الجمعة، 15 أبريل 2011

تحولات الجنرال


طالب اللواء علي محسن بدولة مدنية ويقول إن أخطاء النظام قادت اليمن إلى الدمار.. لكن صورة الرئيس مازالت على حائط مكتبه، فماذا يعني ذلك؟


المصدر أونلاين-خاص-عبدالحكيم هلال
(1)
من هذا المكان المرتفع يمكنك أن تسمع مكبرات الصوت وهي تصدح بتراتيل شباب الثورة قادمة من ساحة التغيير، هناك في الأسفل جوار الجامعة الجديدة..

ومن هنا أيضاً، كان صوت الجنرال قد صدح متجاوباً مع صوت الشعب، لتتلقفه ساحات التغيير والحرية في مختلف أنحاء البلاد باحتفاء كبير، قبل أن يستقر في شاشات الفضائيات العالمية باعتباره الحدث المؤثر في مسارات ثورة الشباب السلمية.

داخل أسوار هذا الحصن العتيد، يكتفي الجميع هنا بكلمة "القائد" لتعرف أنهم يتحدثون عن اللواء علي محسن صالح، رجل الجيش الأقوى في البلاد. أما خارج تلك الأسوار، فحين يتحدث الجميع عن "الفرقة" بشكل مفرد، فليس ثمة من يذهب تفكيره بعيداً عن "الفرقة الأولى مدرع" التي يقودها الجنرال.

في غرفة متوسطة في الطابق الثاني داخل مبنى يتوسط المعسكر، جلس القائد على مكتبه المتواضع (مقارنة بالمكانة التي يتمتع بها). بلحظات سريعة جداً، قلب مجموعة من الأوراق الخاصة، فيما كانت صورة الرئيس صالح ما تزال ترقبه من على الحائط الواقع خلفه. التفت إلى مجموعة الصحفيين أمامه، ابتسم ورحب بهم ليبدأ معهم النقاش.

لقرابة نصف ساعة كان النقاش قد تطرق إلى: طبيعة الأحداث، مبررات إعلانه تأييد مطالب الشباب المنادين بإسقاط النظام، موقفه من المبادرات، إلى جانب قضايا أخرى تتعلق بمحاولة الاغتيال الأخيرة التي تعرض لها وملابساتها، وإلى أين ستتجه الأوضاع..

(2)
بعكس الأسبوعين الأخيرين، ظل الجنرال على مدى أكثر من 33 عاماً، يعيش في حساسية مفرطة من الإعلام، فظل بعيداً عن عدسات التصوير، فيما لم تجد أقلام الصحفيين الكثير مما تكتبه حوله، سوى بعض الأحداث التي كانت فرقته تخوضها باسم الجيش اليمني. ليس ثمة الكثير من المعلومات حول الجيش اليمني، والمعلومة الوحيدة المتوفرة لا تتجاوز فرقة الجنرال.

في حرب صيف 1994، والجولات الست من الحرب في صعدة، كان علي محسن وفرقته هي المعلومة الأكثر شيوعاً. ومثلها في محاولة انقلاب الناصريين المحبطة عقب صعود صالح، وحروب الجبهة في المناطق الوسطى. ولذلك، كان من الطبيعي – ربما – أنه وعقب إعلانه الانضمام إلى صف ثورة الشباب، أن برزت أصوات – وإن كانت خفتت سريعاً قبل أن تأخذ مداها بالارتفاع – تتحدث عن تاريخه العسكري، وتطالبه بالاعتذار للشعب.

والجمعة الماضية، وأثناء رده على سؤال أحد الصحفيين حول ما إذا كان وعده بترك منصبه بعد سقوط النظام وانتهاء الأزمة، ما يزال قائماً، قال "بالتأكيد" مستدركاً "سأعتذر للشعب وأرحل". قالها وهو يرفع كفه الأيمن بموازاة رأسه بحركة عسكرية تعني "تعظيم سلام".

في 21 مارس الماضي، جاء إعلانه بتأييد مطالب الشعب، والذي حمل أثراً بالغاً في تدمير جدران المعبد الرئاسي الذي ظل الجنرال وفياً له خلال العقود الثلاثة الماضية. حينها كان هذا بمثابة إعلان بتهاوي جدران نظام صالح العائلي مباشرة مع انهيار دعاماته الأساسية.

ومع ذلك، ففي هذه الأثناء، تباينت الآراء بين أولئك الذين طالهم جزء من تاريخ الجنرال ليفيضوا بالشكوى، وبين من رحبوا بموقفه، وهم هؤلاء الذين ظلوا بمنأى عن ذلك التاريخ. وفيما يبدو كان هذا الصوت الأخير أكثر قوة من غيره. على الأقل حتى الآن. على أن السخرية هنا، أن إعلام النظام المتضرر تبنى حملة التذكير منقلباً على من كان يدافع عنه بحماسة بالغة، حتى ما قبل تحوله، وكان يصفه بـ"المناضل الكبير، والقامة الوطنية العملاقة..!!"، ليتقمص في هذه الأثناء دور الشيطان مستحثاً عواطف من كان يشتمهم، ومحولاً لعناته على صديق الأمس، عدو اليوم..!

(3)
لم يعد ذلك مجدياً البتة. ففي الوقت الراهن، يتحدث الجنرال مع الصحفيين بلغة أخرى، وهيئة مختلفة. لغة غير تلك التي بلغتهم من ورائه، وهيئة غير تلك التي رسموها في مخيلتهم عنه. فالرجل القوي، الذي ما كانوا ليصلوا إليه من قبل، هاهو اليوم يتحدث معهم وجها لوجه، والشخصية الأولى في الجيش، من وضعوا في أذهانهم أنه سيبدو عابساً، هاهو يبتسم لهم بين الحين والآخر، ويطلق المزحات لتلطيف الجو..

هاهو، من عاش معظم عقوده السبعة، خلف جدران المعسكرات، وميادين المعارك، بين المجنزرات والصواريخ والكلاشنكوف، يتحدث اليوم بحماسة عن "الدولة المدنية الحديثة" منتقدا حكم العسكر..!

وبالنسبة للرئيس، يقول إنه تحول إلى دولة بشخصه. كل شيء بيده وتحت أمره، وهو صاحب القرار في كل الأمور، صغيرها وكبيرها.

هل يؤكد هذا أن الثورة تسير فعلاً في طريقها الصحيح، حين استطاعت تغيير القناعات الراسخة في أذهان أشخاص اعتبروا أنهم جزءاً أساسياً من النظام؟. بلغ الاعتقاد لدى الكثيرين أن علي محسن صالح، هو أخ غير شقيق لعلي عبد الله صالح..

ولكن ماذا بشأن صورة حليفه السابق، تلك التي ما زالت معلقة أعلى الحائط خلف مكتبه؟

دعوه يرد على ما بدا أنه أمر غير طبيعي بعد هذا كله. بالنسبة له فهذا يعني"أننا لم نقم بانقلاب كما تم إشاعته حينما أعلنا تأييد ودعم مطالب الشباب" جاء الرد. واستدرك "ولذلك هي مازالت هنا، لكنها لن تكون كذلك بعد انتهاء الوضع الراهن بإعلان الرحيل بإذن الله".

يوم أن أعلن الرجل الثاني في البلاد، والأول في الجيش، تأييده لخيارات ومطالب الشعب، انفرط عقد قوة الرئيس الضاربة. وخلال الساعات السبع الأولى لم يتسن لهذا الأخير القيام بشيء، كان هول الصدمة مفاجئاً وقاصماً. ومع المساء بدأ باستيعاب الحدث، فجاء رد فعله الأول بظهور وزير دفاعه على شاشة التلفزيون الرسمي، متحدثاً عن انقلاب على ما أسماها بالشرعية، ومذكراً بقسم الجيش في الدفاع عنها.

بالنسبة للجنرال، لم يطل الأمر لأكثر من بضع ساعات قليلة، حتى ظهر هو الآخر على شاشة إحدى الفضائيات العربية (كان هذا هو الظهور الإعلامي الثاني للجنرال على شاشات الفضائيات، وفي يوم واحد) ليتحدث عن ضغوطات مارسها الرئيس على وزيره لتمثيل هذا الدور. وحينما بدا الأمر أشبه بإعلان حرب، طمأن الجنرال الناس بالتأكيد "أن عهد الانقلابات العسكرية ولى" وزاد أكد أنه لم يكن أبداً من محبي السلطة، وأنه لو كان يريدها لكان قد تسنى له ذلك في السابق حين كانت الفرصة متاحة له أكثر من غيره.

ولذلك، حين اتصل به الرئيس ليلة ذلك اليوم، أكد له الجنرال أن ما حدث ليس انقلابا، وأن صورته التي ما تزال في مكتبه شاهد حي على عدم دقة تلك الاتهامات.

مثل هذا الأمر، لا يمكن لرئيس مثل صالح استيعابه إطلاقاً. فهو وإن لم يكن انقلابا بمعناه العسكري كون الجنرال ما زال يعتبره رئيساً حتى اليوم (حتى وإن كان بنظره قد فقد شرعيته عملياً "بمجرد اصطفاف الشعب في كافة محافظات الجمهورية مع رغبة مشتركة ضد بقائه، وأيضاً لتورطه في قتل شعبه")، إلا أنه – من زاوية أخرى – يعد انقلابا بكل المقاييس، وذلك فقط بالنسبة للرئيس. فهو لا يمكن إلا أن يكون انقلاب شاملاً لفكرة دولة الرئيس الخاصة. انقلابا في الذهنية العسكرية على معاني التبعية العمياء، ورفض للقبضة الحديدية والتحكم والبسط والسيطرة على كل قرارات ومفاصل الدولة.

فالجنرال، الذي ظل ذراعاً أيمن للرئيس، وآلته الحامية من الانقلابات والحروب والاضطرابات العسكرية والسياسية، هاهو اليوم يعلن صراحة أنه سئم من كل هذا، وها قد آن أوآن أن يقرر، ليس فقط التخلي عن حمايته فحسب، بل وأيضاً بتحويل تلك الحماية لمن يطالبونه اليوم بالتوقف فوراً عن أن يواصل البسط على موقع الرجل الأول في البلاد، بأن يرحل ويتحول إلى لاشيء. وفي هذا التحول، ليس ثمة ما يمكن توصيفه أكثر من كونه انقلابا حقيقياً.

ليس هناك من بد من القول أن للجنرال تاريخا طويلا مع الرئيس صالح موغلاً بالعنف والقسوة المفرطة، غير أنه، وعلى الصعيد الشخصي الخاص، بعيداً عن صالح، يحمل تاريخا آخر ملئ بالنبل، الرحمة، الكرم، القيادة والإدارة، الوفاء بالعهود، وحل النزاعات. يتمتع القائد بعلاقات شخصية حسنة مع القبائل والأشخاص والشخصيات الوطنية، ودول الجوار، وأيضاً مع فريقه من ضباط وصف وجنود في المنطقة التي أوكل بها والفرقة التي يقودها.

(4)
حين تتعدى البوابة الغربية، وتلج معسكر القيادة التابعة له، تستقبلك لوحة صغيرة كتب عليها "أهلاً بك في عرين الأسود". وحين كان يتحدث معنا من وراء مكتبه داخل بزته العسكرية المارينزية، لا أدري لم ارتسم وجهه في مخيلتي بهيئة أسد. غير أنه وبعد لحظات من الحديث، أجريت تعديلات طفيفة على تلك الصورة ليبدو وكأنه الأسد الأكبر. الأسد الأب، أو ربما الجد. تلك التغضنات والتجاعيد البادية على وجه، وذلك الصوت الجهوري، ولكن الممتزج برعشة صغيرة بين الحين والآخر، لم تلغ من ذهني تلك الصورة المرتسمة نهائياً، لكنها أضفت عليها تحسينات لتجعل منه أسدا طاعناً في السن.

مع ذلك، فهو ما يزال الأسد الأقوى، أسد لم يفقد قوته وشجاعته بعد. فمن بين تلك التجاعيد والتقاسيم وعلامات الشيب، يمكنك ببساطة أن تلمح تلك المواصفات. وعلى الأرض تنعكس أكثر، بتجرؤه الوقوف ضد رغبات الرجل الأول في الدولة، وإعلانه أمام العالم – وبكل شجاعة – عن انتهاء عهد خدماته له، وانحيازه لخدمة الثورة.

وبعد المجزرة البشعة التي ارتكبت ضد المعتصمين السلميين في ساحة التغيير بصنعاء، في جمعة الكرامة (18 مارس) وراح ضحيتها (53) شهيداً، والآف الجرحى، حضر الجنرال الاجتماع الذي عقده الرئيس – في نفس اليوم، تقريباً - مع اللجنة الأمنية العليا، مجلس الدفاع الوطني، مجلس الوزراء، اللجنة العامة لحزبه، ولجنة إدارة الأزمات. وأثناء الاجتماع رمى الجنرال بكلماته الشجاعة إلى وسط الطاولة. تضمنت ما معناه: أن الجميع يعرف أن من ارتكبوا تلك المجزرة يتبعون قوات الحرس الجمهوري، القوات الخاصة، الأمن المركزي، ومواطنون بلباس مدني يتبعون الأمن القومي، والحزب الحاكم. وزاد: إن هذا الأمر واضح، ولا يمكن التستر عليه، ويجب الاعتراف به ومعالجته بالطريقة الصحيحة.. الخ

حينها حلق الطير فوق رؤوس القوم، ولم ينبت أحدهم ببنت شفه. لم يجرؤ أحد على الكلام. وبعدها بيومين فعل فعلته التي فعلها، وزلزلت عرش الطاغية، بإعلانه الانحياز للمحتجين وحمايتهم. وبعد يومين، أو ثلاثة – ربما – ظهر الرئيس في مقابلة على قناة العربية، وفيها قال بغرور: أنا رئيس جمهورية، واللواء علي محسن ضابط عندي، مثله مثل أي ضابط، وأستطيع عزله بقرار مني.

لم يتأخر الرد كثيراً، وفي صباح اليوم التالي، كان مندوبه الخاص قد وصل باكراً إلى ساحة الاعتصام، جوار الجامعة، ليبلغهم تحيات القائد، ويتحدث باسمه. وفيما بدا أنه رد قوي على تصريحات الرئيس تلك، قال الرجل، إن القائد يريد أن يذكر الجميع بأنه هو من أتى بالرئيس صالح إلى كرسي الرئاسة من المفرق. وكان يقصد "مفرق المخا" بتعز، حيث كان الرئيس يقبع هناك في معسكر خالد بن الوليد بموقع قائد لواء تعز العسكري. ولم ينس أن يذكر أيضاً بأن القائد علي محسن، هو من حمى وأنقذ الرئيس لثلاث مرات.

(5)
كان واضحاً أن الأسد العجوز، لم يكن قد فقد قوته بعد، ومازال زئيره المرعب يرتفع بقوة. ولذلك – ربما - جاءت تلك المحاولة الأخيرة والفاشلة لاغتياله. وظهيرة الثلاثاء (5 أبريل) نجا الجنرال من محاولة اغتيال جوار بوابة الفرقة.

ولأن الأحداث والاضطرابات الأخيرة، فرضت عليه عقد صداقه مع الإعلام، تخلى عن حساسيته من عدسات التصوير، ظهر ليلتها، وللمرة الثالثة خلال أيام، ليكشف تفاصيل تلك المحاولة، التي اتهم فيها الرئيس مباشرة بتدبيرها في الرئاسة منذ أسبوع.

وعلى الرغم من أنه كان يتحدث عن مكيدة مدبرة للتخلص منه، إلا أن الجنرال ظهر على شاشة الجزيرة مطلقاً ابتسامه عريضة، ربما أراد من خلالها أن يوجه رسالة تؤكد ثقة كبيرة بالنفس، وقد تحمل عبارة مفادها "عفواً، حاول مرة أخرى".

في الواقع، لم تكن تلك المحاولة هي الأولى، وربما أنها لن تكون الأخيرة. وكان مندوبه أكد للمعتصمين، بالقول: "هذا ليس ببعيد على السلطة فقد سبق وأن حاولت اغتيال اللواء علي محسن عدة مرات كان آخرها ما كشفته وثائق ويكيليكس حول إعطاء الأمن القومي في اليمن إحداثيات خاطئة للطيران السعودي لقصف مقر اللواء علي محسن في صعدة أثناء الحرب الأخيرة هناك".

الفارق الجوهري، أن تلك المحاولات السابقة، كان يتم التعامل معها من تحت الطاولة، ولم تكن تعلن على الملأ، كما حدث اليوم، مع توجيه الاتهامات بشكل مباشر لرئاسة الجمهورية.

تتطابق المعلومات لتؤكد أن القائد كان على رأس الجنرالات الذين نصبوا صالح رئيساً للبلاد في 1978. وكما تزعم بعض التسريبات، حظي الرجل بإبرام صفقة ثنائية خاصة مع صالح، بالشراكة والوفاء، وأنه أستطاع من خلالها أن يكتسب نفوذاً كبيراً في المؤسسة العسكرية، وضمان السيولة المالية التي تمكنه من تأسيس وإدارة القلعة التي يتحصن بها اليوم.

غير أن حلم الرئيس بالتوريث، شرخ تلك العلاقة، وتدرج بها نحو نهايتها تلك. وظل القائد – وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة تقريباً - يتعرض لمحاولات أخرى هدفها القضاء على قوته ونفوذه الواسع في الجيش، وكان كل ذلك يجرى بعيداً عن ضوء الشمس، لكنه لم يكن ليعدم منفذاً للخروج وإن بصورة اتسمت بالخفوت.

حينها، بدأت الخلافات بين الشريكين تدب، حول بعض القضايا الرئيسية، لعل أبرزها "تصرفات الأولاد" الصبيانية. وبحسب مقربين، لم يكن هناك شخص باستطاعته أن يدخل مع الرئيس في نقاشات حادة، سوى اللواء علي محسن. وإن كان ذلك يتم في غرف مغلقة غالباً.

بالنسبة للجنرال، فأسباب إعلانه تأييد ثورة الشباب، يتعلق بسوء تصرفات الرئيس الأخيرة مع القضايا السياسية والوطنية. لقد تحول الرئيس ليكون هو الرجل الأوحد، القادر على كل شيء، وما دونه لا يساوون شيء. وتحت الشعور بغرور القوة، أراد أن يكون هو الدولة، والدولة هو. ذلك ما يمكن استخلاصه، من حديث طويل تطرق لسلسلة من المبررات تعلقت معظمها بالأخطاء الكبيرة لتعاملات الرئيس وتصرفاته مع قضايا الوطن، والحوار مع المعارضة. فصل الجنرال تدرج سياقات الحوار مع المعارضة. "كان الرئيس دائماً ما يطرح المبادرات ويوقع عليها، ثم سريعاً ما يتنصل عنها، وكأنها لم تكن، هكذا دون أن يأبه للعواقب المترتبة عنها". قال. وأضاف "كنت حاضراً جل تلك الاتفاقات، وكنت في كل مرة أرصد الطرف الذي ينقضها" حتى وصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم. فاليوم لم يعد هناك شرعية للسلطة القائمة، في ظل خروج بعض المحافظات عن سيطرة الدولة، بما فيها صنعاء. يؤكد. ويستدرك: "الآن هناك فوضى، لا توجد دولة، في الماضي كان الرئيس صمام أمان، أما اليوم فإنه مصدر خطر على اليمن وأمنه ووحدته". حتى حدثت مجزرة الجامعة تلك "التي يندى لها الجبين، ولا يمكن أن يرضى عنها كل صاحب قلب، أو يمني وطني شريف".

قرر الجنرال، بكل شجاعة، أن يخوض معركة علنية وشفافة أمام الجميع، للدفاع عن الطرف الأضعف في المعادلة، الذي عوضاً عن ذلك، قال إنه يمتلك مطالب مشروعة ودستورية. بعدها، كان ما كان..

(6)
حينها، حتى هو نفسه لم يسلم من الخديعة ونقض العهود. وهنا يستشهد بما حدث أثناء اتفاقه مع الرئيس. فعقب إعلانه تأييد الثورة، اتصل به صالح، طالباً حل الأزمة، وحين قال له ما هو الحل بنظرك؟ اشترط عليه أن يستقيل معه، فوافق على الفور، وطلب منه يميناً فأقسم الرئيس. اتفقا على اللقاء في اليوم التالي في منزل النائب، وقعا الاتفاقية وتسلم كل طرف نسخة منها حتى السفير الأمريكي الذي اشترط الرئيس حضوره كشاهد، تسلم هو الآخر نسخته. بعدها يقول "من باب المزاح، قلت له لدي شرط واحد، فقال لي ما هو؟ فقلت له: أن تتكفل بمصاريفي، فأنا ليس لدي أموال في البنوك الخارجية، فوافق". واليوم التالي، رفض الاتفاق واعتبره كأن لم يكن.

اليوم، يحرص الجنرال أن تتوافق توجهاته حرفياً، مع تلك المطالب، التي انحاز إليها: "البلد اليوم بحاجة إلى حكم مدني، لا عسكري" قال. وأردف "نحن بحاجة إلى دولة يسودها العدل والمساواة والفصل بين السلطات".

ولقد بات يتحدث عن الجيوش باعتبارها جزء من الشعب وحامية للأمة، لا لحماية الأشخاص، والأفراد. فالأمة باقية، والأشخاص زائلون. هكذا يتحدث اليوم عن الماضي باعتباره خطأ فادحا، أفضى بالبلد إلى الدمار. فحكم الحزب الواحد كان خطأ كبيراً، يواصل، والممارسات التي قام بها النظام أدت إلى تكدس السلطة في يد حفنة عمدت إلى إقصاء الآخرين، ليس من مشاركتهم في صناعة القرار ومستقبل البلد، بل وإقصائهم من وظائفهم. إن معظم الناس فقراء، وهم بحاجة إلى وظائف لتسيير أمور حياتهم ورعاية أسرهم، لكن النظام أفسد ودمر البلاد واستفرد بالثروات. كان الجنرال ينساب في حديثه حول هذه المعاني بطريقة أخرى، غير معهودة، ولم تسمع منه قبل اليوم.. لكنه أدرك سريعاً أنها تحمل معنى اليمن القادم، اليمن الذي واجه شباب الثورة من أجله، رصاصات السلطة وزبانيتها بصدور عارية..

حتى هذه "بصدور عارية" وضعها الجنرال في سياق حديثه عن الطريقة التي سيتم فيها مواجهة مخططات النظام، لاسيما السيناريو الذي يقول باحتمالية اقتحام الفرقة. قال "لن ننجر إلى قتل إخواننا، بل سنواجههم مثل الشباب، بصدور عارية".

وكان ذلك في سياق طمأنته الجميع أنه "لن تكون هناك حرب أهلية. وبإذن الله سنعمل على حل الأزمة سلمياً. لا قلق من الحرب الأهلية".

لكن، مع ذلك كله، يرى الجنرال –وهذا يبدو مخالفاً للسياق– بضرورة أن يحظى الرئيس، بعد هذه السنوات، بخروج مشرف، ومن الأفضل أن يخرج "وسط تصفيق الناس واحترامهم". وهو الأمر الذي –في نظره- مازال ممكناً "فالوقت لم يفت بعد".

وربما، يكشف هذا أنه، ويوم الاثنين الفائت، أعلن تأييده للمبادرة الخليجية الأخيرة بتعديلاتها المثيرة للجدل. المبادرة التي رفضها الشباب جملة وتفصيلا، ورفضتها المعارضة الاثنين الفائت بعد تعديلاتها الجديدة بتغير النص إلى نقل صلاحياته لنائبه، بعد أن كانت السابقة تشير صراحة إلى التنحي، كما أن هذه الأخيرة منحت الرئيس وأسرته ضمانات من المحاكمة والملاحقة، وهو ما يتعدى القدرة المتاحة للمعارضة.

هذا ما يجعلنا نضع جميع تحولات الجنرال، المستمدة والمدفوعة من الثورة الشعبية المتسقة معها، في كفة، مقابل البدء بتحوله الأخير، من خلال موقفه المعلن يوم الاثنين الفائت، في الكفة الأخرى. ربما يختل الميزان في اتجاه غير مستحب للجنرال. عليه أن يفكر أكثر بالأمر، فليس ثمة من يعرف تقلبات الرئيس ومؤامراته أكثر منه.

تتسارع الأحداث، ويسجل التاريخ تحولاتها، بيد أن تحولات الجنرال تظل هي الأكثر إثارة بعد تحولات الثورة الشبابية، لكنها تظل مرهونة بالمدى الذي تستمر فيه متوافقة ومنسجمة مع أهداف ومبادئ الثورة الشعبية الجديدة.  

الخميس، 7 أبريل 2011

الانتقام من تعز


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
كان مشهد حشود "جمعة الخلاص" المهيبة في ميدان الحرية بتعز، بتراتيله المنادية بالرحيل، أكثر تأثيراً على نفسية الطاغية من مشهد جموعه في ميدان السبعين بصنعاء بصراخهم المنادي ببقائه.

لقد قرر أن يثأر لكبريائه الممرغ تحت أقدامهم، فوجه معاونيه حازما أن آتوني بأبناء تعز صاغرين.

والأحد الماضي، ما كان منهم إلا أن جمعوا له ما استطاعوا، كانوا ربما هم ما تبقى لهم من أبناء المدينة الحالمة. وإلى قصره الآيل للسقوط، سيق بضعة آلاف. من على منصته المرتفعة في باحة القصر، جلس على كرسيه يرمقهم أسفل قدميه، بينما كانوا يحملون صورته هاتفين بحياته.

وسط صراخهم، وحركة رأسه المشتتة، وملامح وجه منهار، بدا وكأنه قرر ممارسة انتقامه وإن على هذا النزر اليسير من الجمع. ها هو ما كان بيده أكثر من تقرير إذلالهم ليذل بهم كارهيه.

"الشعب يحبك يا علي". هتفوا بما حفظوه، مقابل ما أخذوه. وكان هو يتصنع الاستمتاع بهتافات يدرك أنه يعجز الاستعاضة بها عما افتقده. قطعاً ما كان لتلك الأصوات النشاز، أن تسمع لأبعد من أذنيه، أمام ما يصله عنوة من هدير تلك الهتافات اليومية المتصاعدة من ساحة الحرية، إذ تغزل في أذنيه: من تعز صعدت، ومنها تسقط.
كان الطاغية، حين أصدر أوامره ليؤتى إليه بهؤلاء النفر، قد أصدر أوامره بالانتقام من تلك الحشود الملايينية التي هزت أركان ملكه في "جمعة الخلاص"، وما كان من حضروا زينته في قصره، أكثر من مجرد إيغال عرضي في الإهانة سبق بساعات قليلة تنفيذ أوامره الانتقامية بارتكاب مجزرة الأحد ضد من أهانوا غروره.

ما كان ليوم واحد حصد فيه قرابة 1500 مصاب وجريح، يكفي لإشباع نهم طاغية، ليلحقه بيوم آخر، فكان حصاد يوم أمس الاثنين، حصدت فيه آلته العسكرية قرابة 15 شهيداً ورفعت من رصيد المصابين.

كان الفرق بين مشهدي القصر والساحة، يجسد الفرق نفسه بين وطن قديم نجهد للتخلص منه، وآخر جديد ننشده ونضحي بأرواحنا من أجله.

في الأول، نقلت عدسات السلطان ابتذال القوم وهم يرومون بلوغ ولو بعض ما سلبه منهم على مدى 33 عاماً، ليهبهم اليوم بعضه بطريقة مهينة. ولم يكن أذل من الحدث نفسه سوى شخص يلوك العبارات ليتحدث باسم أبناء العاصمة الثقافية، وشاعر مبتذل لم يتقن حتى تهجئة بيت شعر واحد بطلاقة.

وفي الثاني، كان الشباب المتعلم، الأكاديميون، المثقفون، الصحفيون، الأطباء، المناضلون، رجالاً ونساء، جميعهم يسطرون ملحمة بطولية شجاعة متصدين لرصاص أزلام الطاغية وقنابله السامة بصدورهم العارية. ذلك لأنهم قرروا استعادة حقهم المسلوب بشموخ الأبطال لا بذلة الخائرين.

في المشهد الأول، أراد الديكتاتور مسخ صورة أبناء العاصمة الثقافية بإبراز صورة هزلية لثلة عقيمة والترويج لها عبر تكرار عرضها في شاشاته الفضائية.

وفي المشهد الثاني، أكمل انتقامه الهمجي السمج باستنشاق رائحة الدماء المتسربة من أجساد نبيلة عن طريق أسوأ من فيها.

غير أن تعز –مع ذلك كله– مازالت تشمخ بالملايين من أبنائها، دون أن يضرها أن يشق منها مجرى صغيرا لتصريف القاذورات، أو ترهبها آلات الترويع ورصاصات القتل وسجون الاعتقال..

ارحل.. فالشعب قرر أن ترحل!!

الثلاثاء، 5 أبريل 2011

اللعبة الأمريكية الخطرة في اليمن


عقد من الصفقات السرية مع الرئيس اليمني لكن حضور القاعدة يزداد قوة وسقوط صالح سيوفر فرصة للشعب اليمني لبناء دولة حديثة


المصدر أونلاين ـ ترجمة خاصة: عبدالحكيم هلال
في اليوم السابق على بدء تساقط الصواريخ الأمريكية على معمر القذافي في ليبيا، كانت قوات الأمن على بعد مئات الأميال -عبر البحر الأحمر– التي يسيطر عليها الرئيس اليمني علي عبدالله صالح المدعوم من الولايات المتحدة، قد ذبحت أكثر من خمسين شخصا ممن كانوا يشاركون بأعداد كبيرة في احتجاج سلمي في العاصمة صنعاء. بعض الضحايا ضربوا في الرأس برصاص قناصة.

بهذه المقدمة استهل الكاتب جيرمي سكايل تقريره المطول حول "لعبة الولايات المتحدة الخطرة في اليمن"، الذي نشر في مجلة (ذا ناشيونال) الأمريكية الأربعاء الماضي (30 مارس).

التقرير الذي جاء في 16 صفحة (A4) سرد تفاصيل اللعبة الأمريكية مع الرئيس صالح فيما يسمى بالحرب على الإرهاب على مدى العقد الماضي بدء من العام 2000 وحتى هذا العام، مؤخراً مراحلها والاتفاقيات السرية غير المعلنة والعمليات المختلفة التي نفذتها الإدارة الأمريكية وردود الأفعال من قبل تنظيم القاعدة والشعب والمجتمع الدولي لاسيما الأمريكي.

وإذ كشف التقرير أسلوب تعامل الرئيس صالح المخادع مع شعبه وحلفائه على السواء، فقد خلص في نهاية المطاف إلى حقيقة جاءت على لسان أحد ضباط الاستخبارات المركزية الأمريكية السابقين، ومفادها: أن سقوط صالح "يوفر فرصة للشعب اليمني لبناء دولة أكثر حداثة". لكنه وفي الوقت نفسه، "يخلق تحديا للولايات المتحدة بخصوص مواصلة واشنطن لسياستها في مكافحة الإرهاب ضد تنظيم القاعدة".

وحول هذه الازدواجية الثنائية المعقدة يخوض الكاتب في تاريخ طويل من العلاقات الأمريكية السرية مع نظام صالح، اتسمت معظمها بتقديم تنازلات كبيرة من طرف صالح وصلت حد التفريط بالسيادة، مقابل الحصول على صفقات سياسية ومالية، لعل أهمها تلك التي أبرمت مع بوش الابن بتمكين القوات الأمريكية من العمل في الأراضي اليمنية بشكل غير مشروط، مقابل أن تحفظ أمريكا للرئيس صالح ماء وجهه أمام شعبه مع تقديم مساعدات مالية كبيرة من الجانب الأمريكي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وهي الاتفاقية التي واصل الرئيس الجديد أوباما العمل عليها بعد أن تمكنت إدارة سلفه من تقديم مبررات لتثبيت المبدأ الخاص بتوسيع العمليات العسكرية في اليمن لخدمة المصالح القومية لأمريكيا.

على أن التقرير، في مضمونه العام، وهو يحاول تفكيك شفرة العلاقة الثنائية المشتركة، سعى وإن بطريقة غير مباشرة، للإجابة على التساؤلات الأخيرة الملحة حول قلق الإدارة الأمريكية من سقوط نظام صالح، وبالتالي تمسكها به كحليف مهم في الشرق الأوسط. ذلك مع أن التقرير حين قارن بين التعامل الأمريكي المختلف تماماً في ردها على قمع الاحتجاجات في كل من ليبيا واليمن، اعتبر أن حالة الخطر الممكن بلوغها من تلك المخاطر هي أعلى بكثير بالنسبة للولايات المتحدة في اليمن مما هي عليه في ليبيا.

البداية من "ثورة الشباب السلمية"
بدأ الكاتب تقريره من الأحداث الأخيرة التي تمر بها اليمن. وقال إنه و"منذ شهور، خرج الآلاف من اليمنيين إلى الشوارع مطالبين رئيسهم صالح بالتنحي، لكن النظام كان يرد باستمرار بالمواجهة والقوة الغاشمة. ولكن في 21 مارس، تلقى صالح ضربة موجعة من الممكن أن تكون بمثابة الضربة التي أطلقت شرارة النزيف الذي سيجلب السقوط لنظامه في نهاية المطاف". وقال إن صالح في ذلك اليوم، خسر الشخصية الأقوى والأكثر نفوذا في الجيش اليمني، الجنرال علي محسن الأحمر، قائد الفرقة الأولى مدرع، الذي رمى بثقله خلف الاحتجاجات وتعهد بالدفاع عن "ثورة الشباب السلمية" وسرعان ما تبعته الشخصيات العسكرية الكبيرة الأخرى. وأعلن مسئولون مدنيون كبار، بما في ذلك عشرات من السفراء والدبلوماسيين استقالاتهم. بينما أن زعماء القبائل القوية والهامة التي ظلت لفترة طويلة هي العنصر الأكثر حسماً لإبقاء قبضة صالح قوية على السلطة، هم أيضاً تأرجحوا لصالح المعارضة.

ويشير الكاتب إلى تلك المعلومة التي اشتهر بها صالح وباتت، عوضاً من أن تكون مثلمة في تاريخه الأسود، تشير إلى حذاقته، قائلاً: "وصالح هو أحد الناجين الذين شقوا طريقهم بشكل حاذق من خلال الحرب الباردة، والانقسامات القبلية العميقة والحرب العالمية على الإرهاب".

وفي ظل إدارة أوباما، يقول التقرير: "ألتزمت الولايات المتحدة بزيادة التمويل العسكري لنظامه. ومع أنه كان يعرف بخداعه، إلا أن صالح اعتبر ضمنيا كرجل واشنطن في شبه الجزيرة العربية".

ويواصل التقرير القول: "وطوال فترة حكمه، نظر صالح إلى تمرد الحوثيين في الشمال والحركة الانفصالية في الجنوب باعتبارها التهديد الأكبر. بينما كان القلق الأكبر، بالنسبة للولايات المتحدة، يأتي من تنظيم القاعدة. لكن في نهاية المطاف، تبين وإلى حد كبير أن كتلة مستقلة ذاتياً من المحتجين الشباب هم الذين أظهروا التحدي الأكثر فعالية لسلطة صالح".

ومقابل تقديمه لتلك الحقيقة المعلنة التي تؤكد بأن "احتمال رحيل صالح يشكل مصدر قلق كبير للبيت الأبيض"، يردف الكاتب حقيقة أخرى، ربما لم تكن معلنة بشكل صريح، بقوله "غير أن الولايات المتحدة لعبت عن غير قصد دورا كبيراً في إضعاف نظامه. فلأكثر من عقد من الزمن، أهملت الولايات المتحدة سياسة التعامل مع التنمية والمجتمع المدني في اليمن، وبدلا من ذلك ظلت تركز على استراتيجية عسكرية استهدفت من خلالها تعقب الإرهابيين". وعليه يؤكد أن "هذه العمليات لم تتسبب فقط في وفاة العشرات من المدنيين وتأجيج الغضب الشعبي ضد صالح لسماحه للجيش الأمريكي القيام بمهامهم; بل إلى جانب ذلك عملت أيضاً على تغذية الفساد الذي اشتهر به صالح في الوقت الذي لم يقم فيه بشيء لمعالجة وضع اليمن باعتبارها أفقر بلد في العالم العربي، وهو الأمر الذي شكل دافعاً قوياً لانطلاق الثورة".

واعتبر التقرير "أن حالة الخطر الممكن بلوغها من تلك المجازفة بالنسبة للولايات المتحدة هي في اليمن أعلى بكثير مما هي عليه في ليبيا، ومع ذلك فحتى الآن كان ردها على قمع الاحتجاجات في البلدين مختلفاً تماما. ففي حين أن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وغيرها من المسئولين الأمريكيين أدانوا أعمال العنف في اليمن، إلا أنهم امتنعوا عن الدعوة لإسقاط النظام أو لعمل عسكري دولي. وبدلا من ذلك، دعت الولايات المتحدة إلى حل سياسي".

المخاوف الأمريكية، والقاعدة
وفي هذا المقام، أيضاً، يستشهد الكاتب بتصريحات لوزير الدفاع روبرت غيتس جاءت بعد أيام قليلة من المذبحة في صنعاء. وحين سئل الوزير أثناء زيارته إلى موسكو، ما إذا كانت الولايات المتحدة مازالت تواصل دعمها لصالح؟ حاول جيتس بداية التهرب من تقديم الرد المقنع، قائلاً: "لا أظن أنني مخول للحديث عن الشؤون الداخلية لليمن"، إلا أنه عاد لاحقاً ليفصح عن الكثير حول أولويات الولايات المتحدة هناك، قال: "نحن قلقون بالطبع إزاء عدم الاستقرار في اليمن. ونحن نعتبر تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، والذي يتموضع إلى حد كبير في اليمن، بأنه ربما يكون الأكثر خطورة في الوقت الحالي من بين كافة فروع تنظيم القاعدة الأخرى. ولذا فإن أكثر ما يقلقني حول الوضع اليمني بالتأكيد يأتي من عدم الاستقرار وتحويل الانتباه عن التعامل مع القاعدة في جزيرة العرب".

وفقا لهذا التسلسل العملي، ينتقل الكاتب للنقطة التالية في التركيز على مخاطر وتهديدات تنظيم القاعدة القادمة من اليمن، تلك التي استهدفت الولايات المتحدة بالتحديد. استهل الكاتب الأمر بالإشارة أولاً إلى العملية الإرهابية الفاشلة في محاولة تفجير طائرة الركاب المتجهة إلى أمريكا في ديسمبر 2009، وهي واحدة من أهم العمليات التي عملت، ليس على إعادة التركيز العالمي على اليمن فحسب، بل زادت من تكثيف ذلك التركيز. وفي السياق تطرق إلى قيادات التنظيم مركزا على أنور العولقي الذي تعتبره الاستخبارات المركزية ومحللون استخباراتون أمريكيون بأنه الأخطر في تنظيم القاعدة، حيث يفضل البعض ضمه مع أسامة بن لادن في نفس القائمة. ومع ذلك، إلا أن التقرير لفت إلى أن محللين آخرين يعتبرون بأن الدولة بالغت في تقدير دور العولقي داخل القاعدة في جزيرة العرب.

وعليه يواصل الكاتب قائلاً إنه "منذ اليوم الأول لإدارته، وضع الرئيس أوباما ومستشاره الرئيسي في مكافحة الإرهاب جون برينان، اليمن على رأس أولوياتهم القصوى بسبب وجود تنظيم القاعدة في جزيرة العرب".
ويقول: "وعلى الرغم من أن صالح غالباً ما كان يناور ويطلق الأكاذيب عند التعامل مع الولايات المتحدة، إلا أنه من الصعب أن نتخيل زعيماً أكثر مرونة منه في تلك المنطقة. وقد أعطى صالح الإذن للولايات المتحدة في شن حرب سرية في اليمن، بما في ذلك عمليات قصف لمعسكرات القاعدة في جزيرة العرب من جانب واحد، وعمليات اغتيالات أحادية الجانب على الأراضي اليمنية. وعلى سبيل المكافأة، تحمل صالح المسؤولية العامة لتوجيه ضربات الولايات المتحدة في محاولة للتغطية على حجم التورط الأمريكي. وفي غضون ذلك، رفعت إدارة الرئيس أوباما من عمليات تدريب وتجهيز الجيش اليمني وقوات الأمن".

وعليه، فخلاصة هذا الأمر، المتعلق بالمخاوف الأمريكية من النتائج المحتملة لسقوط صالح، يقول الكاتب إنه "وبدون الحصول على ضمانات بأن الحكومة التي ستخلف صالح ستمنح القوات الأمريكية صلاحيات مماثلة، فإن ما يجري من قتل للمتظاهرين المسالمين لن يكون على رأس الأولويات الأمريكية". غير أن ذلك، بالنسبة لآخرين يعد نظرة قاصرة وغير حصيفة، وبحسب جوشوا فوست الذي ترك مؤخرا وكالة الاستخبارات العسكرية، حيث كان هو المحلل الخاص فيما يتعلق بالشأن اليمني، فإن "ردة الفعل الأمريكي المتواطئ تسلط الضوء على مدى النظرة القاصرة لسياستنا هناك". وفاوست، هو أيضاً، زميل في مشروع الأمن الأمريكي، والذي أضاف: "إننا نقبل بوحشية صالح بخنوع للخروج بسبب تخوفاتنا الخاطئة بأن برامجنا في مكافحة الإرهاب هناك سوف تتوقف، ونحن على ما يبدو لا ندرك بأننا، حين نقوم بذلك، فنحن عملياً سندفع الحكومة المقبلة إلى منع تلك البرامج ذاتها".

شخصية صالح وبداية علاقته مع القاعدة
يقدم الكاتب تفاصيل أخرى قد تبدو مثيرة للبعض حول أسلوب حكم الرئيس صالح للبلاد وشخصيته، منذ سيطرته على كرسي الرئاسة أواخر السبعينات، وصولاً إلى تعامله مع تنظيم القاعدة في الثمانينات أثناء دعم الجهاديين في حربهم ضد الاتحاد السوفيتي، وما تلاها من تعاملات مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة فيما يتعلق بملف الحرب العالمية على الإرهاب في اليمن. بعد الحرب السوفيتية، وعودة الجهاديين واحتضانهم ودعمهم من قبل صالح، شكلت أولى أهم عمليات القاعدة النوعية في اليمن بتفجير المدمرة الأمريكية (يو إس إس كول) في أكتوبر العام 2000 منعطفاً مهماً في تاريخ التعاون اليمني الأمريكي. وبالتفصيل التدريجي تعرض التقرير لكافة العمليات التي نفذتها القاعدة في اليمن ضد الأهداف الأمريكية والغربية، وما رافقها بالمقابل من عمليات نفذت ضد التنظيم بالتعاون بين صالح وأمريكا. وكان الكاتب بين الحين والآخر، يضمن في تقريره شهادات وتعليقات وتصريحات لمسئولين أمريكيين عملوا مع الاستخبارات الأمريكية في اليمن، ومحللين متخصصين بالشأن اليمني، لتقديم تفاصيل مهمة بعضها سبق وأن كشفت، فيما ظل بعضها طي السرية حتى اليوم.

وبحسب شهادة الكولونيل المتقاعد من الجيش الأمريكي جورج باتريك لانغ، وهو من قدامى الضباط المخضرمين في القوات الخاصة، والذي عرف صالح منذ 1979، بعد أن عمل لسنوات كملحق دفاعي وعسكري لوزارة الدفاع في اليمن، قال إن صالح أثبت أنه بارع في إشغال القبائل بعضها ضد بعض لإضعافها وليبقى هو صاحب السلطة الأقوى. وأضاف: "ثمة دائماً توازن غير ثابت بين سلطة الحكومة وسلطة هذه المجموعات القبلية واسعة الانتشار"، ولذلك يخلص لتقرير نتيجة مفادها "إن القبائل هي من ستحدد مستقبل اليمن، وليس تنظيم القاعدة في جزيرة العرب".

أما بالنسبة لتاريخ صالح مع القاعدة، فقد استهلها الكاتب بالتطرق للحرب السوفيتية في أفغانستان التي دعمتها الولايات المتحدة، وانضم خلالها الآلاف من اليمنيين للجهاد بعضهم نسقوا ومولوا مباشرة من قبل حكومة صالح نفسه. وحين عاد الجهاديون إلى وطنهم الأم –يقول الكاتب– فإن صالح منحهم ملاذا آمنا. وأشار الكاتب إلى مقابلة أجريت مع الرئيس اليمني في النيويورك تايمز في العام 2008، قال فيها "نظراً للتعددية السياسية في اليمن، فقد قررنا أن لا ندخل في مواجهة مع هذه الحركات". وهنا يوضح الكاتب: أن حركة الجهاد، الحركة التي تزعمها أيمن الظواهري، الطبيب المصري الذي ترقى ليصبح الرجل الثاني بعد بن لادن، أنشأ واحدة من أكبر الخلايا في اليمن في التسعينيات.

وعليه، يضيف الكاتب: أن صالح نظر إلى تنظيم القاعدة كحليف مناسب لبعض الوقت، يمكنه أن يستغله لحمايته من التهديدات المحدقة التي تهدد سلطته، بما في ذلك الحركة الانفصالية في الجنوب والمتمردين الحوثيين في محافظة صعدة الشمالية.

واستعرض التقرير استغلال صالح للجهاديين، بدء بحرب صيف 1994 الأهلية، ثم معاركه ضد المتمردين الحوثيين في الشمال. وبهذا الخصوص أورد الكاتب تصريحات لمسئول أمريكي كبير عمل في السابق في مكافحة الإرهاب ولديه خبرة كبيرة في اليمن، لكنه أصر على عدم كشف هويته بسبب حساسية العمليات التي عمل عليها، قال: "هؤلاء هم البلطجية الذين كان صالح يستعين بهم للسيطرة على أي عناصر تثير المشاكل. ولدينا حالات كثيرة جدا حيث كان صالح يعمد فيها للاستعانة بهؤلاء الأشخاص من تنظيم القاعدة للتخلص من خصومه المعارضين لنظامه". وبسبب قيمة الجهاديين بالنسبة لصالح – يضيف المسئول: "فقد تمكنوا من العمل بحرية. بل كانوا قادرين على الحصول على وثائق يمنية والسفر بها. وكان صالح بالنسبة لهم المصدر الأكثر أمانا. لقد حاول أن يجعل من نفسه لاعبا مهماً من خلال اللعب بهذه الورقة".

ونتيجةً لذلك، يستنتج الكاتب، فقد توسع نطاق وجود «القاعدة» خلال التسعينيات، وشكل اليمن أرضاً خصبة لمعسكرات التدريب وتجنيد المجاهدين. وأثناء إدارة كلينتون، لم يكن هذا التدبير يدخل ضمن خانة مكافحة الإرهاب، عدا مجموعة صغيرة من المسئولين الذين كانوا في معظمهم من مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية، من الذين كانوا يتعقبون نشاط القاعدة".

سر صالح الدفين مع بوش
بعدها بدأ الكاتب وفق تسلسل تاريخي بتتبع تاريخ بروز تنظيم القاعدة في اليمن، مشيراً إلى أن البداية اعتبرت في 12 أكتوبر 2000، بعد تفجير المدمرة الأمريكية "كول". وهو الهجوم الذي تباينت الشكوك حول الجهة التي نفذته حتى تبناه تنظيم القاعدة في تسجيل فيديو موثق.

وبسبب تلك الحادثة، وبعد أحداث 11 / 9، وضع الرئيس بوش اليمن على قائمة الأهداف الأولى المحتملة في "حربه على الإرهاب"، وأنه كان بإمكانه أن يدمر حكومة صالح بسرعة فائقة. وعلى الرغم من إعلان صالح الذي جاء قبل 9/11 بأن "اليمن هي مقبرة للغزاة"، إلا أن صالح قرر عدم الذهاب في طريق حركة طالبان، وأنه أهدر بعض الوقت في التحرك لضمان عدم حدوث ما لم يكن يرغب به.

ويواصل التقرير: وكان الرئيس صالح هو أول من استقل طائرة إلى الولايات المتحدة في نوفمبر 2001. وخلال لقاءاته في واشنطن اقترح صالح عرضاً بحزمة مساعدات تصل قيمتها إلى 400 مليون دولار بالإضافة إلى تمويل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وبشكل حاسم بالنسبة لإدارة بوش، فإن العلاقة الأميركية الجديدة مع صالح تتضمن أيضا التوسع في تدريب القوات العسكرية الخاصة.

ويكشف التقرير تفاصيل الصفقة السرية التي لم تتضح تفاصيلها إلا مؤخراً. إذ يؤكد بأن هذا التدريب كان من شأنه "أن يجيز للقوات الأمريكية الخاصة بالانتشار بشكل غير معلن في اليمن في الوقت الذي يسمح لصالح بحفظ ماء الوجه على الصعيد الداخلي"، مضيفاً: وكجزء من صفقة صالح مع إدارة بوش، أنشأت الولايات المتحدة "مركزا لمكافحة الإرهاب" في اليمن يدار من قبل وكالة الاستخبارات المركزية، وجنود البحرية والقوات الخاصة المدعومة بقاعدة ليمونير العسكرية (Camp Lemonier) التي كانت بمثابة القاعدة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية في البلد الإفريقي القريب، جيبوتي، وتضم طائرات بدون طيار، وقد حدد موقعها على بعد ساعة فقط من اليمن عن طريق الزوارق، لكن هذه القاعدة السرية سريعاً ما حلت محل مركز قيادة الولايات المتحدة للعمل السري في منطقة القرن الأفريقي وشبه الجزيرة العربية.

تعلم سريعاً لكنه ظل يخادع وتلقى ضربته الأولى
"صالح يعرف كيف ينجو بنفسه"، يقول إميل نخلة، وهو ضابط كبير عمل سابقاً في وكالة الاستخبارات المركزية وكان يدير مكتبها حول الإسلام السياسي في عهد إدارة بوش. ويضيف: وبعد 11 / 9 "تعلم صالح بسرعة كبيرة ليتكلم بلغة مكافحة الإرهاب" "لذا أتى إلى هنا للحصول على دعم والبحث عن تمويل. ولذلك فهو يأتي إلى هنا أو يتحدث إلينا باللغة التي نفهمها ونحبذها، غير أنه بعد ذلك يذهب إلى المنزل ويقوم بكل أنواع التحالفات مع جميع أنواع الأشخاص الضالين لمساعدته على البقاء. ولا أعتقد أنه حقا يؤمن بصدق أن تنظيم القاعدة يشكل تهديدا خطيرا لنظامه". يضيف نخلة.

ويكشف التقرير، أنه وبمجرد أن بدأت مهمة ليمونير (Lemonier)، عززت أمريكا من وجود "المدربين" العسكريين داخل اليمن. وكان قد أدرج بين القوات أعضاء من وحدة الاستخبارات العسكرية السرية ضمن قيادة العمليات الخاصة المشتركة (JSOC) التي تشتهر بالنشاط. كما يكشف التقرير أنه "وبينما أن هؤلاء اعتبروا رسمياً في اليمن كمدربين، إلا أنهم عملوا بسرعة على تأسيس القدرة التشغيلية لتعقب المشتبه بهم في تنظيم القاعدة في البلد، على أمل العثور عليهم وتحديد مواقعهم حتى تتمكن القوات الأميركية من القضاء عليهم. وبعد عام من اجتماع صالح مع بوش في البيت الأبيض، بدأ "المدربون" الأمريكيون بتنفيذ عمليتهم "الماطرة" الأولى. والتي لن تكون عمليتهم الأخيرة.

وبحسب التقرير: نفذت تلك العملية في نوفمبر من العام 2002 باغتيال أبو علي الحارثي في صحراء محافظة مأرب الذي كانت أصابع الاتهام تشير إليه باعتباره واحدا من أهم العقول المدبرة للهجوم على "كول"، وتمت العملية بالتعاون مع مكتب العمليات الخاصة بالمحافظة [اليمني] الذي كان يقوم بدوره بالرقابة وتتبع الحارثي عبر إشارات رقم تلفون نقال. أرسلت طائرة استطلاع بدون طيار من مركزها في جيبوتي مخترقة المجال الجوي اليمني. لكن ذلك لم يكن مجرد تجسس، فالطائرة بدون طيار كانت تحمل اثنين من صواريخ هيلفاير (نار الجحيم) المضادة للدبابات. وبعد أن أعطى مدير وكالة المخابرات المركزية جورج تينيت الضوء الأخضر لتنفيذ المهمة، ارتطم صاروخ بطول خمسة أقدام بقوة بسيارة الدفع الرباعي وحولها إلى أجزاء.

ويستعرض التقرير التطورات التي أعقبت العملية على هذا النحو: في البداية كشفت تصريحات اقتبست لمسئولين أمريكيين لم تذكر أسماءهم في تقارير لوسائل الإعلام أن الضربة كانت عبارة عن عملية أمريكية، لكنهم كانوا يرفضون مناقشة دور الولايات المتحدة في هذا الجانب. وبحسب تصريحات لمايكل ديلونج، الذي كان في ذلك الوقت يتقلد منصب نائب مدير القيادة المركزية الأمريكية، قال إنه "إذا أثيرت الأسئلة، حول الأمر فإن الرواية اليمنية الرسمية ستكون بأن سيارة الجيب كانت تحمل مدنيين وقعوا عن طريق الخطأ على لغم أرضي في الصحراء فانفجرت بهم السيارة. وكان هناك اتفاق بعدم الإشارة إلى الإرهابيين، ولا الإشارة لإطلاق الصواريخ". ولكن بعد ذلك، في 5 نوفمبر، أكد نائب وزير الدفاع بول وولفويتز بأن الضربة كانت أميركية، مضيفاً "أنها عملية تكتيكية ناجحة جدا، ويأمل المرء في كل مرة أن يحظى بنجاح من هذا القبيل، ليس فقط لأننا تخلصنا من شخص خطير، ولكن لأنا فرضنا التغييرات في تكتيكاتهم وعملياتهم وإجراءاتهم"، كما جاء في تصريحاته على شبكة سي إن إن. وقد وصف صالح حينها بأنه بدا "خائفاً للغاية" عندما أفشي هذا السر. حيث أبدى صالح تذمره للجنرال تومي فرانكس – قائد القيادة المركزية، وقال له: "إن هذا سيسبب لي مشاكل سياسية كبيرة".

الفترة من 2003 حتى 2007 
وخلال الفترة، من 2003 وحتى 2006 يقول التقرير إن حكومة صالح اختفت إلى حد كبير من رادار إدارة بوش لمكافحة الإرهاب، باستثناء الاجتماع العرضي للمطالبة باتخاذ إجراء على المشتبه بهم في هجوم كول. وفي 2006، أشار الكاتب إلى حادثة هروب 23 سجين في تنظيم القاعدة يوم 3 فبراير 2006 من سجن الأمن السياسي، بينما كانت إدارة بوش تركز بشكل كبير على العراق. وكان بين الذين هربوا العديد من الشخصيات الرئيسية التي ستبرز لاحقاً لتكون هي البؤرة الرئيسية لإعادة تشكيل قيادة القاعدة في جزيرة العرب، بضمنهم ناصر الوحيشي، السكرتير الشخصي السابق لبن لادن. والذي عمل على توحيد فرعي التنظيمين اليمني والسعودي للقاعدة تحت راية إقليمية واحدة عرفت بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. وقاسم الريمي، وهو أحد الفارين الآخرين، وأصبح القائد العسكري للقاعدة في جزيرة العرب. وفي 2007 أطلق صالح سراح فهد القصع، المشتبه به في تفجير كول الذي كان قد سجن في عام 2002. وفي مايو 2010 ظهر القصع في شريط فيديو لتنظيم قاعدة جزيرة العرب، وهو يهدد بمهاجمة الولايات المتحدة وسفاراتها وسفنها.

ويواصل التقرير سرد تفاصيل ما تبقى من العام 2007 قائلاً: كما أعادت القاعدة تنظيم صفوفها في اليمن، وبدأ تنفيذ سلسلة من العمليات على نطاق محدود، وبالدرجة الأولى في محافظة مأرب، وفي مارس 2007 أشار الكاتب إلى اغتيال أعضاء في القاعدة لكبير المحققين الجنائيين في محافظة مأرب، علي محمود قصيلة، لدوره المزعوم في الهجوم على أبو علي الحارثي. وفي رسالة صوتية، أعلن الريمي بأن الوحيشي يعتبر رسميا هو الرئيس الجديد لتنظيم القاعدة في اليمن. وفي الرسالة، تعهد الريمي بأن المجموعة ستستمر في الانتقام من المسئولين عن الضربات. وبعد ذلك بأسبوعين، هاجم انتحاريون قافلة من السياح الأسبان في مأرب، مما أسفر عن مقتل ثمانية منهم إلى جنب اثنين من سائقيهم اليمنيين. وفي يناير 2008، هاجموا مجموعة من السياح البلجيكيين.

وإجمالاً –يقول التقرير- كان هناك أكثر من ستين هجوماً موثقاً من القاعدة على الأراضي اليمنية بحلول نهاية إدارة بوش. وعلى مر السنين، ازدادت باطراد مساعدات الولايات المتحدة العسكرية وتمويلات وكالة المخابرات المركزية. و"عندما تبدأ [القاعدة] بخلق مشاكل في اليمن، يبدأ تدفق الأموال الأميركية" بحسب ما يؤكده أحد كبار مسئولي مكافحة الإرهاب السابقين. والذي يضيف: "وبالنسبة لصالح فإن تنظيم القاعدة هو الهبة التي تبقي على تدفق الأموال. وهم حفلة جمع التبرعات رقم واحد بالنسبة له للحصول على الأموال السعودية والأمريكية".

أوباما يواصل توسيع البرنامج السري
يصل التقرير إلى عهد إدارة الرئيس أوباما. وعلى عكس ما تم تصوير إدارة أوباما من قبل الجمهوريين على أنها منغمسة في جماليات الحريات المدنية والقانون الدولي من التعامل مع خطر الإرهاب العالمي، إلا أن الواقع، أنه ومنذ الأيام الأولى لإدارته، كان الرئيس يركز بشدة على تصعيد الحرب السرية ضد القاعدة وتوسيعها إلى ما هو أبعد بكثير من المستويات التي بلغتها في عهد بوش، ولاسيما في اليمن.

وكشف التقرير أنه، وفي أبريل 2009 قام الجنرال ديفيد بتريوس، الذي أصبح رئيس القيادة المركزية، بالمصادقة على خطة وضعت بالتنسيق بين السفارة الأميركية في صنعاء، ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ووكالات استخباراتية أخرى وهدفت إلى توسيع نطاق العمل العسكري الأميركي في اليمن. الخطة لم تتضمن فقط تدريب وحدة القوات الخاصة التابعة للقوات اليمنية، لكنها تضمنت أيضاً الضربات الأمريكية أحادية الجانب ضد القاعدة في جزيرة العرب. وعلى الرغم من أن بترايوس تشدق بتأييد التعاون بين الولايات المتحدة واليمن، إلا أنه كان من الواضح أن الولايات المتحدة ستضرب حينما يحلو لها ذلك. وفي الحقيقة، أصدر بترايوس توجيه سري مكون من سبع صفحات تخول فرق صغيرة من وحدة القوات الخاصة التابع للقوات الأمريكية للقيام بعمليات سرية بعيدا عن ساحات القتال المعلن من العراق وأفغانستان. وكان وضع عليها علامة "LIMDIS" صغيرة "لتوزيعها على نطاق محدود". والتوجيه المعروف باسم فرقة المهمات القتالية المشتركة غير العادية ( (JUWTFتحت الطلب، كان بمثابة سقطة لإذن من نوع ما لمكتب القوات الخاصة.

ويضيف: "على خلاف العمليات السرية التي تقوم بها وكالة الاستخبارات المركزية، فإن مثل النشاط السري لا يتطلب موافقة الرئيس أو تقارير منتظمة إلى الكونغرس"، حسبما ذكرت مارك مازيتي من صحيفة نيويورك تايمز التي سمح لها بقراءة التوجيه.

وحث التوجيه كثيراً على استمرارية السياسة الخارجية موجهة من الإدارة السابقة إلى أوباما البيت الأبيض. وفي ظل إدارة بوش، برر البنتاغون بشكل منتظم مثل هذه الأعمال بتعويذة سحرية بأن القوات "لم تكن في حالة حرب" بل بدلا عن ذلك أنها تعمل على "تهيئة ساحة المعركة". على أن الأمر الأهم حول طلب بتريوس 2009 كان -في نظر الكاتب- بأنه مدد وثبت التبرير الذي كان في عهد بوش لتوسيع نطاق الحروب السرية في عهد الرئيس أوباما.

واستشهد التقرير بوثائق ويكيليكس المسربة مؤخراً. حيث أشار إلى اجتماع 6 سبتمبر 2009، الذي عقده برينان مع الرئيس صالح في صنعاء، والذي فتح فيه صالح الباب على مصراعيه للولايات المتحدة، بتعهده بـ"الوصول غير المقيد إلى الأراضي الوطنية اليمنية للعمليات الأمريكية ضد الإرهاب"، وحيث "أصر صالح على أن أراض اليمن الوطنية متاحة لعمليات مكافحة الإرهاب أحادية الجانب التي تقوم بها الولايات المتحدة".

أول أكبر هجوم في عهد أوباما وتداعياته
ويواصل التقرير الحديث عن عهد أوباما، ليفصل لنا مسار الأحداث، بادئا بما وصفه بـ"الهجوم العسكري الأمريكي الأكبر في التاريخ على اليمن" الذي قامت به الطائرات الأمريكية في 17 ديسمبر 2009 وأشار الكاتب أنه يأتي كجزء من البرنامج السري المشفر تحت سم (Indigo Spade) وهو مصطلح يعني (المجرفة نيلية اللون، أو: ورقة البستوني النيلي في ورق اللعب).

وفي التفاصيل يقول التقرير: العملية بدأت عند الفجر، عندما أطلقت قيادة العمليات الخاصة المشتركة طائرات استطلاع لمسح الأهداف المطلوبة. بعدها أطلق صاروخا من طراز كروز توماهوك من غواصة متمركزة في المياه قبالة الساحل اليمني. كان الصاروخ مزوداً بقنابل عنقودية، ووقع على مجموعة من المنازل والمساكن الأخرى في منطقة "المعجلة"، وهي قرية في محافظة أبين الجنوبية. وفي غضون ذلك، شن هجوم آخر في منطقة أرحب إحدى ضواحي صنعاء، تليت بغارات ميدانية على منازل يشتبه أنها للقاعدة عبر القوات اليمنية الخاصة الذين تم تدريبهم من قبل قيادة قوات العمليات الخاصة المشتركة كجزء من وحدة مكافحة الإرهاب الخاصة (CTU). وجاء التفويض لهذه الغارات الميدانية الأخيرة عبر مكتب صالح على ضوء معلومات إستخباراتية "عملية" تفيد بان انتحاريين من تنظيم القاعدة يستعدون للقيام بعمليات في صنعاء. وكان الهدف في أرحب، وفقا لتقارير الاستخبارات، هو منزل للقاعدة يعتقد أنه يخفي السمكة الكبيرة: قاسم الريمي.

وحول ردود الفعل لهذه العملية، يكشف الكاتب طريقة التعامل اليمني والأمريكي إزاءها بالتفصيل. وبنفس الطريقة، في البداية رفضت وزارة الدفاع الأمريكية التعليق، موجهة جميع علامات التعجب والاستفسارات إلى اليمن. بالنسبة لحكومة صالح فقد أصدرت بيانا أرجعت فيه الفضل إلى قواتها لتنفيذ ما قالت أنها "غارات متزامنة لقتل واعتقال الإرهابيين". وهنأ الرئيس أوباما الرئيس صالح على نجاح العملية وشكره "على تعاونه" متعهداً بمواصلة الدعم الأميركي.

غير أن التقرير هنا يكشف معلومات أخرى من خلال دراسة الصور التي ظهرت لاحقاً والخاصة بالهجوم الذي وقع في أبين. وعليه يقول إنه ومع تلك الصور "تساءل بعض المحللين العسكريين عما إذا كان اليمن يمتلك نوعاً من تلك الأسلحة التي تم استخدامها". إذ وبين تلك التي وجدت في مكان الحادث كانت هناك آثار لقذائف (BLU 97 A/B) القنابل العنقودية التي تنشطر إلى 200 شظية فولاذية حادة والتي يمكن أن تنتشر وتتوزع على بعد أكثر من 400 قدم. جوهرياً، هم يرمون بألغام أرضية قادرة على تمزيق البشر إلى قطع صغيرة. وقد تم تزويد القذائف بمادة الزيركونيوم الحارقة، التي تعمل على إشعال النار في الأجسام القابلة للاشتعال في المنطقة المستهدفة. والصواريخ التي استخدمت في الهجوم، توماهوك BGM - 109D، تحمل أكثر من 160 قنبلة عنقودية. ولم تكن أي من هذه الذخائر في ترسانة اليمن.

ويواصل التقرير كشف ما حدث لاحقاً من ردود أفعال داخلية على خلفية التشكيك بتصريحات الجانب الرسمي اليمني. يقول: "ومع انتشار الغضب في كافة أنحاء اليمن الذي تم تغذيته إلى حد كبير بواسطة الفرضية التي تقول إن القصف كان أمريكياً، أرسل البرلمان اليمني لجنة للتحقيق. وعندما وصل أعضاء اللجنة إلى القرية، وجدوا أن المنازل ومحتوياتها كانت قد احترقت تماماً، وكل ما تبقي كان عبارة عن آثار الأثاث" جنبا إلى جنب مع "آثار دماء الضحايا وعدد من الحفر في الأرض خلفها القصف... فضلا عن عدد من القذائف لم تكن قد انفجرت بعد.

واستعرض الكاتب بعض التفاصيل التي جاءت في تقرير اللجنة، نوجزها كالآتي: إن الضربة قتلت 41 فرداً من أسرتين، بينهم 17 امرأة و21 طفلاً. وكان من بين القتلى بعض النائمين عندما سقطت عليهم الصواريخ. وأن الريمي لم يكن بين القتلى. وبينما نفى الناجون وجود أي صلة لهم بتنظيم القاعدة، إلا أن حكومة صالح أصرت أن 14 من نشطاء تنظيم القاعدة قتلوا في العملية، ما جعل لجنة التحقيق اليمنية تطلب من الحكومة تزويدها حتى باسم واحد فقط. وبعد أربعة أيام، قتل 3 من المدنيين عندما داسوا على قذيفة عنقودية من تلك التي لم تكن قد انفجرت في المنطقة.

ويشير التقرير أيضاً، إلى أنه وبعد الضربة، قال مسئول يمني رفيع المستوى لصحيفة النيويورك تايمز إن "تورط الولايات المتحدة سيخلق التعاطف مع تنظيم القاعدة"، مستدركاً: "التعاون ضروري، ولكن ما من شك أن ذلك له تأثير على الإنسان العادي يجعله يتعاطف مع القاعدة".

ومع ذلك إلا أن تلك المخاوف اليمنية لم تكن واقعية. وهنا يشير التقرير إلى ما ورد في إحدى وثائق ويكيليكس كانت كشفت بعض الحقائق المخفية حول الضربة. البرقية السرية التي أرسلها السفير ستيفن سيش إلى واشنطن يوم 21 ديسمبر، كشفت أن الحكومة اليمنية "لا يبدو أنها قلقة بشكل واضح حول التسريبات غير الرسمية فيما يتعلق بدور الولايات المتحدة والاهتمام السلبي لوسائل الإعلام بمقتل مدنيين".

بل أبعد من ذلك بكثير، أشار التقرير إلى ما تضمنته الوثائق السرية، من تقليل نائب رئيس الوزراء لشئون الدفاع والأمن الدكتور رشاد العليمي لما كشفت عنه تقارير اللجنة البرلمانية فيما يتعلق باكتشافها آثاراً وشظايا لصواريخ وقذائف أمريكية. فالعليمي طمأن السفير لأمريكي حين قال له إن "أي دليل على وجود تورط أمريكي مثل العثور على شظايا القذائف الأمريكية في المواقع، يمكن تفسيره بطريقة سهلة بأن تلك المعدات اشترتها اليمن من الولايات المتحدة".

مواصلة العمليات الأمريكية 
بعد أسبوع من ذلك القصف الجوي على أبين، وتلك الغارات الميدانية في أرحب بالقرب من صنعاء، يؤكد التقرير، أن الرئيس أوباما وقع على إجراء ضربات أخرى اعتمدت في جزء منها على معلومات قدمت عبر الأسير الذي اعتقل في أرحب أثناء الغارات الميدانية. وهذه المرة كان الهدف المواطن الأمريكي: أنور العولقي. ففي 24 ديسمبر، نفذت القوات الأمريكية ضربة جوية في وادي جبل "رفض" في محافظة شبوة، مسقط رأس عائلة العولقي. كانت المعلومات الاستخباراتية اليمنية الأمريكية المشتركة، تشير إلى أن العولقي كان يعقد اجتماعاً مع بعض من رفاقه هناك، بما فيهم ناصر الوحيشي، زعيم القاعدة في جزيرة العرب، ونائبه سعيد الشهري. وزعم مسئولون يمنيون أن المجتمعين كانوا "يخططون لهجمات على أهداف نفطية يمنية وأجنبية".

ويؤكد التقرير، أن تلك الضربات الجوية قتلت 30 شخصا، حينها بدأت وسائل الإعلام [الرسمية] تتحدث بأن العولقي واثنين من أفراد التنظيم المهمين كانوا بين القتلى. غير أن شبكة (CBS) نيوز الأمريكية، أجرت لقاء مع مصدر في اليمن أكد ليس فقط "بأن العولقي كان ما يزال حيا"، بل أن الهجمات كانت "بعيدة عن منزله، وأن القتلى لا علاقة لهم بالقاعدة". ولاحقاً، في الأشهر القليلة التالية، كشفت أدلة واضحة أن العولقي، الوحيشي والشهري، لم يقتلوا في الهجوم، وكانوا جميعهم قد ظهروا إما في تسجيلات فيديو مصورة أو عبر رسائل صوتية.

بعدها أوضح التقرير أن تركيز الإدارة الأميركية على القاعدة في جزيرة العرب، ارتفع بقوة أكبر بعد كشف النقاب عن العملية الفاشلة التي حاول عمر فاروق عبد المطلب تنفيذها في طائرة كانت متوجهة إلى أمريكا يوم عيد الميلاد 2009 وأنه تلقى تدريبه في اليمن.

سرية العمليات الأمريكية البرية
وفي هذه الأثناء، واصلت الإدارة التقليل من الدور الأمريكي في اليمن، عبر ترديد المسئولين علنا الرواية ذاتها: إن الولايات المتحدة فقط تقدم الدعم لعمليات مكافحة الإرهاب في اليمن. وبهذا الخصوص، أشار التقرير إلى تعليقات الادميرال مايك مولين، رئيس هيئة الأركان المشتركة، والتي جاءت في محاضرة ألقاها في الكلية الحربية البحرية في 8 يناير وقال فيها: "الناس يسألونني السؤال المثار، هل نرسل قواتنا إلى اليمن"؟ واستدرك مجيباً: "والجواب هو، ليس لدينا خطط للقيام بذلك، وعلينا أن لا ننسى أن هذه دولة ذات سيادة". وهذه التعليقات كررت بعد يومين من قبل الرئيس نفسه. وقال أوباما بصراحة: "ليس لدي أي نية لإرسال قوات برية أمريكية" إلى اليمن.

وهنا يكشف التقرير أنه وعلى الرغم من النفي الرسمي، فإن المفتش العام لوزارة الخارجية، وأثناء الفحص الميداني للسفارة الأميركية في صنعاء، اكتشف بأن "تلك العناصر العسكرية المتواجدة في مقر السفارة والتي تزداد على نحو مطرد" كانت جزءا من نشر "جنود المشاة الأمريكيين" في اليمن. بل، يؤكد التقرير، أنه ومنذ أواخر يناير/ كانون الثاني 2010، شاركت قيادة العمليات الخاصة المشتركة بأكثر من 24 هجوماً برياً في اليمن، والتي كانت قد انطلقت مع ضربات 17 ديسمبر. وقتل عشرات الأشخاص في تلك الحملات، بينما اعتقل آخرون. وفي الوقت عينه، بدأت قيادة العمليات الخاصة المشتركة (JSOC) بتنفيذ العمليات الخاصة بالطائرات بدون طيار في البلاد على أساس الحرب السرية الموسعة. وما تم البدء به اعتباراً من اليوم الذي انطلقت فيه الهجمات المنسقة، تحول إلى حملة قتل متواصلة منسقة عبر قيادة العمليات الخاصة المشتركة (JSOC). وهنا، يتذكر "نخلة، الضابط السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA): "بعد ما حدث في ديسمبر بواسطة عبدالمطلب، كان ولابد على [صالح] أن يقدم المزيد من الدعم لأعمالنا". وأضاف: "كان يلعب اللعبة وهو من كان يتطوع بالظهور على أنه الطرف الآخر عندما كنا نحن نقوم بأنواع معينة من العمليات العسكرية والعمليات الحركية ضد بعض الجماعات المتطرفة هناك. وعندما وضع تحت الضغط، كان يقول إنها من عملياته الخاصة. لقد أتقن اللعبة".

كذب جماعي مشترك
وفي حين أن جيش الولايات المتحدة ووكالات الاستخبارات بدءوا في التخطيط لمزيد من الضربات في اليمن، سافر الجنرال بترايوس إلى هناك في يوم 2 يناير من أجل عقد جولة أخرى من الاجتماعات مع صالح وقياداته العسكرية العليا وضباط المخابرات التابعة له. وكان قد بدأ الاجتماع بإبلاغ صالح أن الولايات المتحدة ستضاعف "المساعدة الأمنية" المقدمة لليمن، إلى أكثر من 150 مليون دولار في 2010، بما في ذلك المساعدات المقترحة بـ 45 مليون دولار والخاصة بتدريب وتجهيز قوات مكافحة الإرهاب اليمنية للحرب الجوية ضد القاعدة في جزيرة العرب.
وإذ يكشف التقرير أن صالح كان قد خول الولايات المتحدة لضرب القاعدة في جزيرة العرب عندما كانت "المعلومات الاستخباراتية العملية" متاحة، غير أنه رسميا كان لا يريد من القوات الأمريكية أن تقوم بعمليات على أرض الواقع في اليمن. فوفقاً لإحدى البرقيات السرية المسربة من ويكيليكس، قال صالح لبترايوس: "لا يمكنكم الدخول إلى منطقة العمليات ويجب عليكم البقاء في مركز العمليات المشتركة". ومع ذلك، يؤكد التقرير قائلاً: ولكن كل من حضر الاجتماع كان يعلم أن ذلك كان عبارة عن كذب جماعي متبادل وكانوا جميعهم يتبادلونه. على أن أهم ما كشفته البرقية المسربة قول صالح لبترايوس: "نحن سنواصل القول إن الضربات خاصة بنا وليست بكم". حينها قال العليمي نائب رئيس الوزراء مازحا: أنه كان قد "كذب" فقط حينما أخبر البرلمان اليمني بأن القذائف التي سقطت في أرحب وأبين وشبوة، كانت أمريكية الصنع لكنها استخدمت من قبل اليمن. بحسب ما كشفته البرقية السرية نفسها.

وبعد وقت قصير من ذلك الاجتماع، ظهر العليمي ليقول للصحفيين في اليمن، "إن العمليات التي نفذت كانت بواسطة القوات اليمنية مئة في المئة. وأن الأجهزة الأمنية اليمنية حصلت فقط على الدعم والمعلومات والتكنولوجيا من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والدول الصديقة الأخرى". غير أن معظم اليمنيين لم تنطل عليهم القصة.

مقتل الشبواني بهجمات أمريكية
ويستطرد التقرير قائلاً: وبينما واصلت قيادة قوات العمليات الخاصة المشتركة عملها في اليمن، في تدريب القوات اليمنية وتوجيه الإجراءات "العملية"، فقد كانت في الوقت عينه تمضي بتنفيذ الضربات الجوية. وفي 25 مايو 2010، ضرب صاروخ أمريكي قافلة سيارات في صحراء مأرب، كانت وفقاً "لمعلومات استخباراتية عملية" متوجهة لحضور اجتماع لنشطاء القاعدة. كانت المعلومات الاستخباراتية صحيحة جزئيا، ولكن الرجال في السيارة لم يكونوا أعضاء في تنظيم القاعدة. وبين القتلى كان جابر الشبواني، نائب محافظ محافظة مأرب، الذي كان وسيطا مهماً في الجهود الحكومية للتحاور مع أعضاء القاعدة في جزيرة العرب. كان الشبواني هو المفاوض الرئيسي، ولأن شقيقه إياد، كان أحد القيادات المحلية في المحافظة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب فقد حاولت الولايات المتحدة والقوات اليمنية إخراجه من الهجمات التي نفذت في 15 ، 20 يناير. كما أن عم الشبواني كان قد قتل هو واثنان من مرافقيه في الهجوم الذي وقع قرب بستان للبرتقال في مزرعة إياد. وكما هو الحال مع غيرها من الضربات، تحملت السلطات اليمنية المسؤولية العامة، واعتذرت اللجنة الأمنية العليا عما قالت إنه هجوم حدث عن طريق الخطأ.

ويواصل القول: غير أن هذه الضربة حملت معها مخاطر كبيرة جداً كون الهجوم أسفر عن مقتل واحد من شخصياتهم المهمة. وفي غضون ساعات من الهجوم، هاجمت قبيلة الشبواني خط أنابيب النفط الرئيسي الذي يمتد من مأرب إلى محطة رأس عيسى على ساحل البحر الأحمر. كما حاول رجال القبائل السيطرة على القصر الرئاسي في المحافظة غير أنه تم صدهم من قبل المدرعات وقوات الجيش اليمنية. وطالب النواب [القانونيون] اليمنيون من حكومة صالح تقديم تفسير مقنع حول كيفية حدوث الضربة ومن الذي يقف بالفعل وراء اتساع دائرة الحرب الجوية.

حصاد سلبي.. رصيد القاعدة يرتفع
النقطة التي أراد كاتب التقرير الوصول إليها من ذلك كله، هي: ما لا يمكن الاختلاف بشأنه هو أن تلك الضربات، ولاسيما تلك التي قتلت المدنيين وشخصيات قبلية مهمة منحت تنظيم القاعدة فرصاً ثمينة في إطار حملة التوظيف التي تقوم بها في اليمن، وعززت من قوتها في معركتها الدعائية الترويجية لزعزعة التحالف القائم بين الولايات المتحدة واليمن في جهود مكافحة الإرهاب. وقال مسئولون في الحكومة اليمنية إن سلسلة من الغارات التي وقعت من ديسمبر-مايو قتلت أكثر من 200 شخص، لم يكن فيهم سوى 40 فقط يتبعون تنظيم القاعدة. وحول هذا أكد جريجوري جونسون من جامعة برينسيتون، في يونيو/حزيران 2010 "أن ما تحاول الولايات المتحدة القيام به في اليمن في الوقت الراهن، هو أمر بالغ الخطورة بشكل لا يصدق، ذلك لأنه يتلاءم بالفعل مع استراتيجية تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ذات النطاق الأوسع، والتي تريد التأكيد على أن اليمن لا تختلف كثيرا عن العراق وأفغانستان". وجاءت تصريحاته تلك عقب التقرير الذي أصدرته منظمة العفو الدولية ووثقت فيه استخدام الذخائر الأمريكية في الضربات التي حدثت في اليمن. وأضاف "إنهم قادرون على تقديم الحجة بأن اليمن ليست سوى واجهة شرعية للجهاد"، وجونسن عمل في اليمن عام 2009 كعضو في فريق تقييم النزاعات التابع لوكالة التنمية الأميركية الدولية في اليمن.

وهنا يسرد التقرير مجموعة من العمليات التي نفذها تنظيم القاعدة رداً على الهجمات الأمريكية: في صيف عام 2010، وبعد أشهر من الغارات اليمنية والضربات الجوية الأمريكية المتواصلة، جاء رد القاعدة في جزيرة العرب. ففي يونيو قامت مجموعة من نشطاء القاعدة في جزيرة العرب بغارة جريئة على أحد أقسام الشرطة السرية اليمنية في محافظة عدن، وجهاز الأمن السياسي. أثناء توقيت المراسيم اليومية الخاصة بطابور تحية العلم في الصباح الباكر في مجمع جهاز الأمن السياسي. فتحت عناصر من القاعدة النار من أسلحة رشاشة وقذائف صاروخية أثناء اقتحامهم البوابات الرئيسية للمجمع. لقد قتلوا ما لا يقل عن عشرة ضباط أمن وثلاث نساء من عاملات النظافة. وكان الهدف من الغارة هو تحرير متشددين مشتبه بهم كان تم احتجازهم لدى جهاز الأمن السياسي ، ولقد كانت العملية ناجحة. كما أعقب ذلك الهجوم، بحملة اغتيالات مستمرة استهدفت ضرب ضباط في الجيش اليمني رفيعي المستوى ومسئولين في المخابرات. وخلال شهر رمضان، الذي بدأ في أغسطس/ آب، شنت القاعدة في جزيرة العرب العديد من الهجمات. وبحلول سبتمبر/ أيلول كان بحدود ستون مسئولا قد قتلوا، وقتل عدد كبير رمياً بالرصاص من قبل فريق متخصص بالاغتيالات على الدراجات البخارية. وأصبح هذا الأسلوب من الهجوم شائع جداً لدرجة أن الحكومة منعت الدراجات النارية في المناطق الحضرية في أبين.

ثم بعد ذلك جاء كشف تلك المؤامرة الموجهة ضد هدف أميركي، في 29 أكتوبر، بوضع متفجرات على طابعات حبر في طرود مرسلة عبر طائرات شحن. في تلك الليلة، قال أوباما إن المتفجرات التي كانت على الطائرات شكلت "تهديدا إرهابيا حقيقياً" القنابل لم تنفجر. ولكن عندما كان الارتباط مع اليمن واضحاً -المواد المتفجرة التي كانت مخبأة في خراطيش الطابعة، كان قد تم شحنها من اليمن- لم يكن هناك نقاش داخل الإدارة: كل العيون ركزت على القاعدة في جزيرة العرب.

ويصور فاوست، المحلل السابق في DIA، رد أوباما على هذا النحو: "لقد أرسل الطائرات الخاصة بدون طيار ورجال العمليات إلى اليمن على الفور. كان ذلك عبارة عن رد فعل سريع، هيا لنطرد قيادة العمليات الخاصة المشتركة (JSOC). استبدالهم بإرسال النينجا، هو ما يقوم به". وبدون تقديم تفاصيل إضافية، قال إنها سرية، يؤكد فاوست بأنه رأى عمليات القتل الموجه التي تم تنفيذها والتي يؤمن أنه كان هناك ما يبررها، وهو لا يعتقد أن مثل هذه الضربات تعتبر نظريا "أمراً مشيناً" . كان يشعر بقلق عميق، لكن قلقه على أية حال، كان حول المعايير التي كانت تستخدم لتحديد طبيعة المستهدف. ويضيف: "وبصراحة، عندما كنت أعمل في اليمن كان معظم الوقت قد صرف في النقاش" عن طريق قيادة العمليات الخاصة –في اليمن وغيرهم من المحللين في DIA "حول معايير الاستهداف الواضحة". كما يتذكر قائلاً: "إن المعايير المحددة لقتل الناس في واقع الحال، بالنسبة لي، تكاد تكون منعدمة بشكل مخيف".

الثورة اليمنية الأخيرة وتأثيراتها
وكما بدأ تقريره، يعود الكاتب إلى الأحداث الأخيرة التي تمر بها اليمن: وعقب الانتفاضة الشعبية ضد النظام اليمني هذا الشتاء الأخير قامت مجموعة مكافحة الإرهاب الأمريكية التي أرسلت تسعى جاهدة بوضع خطط للطوارئ. وهنا يقول نخلة: إن سقوط صالح "يوفر فرصة للشعب اليمني لبناء دولة أكثر حداثة". لكنه يضيف: وفي الوقت نفسه، فهو "يخلق تحديا للولايات المتحدة بخصوص مواصلة واشنطن لسياستها في مكافحة الإرهاب ضد تنظيم القاعدة وفرعها في اليمن، المعروف باسم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب".

"إنه الشيء الذي ننفق الكثير من الوقت في العمل عليه. وأنا أعلم أنني أفقد قليلاً من النوم في المساء وأنا أفكر بشأن هذه المشكلة بشكل خاص"، هذا ما قاله مؤخراً الجمهوري مايك روجرز ميشيغان، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب. وطبقاً لفاوست، فإن الخطط تبذل لنقل مركز عمليات مكافحة الإرهاب إلى جيبوتي، وهو المركز الحالي للعمليات الأمريكية ضد ليبيا، لكنه استدرك قائلاً: ذلك "فيما لو أن العلاقات مع الحكومة [اليمنية] المقبلة لن تكون مفيدة" ولكن، كما يقول، القلق الأكبر هو "ما سيحدث لبعثة التدريب الأمريكية، فضلا عن برامج جمع المعلومات [الاستخباراتية] في مكان – لا أحد يعرف ما إذا كانت ستتضرر أو مدى تلك الأضرار التي ستتعرض لها تلك البرامج عن طريق الحكومة الجديدة. ليس لدينا علاقات جيدة مع حركة المعارضة، والتي هي في حد ذاتها تعيش حالة من الفوضى ومن المرجح أن المشاكل الداخلية ستطغى قريبا على أية حال، لذلك فمن الصعب معرفة مدى استجابتهم. ويقول جونسون: "إن سقوط صالح" يمكن بالتأكيد أن يكون له أثر سلبي على عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية في اليمن"، مضيفا" أن قلقي أكثر بشكل خاص من أن يحصل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على السلاح والمال في بعض أجزاء البلاد في الوقت الذي بدأ فيه الجيش بالانسحاب في المناطق النائية".

ويحذر جونسن: اليمن يمر بـ"عدد من المشاكل الأكثر إلحاحا التي من شأنها، إذا تركت لحالها بدون مراقبة، ستساعد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من اكتساب قوة في السنوات المقبلة". ويضيف: "في اليمن، لا يوجد محلول صاروخي سحري لمشكلة القاعدة في جزيرة العرب. والولايات المتحدة ببساطة لا يمكنها محوهم من الوجود. وقد حاولت من قبل في اليمن وفشلت".

الخلاصة
ليس هناك شك في أنه عندما تولى الرئيس أوباما منصبه، أحيا تنظيم القاعدة متجره في اليمن. بيد أن التساؤل حول ضخامة التهديد الذي يمثله تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على أرض الواقع بالنسبة للولايات المتحدة أو لصالح هو موضوع النقاش الأكبر. وما لم يناقش بالكامل تقريبا هو ما إذا كانت سواء تصرفات الولايات المتحدة -عمليات القتل الموجه، وصواريخ التوماهوك وضربات الطائرات بدون طيار- ستؤدي إلى ردة فعل سلبي وعما إذا كانت بعض من هجمات القاعدة في جزيرة العرب التي دفعت بواسطة الحرب غير المعلنة للولايات المتحدة، تلقى معارضة ومقاومة في اليمن. يقول نخلة: "نحن لا نعطي انطباعا جيداً في هذه العمليات". وأضاف: "إننا قد نستهدف المتطرفين والراديكاليين المحتملين، ولكن لسوء الحظ نقع في أمور أخرى خطرة وأشخاص آخرون يتم تدميرهم أو قتلهم. ولذا على المدى البعيد هذا العمل سوف لن يخدمنا بالضرورة. وبالنسبة لي القضية الأكبر هي قضية التطرف برمتها. وكيف يمكننا سحب البساط من تحتها".

كانت إدارة بوش هي التي أعلنت العالم كساحة معركة حيث أن أي بلد سيكون مكاناً مناسبا لعمليات القتل الموجه. بيد أن الرئيس أوباما اعتبر اليمن بمثابة المختبر الذي وضع ختم الحربين على هذا النموذج -الذي من شبه المؤكد تماماً أن يدوم إلى ما بعد فترته في السلطة. "الحرب العالمية على الإرهاب قد اكتسبت الحياة الخاصة بها" كما يقول العقيد لانج الذي أضاف أيضاً: "إنها مخروط الآيسكريم ذو اللعق الذاتي. والحقيقة أن صناعة مكافحة الإرهاب/ مكافحة التمرد هذه تطورت إلى هذا النوع من الأمور التي يشارك فيها جميع هؤلاء الناس - المؤسسات والصحفيون ومؤلفو الكتب والجنرالات والرجال الذين يقومون بإطلاق النار- جميعهم جنب إلى جنب امتازوا، بقدر هائل وعظيم من التخاذل الذي ينزع إلى إبقائه يسير في نفس الاتجاه".

ويضيف "أنه لا يزال مستمراً بالدوران. بيد أن قرارا حصيفاً سيتخذ من جانب صناع السياسات المدنيين، شخصاً مثل الرئيس، على سبيل المثال، سيقرر ذلك: "حسناً ، أيها الأولاد، لقد انتهى العرض". ولكن أوباما، كما يقول، أبعد ما يكون عن البت في إنهاء العرض. و"يبدو بأن هذا سيستمر لفترة طويلة".

ترجمــه خاصـة بالمصدر أونلايـــن.