ومع ذلك ينشر الموقع تلك الانتقادات الجوهرية، في مقدمة الخبر، ويعززه بدعوة النواب "إلى محاسبة من يقفون وراء تلك الشعارات"..!

فيما كانت منظمات المجتمع المدني، في بيانها، حملت رئيس الجمهورية المسؤولية المباشرة "عن أي تلاعب بورقة الانقسامات الاجتماعية والمناطقية في مواجهة الاحتجاجات المناهضة لحكمه"، وحذرت في بيانها "أن آثار هذا السلوك الرسمي ستنعكس بشكل طويل الأمد على الاستقرار الاجتماعي الوطني. ولم تنسى تلك المنظمات التذكير بـ"المسؤولية الجنائية والقانونية الكاملة على القائمين بكافة أشكال التحريض، وعلى كونها وقائع جرميه خطيرة يطالها الدستور والقوانين الوطنية والقوانين الدولية".

وإن ما يزيد من إيضاح تدهور الحالة التي تكتنف النظام بشكل مريع، جراء ما يحدث من توسع وتيرة الاحتجاجات في محافظات عدة، وتزايد أعداد المحتجين وإصرارهم، هو تلك التصريحات التي نقلت على لسان رئيس الجمهورية أمس الأربعاء أثناء لقائه بأعضاء مجلسي النواب والشورى وأعضاء المجالس المحلية والمشائخ والأعيان والشخصيات الاجتماعية بمحافظة حجة.

حيث تحدث في إطار تصريحاته عن وجود مخطط انقلابي على ما وصفه بـ"الشرعية الدستورية". والمثير في الأمر أن الرئيس قال أن المخطط نزل "أمس" – أي الثلاثاء – بـ"تشكيل حكومة"، قال أنه "وزعت فيه الحقائب الوزارية كل واحد على هواه". بينما في الواقع أنه كان يشير إلى خبراً نشر أمس على موقع إلكتروني (محسوب على الأمن) تحدث عن تشكيل حكومة، وزعت حقائبها – بحسب الموقع ذاته - على أعضاء في المعارضة وفي الحزب الحاكم، اقل ما يمكن القول أنها جاءت بشكل يبعث على الضحك، والسخرية، ولا يمكن أن يقول بها من يحمل أدنى ذرة من عقل.

وفي الواقع، أنه إذا أستمر النظام في إدارة هذه الأزمة الكبيرة بطبيعتها الإقليمية العصرية الحديثة، وفقاً لتلك التكتيكات السابقة، فإنه من السهل القول أنه (أي النظام) قد بدأ فعلاً يفقد السيطرة على نفسه، ويترنح سريعاً على وقع الدفقة الأولى والبسيطة من الاحتجاجات ذات الطابع الانتشاري، المتوسع يوماً بعد آخر.