الجمعة، 30 نوفمبر 2012

بانتظار المشهد الأخير

القضية الجنوبية كمحور لنجاح أو فشل الحوار الوطني



الجمعة 30 نوفمبر-تشرين الثاني 2012 الساعة 05 مساءً / الجمهورية نت-عبد الحكيم هلال



* مدخل:

من بين رزمة الملفات الشائكة، تبرز القضية الجنوبية باعتبارها واحدة من أكثر القضايا الرئيسية المفصلية، المطلوب تسويتها والتوصل بشأنها إلى حلول جذرية توافقية في إطار مؤتمر الحوار الوطني الشامل، المتوقع عقده قبل نهاية العام الحالي 2012، والذي يوصف بكونه العمود الفقري المعول عليه حلحلة معظم الملفات المعقدة- المؤجلة، بموجب ما تقتضيه متطلبات إنجاز المرحلة الثانية من المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.

لكن القضية الجنوبية التي يظهر أنها أصبحت الآن هي الحدث الأكثر تفاعلا وحضورا وطغيانا على المشهد اليمني، من المؤكد أنها تحظى بإجماع كافة الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي اليمني بكونها الأكثر ضرورة لحلها بشكل نهائي. غير أن التعقيدات تبرز في شكل وطبيعة تلك الحلول؛ إذ تتباين وتختلف الآراء - لدرجة التصام – بين تيارين، هما، على وجه التخصيص الموجز، لا التفصيل الدقيق:
- حاملو مشروع التسوية السياسية الأخيرة (المبادرة الخليجية)؛ المؤملون منها بناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة، وفق عقد اجتماعي جديد، كمفرز كلي للثورة الشعبية السلمية الأخيرة، بما هو مطلب شامل يحتوي تفرعات تفصيلية عديدة بضمنها حلحلة القضية الجنوبية.
- وبين حاملي مشروع القضية الجنوبية، المؤثرين من قيادات في الحراك الجنوبي، لاسيما تلك التي تتبنى آراء متطرفة، تنادي بـ: الانفصال، فك الارتباط، واستقلال الجنوب. أو حتى تلك الأقل تطرفاً وتطالب بـ: فيدرالية من إقليمين، حق تقرير المصير، بما ينتهي إلى استعادة كيان الدولة الجنوبية التي كانت قبل الوحدة.

إن المحصلة الأولية لهذا التعارك، تضفي المزيد من التعقيدات على الحالة الراهنة، ما يجعل – ربما – من الحديث عن “مؤتمر الحوار الوطني الشامل” كمنقذ أخير لإخراج البلاد من حالة التعويم التي خلقتها المبادرة الخليجية عبر تحويل الحلول العنيفة إلى مرحلة انتقالية هادئة، أمراً غير مؤكد. على الأقل حتى الآن، وفقاً لما تسوقه المؤشرات الأولية في سياق الأحداث والمواقف الأخيرة.

وبشكل أكثر تفصيلاً، نسعى في هذه التناولة من الغوص عميقاً عبر: تناول الأحداث، عرض المواقف، وقراءة المتغيرات ومؤشراتها، مع محاولة الربط فيما بين كل ذلك في سياق تحليلي، نحاول قدر الإمكان أن ينسجم مع إفرازات الحالة الراهنة - بشكل أكبر - وإلى حد ما: التوقعات المستقبلية.

* توطئة وتساؤلات هامة

قبل ذلك، علينا تحديد الوجه أو الزاوية الأهم التي سنتحرك في اتجاهها لتساعدنا ونتمكن من خلالها من سبر أغوار المشكلة. وسيكون من المهم بداية “تحديد المشكلة” وزاوية تناولها، والتي على ضوئها سنتنقل بين تفرعاتها المفترضة التي ستساعدنا على الغوص بشكل تسلسلي مناسب يمكننا من خلاله بلوغ الأهداف الرئيسية من هذه التناولة.

بشكل عام فإن المشكلة، التي نحن بصددها، تتعلق بالقضية الجنوبية، أما الزاوية التي سنتناول هذه القضية منها فحددت سلفا بالتركيز على التعقيدات التي تعيق مشاركة الحراك الجنوبي في الحوار الوطني, علينا هنا تناول المشكلة بتوضيح ماهية تلك التعقيدات؟ وفي السياق ستعترضنا مجموعة تساؤلات سيتوجب علينا الإجابة عليها ايضاً، على شاكلة: كيف وصلت الأمور إلى هذه الحالة المعقدة؟ وهل ثمة إمكانية لتجاوز تلك التعقيدات؟ وما إذا كانت هناك جهود تبذل لحلحلتها؟ ماهي طبيعة تلك الجهود؟ كيف يتم مواجهتها، اعتراضها، ونسفها؟ وهل ما زال هناك أمل؟ ما هي أبرز مطالب قيادات الحراك الجنوبي؟

وفيما لو فشلت الجهود: ما هي الخيارات المتاحة لإنجاح الحوار؟ وهل مثلاً يمكن عقد الحوار الوطني بدون ممثلين فاعلين في الحراك الجنوبي؟ ماهي تأثيرات هذه الحلول، إيجاباً وسلباً، على مسار التسوية السياسية؟

ومن خلال الإجابات التي سنحاول تقديمها، سنحاول احتواء كافة التفاصيل المتعلقة بهذه المشكلة، من خلال التعرض لمجموعة تفرعات محورية على شاكلة: مكونات القضية، محتوياتها، تعقيداتها الراهنة، تأثيراتها، محاولات حلحلتها، وتوقعات مساراتها المستقبلية..الخ.

• خلفية تاريخية موجزة
- جذور المشكلة:
خلال فترة العقود الثلاثة، التي سبقت العام 1990م، كانت كل من الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي)، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي)، تحكمان بنظامي حكم مستقليين؛ كانا نظامين شموليين، لكنهما مختلفان في الهوية والتبعية (من حيث شكل نظام الحكم المعمول به). ومع أن الجذر والأصل يعتبر واحداً، إلا أن الشعبين كانا قد خضعا - لسنوات طويلة - لحكم إمامي متخلف، واستعمار خارجي بغيظ. وحين تحررا – خلال فترة زمنية متقاربة – تعاقبت على الحكم أنظمة، من المؤكد أنها لم تكن قادرة على التخلص – إلا قليلاً فقط - من الإرث السياسي والثقافي السابق، فشكلت امتداداً لها. وعلى المدى، في العمق، تعززت، بشكل أكثر، ثقافتان مختلفتان، وساعدت الأنظمة التي حكمت على ترسيخها بين الشعبين.

ومع نهاية الثمانينيات، فرضت المتغيرات الدولية حاجة ماسة للتكامل هروباً من الفشل والتدهور الاقتصادي كأحد إفرازات انتهاء الحرب الدولية الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، التي فرضت التوقف عن حالة الاستقطاب الدولية - الداعم - للاتباع على مستوى العالم.

وفي 22 مايو 1990م توحد الشطران الشمالي والجنوبي من اليمن. وفي محاولة جريئة للتخلص من ذلك التمايز السياسي في هوية النظامين، اتفق على الانتقال إلى صيغة جديدة لنظام حكم بمواصفات حديثة ومبادئ تقوم على الحرية والتعددية السياسية والانتخابات الديمقراطية..الخ.

ولذلك، يعتقد المعارضون للوحدة الاندماجية، اليوم، أن تلك الفكرة كانت متجاوزة للواقع. وهي في الوقت الذي أغفلت فيه الخلافات الثقافية العميقة بين الشعبين، عجزت عن خلق نظام نموذجي جديد، هجيني، يكون قابلاً للحياة والاستمرار. وعليه يعتقد أن الفوارق الجوهرية الموروثة ظلت كما هي في العمق، خلال السنوات الأولى من الوحدة، لتتحكم في مسار التوجهات السياسية العامة دونما قدرة على إزالتها، فكان ولابد أن تسيطر الخلافات، التي فرضت نفسها على نحو طبيعي، وتصاعدت على نحو مطرد، حتى لجأ الطرف المتربص بالوحدة (وهو هنا الشمالي) إلى حسم الخلاف بالقوة عبر شنه تلك الحرب، المعروفة بحرب صيف 1994م، للسيطرة على الجنوب. هذا ما يقول به محللون، هم دائماً أقرب للطرف الجنوبي.

لكن، بالمقابل، كان معظم القادة السياسيين الذين يسيطرون على السلطة في الشمال، يبررون تلك الحرب على أنها كانت ضرورية للحفاظ على الوحدة التي كان ينقصها أن “تعمّد بالدم”، بحسب البعض، حتى جاءت الفرصة بعد أن أراد القادة الجنوبيون التنصل عن الوحدة بإعلانهم الانفصال. ومع وجهة النظر هذه يتماشى بعض المتشددين من رموز التيار الإسلامي، وإن بصيغة مغلفة بالدين الذي يفرض عليهم التعامل مع الوحدة على أنها “مقدسة”، فيما أن التفرق والانفصال يخالف مبادئ الإسلام، ويجب منع حدوثه ومواجهتة بكافة الوسائل المتاحة، بما فيها الحرب.

• البدايات الأولى .. الإرهاصات والتصعيدات

بعد حرب صيف 94م، فر قادة الجنوب المؤيدون للانفصال، ومن وقفوا وحاربوا إلى جانبهم، إلى الخارج، فيما سيطر نظام صنعاء على السلطة وتقاسمها مع حلفائه من الإسلاميين الذين وقفوا إلى جانبه في تلك الحرب.
ومارس المنتصرون نهباً وفساداً في المساحات الجنوبية، استولوا ونهبوا الأراضي الشاسعة، كما فرضوا سيطرتهم على الوظيفة العامة والجيش بإقصاء وتهميش أبناء وقيادات الجنوب.

ومع الوقت استطاع من تبقى في الداخل من قيادات الحزب الاشتراكي، من الحفاظ على كيان الحزب، بداية، ومن ثم تالياً استعادة جزء من تأثيره على الشارع السياسي، لاسيما في الجنوب. لكن نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح، نجح تباعا في تهميش حليفه (حزب التجمع اليمني للإصلاح – الإسلامي)، بشكل تدريجي. وفي عام 1997م، استفرد بالسلطة لوحده، ليخرج حزب الإصلاح من الشراكة في السلطة إلى المعارضة محاولاً ترتيب الأوراق مجدداً، عبر نسج تحالفات مع بقية الأحزاب الأخرى المعارضة بما فيها عدوه التقليدي الحزب الاشتراكي.

وطوال الفترة التي تلت العام 97، واصل النظام بقيادة الرئيس السابق “صالح”، محاولات بسط سيطرته التامة على الحياة السياسية، في كافة الاتجاهات الجغرافية، وفي الجنوب بشكل خاص. ومارس أصناف السياسات الظالمة وفرض المزيد من الإجراءات القائمة على التهميش والأقصاء، ونهب الثروات العامة، على رأسها الثروات النفطية التي تقع نسبة 75% منها في المحافظات الجنوبية. ظلت المظالم تكرس وتعزز بشكل سافر، بينما بدأت الشكاوى تتصاعد هي الأخرى، وتبرز علناً على السطح، بعد أن كانت مجرد آهات خفية ظل معظم المواطنين في الجنوب يخشون طويلاً الإفصاح عنها وإخراجها إلى العلن بصوت مسموع.
إذ وخلال الفترة من تلك الحرب وحتى أواخر العام 2006، كان الحديث عن القضية الجنوبية ما يزال خافتا ويتمحور معظمه حول ضرورة “تصحيح مسار الوحدة”، فيما كان الحديث عن “الانفصال” ما يزال جريمة كبرى.

وفي العام 2006م، أجريت الانتخابات الرئاسية والمحلية، وفاز فيها الرئيس السابق بالرئاسة وحزبه بالمحليات، ليواصل، بشكل أكبر انتهاكاته وتهميشه وأقصاءه أبناء الجنوب من الوظيفة العامة والعسكرية، مع مواصلته المزيد من النهب للثروات العامة هناك.
لكن، ومع نهاية هذا العام، وبعد أن شعر ابناء الجنوب باستحالة إحداث التغيير، نتيجة الفشل الذي مني به مرشح المعارضة للرئاسة، الجنوبي: فيصل بن شملان، بدأت الاحتجاجات تظهر على السطح، وبشكل خاص، حينما بلغ عدد العسكريين المحالين إلى التقاعد من ابناء المحافظات الجنوبية نحو 70 ألف متقاعد (وهناك رواية تقول: إن إجمالي من تم إقصاؤهم من الوظيفتين العامة والعسكرية تجاوز الـ 130 ألف موظف).

حينها شكل الضباط الجنوبيون المحالون إلى التقاعد الشرارة الأولى للاحتجاجات، التي توسعت وانضم إليها، تباعاً، المواطنون العاديون. وحين جوبهت تلك الاحتجاجات بالعنف والقوة من قبل النظام في محاولة منه لإخمادها، ازدادت قوة وتوسعا، لتتحول في العام 2009 من مطالب حقوقية إلى مطالب سياسية، باتت معظمها لا تخشى من أن تنادي بالانفصال واستعادة الجنوب المحتل.

وخلال الفترة من 2009 وما تلاها، واكبت معظم القيادات الجنوبية، التي في المنفى، تلك الاحتجاجات والمطالب، ونجحت من قياداتها وتوجيهها بعد ان خلقت أطرًا ومكونات تابعة لها. قبل هذه الفترة وأثناءها، كانت قد تشكلت وبرزت قيادات ميدانية جديدة في الداخل، بعضها ذات خبرة وتجربة، وبعضها شابة حديثة. وفي الواقع كانت معظم تلك القيادات (وبشكل خاص في الداخل) إما منشقة عن الحزب الاشتراكي – صاحب الامتداد والتأثير الأكبر في الجنوب – وإما ما تزال منضوية في إطاره. وراق هذا الأمر (التشققات التي ضربت الحزب الاشتراكي) لرأس النظام، الذي اتهم لاحقاً من قبل قيادات في الحزب الاشتراكي بممارسة سياسة تدميرية للبلاد عبر الاستقطابات والدعم لمجموعة من قياداته الجنوبية وحثها على الانشقاق وتشكيل كيانات جديدة بعيداً عنه.

وطوال الفترة، منذ حرب 94م - وإن كانت هنا بشكل أقل – وما بعد بروز الاحتجاجات على السطح (أواخر 2006، ومطلع 2007) تشكلت آراء تفسر وتنظر للقضية الجنوبية، اتسمت بالتنوع واتخاذ وتحديد المواقف، التي كانت بعضها متطرفة إلى حد كبير، وأخرى متطرفة إلى حد ما، بينما البعض منها اتسم بالمنطق والعقلانية. الأمر الذي أدى - في جزء كبير منه – إلى تشققات وانقسامات واختلافات على الأرض؛ كثيرا ما حاول النظام، أيضاً، توسيعها واستغلالها واحتواءها لخدمته.

• التحولات الأولية.. وانقسام المواقف

على نحو ما تقدم، يمكن القول: إن القضية الجنوبية، يرجع جذرها الأول، إلى إشكاليات علمية تطبيقية، جزء منها تاريخي، سياسي وثقافي، فيما أن بعضها الآخر نظري سوسيولوجي (لم يخضع للقياس وفق أساس منهجية علمية)؛ ترافقت جميعها لتفرز وقائع وأحداثاً وإجراءات تدميرية؛ تراكمت على نحو سيء لتفرز وتشكل في نهايتها قضية “عادلة” لأبناء الجنوب.  

على أن هذه القضية “العادلة”، بدأت تتحول إلى صراعات داخلية بين مكوناتها الرئيسية الحاملة، بفعل عاملين رئيسين:

- العامل الأول: يرجع إلى تدخلات النظام السابق، الذي ضخ الكثير من الأموال لصناعة وخلق قيادات جديدة مدعومة منه لإفشال عدالة القضية وبرز ذلك من خلال اللجوء إلى/ وتبني العنف المسلح، من أجل، أولاً: إضعاف حجة القضية أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، وثانيا: كي يتسنى له تبرير استخدام العنف في مواجهتها. وبسبب ذلك تشكلت جماعات مسلحة تستهدف بالقتل الشماليين المتواجدين في الجنوب، أو الذين يتواجدون بشكل إاستثنائي في مساحات جنوبية (عابرين سبيل في الطرقات). كما ويدخل ضمن هذا العامل مخطط آخر عمل عليه ونفذه النظام السابق عبر توجيه وتحويل تنظيم القاعدة من المناطق الشمالية إلى المناطق الجنوبية (بحسب ما ذكرت بعض وثائق ويكيليكس المسربة عن الخارجية الأمريكية)، توخياً منه خلط الأوراق وتكريس المزيد من الاضطرابات في الجنوب، بما يعمل على ترسيخ المخاوف والقلق لدى المجتمع الدولي والإقليمي من أن الاضطرابات والاحتجاجات هناك تضعف السلطة المركزية وتخلق ملاجئ آمنة للإرهاب.

- أما العامل الثاني: التسابق على الزعامة، ومحاولات الاستماتة لتسنم زمام القيادة للحراك الجنوبي ومحاولة توجيهه. ولقد خلق ذلك تشققات واختلافات، أسست بعضها في تكريس “عدم الثقة” استلهاماً للموروث الصراعي القديم الذي ظل خانسًا - ولكن دون أن ينتهي - في عمق بنية التقسيمات الجغرافية القديمة بفعل الصراعات السياسية، التي كان آخرها وأبرزها: مجزرة 13 يناير 1986م.

وإلى جانب ما سبق، كان عامل آخر يتبلور ليصبح لاحقا أحد العوامل الرئيسية المؤثرة على الصراع الداخلي: الجنوبي – الجنوبي، والجنوبي – الشمالي، على السواء. هذا العامل شكلته: التدخلات والاستقطابات الخارجية (الإقليمية منها - بشكل خاص). وأصبحت القيادات الجنوبية المؤثرة التي في المنفى، تعمل – غالبا – كسمسار لتبني سياسات الدولة التي منحته المأوى والدعم المادي، ولاحقاً: الأموال التي يصرف منها على القيادات التابعة والموالية له في الداخل.

* تحديد المواقف من الوحدة

على ضوء الأحداث والوقائع الهامة والمؤثرة التي تلت حرب صيف 94، وتبلور وبروز الاحتجاجات الشعبية الميدانية، كانت الآراء والمواقف تتبلور تباعاً بشأن كيفية التعامل مع المشكلة الجنوبية.

بشكل عام، يمكننا فرز تلك المواقف بإرجاعها إلى ثلاثة أقسام: 1) بحسب نزعة أيديولوجية سياسية متشددة. 2) بحسب أيديولوجية جغرافية أقل تشدداً. 3) لكن دون أن تفتقد بعضها الآخر إلى الواقعية القائمة على التعامل بمنطقية مع الوقائع والأحداث التي مرت بها الوحدة اليمنية. وعلى نحو تفصيلي، يمكن الجمع بين تلك النزعات، في سياق واحد، والخروج بتصنيف آخر يقسم المواقف وفقاً لتعاملها مع خيار الوحدة والانفصال وما بينها من الحلول وسطية، وذلك على النحو التالي:-

قسم من ابناء الجنوب، يتعامل مع خيار “الانفصال”، أو “فك الارتباط” والاستقلال، كمطلب لا يمكن التراجع عنه، تحت أي ظرف كان. هذا القسم، لعل من المناسب تصنيف معظم من أسسوا له وقاموا بتبنيه من البداية إلى أولئك المنظرين المؤدلجين، الذين يرجعون جذر القضية الجنوبية، أساساً، إلى الإجراءات التي قامت على أساسها عملية الاندماج والتوحد بين الشطرين الشمالي والجنوبي، والتي سبقت إعلان الوحدة الاندماجية في 22 مايو 1990م.

ويجدر القول: إن هؤلاء لم تكن أصواتهم قد برزت مع قيام الوحدة اليمنية، بل ظلت خانسة في الباطن. لكنها، لاحقاً، بعد حرب صيف 1994، بدأت تبرز إلى حد ما، وإن كان غير كافٍ، من خلال الحديث عن الخطأ الذي تم ارتكابه بقيام الوحدة الاندماجية. وتالياً، مع تصاعد تلك الأصوات المنادية باستقلال الجنوب، كشف معظم هؤلاء أنهم كانوا ضد هذا القرار “الوحدة الاندماجية”، وأنهم - أثناء النقاشات الداخلية للحزب الإشتراكي، الذي كان يحكم الجنوب حينها – حذروا من ذلك وكانوا يفضلون الوحدة الفيدرالية أو الكونفدرالية، على الاندماجية. هذا الموقف، على أية حال، مع أنه قد يكون أكثر علمية، إلا أنه لم يحظَ بالاهتمام المناسب، من حيث أنه: 1) يتحدث عن إجراءات منتهية، سبق وأن وافق ووقع عليها - بالإجماع - معظم قادة الجنوب المعنيين باتخاذ القرار. 2) كونه يتجاهل الكثير من الإجراءات اللاحقة المتفق عليها بين الطرفين (كتقاسم السلطة مناصفة)، من حيث عدم النظر إليها باعتبارها إجراءات تندرج في سياق الأخطاء المرتكبة التي أدت إلى فشل عملية الوحدة. 3) عدم التحول المنطقي بالنظر إلى تلك الإجراءات على أنها، أصلاً، أسست لوقائع وأحداث مفصلية لاحقة أصبحت أكثر حضورا في المشهد السياسي، والتي فرضت نفسها على الأرض بحيث اصبحت هي المفصل الجديد الذي يتوجب التوقف عنده للبحث في حلول مناسبة لإيقاف التدهور الحاصل لعملية الوحدة، وبالتالي تصبح مسألة العودة للحديث عما قبلها، ليس أكثر من محاولة للتفسير التسلسلي المنطقي للنتيجة الحالية، وهو أمر تفسيري يعقد الحالة ولا يحلها. 4) إن الحقيقة العلمية التي يقوم عليها هذا التفسير، كانت ستكون أكثر فاعلية فيما لو أنها نجحت في ترتيب إجراءات منطقية للوحدة قبل قيامها، بيد أنها الآن لم تعد مناسبة لإقناع الكثيرين، إلا من حيث أنها فقط توجه اللائمة أكثر على القيادات التي وقعت اتفاقية الوحدة بإرادتها، وينطبق هذا التقرير على القيادات التي في الجنوب أكثر من الشمال.

قسم آخر من ابناء الجنوب، قد يتبنون نظرياً مطالب اشبه بتلك السابقة، لكنهم، على اية حال، لا يتبنونها من منطلق ايديولوجي خالص – كما في الحالة السابقة. هم غالباً، منساقون معها، على أساس تعبوي- مناطقي، أكثر منه أيديولوجي- بنيوي، وقد يكون من السهل عليهم التخلي عن هذا الموقف، في حال تغيرت المعادلات السابقة بفعل إجراءات إصلاحية حقيقية يلمسونها على الأرض. كما يمكن لبعضهم الانجرار والانسياق إلى تبني أفكار أكثر تشدداً، في حال كان المتبنون للانفصال وفك الارتباط أكثر حجة في مخاطبة عواطفهم المثارة ونزعتهم المناطقية. كما يمكنهم الانجرار إلى الطرف الآخر المتبني نظرة أقل تطرفا (الفيدرالية، وحق تقرير المصير) أو تلك الأكثر منطقية في التعامل مع الأحداث والمتغيرات (استمرار الوحدة مع إجراءات مناسبة) شريطة أن تكون حجة هذا أو ذاك قوية وأكثر عملية وتأثيرًا على مستقبلهم. ويمكن تصنيف معظم هؤلاء بأنهم أولئك النوع الحسي المتأثر بالسلوك السياسي. ومعظمهم من الذين يرجعون جذر المشكلة إلى حرب صيف 1994، وبينهم من اعتبر تلك الحرب إعلاناً بفشل الوحدة التوافقية وتحولها الى وحدة ضم وإلحاق الجنوب إلى الشمال بالقوة، بينما البعض الآخر، يتعامل معها (الحرب) على أنها نتاج خلافات سياسية، أفرزت معادلة جديدة، هي بالطبع تؤثر عليهم سلبا، لكنها لو حلت على نحو مناسب قد تعيد إليهم الإعتبار.

بينما يرى قسم ثالث، ويعتقد كثيرون أنهم القسم الأغلب - يكاد يجمع كل الشماليين مع بعض الجنوبيين – أن السبب الرئيسي يرجع إلى الممارسات الإقصائية والتهميشية والفاسدة التي قام بها النظام بقيادة الرئيس السابق علي عبد الله صالح، طوال الفترة التي أعقبت تلك الحرب. وفيما يحلو للبعض وصف تلك السلوكيات والممارسات على أنها تحدث طبقاً لسياسة (المنتصر ضد المهزوم)، فإن معظم هؤلاء، لاسيما الذين ينتمون إلى أحزاب فاعلة، يتبنون مواقف أحزابهم، التي هي في الغالب مواقف “وحدوية”، وتنادي بضرورة إصلاح الاختلالات التي حدثت طوال الفترة السابقة، وإعادة الاعتبار للجنوب في إطار “الوحدة” لا الانفصال. جزء آخر من هذا القسم، هم أولئك الذين وجدوا مصالحهم مع الوحدة، ويخشون فقدان حاضرهم الحقيقي عبر التمسك بمستقبل ما يزال مجهولا. ويندرج في هذا الإطار ايضا، أولئك الذين يخشون من قتامة المستقبل في ظل الانقسامات الاختلافية القائمة الآن، والتي قد تبعث من جديد وتؤسس لعودة الصراعات الداخلية القديمة وتعيد فرز الواقع على أساس ما خلفته تلك الخلافات السياسية في الجنوب.

وإذا كان من المهم التنويه إلى أن كل قسم امتلك مجموعة من المبررات الداعمة لتفسيراته وتوجهاته تلك، فإنه من المهم أيضا الإشارة إلى أن ذلك – هو ذاته - ما جعل من الحكم النهائي البات بشأن من هو الطرف الذي يمتلك الشعبية أكثر من غيره، حكماً غير علمي، مع أنه في نهاية المطاف يمكن تقسيم الحقيقة إلى نسب متفاوتة.

ولذلك نعتقد أنه من المهم للغاية الإشارة إلى أن الحديث عن نسبة كبيرة ترغب في “الانفصال” و”فك الارتباط”، وفقا لقراءات ميدانية متطابقة، هو حديث غير يقيني إلى حد كبير. ويمكن تفسير الأمر على أن ثمة تبادلاً في المواقف بين الشارع وقياداته على أساس مناطقي أكثر منه على أساس منطقي. ولذلك نجد أن القيادات الجنوبية التي تنادي بضرورة “فك الارتباط”، تتمسك بهذا المطلب اعتقاداً منها أنه يخاطب رغبات وعواطف الشارع المشحونة بالسخط، بينما يبادلها الشارع الموقف ويتجاوب مع تلك المطالب، اعتقاداً منه أنه الخيار الأقرب للتحقق، وبالتالي يفرض هذا التجاوب لاعتبارات تتعلق بتوخي النتائج المستقبلية، والتي يندرج بضمنها على السواء: توخي تحقيق المصلحة أو الخشية من عدم تحققها.

* الثورة الشعبية تخلق تحولات جديدة

مع نهاية العام 2010، ومطلع العام 2011، انطلقت الثورة الشعبية السلمية، لتخلق متغيراً جديداً على ارض الواقع. وفيما هدأت وخلدت الكثير من المواقف المتطرفة إلى الأرض، حولت بعض القيادات الجنوبية مواقفها لدعم الثورة وضرورة الوقوف معها لإنجاحها.

وفي الواقع، اعتبر الكثيرون منهم – من خلال تصريحاتهم - أن نجاح الثورة في إزالة رأس النظام السابق وأعوانه ومواليه، سيعني ضمنياً إزالة الرأس والأجزاء التابعة له، التي خلقت المشكلة الجنوبية. وتحدث البعض – بشكل صريح – أن إزالة رأس النظام السابق ومن معه، سيبعث الأمل في حل القضية الجنوبية على أساس بقاء “الوحدة”، لكن مع تحقيق بعض المطالب الحقوقية والسياسية الهامة لأبناء الجنوب.

بالنسبة لبعض القيادات الجنوبية الفاعلة التي كانت تتبنى موقفاً متطرفاً من الوحدة، ولكن بصورة أقل حدة، فقد ظلت طوال الأشهر الثمانية من انطلاق الثورة، حتى أواخر أكتوبر 2011م، تعرب – بين الحين والآخر - عن دعمها للفعل الثوري باعتباره فعلاً تحررياً لازماً للتخلص من رأس النظام، لكنها لم تتخلَ كثيراً عن مواقفها السابقة، واعتبرت الثورة الشعبية جزءا مهما من شأنه أن يساعد على حل القضية الجنوبية وفقاً لحق أبناء الجنوب في تقرير مصيره بنفسه. ونهاية أكتوبر 2011، وبعده عقدت مؤتمرات في القاهرة انتهت إلى الحديث عن حل “الفيدرالية” من إقليمين، تستمر لخمسة أعوام، وتنتهي بحق أبناء الجنوب في تقرير المصير. وقد اعتبرت تلك المخرجات متقدمة بالمقارنة مع المواقف المتشددة السابقة لمعظم تلك القيادات.

أما القيادات الأخرى التي تتبنى موقفاً متطرفاً، أكثر حدة، من الوحدة، ظلت هي الأخرى، لقرابة بضعة أشهر من استمرار الفعل الثوري، صامتة دون أن تبدي أية مواقف جديدة، سواء في تأييد الثورة الشعبية، أم في مواقفها السابقة المتطرفة من بقاء واستمرار الوحدة. لكنها لاحقاً، اعتبرت الثورة فعلاً خاصاً بأبناء اليمن الشمالي للتحرر من نظامهم السابق، غير أنها (أي الثورة) لا تعني شيئاً بالنسبة لهم كونهم لن يتراجعوا عن فكرة “فك ارتباط” دولة الجنوب الحر عن الشمال، تحت اي ظرف من الظروف.  
إلى حد ما، ربما أمكننا القول: إن الثورة الشعبية خلقت خارطة ربما تختلف قليلا عن الخارطة السابقة. فيما كان يمكنها – منطقيا – التوقف عن السير عكس اتجاه التيار والمضي معه، على اعتبار أن ما ستفرزه الثورة سيصل - بالضرورة - بالقضية الجنوبية إلى بر الأمان، لاسيما إذا كان المحرك الرئيسي للحراك التصحيح لا الاستغلال السياسي لاستعادة مصالح واعتبارات شخصية.

وخلال الفترة التي تلت التوقيع على المبادرة الخليجية في 23 نوفمبر 2011م، كانت بدأت تتشكل مواقف جديدة، بعضها في سياق إيجابي، وأخرى سلبي. فظهر مثلاً – كما أسلفنا – من يتحول كلياً في مواقفه السابقة، ويجعل “الوحدة” إطاراً لمواقفه بشأن التحاور في الإصلاحات المطلوبة بشأن الملف الجنوبي, فيما ظهر من يقدم تنازلاته عن مواقف سابقة متشددة ويتحدث عن “فيدرالية”، في سياق أولي لتقرير المصير.

لكن، مع الاقتراب من العدد التنازلي لمؤتمر الحوار الوطني، بدأت خارطة أخرى تتبلور على ضوء تبدلات وتحولات في المواقف، لعلنا نستطيع إيجازها بالقول إنها: قد لا تكون قدمت جديداً يعتد به في إطار حلحلة القضية الجنوبية بحدوث تغير جوهري في مطلب “الانفصال” أو حتى قبول المشاركة في “مؤتمر الحوار الوطني” بصورة مباشرة، لكنها لم تخل من تنقلات في المواقف من هنا إلى هناك في سياق معظمه قد يحسب على أنه “إيجابي”.

* الخارطة الجديدة

فمثلا، بات يمكننا ملاحظة شكل جديد من التحالفات، لاسيما في إطار الفصيل المتشدد المنادي بـ “فك الارتباط”. فالمجلس الاعلى للحراك السلمي، الذي كان يرأسه القيادي الجنوبي حسن باعوم، ويدعمه - ويحسب على - نائب الرئيس السابق: علي سالم البيض؛ هذا المجلس (الذي يعتقد بأنه الأقوى والأكثر شعبية) تشظى وانقسم بعد عودة باعوم من زيارته الخارجية للعلاج في السعودية، سبتمبر الماضي، حين أطلق تصريحات قوية اتهم فيها حليفه السابق “البيض” بتلقي الدعم من “إيران”، بينما اتهم هو بحصوله على دعم “سعودي”. وتأكد وتجذر الانقسام أكثر بإصرار “باعوم” على عقد المؤتمر العام للمجلس في أكتوبر الماضي، ليعلن جناح البيض في الداخل مقاطعته، مصدراً قرارات قضت بإعفاء رئيسه “باعوم” من مهامه، وفصل وإيقاف قيادات بارزة حضرت المؤتمر.

كما لاحظنا عودة القيادي الجنوبي البارز “محمد علي أحمد” من الخارج إلى عدن، في مارس الماضي، ليقوم بمهام التقريب بين وجهات النظر الداخلية للحراك. وبذل “أحمد”، وما زال جهودًا كبيرة لعقد لقاءات تمهيدية تحت اسم “اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للجنوب”. إلا أنه يتهم من قبل خصومه بأنه بات يعمل لمصلحة الرئيس “هادي”. وفي أغسطس أرسل “البيض”، أيضاً، حليفه السفير “أحمد الحسني”، إلى عدن ليعمل – على ما تردد من أخبار - في مهمة خاصة وصفت بأنها “تخريبية” ضد مهمة “أحمد”. وأطلق الأخير تصريحات يستشف منها موقف جديد ويمكن وضعها في سياق إيجابي.

فيما تشكلت كيانات أخرى جديدة؛ داخلية، تصنف على أنها مدعومة من أحزاب كبيرة تهدف إلى سحب البساط من تحت القيادات المتشددة وتضعف مواقفها في الداخل، معظمها مؤيدة للحوار كوسيلة لحل القضية الجنوبية. 

* جهود مترافقة للحلحلة

في الواقع، وكما أسلفنا القول بأن القضية الجنوبية – نظرياً - تكاد تحظى بإجماع مختلف الأطراف من حيث اعتبارها القضية الرئيسية، المفصلية، التي تفرض على الجميع إيلاءها حيزا أكبر من الاهتمام، وبما تقتضيه ضرورة التوصل بشأنها إلى حلول توافقية مجمع عليها، إلا أن الاختلافات – عمليا - برزت وما زالت تتوالى وترتسم بوضوح حول طبيعة تلك الحلول. ما أضفى ومازال يضفي عليها تعقيدا خاصا من بين كافة القضايا المحددة على أجندة مؤتمر الحوار الوطني الشامل.

وتقرييا، أنه ومنذ التوقيع على المبادرة الخليجية، في 23 نوفمبر 2011، وحتى اليوم، ثمة جهود جبارة بذلت وما زالت تبذل من قبل كافة الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي: ابتداء من رئيس الجمهورية، إلى حكومة الوفاق الوطني، إلى اللجنة الفنية للتحضير للحوار، ومختلف الفعاليات السياسية؛ يسندهم ويقف إلى جانبهم المجتمع الإقليمي والدولي (المتبني والداعم والمشرف على تنفيذ المبادرة), في سبيل تذليل كافة العقبات لإنجاح “مؤتمر الحوار”، وبشكل خاص ما يتعلق بحلحلة القضية الجنوبية، من خلال تكثيف مساعيهم في ردم الهوة والتقريب بين وجهات النظر المختلفة، ودون أن تتوقف – حتى اللحظة – محاولات إقناع مختلف قيادات ومكونات الحراك الجنوبي في الانضواء والمشاركة في هذا المؤتمر الوطني للحوار. ونعني تحديداً: تلك الرموز القيادية التي تمتلك حضوراً في الساحة الجنوبية، والقادرة على توجيه الشارع.

وفي هذا السياق، على سبيل المثال: وضعت اللجنة الفنية للتحضير للحوار الوطني، هذه القضية على رأس مصفوفة المحاور التي ستناقش في المؤتمر، والتي أعلنتها اللجنة مع نهاية الأسبوع الأول من شهر نوفمبر. بل وقبلها بأيام قليلة، أعلنت اللجنة توصلها لقرار يمنح المكونات والقوى في المحافظات الجنوبية - وفي السياق فصائل الحراك الجنوبي المختلفة - نسبة النصف (50 % ) من حق التمثيل في مؤتمر الحوار الوطني.

بالنسبة لدور اللجنة الفنية للحوار، فتلك الإجراءات والقرارات، لم تكن هي الوحيدة في سياق تهيئة الأجواء، بل سبقتها إجراءات وقرارات أخرى، أهمها على سبيل المثال: النقاط العشرون التي أقرتها اللجنة في 25 أغسطس الماضي، ورفعتها إلى رئيس الجمهورية كمطالب أولية يتوجب العمل على حلها واتخاذ قرارات بشأنها بهدف تهيئة الأجواء لعقد مؤتمر الحوار الوطني، والتي تضمنت تفصيلات هامة لمختلف القضايا والملفات الشائكة، على رأسها القضية الجنوبية. وشملت أبرز المطالب لحلحلة هذه القضية الأتي:
 توجيه اعتذار رسمي من قبل الاطراف التي شاركت في حرب صيف 94 واعتبار تلك الحرب خطأ تاريخيًا؛ مواصلة التواصل الجاد مع مكونات الحراك الجنوبي السلمي في الداخل والخارج للمشاركة في الحوار؛ معالجة آثار حرب صيف 94 من خلال: إعادة الموظفين المدنيين والعسكريين والموقوفين والمحالين قسراً الى التقاعد والنازحين في الخارج؛ إعادة الممتلكات والاموال التي تم الاستيلاء عليها, الخاصة بافراد, او احزاب او نقابات او الدولة مع وقف اجراءات البسط والاستيلاء على الاراضي, واستعادة ما صرف منها دون وجه حق, واحالة المتسببين للمسائلة القانونية مع اعطاء اولوية الانتفاع لأبناء المحافظات الجنوبية؛ معالجة الاوضاع الوظيفية والمالية لمن فقدوا وظائفهم نتيجة خصخصة المؤسسات العامة؛ إعادة الاراضي الزراعية المملوكة للدولة او التي حصل عليها الافراد بموجب قانون الاصلاح الزراعي المنهوبة في الجنوب من قبل كل الاطراف مع مراعاة حقوق الملكية الفردية والممتلكات الاخرى وتعويض اصحابها؛ اطلاق سراح كافة المعتقلين على ذمة الحراك الجنوبي السلمي ومعاملة كافة ضحاياه وضحايا حرب 94 كشهداء؛ معالجة الجرحى ودعم وتكريم أسرهم؛ معالجة قضية مؤسسة صحيفة الايام وتعويضها عن الاضرار المادية والمعنوية التي لحقت بها؛ تغيير القيادات الادارية في المؤسسات والمكاتب الحكومية وكل مؤسسات الدولة ممن ثبت فسادهم وسوء ادارتهم وتعيين موظفين من ابناء الجنوب في المؤسسات المركزية ودواوين الوزارات بما يلبي شروط الشراكة الوطنية؛ الغاء ثقافة تمجيد الحروب الاهلية والدعوة الى الثأر والانتقام السياسي في منابر الاعلام والثقافة ومناهج التعليم؛ وإزالة مظاهر الغبن والانتقاص والاقصاء الموجهة ضد التراث الثقافي والاجتماعي والفني التى تعرضت للطمس والإلغاء في المناطق الجنوبية.

بالنسبة للمكونات والفعاليات السياسية المختلفة، على رأسها: معظم المكونات الثورية الشعبية، الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني..الخ، معظمها اصدرت بيانات وعقدت ندوات خصصت – معظمها – للقضية الجنوبية، بإيلائها أهمية كبيرة، وضرورة حلحلتها بما يرضي ابناء الجنوب. وبشكل خاص أصدر الحزب الإشتراكي بيانا خاصا، يوليو الماضي، تضمن 12 نقطة يجب التركيز عليها لحل جذري للقضية، وأعلنت أحزاب المشترك موافقتها وتأييدها لتلك النقاط.

وفي السياق، أيضا، عقد مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن: جمال بن عمر، لقاءات ميدانية مع قيادات جنوبية بارزة في عدن، أواخر أكتوبر الماضي، والتي تأتي في سياق الجهود الخاصة لإقناع قيادات الحراك المشاركة في مؤتمر الحوار والوطني.

* ولكن.. ثمة مسارات مضادة

غير أن تلك الجهود والمحاولات، بات من الواضح، اليوم أكثر من أي وقت مضى، أنها تواجه بجهود ومحاولات داخلية أخرى مضادة وأشد ضراوة. وتباعاً، تتعزز الترجيحات القائلة بأن تلك المساعي تحظى بدعم وتوجيه من قبل جهات إقليمية؛ هدفها المفترض: «افشال المسار السلمي وخلط اوراق المشهد السياسي وربما الذهاب الى ابعد مدى يؤثر على المسار الطبيعي». حسب وصف الرئيس عبد ربه منصور هادي، أثناء الاجتماع الذي عقده، في 6 نوفمبر، مع سفراء الدول الداعمة والراعية للمبادرة الخليجية.

لكن الرئيس “هادي”، الذي أكد – تالياً - في الاجتماع ذاته، أن اللجنة الفنية للتحضير للحوار أنجزت ما يقارب من 90 % من المهام الموكلة بها، كان على ما يبدو، يمتلك معلومات غير سارة بشأن ما يحدث في الضفة الأخرى من تدخلات فجة ومحاولات مستميتة لإفشال الجهود، لاسيما قبل أيام قليلة من الموعد المحدد لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني.

أغلب الظن أنها (أي تلك التدخلات) ستخلق – أو أنها قد خلقت فعلاً – متغيرات أخرى على أرض غير صلبة؛ من شأنها أن ترسم خارطة جديدة أكثر تعقيداً لمواقف قيادات بارزة ومؤثرة في مسار وتوجهات القضية الجنوبية.

علينا التنويه هنا، أن هذه الافتراضية الأخيرة (أو كما أسلفنا: الظن بحدوث تغيير في المواقف)، قائمة على أساس افتراضية أخرى سابقة تعتقد أن مجموعة مؤثرة من القيادات الجنوبية كانت بدأت تتبنى موقفاً إيجابياً أكثر هدوء ورزانة من السابق، بالنسبة للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الشامل.

* تعقيدات المشهد الراهن

الواقع، أن الرئيس “هادي” يشرف بنفسه على ملف القضية الجنوبية. وعلى ما يعتقد فقد شكل فريقاً، هم على درجة عالية من الثقة، لمساعدته في هذا الملف. أبرز مهام هذا الفريق هي دراسة القضية من كافة الجوانب، وعمل خطة مناسبة للتعامل معها، بحيث تحقق النجاح المرجو في تهيئة المناخ لحل القضية عبر عدة مسارات تمهيدية (قصيرة الأجل)، ومرافقة (متوسطة الأجل)، وجذرية (طويلة الأجل).

ويندرج في سياق الخطة، عملية التواصل مع قيادات جنوبية بارزة سواء في الداخل أم في الخارج. وعلى ما تجمع لديه من مؤشرات أولية، خلال الأشهر الأخيرة، بدا وكأنه قد نجح إلى حد كبير في إقناع شخصيات جنوبية قوية ومؤثرة (بعضهم عاد من الخارج) للعمل على تهيئة الأجواء وفق عدة مسارات عاجلة، بضمنها استقطاب وتغيير قناعات قيادات ميدانية مؤثرة في الحراك. وربما كان من الملاحظ أن مثل ذلك كان يحدث بالتوازي مع تلك الإنجازات العملية ذات الأهمية البالغة التي حققتها – تباعاً - اللجنة الفنية للتحضير للحوار.

لكن، وفقاً لآخر المؤشرات، ربما يمكن التأكيد أنه، ومع اقترابنا من نهاية العد العكسي لموعد انعقاد مؤتمر الحوار، حدثت متغيرات أخرى جاءت ضداً على ما خطط ورتب له طوال الفترة الماضية؛ وربما عملت على تلبيد الأجواء وتعكير صفو مناخات التقارب والتفاهم. ذلك ربما ما يمكن استشفافه من تصريحات الرئيس “هادي” التي أعرب فيها عن مخاوفه، أمام السفراء، بقوله: «نحن أمام تحديات صعبة وعوامل وكوابح تبرز من هنا وهناك ضمن مستجدات الواقع السياسي في اليمن».

على ضوء ذلك، ترجيحاً، اضطر الرئيس إلى تمديد فترة عمل اللجنة الفنية التحضيرية. في الوقت الذي ترافق فيه ذلك مع تسريبات تفيد بإمكانية تأخير – أو بالأحرى - تأجيل موعد انعقاد مؤتمر الحوار: كان حدد موعد انعقاده في السابق بمنتصف شهر نوفمبر، لكن هاهو الموعد قد مر دون انعقاد، فيما لم يحدد موعداً آخر حتى الآن، إلا أن المؤكد أنه سينعقد قبل نهاية العام الحالي.

هذا التمديد المعلن عنه لأعمال اللجنة، برر بعدم انتهائها من مهامها كاملة. غير أن تأجيل موعد انعقاد المؤتمر، هناك من يجزم بأنه جاء لإتاحة فرصة أخرى للمزيد من التواصل مع قيادات جنوبية مؤثرة لإقناعها بالمشاركة، أو على الأقل توكيل (تسمية) من ينوب عنها، بالنسبة لبعض القيادات الجنوبية الهامة في الخارج. وهذا التفسير مبعثه، بكل تأكيد: أن أبرز وأهم تلك القيادات الجنوبية لم تستجب وتبدي موافقتها - حتى الآن - للمشاركة في المؤتمر، فيما أن التصريحات، سواء من مقربين من الرئاسة، أم من اعضاء في لجنة الحوار، أم حتى من سياسيين ذوي شأن، تكاد تجمع على أنه من غير الممكن أن ينعقد المؤتمر بدون مشاركة ممثلين معتمدين من قيادات الحراك.

* محاولات أخيرة

والجمعة، 9 نوفمبر، عقد مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، جمال بن عمر، لقاءً هاما، في القاهرة، مع قيادات جنوبية في الخارج لها وزنها وتأثيرها على الشارع الجنوبي، وشملت الرئيس الجنوبي الأسبق: علي ناصر محمد، ورئيس وزراء الوحدة الأسبق: حيدر أبوبكر العطاس؛ وعلى ما أوردته بعض المواقع الإلكترونية أن القيادي البارز: حسن باعوم، كان حاضراً إلى جانب آخرين. وبحسب تصريحات نسبت للأول (علي ناصر)، فقد كان الرئيس الجنوبي السابق، علي سالم البيض، وهو أشد المتمسكين بمطلب فك الارتباط، أكد له الموافقة على حضور اللقاء، لكنه تنصل لاحقاً عن وعده له. وتتحدث بعض الأخبار عن مشاركة ممثلين عن “البيض”، ولكن “بصفة شخصية”.

في الاجتماع استمع بن عمر لوجهات نظر تلك القيادات الجنوبية، ثم وعلى ضوئها قدم وجهة نظره، في مسعى منه لمحاولة إقناعهم بالمشاركة في مؤتمر الحوار من أجل التوصل إلى حل عادل للقضية الجنوبية، مستعرضا في السياق جملة المحفزات والإجراءات المتخذة حتى الآن، إلى جانب تلك التي ستتخذ قريبا – بحسب معلوماته – بما يعزز إمكانية حل هذه القضية بشكل عادل، ولكن عبر الحوار فقط.

وفي كلمته كشف بن عمر قائلا: “إن مجلس الأمن اجتمع حتى الآن 14 مرة بشأن اليمن منذ قراره الأول، ولم يطرح اي عضو في مجلس الأمن القضية الجنوبية سوى تقارير الأمين العام للأمم المتحدة التي اقدمها أنا”.

ومن خلال الاستماع إلى كلمة المبعوث الأممي، والتي نشرتها بعض المواقع كاملة بالصوت، نجد أن “بن عمر”، الذي تحدث لقرابة (47) دقيقة، استخدم كافة الأساليب التحفيزية، الحقائق، المنطق، والتهديد، لإنجاح مهمته. فهو بعد تقديم تلك الحقيقة السابقة، بشأن عدم طرح القضية في مجلس الأمن إلا من خلال تقاريره، انتقل وحث الحاضرين على ضرورة انتهاز هذه الفرصة والمشاركة في الحوار، قائلا: “وهناك فرصة الآن لأول مرة منذ 94 لحل القضية الجنوبية. ونحن دائما نشجع الأطراف للحوار وحل القضايا عبر الحوار وبدون شروط مسبقة”. وفي سياق متصل بهذه المسألة، قال: “وباختصار أنا لم آتِ لكم بأي وصفة جاهزة لحل القضية الجنوبية، وكل ما أؤكد عليه هو أن الظرف الدولي وكذلك قرارات مجلس الأمن والإجماع الموجود في مجلس الأمن والوضع الذي وصلت إليه حتى العملية السياسية إلى الآن في صنعاء يسمح أكثر من اي وقت مضى بمعالجة القضية الجنوبية بشكل بنّاء وعادل ولأول مرة”.

وبشأن التعامل مع إرث الماضي المعقد، قال: أنا بصراحة أدرك أن هناك عددًا من الصعوبات، واكبر صعوبة هي مسألة انعدام الثقة وإرث الماضي”، مشيرا بهذا الصدد إلى ما سمعه من عدد من المداخلات حول “كيف تمت الاتفاقات وكيف تم خرقها من بعد”. وإذ اأعتبر أن هذا التاريخ “مرير فعلاً”، استدرك “لكن أنا متفائل لأنه أولاً المجتمع الدولي يريد أمن واستقرار اليمن”، مؤكد بأن هذا الموقف “ثابت رغم الخلافات الموجودة في مجلس الأمن حول حالات أخرى مثل سوريا وغيرها من المواضيع الأخرى، إلا أن هناك إجماعاً ثابتًا في مجلس الأمن على أن الأمن في اليمن لا يجب أن يتدهور لأنه سيهدد مصالح الدول الكبرى وسيهدد الأمن والسلم والدولي”. وأضاف: “ورسالة مجلس الأمن للجميع أنه مهما تعقدت هذه القضايا لا يمكن أن تحل إلا عبر الحوار. والأمم المتحدة كما قلت: إن مواقفنا دائما نابعة من التزامنا بالقانون الدولي وأن اي مشكلة مهما تعقدت لا يمكن أن تحل أيضاً إلا من خلال الحوار، والحوار المباشر ما بين الأطراف”.

وحذر بن عمر قائلا: “ويجب أن لا يقصى أي طرف. وأي طرف يقصى سيصبح طرفاً معرقلا وإن كان هناك حل أو اتفاق”.
وعقب الاجتماع، أكد في حوار نشرته وكالة الأنباء اليمنية (سبأ)، أن «عددا كبيرا من القيادات عبرت منذ البداية عن موافقتها على الدخول في الحوار الوطني بشكل مبدئي”، مضيفا أن النقاش يدور حالياً حول تفاصيل كيفية تنظيم الحوار وإجراءات إعادة بناء الثقة.

بعدها بيومين، الأحد 11 نوفمبر، توجه الرئيس “هادي” إلى دولة الإمارات، في جولة قال الخبر الرسمي إنها ستشمل “المملكة العمانية”، ودولة “الكويت”. وبعيدا عن ما تضمنه الخبر الرسمي، هناك أخبار ومعلومات نشرت عبر وسائل إعلام (عربية ومحلية) تحدثت عن صلة عميقة لهذه الجولة بملف القضية الجنوبية، والحوار الوطني. وتطابقت الأخبار حول مطالبة الرئيس “هادي” من تلك الدول ممارسة الضغط على القيادات الجنوبية، التي تربطها علاقة وطيدة بها، لإقناعها المشاركة في الحوار الوطني.

بعد يوم تقريباً من مغادرة الرئيس “هادي” صنعاء، في جولته الخليجية، عاد جمال بن عمر من القاهرة مباشرة إلى صنعاء، لمواصلة استكمال جهوده الأخيرة تلك. لقد كان الرجل هذه المرة يحمل معه مطالب تلك القيادات الجنوبية التي التقاها في الخارج، وعاد ليعرضها ويناقشها مع الفاعلين الرئيسين في الداخل؛ ربما للنظر في كيفية التعامل معها، أو لتذليل وتسهيل تنفيذ الممكن منها عملياً على الأرض.

 إن محاولات التمهيد لحلحلة القضية الجنوبية ما تزال مستمرة، حتى يومنا هذا، ولما تنتهي بعد. بل عززت الجهود أكثر بحضور استثنائي للأمين العام للأمم المتحددة “بان كي مون”، ومعه الأمين العام لدول مجلس التعاون الخليجي، اللذان وصلا صنعاء في 19 نوفمبر الماضي.

هذا الحضور، شكل دعما (أمميًا وأقليميًا) كبيرًا للرئيس هادي. وفيما بدت مسألة الحوار الوطني المنتظر هي القضية المحورية من تلك الزيارة، فقد شكلت القضية الجنوبية جزءاً رئيسياً هاماً في التصريحات واللقاءات المرافقة.
لكن وقبل أن نخوض في نتائج وتفاصيل تلك الزيارة الاستثنائية، ربما علينا أن نسبق ذلك بالتوقف قليلاً عند أبرز المخاوف التي تتوجسها، وأهم المطالب التي تتبناها – بشكل خاص - تلك القيادات من الفصائل الجنوبية التي كانت وافقت على حضور اجتماع القاهرة مع بن عمر. بالنظر إلى ما قد يمثله هذا الحضور – بدايةً – من خطوة أولية إيجابية باعثة على الأمل.

* أبرز المخاوف .. وأهم المطالب

إجمالاً، يمكن استخلاص أبرز المخاوف التي تسكن تلك القيادات، من قبول الدخول في الحوار، بالنقطتين التاليتين:-
- عدم الثقة بالنظام في الشمال؛ ذلك أنهم يخشون من التنصل عن الاتفاقات التي سيتم التوصل إليها، وخرقها لاحقاً، كما جرت العادة في أحداث ومواقف سابقة (تبرز هنا وثيقة العهد والاتفاق 1994م – برعاية الأردن).

- الخوف من ضم القضية الجنوبية إلى الحوار باعتبارها قضية من بين القضايا الأخرى، وبالتالي هناك خشية من أنها ستميع في إطار تناول قضايا عامة.

في الواقع، استقينا تلك المخاوف من كلمة بن عمر التي القاها أمام القيادات الجنوبية في القاهرة، والتي وردت في سياق استعراضه لما سمعه منهم ومحاولته تقديم ما لديه من إجابات على ضوء المعلومات الأولية التي لديه.

وبالنظر إلى المطالب التي قدمت إليه في رسالة خاصة تليت ثم سلمت له في الاجتماع، يمكننا أن نتصور بأن تلك المخاوف لم تكن سوى مبررات شكلت جسرا لعبور هذه المطالب الكبرى، وهي:-

- الاعتراف الصريح بحق شعب الجنوب فى تقرير مصيره وبما يحفظ الروابط بين شعبي الشمال والجنوب، ويعزز الشراكة فى التنمية ويحفظ الأمن والاستقرار المحلي والإقليمي والدولي.

- القبول بمبدأ الحوار الجنوبي الشمالي ممثلاً بالقوى الوطنية مناصفة شمالاً وجنوباً باعتبار أن القضية الجنوبية قضية سيادية تتعلق بقضية الوحدة المعلنة بين دولتي الشمال والجنوب السياديتين، وأن تعطى الأولوية في قيادة وحدات الجيش والأمن المتواجدة في الجنوب لأبناء محافظاته والقبول بعقد جلسات الحوار بشأن القضية الجنوبية خارج اليمن.

- إنه ينبغي أن يعقب ذلك مرحلة ثانية يتم فيها تشكيل لجنة محايدة بمشاركة إقليمية ودولية من عدد من الاختصاصيين القانونيين والاقتصاديين تكون مهتمة بمعالجة كل قضايا الخروقات الاقتصادية والمالية العامة. كما اُشترط أيضا: عدم التعرض للحراك الجنوبي السلمي، والإعلان عن اعتبار من سقطوا فى ساحات النضال السلمى فى الجنوب شهداء يتم تعويض أسرهم.

واعتبرت تلك الاشتراطات والمطالب أنها “إجراءات الحد الأدنى المطلوب إقرارها فوراً لاستقطاب غالبية شعب الجنوب للمشاركة بوفد موحد في الحوار المزمع انطلاقة وفقاً للعملية السياسية”.

* بن عمر.. ردود أولية مباشرة

في واقع الحال، فإن تلك الاشتراطات، كان قد رد بن عمر على معظمها في حينه، أثناء الاجتماع. وهنا نورد ملخصا لها:
فأما ما يتعلق بمبدء القبول بحوار جنوبي شمالي، اعتبر بن عمر أن هذا أمر مجسد بشكل أو باخر من خلال منح الحراك الجنوبي نسبة تمثيل بواقع 50 %. ومن خلال قرارات أخرى قال إنها ستصدر قريباً في هذا السياق.

وبشأن المعالجات وإعلان من سقطوا شهداء، أكد أن هذا الأمر تم إصدار قرار رئاسي بشأنه. وحول تشكيل لجنة خاصة، قال: “كما أظن أن هناك اتجاهاً عاماً الآن وأفكاراً ترى أنه من الضروري خلق إطار خاص بالقضية الجنوبية، لجنة خاصة 50 % من الشمال، ومثلها من الجنوب وتختص بدراسة القضية الجنوبية وإيجاد الحلول العادلة لها. وأن تكون المشاركة في إطار الـ50 % لمختلف فصائل الحراك”.

وعوضا عن هذا وذاك، انتهي بن عمر بحثهم على قبول الدخول في الحوار دون أية اشتراطات مسبقة، منوهاً: “هناك مكسب الآن، ويجب العمل من أجل خطوة أخرى حتى تتحقق مكاسب أخرى وتدفع بالعملية نحو هذا الحل العادل الذي لن يأتي إلا من خلال الحوار المباشر ما بين الأطراف”.
وأضاف: ليس لدينا في الأمم المتحدة اقتراح محدد لكيفية حل القضية الجنوبية، لكن اقتراحنا هو أن يدخل الإخوة الجنوبيون في حوار هدفه إيجاد حل عادل، وستدعم الأمم المتحدة أية جهود ترمي إلى تحقيق هذا الهدف.
بعدها، عاد بن عمر إلى صنعاء، حاملاً معه تفاصيل كثيرة بشأن هذا الملف المهم، ولكن بتعقيداته الجديدة. حدث ذلك في الوقت الذي غادر فيه الرئيس “هادي” إلى جولته الخليجية، التي يعتقد أنها جاءت في السياق ذاته.

* دعماً للرئيس.. أمين الأمم المتحدة في صنعاء

بعد يومين من جولته الخليجية، عاد الرئيس هادي إلى صنعاء، مؤكدا للإعلام نجاح جولته تلك في تحقيق أهدافها. بعدها ظلت الأنباء تتوارد عن لقاءات ثنائية بين الرئيس وبن عمر، وبين الأخير ومختلف القيادات السياسية والمعنية في الداخل.
في نهاية المطاف انتهى الأمر بالترتيب لمفاجأة من العيار الثقيل، تمثلت بحضور كلٍ من أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، وأمين عام مجلس التعاون الخليجي عبد اللطيف الزياني إلى صنعاء، في 19 نوفمبر الماضي.

في الواقع، كانت هذه هي المرة الأولى التي يحضر فيها الأمين العام الحالي للأمم المتحدة إلى اليمن منذ توليه منصبه قبل سنوات، فيما لا يذكر أن تكون اليمن شهدت حضورا أممياً بهذا الحجم في السابق.

ومع أن هذا الحضور الاستثنائي برر رسمياً على أنه جاء للاحتفال بمرور عام على توقيع المبادرة الخليجية (وقعت في 23 نوفمبر 2011)، إلا أنه عملياً، فُهم في سياق تأكيد وتعزيز الدعم الأممي والإقليمي للرئيس هادي، وإعلاناً صريحاً وقوياً بالوقوف معه لحلحلة التعقيدات الراهنة واستكمال بقية مقتضيات ومتطلبات المبادرة الخليجية.

وخلال هذه الزيارة، التي استمرت يومًا واحدًا فقط، حدث الكثير من القول والفعل اللذين يمكن البناء عليهما بشأن حاضر ومستقبل الحوار الوطني المرتقب، عموما، والملف الجنوبي بشكل خاص. وعقد الرئيس والأمين العام للأمم المتحدة ومعهما أمين عام مجلس دول الخليج والمبعوث الأممي جمال بن عمر، عدة لقاءات مع الصحفيين، الحكومة، اللجنة العسكرية، قيادات حزبية وسياسية، واللجنة الفنية للحوار.

* القضية الجنوبية .. التشديد على سقف الوحدة

 في المؤتمر الصحفي أكد الرئيس بأن التحضيرات لعقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل “على وشك الانتهاء”. فيما دعا الأمين العام للأمم المتحدة كافة الأطراف والقوى اليمنية إلى المساهمة الفاعلة في إنجاح هذا المؤتمر والنأي عن تصعيد التباينات ومناقشة كافة القضايا الخلافية في إطار طاولة حوار تشارك فيه كافة القوى الوطنية الممثلة في الساحة اليمنية، دون أن ينسى التأكيد على وجود دعم إقليمي ودولي كبير للعملية السياسية القائمة في اليمن وأن هذا الدعم سيتواصل حتى تحقيق الاستقرار المنشود.

بالنسبة للقضية الجنوبية ورفض فصائل في الحراك المشاركة في الحوار، قدم الرئيس “هادي”، في المؤتمر الصحفي، وجهة نظره – بكل ثقة، أكثر من أي وقت مضى - بشأن التعقيدات القائمة والتوجه الذي يمكن انتهاجه كطريق إجباري للوصول إلى الحل، موضحا بأن: «هناك طرفاً يريد الانفصال ويطالب بفك الارتباط، كما أن هناك طرفا آخر يريد الفيدرالية، فيما يوجد طرف آخر يريد الحوار وسيشارك ضمن الحوار الوطني، وهناك اتصالات بيننا وبينهم».

تقريباً، كانت هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس بهذا الشأن، على هذا النحو التفصيلي الدقيق، بشكل علني، واضح.
وضمنياً، تكشف لنا تلك التصريحات، عن أحد الخيارات الاضطرارية، الذي قد يمكن اللجوء إليه في نهاية الأمر لإنجاح الحوار. على أن هذا الخيار، المتمثل بالاكتفاء بمشاركة الطرف الجنوبي الذي يريد الحوار، بدا وكأن الرئيس يقدمه كخيار “اللحظة الأخيرة”، أمام الممكن وغير الممكن؛ المتاح مقابل غير المتاح.

لكن الرئيس، مع ذلك، لم يغلق الباب نهائياً، بل تركه موارباً بالحديث عن تواصل قائم مع بقية الأطراف. بل وبتمنيه، أيضاً، من الجميع «أن لا تفوتهم الفرصة في المشاركة في الحوار»، ولكن تحت سقف الوحدة، بتشديده على أولئك الذين يتحدثون عن “فك الارتباط”، بضرورة «أن يدركوا أن هناك قرارين لمجلس الأمن رقمي (2014) و(2051) ينصان على الحفاظ على أمن واستقرار ووحدة أراضي اليمن، وأن أية معالجات لأية قضايا ستتم تحت سقف وحدة وأراضي اليمن الموحد..”، مستدركاً: «وأي نظام سيأتي يتبنى أقاليم ويجسد العدالة في كل منطقة فهذا شيء مقبول ويمكن طرحه في إطار الحوار»، في الوقت الذي نوه فيه بأن المبادرة الخليجية لنقل السلطة «ليست وثيقة العهد والاتفاق» لارتباطها بقراري مجلس الأمن.

ووردت تأكيدات الرئيس هادي بهذا الشأن أثناء المؤتمر الصحفي، فيما كررها وشدد عليها في الكلمة التي ألقاها تالياً بحضور “بان كي مون، و”الزياني” و “بن عمر”، والحكومة وقيادات الأحزاب وأعضاء اللجنة الفنية للحوار. بل وهذه المرة، أضاف المبادرة الخليجية إلى جانب قراري مجلس الأمن، التي قال إنها «كانت واضحة فيما يتعلق بالحفاظ على أمن واستقرار ووحدة اليمن، وذلك مانص عليه البند الأول من المبادرة الخليجية وتضمنه قرارا مجلس الأمن».

وفي اللقاء الذي جمعهم، في اليوم ذاته، مع لجنة الشؤون العسكرية، تحدث الأمين العام عن تلك الخطوات الناجحة التي تم قطعها تحت قيادة موحدة ممثلةً بالرئيس “هادي”، مؤكداً بان الامم المتحدة “سوف تكون دائماً مع اليمن من اجل انجاح العملية السياسية والمجتمع الدولي، وأن أصدقاء اليمن مصممون على ذلك”. وفيما حث على أهمية المضي معا نحو آفاق النجاح والنتائج المطلوبة، شدد على الوحدة قائلا: “وهذه مسالة يتبناها المجتمع الدولي كله من أجل أمن واستقرار ووحدة اليمن الذي يُعتبر مؤثرا على المستوى الاقليمي والدولي”.

وفي اللقاء مع الحكومة أيضا، جدد الأمين العام التأكيد على دعم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لليمن، وحث على أهمية استكمال تنفيذ بقية بنود المبادرة الخليجية, وفي مقدمة ذلك إعادة هيكلة الجيش والأمن وإنجاح مؤتمر الحوار الوطني.
بل – بحسب ما نقلته وكالة (سبأ) - هدد الأمين العام للامم المتحدة بفرض عقوبات على معرقلي العملية السياسية، وأكد أن «أي محاولة لعرقلة العملية السياسية في اليمن ستواجه بعقوبات سواء على المستوى الجماعي او الشخصي بموجب قراري مجلس الأمن « 2014 و2051 »، محذراً بأن المجتمع الدولي “لن يسمح بأي عرقلة للمرحلة الانتقالية الجارية في اليمن”.

* الاتحاد الأوروبي في الطريق أيضاً

 وتزامنا مع ذلك، بدا وكأن المجتمع الدولي الفاعل، المشرف والمراقب، بلغ قدرًا كبيرًا من الإدراك لتلك التعقيدات الأخيرة التي يمكن أن تعيق أو ربما توقف التقدم المحرز في طريق استكمال ما تبقى من مقتضيات الانتقال السياسي وفق المبادرة الخليجية.
لذلك وجدنا مثل ذلك الترافق المتناغم للمواقف الدعمة للرئيس هادي في حلحلة القضايا المعقدة من أجل إنجاح الحوار الوطني، وبشكل خاص حل القضية الجنوبية دون قبول التفريط بالوحدة الوطنية. وفي اليوم الذي حضر فيه الأمين العام للأمم المتحدة، وأمين عام مجلس دول الخليج إلى اليمن، أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً، تطرق فيه للعملية السياسية والحوار. وفي سياقه أكد الاتحاد الأوروبي “التزامه القوي بوحدة اليمن وسيادته واستقلاله السياسي وسلامة أراضيه”..

كما، أنه إذا أكد “على الضرورة الملحة لتحقيق تقدم في بدء مؤتمر الحوار الوطني”، شدد “على أهمية احترام الأزمنة المحددة في المبادرة الخليجية”. وحث “كافة الأطراف اليمنية المعنية للمشاركة في ودعم هذه العملية بشكل بنَّاء وبدون شروط مسبقة لضمان أن تكون العملية جامعة ومتوازنة وشفافة وتمثل بشكل ملائم كافة أطياف المجتمع اليمني وتعكس الدور الهام للشباب والمرأة”. وفي السياق شجع الاتحاد الأوروبي الحكومة اليمنية وجميع الأطراف ذات العلاقة “على اتخاذ إجراءات تهدف إلى تحسين الأجواء السياسية قبل الحوار الوطني”.

ولتأمين كل ذلك، أطلق تحذيرات تتطابق مع تلك التي أطلقها كل من بن عمر (في القاهرة)، والأمين العام للأمم المتحدة (أثناء لقاءه الأخير بالحكومة اليمنية)، من حيث إنه (الاتحاد) أكد، أيضا، “على استعداده للبحث في كافة الخيارات المتاحة لضمان نجاح عملية الانتقال”، مشيرا في الصدد إلى “قراري مجلس الأمن الدولي 2014 و2051.”

* توقعات وترجيحات ختامية

وإذا كنا قد اعتبرنا سابقاً أن عودة بن عمر الأخيرة إلى اليمن، عقب حوار القاهرة، ربما جاءت في سياق المحاولات الأخيرة بشأن التوصل إلى تسوية ممكنة لمطالب تلك الفصائل، أو حتى التعامل مع ما يمكن منها، فإن التصريحات والأحداث الأخيرة اللاحقة ربما قضت على مثل هذا الاعتبار وجعلت منه أمرًا شبه منتهٍ.

وعليه، وأخذاً بالاعتبار المتغيرات الأخيرة الجديدة (على الأقل حتى الآن) بما تسوقه من تصريحات ومواقف الرئيس “هادي” وأمين عام الأمم المتحدة الأخيرة، يمكن حصر أبرز التوقعات المستقبلية على مسارين:

- الأول: مواصلة محاولات إقناع هذه الفصائل المتشددة إلى حد ما (التي تقدمت بتلك المطالب والشروط في لقاء القاهرة)، بقبول الدخول في الحوار بدون شروط مسبقة، مع حرية كاملة بأن تطرح ما تريد من مطالب في إطار طاولة الحوار.

- الثاني: عقد الحوار الوطني بدون تلك الفصائل والاكتفاء بتلك الأخرى التي أعلنت – أو ربما ستعلن قريبا – موافقتها الدخول في الحوار.

ومن الملاحظ، أن المسار الثاني، سيكون نتيجة حتمية (طبيعية) لفشل المسار الأول. أكد على مثل هذا الرئيس في تصريحاته خلال المؤتمر الصحفي.

أما في حال نجح المسار الأول، خلال الفترة الزمنية القصيرة المتبقية (ربما أقل من نصف شهر بالكثير)، فلن يقضي ذلك على فرص مشاركة أولئك الذين أعلنوا قبولهم أو سيعلنون قريباً القبول بالحوار كخيار مناسب لا بديل عنه لحل القضية الجنوبية، لكنه سيقلل من نسبة تمثيلهم على حساب إشراك أولئك الذين من المتوقع أن يعدلوا من فكرة الاشتراطات المسبقة.

كما أنه في حال نجحت المحاولة، وفق المسار الأول، وانضمت تلك القيادات أو اختارات من ينوب عنها، فسينعقد مؤتمر الحوار الوطني، على نحو فعال بما يمكن لهذه المشاركة أن تقوي من نتائجه ومقرراته. فيما سيعتبر الطرف الثالث المطالب بفك الارتباط (جناح البيض وحلفائه) ومن يحذو – او سيحذو حذوهم – كأطراف “معرقلة” للتسوية، حتى وإن كان هناك “حل أو اتفاق”، وفق توصيف بن عمر. ما سيعني إمكانية التعامل مع هذا الطرف المعرقل بموجب ما أشار إليه قرار مجلس الأمن الثاني بشأن اليمن (رقم: 2051)، القائل باتخاذ مزيد من التدابير، بما في ذلك اتخاذ تدابير بموجب المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة إذا استمرت هذه الأعمال. وهذا ما لمح إليه الأمين العام للأمم المتحدة، أثناء لقائه بالحكومة – كما سبق وأن أشرنا إليه.

في الأخير، يبدو الترجيح الأول هو الأكثر قرباً من الواقع – وفق مؤشراته الجديدة – والذي نتوقع فيه مشاركة معظم الفصائل والقيادات، وتبقى البقية الباقية (وهي الأقل) أطرافاً معرقلة، بقيادة نائب الرئيس السابق، علي سالم البيض، الذي بات من السهل تجميع الأدلة على تحوله إلى معول تخريب بأيدٍ خارجية متهمة بالسعي لتحقيق أهداف إقليمية ودولية من خلال العمل الحثيث على إفشال أي تسوية من شأنها أن توصل البلاد إلى الاستقرار السياسي، الاقتصادي والاجتماعي.

وفي كل الأحوال ستكون أي مشاركة، سواء شملت المسارين السابقين أم اقتصرت على الثاني فقط، ستكون مدعومة أمميا وإقليميا، كما أكدته التصريحات والمواقف، المنبثقة عن اللقاءات والأحداث الأخيرة.
---------------------------------------------------------------------------------------
* نشرت هذه المادة بتاريخ 30 نوفمبر 2012/ ضمن ملف ملحق بصحيفة الجمهورية اليومية تحت عنوان "الحوار من أجل اليمن"، على الرابط التالي: