الأحد، 29 ديسمبر 2013

أين ذهبت مليارات مشروع الطريق الاستراتيجي «عمران-عدن»؟


طريق عمران - حضرموت

منذ العام 2006، ونحن فقط نسمع ونقرأ عن أكبر وأضخم مشروع إستراتيجي حيوي لتطوير شبكة النقل البري في اليمن من خلال مشروع طريق الخط المزدوج (عمران –عدن).

هذا المشروع الاستراتجي الذي طالما "ضجنا" المسؤولون بشأنه منذ ثمانية أعوام خلت؛ بكونه "سيُسهم في تنمية المناطق الحضرية والريفية" في إطار المحافظات الـ11 بداية، ثم الـ8 لاحقاً، ليستقر مؤخرا عند الـ7 محافظات، التي سيمر عبرها المشروع، الأمر الذي سيضفي إنعاشاً اقتصادياً كبيراً لتلك المحافظات بشكل خاص، والبلاد عموماً.   

"يعتبر هذا المشروع من أهم المشاريع التي يوليها فخامة الأخ علي عبد الله صالح رئيس الجمهورية اهتماماً خاصاً حيث يبلغ الطول التقديري لهذا المشروع حوالي (450كم)..".

ما تزال العبارة أعلاه منشورة حتى اليوم في موقع وزارة الأشغال العامة والطرق. وجاءت في سياق "مقدمة" للمعلومات الوحيدة المنشورة على موقع الوزارة المعنية بهذا المشروع الإستراتيجي الهام. حيث اكتفت الوزارة فقط – بعد تلك المقدمة – بسرد سبع أهميات حيوية له.

المشكلة الكبرى (مغزى هذا التحقيق الاستقصائي)
وإذنً، ليس ثمة معلومات كثيرة أو بيانات تفصيلية واضحة منشورة حول هذا المشروع تكافئ أو توازي تصريحات المسؤولين المنشورة في الصحافة طوال السنوات الثمان الماضية بشأن أهميته وضخامته.

لكن، من خلال البحث والتنقيب والتحقيق وجدنا إلى جانب المعلومات التفصيلية الموضحة لطبيعة المشروع وبياناته معلومات أخرى هائلة ومفجعة تكشف حجم الفشل واللا مسؤولية والتخبط والفساد الذي رافق المشروع.

وكان سندنا الأكبر في ذلك تقرير حديث للجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة رُفع إلى وكيل وزارة الأشغال العامة والطرق نهاية الشهر الماضي (27 نوفمبر).

ولكي تتضح تفاصيل الصورة أكثر، بحثنا ونقبنا في تصريحات المسؤولين منذ بداية الإعلان عن المشروع منتصف العام 2006، وما لحقه بعد ذلك من توقيع على عقد التمويل في العامين 2008-2009، ومن ثم المصادقة الحكومية والبرلمانية على المشروع والتمويل والقروض في العام 2009، حيث بدأ سريان العقد واحتساب المدة الزمنية المحددة - في عقد التمويل - بثماني سنوات للانتهاء من إنجاز المشروع؛ أي في العام 2016.

غير أن المشكلة الكبرى أن أكثر من نصف تلك المدة مرت دون، ليس فقط إنجاز كل ما كان مطلوباً إنجازه خلال الخمس السنوات الماضية، بل إن المشروع في حقيقة الأمر لم يبدأ تنفيذه بعد..!!

خلفية وتفاصيل المشروع الإستراتيجي
كحقيقة نظرية يعتبر المشروع فعلاً أضخم وأكبر مشروع إستراتيجي حيوي للبلاد في مجال تطوير شبكة النقل البرية، من حيث الحجم والمسافة التي سيغطيها والمواصفات والتفاصيل وحجم التمويل.

فالمشروع – كما أسلفنا – يهدف أساساً إلى تطوير شبكة النقل البري وتنمية المناطق الحضرية والريفية في الجمهورية اليمنية من خلال إنشاء طريق مزدوج يمر بسبع محافظات رئيسية وحيوية، هي: عمران، صنعاء، ذمار، إب، تعز، لحج، وعدن. وتضيف بعض التصريحات إليها "أمانة العاصمة" كمحافظة ثامنة.

يتكون المشروع من أربعة مقاطع، هي:
الأول: "عمران – صنعاء" بطول 68 كم.
الثاني: "صنعاء - ذمار- بيت الكوماني" بطول 95كم.
الثالث: "بيت الكوماني – إب – تعز" بطول 117 كم.
الرابع: "تعز- الحوطة – عدن" بطول 140 كم.

المجموع الكلي لطول المسافة التي سيغطيها المشروع من عمران وحتى عدن تبلغ 420 كم، وبعرض كلي يصل إلى 38 متراً (بواقع: ثلاثة خطوط ذهاباً ومثلها إياباً، وعرض كل اتجاه منها يصل إلى 13.45 متراً + جزيرة وسطية بعرض 3.6 متر + أكتاف على الجانبين بعرض 3.6 متر لكل اتجاه).

وبحسب ما أكدته تصريحات سابقة لمسؤولين عن المشروع، فالمشروع يشمل حفر وإنشاء خمسة أنفاق؛ طول كل نفق تسعة كيلو تقريباً. مع أن تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، الذي استقينا منه تلك التفاصيل أعلاه، لم يتحدث عن أي أنفاق ضمن المشروع.

وطبقا لتقرير الجهاز، تقدر تكلفة المشروع الإجمالية بحوالي مليار و950 مليون دولار، بتمويل من الصندوق السعودي والحكومة اليمنية. وكان مسؤولون عن المشروع بدأوا بالحديث عن تكلفة إجمالية أقل تصل إلى مليار و578 مليون دولار، طبقاً لتقديرات وزارة التخطيط.

الموقف العام للتمويل حتى 31 -12 -2012م
(المبالغ بالدولار الأمريكي)

أكبر وأهم مشروع إستراتيجي (فاشل)
ما سبق كان من زاوية نظرية. أما كواقع عملي، فإن المشروع يعتبر، حتى الآن على الأقل، من أفشل مشاريع الطرقات التي نفذتها أو مازالت تنفذها الوزارة حتى اليوم. يشمل هذا الفشل كافة الجوانب الإدارية والفنية والدراسات والتصاميم الأولية، وصولاً إلى عملية التنفيذ وما رافقها من تخبط ولا شفافية مالية وفساد كبير تخلل المشروع.

 واستناداً إلى تقرير جهاز الرقابة والمحاسبة، فوحدة تنفيذ المشروع بوزارة الأشغال، لم تنشئ حتى الآن "نظام مالي ومحاسبي، أو لائحة مالية تحدد بموجبها السلطات والمسؤوليات في وحدة التنفيذ"، ناهيك عن "عدم وجود مراجع داخلية للمشروع للقيام بمراجعة عمليات الصرف المختلفة، وعدم وجود إدارة مالية مستقلة للمشروع، وعدم حفظ وأرشفة الوثائق والمستندات الخاصة بالمشروع بالشكل الذي يضمن المحافظة عليها ويمكن الرجوع إليها عند الحاجة بسهولة ويُسر".

ما سبق عبارة عن ملاحظات مرفوعة ضمن التقرير الرسمي للجهاز، الذي أكد أصلاً أن المشروع لم يبدأ تنفيذه حتى الآن، على الرغم من انقضاء نصف المدة المحددة لتنفيذه.

ملاحظة: (حديث التقرير عن مرور نصف المدة محدد بنهاية العام 2012، أما الآن، مع نهاية هذا العام 2013، ستكون مرت خمس سنوات، والواقع المشار إليه في التقرير لم يتغير كثيرا عدا بعض الإجراءات البسيطة التي سنوردها لاحقا).

ومع ذلك، صُرف على المشروع، حتى نهاية العام 2012، أكثر من مليونين ونصف المليون دولار من مخصصات التمويل..!! (المصدر: تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة - أنظر الجدول المرفق تحت عنوان: رابعاً الموقف العام للتمويل حتى 31/12/2012).

بدايات مخالفة للقانون
ومع أن تصريحات المسؤولين، على أعلى مستوى في الدولة والحكومة وفي الجهات المعنية بالمشروع، ظلت تروج له منذ العام 2006 عقب أشهر من مؤتمر المانحين بلندن الذي عُقد في يناير 2006، إلا أنه عملياً لم يبدأ احتساب فترة الثماني سنوات الرسمية لسريان العمل به، إلا في العام 2009، وذلك بعد توقيع اتفاقية التمويل مع الجانب السعودي أواخر العام 2008، ومصادقة مجلس النواب على اتفاقية القرض الخاصة بالمشروع المقدمة من الصندوق السعودي للتنمية في جلسته التي عُقدت في 24/2/2009.

وطبقا لتقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، حددت خطة المشروع تنفيذه على عدة مراحل، بحيث تبدأ بالمرحلة الأولى بتنفيذ المقطع الثاني المتمثل بطريق "صنعاء - ذمار- بيت الكوماني".

وأكد التقرير أنه تم توفير التمويل اللازم لتنفيذ هذه المرحلة الأولى بإجمالي 400 مليون دولار، مقدمة من المنحة السعودية رقم (2/1430) بمبلغ 213.000.000 دولار، ومن قرض الصندوق السعودي للتنمية رقم (30/494) بمبلغ 106.666.667 دولاراً، ومن مساهمة الحكومة اليمنية المقدرة بمبلغ 80.333.333 دولاراً. 
(أنظر الجدول المرفق)
وذلك لتغطية بنود عمل ثلاثة من هذه المرحلة الأولى، هي: أعمال مدنية، أعمال إستشارية، واحتياطي. وذلك وفقاً للتفصيل المنشور في الجدول المرفق أدناه: (المبالغ بالريال السعودي)

ويشير تقرير الجهاز، تحت بند "بيانات اتفاقيات التمويل"، إلى أن تاريخ منحة المملكة السعودية رقم "2/1430" هو: 13/10/2008، وتاريخ اتفاقية قرض الصندوق السعودي رقم "30/494" هو 5/4/2009. فيما يبدأ تاريخ سريان اتفاقية القرض في 12/5/2009، وينتهي السحب من المنحة والقرض في 31/12/2016، "أو أي تاريخ آخر يحدده الصندوق"، ونسبة الفوائد السنوية للقرض 2% على جميع المبالغ المسحوبة من القرض وغير المسددة، مع فترة سماح محددة بخمس سنوات تبدأ من تاريخ سريان العقد.  

لكن وحتى نهاية العام الماضي (2012)، طبقاً للتقرير، مرت قرابة أربع سنوات من الفترة المحددة بالاتفاقية دون أن يحرز المشروع تقدماً عملياً يُذكر، باستثناء عددٍ من الإجراءات الأولية البسيطة بينها "إنزال إعلان في الصحف في عام 2010 لاختيار مديراً للوحدة التنفيذية على ضوء المنافسة. وفي عام 2011، أعلنت مناقصة عامة ضمن الصحف الرسمية لعدد من كوادر المشروع وتم اختيار الكادر الفني للمشروع (كبير مهندسين، مهندس عقود مسؤول عن تقنية المعلومات، وأجلت عملية اختيار المحاسب والسكرتير التنفيذي ومسؤول التجهيزات إلى حين اتخاذ إجراءات اختيار الشركة المنفذة للمشروع).

وذلك حسب رد الوحدة الخاصة بالمشروع في الوزارة، بتاريخ 27/2/2013، رداً على ملاحظات الجهاز المركزي للرقابة المحاسبة المرفوعة إليها بتاريخ 2/1/2013.

وفي 31/5/2013، قام الجهاز المركزي بالمراجعة، ولاحظ – طبقاً لتقريره المرفوع لوكيل الوزارة بتاريخ 27/11/2013 - أن إجراءات تعيين بقية كادر المشروع لم تكتمل "بحسب الإجراءات القانونية المتعارف عليها في المشاريع الممولة دولياً وخصوصاً كادر الإدارة المالية".

كما أنه لم تنشأ "وحدة مالية وفقاً لما ينص عليه القانون"، أخذاً بالاعتبار أن المشروع "مستقل مالياً وإدارياً، فيما يخضع فقط لإشراف لجنة تسيير برئاسة وزير الأشغال". وبدلاً من السير وفق القانون، يؤكد تقرير الجهاز المركزي أنه تم "تكليف المختصين بوحدة تنفيذ المشاريع الممولة دولياً (الشؤون المالية) بمهام الإدارة المالية في المشروع إلى جانب عملهم في وحدة تنفيذ المشاريع الممولة دولياً"؛ إضافة إلى "عدم وجود نظام محاسب أو لائحة يتحدد بموجبها السلطات والمسؤوليات والرقابة والضبط الداخلي على التصرفات المالية المنفذ من المخصصات المعتمدة للمشروع وبما يضمن تحقيق الهدف النهائي الذي على أساسه تم إنشاء الوحدات المالية والمحاسبية في الجهات والمشاريع العامة للدولة وفقاً للقانون المنظم لذلك".

وجاء رد وحدة المشروع في الوزارة بهذا الشأن كالتالي: "كما أشرنا سابقاً بأنه لم يتم إنشاء وحدة مالية لأعمال المشروع والتي أسندت إلى الوحدة المالية للمشاريع الممولة دولياً بالوزارة، وتم العمل بنفس النظام المحاسبي المعمول به لدى وحدة تنفيذ المشاريع الممولة دولياً بالإضافة إلى أن المشروع مدرج ضمن النظام المحاسبي العالمي الـLegumes، والذي يتبع وزارة المالية".

وهنا يؤكد تقرير الجهاز "ومن خلال رد الوحدة يلاحظ أن الوحدة حتى تاريخ المراجعة لم تقم بإنشاء وحدة مالية ولم تقم بالحصول على نظام محاسبي خاص بها. حيث يتم العمل بالنظام الخاص بوحدة المشاريع الممولة دولياً كما أن نظام الـLegumes هو نظام تراسل ومتابعة السحب من التمويل الخارجية وليس نظاماً محاسبياً يتم استخدامه للعمل في الوحدات الممولة دولياً".

تخبط يزيد الطين بلة  
إلى جانب تلك المخالفات التي بدأت مع بداية الشروع في تنفيذ المشروع ومازالت قائمة حتى الآن، تطرق تقرير الجهاز المركزي إلى مخالفات فنية ومالية وتوقيع عقود مخالفة مع الشركة الفرنسية المشرفة..الخ، والتي سنتطرق إليها بالتفصيل لاحقاً في سياق هذا التقرير.

على أن التعقيدات التي يشوبها المشروع حتى الآن، تستدعي منا السير وفقا للترتيب الزمني والعملي للأحداث حتى نتمكن من تفكيكها وتقديم مادة سهلة وواضحة تتيح للقارئ فهم واستيعاب المشكلة.

 كان أبرز وأهم ما أكد عليه تقرير الجهاز، وكرره في أكثر من موضع، هو: "عدم البدء بتنفيذ مشروع الطريق ءالذي حددت مدة تنفيذه بثماني سنوات (2009-2016) رغم انقضاء ما نسبته (50%) من الفترة الإجمالية المحددة لإنجاز كامل الطريق". (كما نوهنا سابقاً، يحدد التقرير هذه الفترة حتى نهاية 2012، وليس حتى يومنا هذا الذي لم يتبق على نهاية عام 2013 سوى أيام فقط)

وردا على ملاحظة الجهاز تلك، أشارت وحدة المشروع إلى أنه "تم البدء بتنفيذ خطوات المشروع وذلك باختيار الشركة الاستشارية والتي قامت بمراجعة المخططات للجزء الأول (صنعاء - بيت الكوماني)" ، المقصود هنا هو المرحلة الأولى المعتمدة ضمن المخطط. وأضاف رد الوحدة "وعلى ضوء ذلك تم إنزال إعلان طلب تأهيل شركات تنفيذية للمشروع تقدمت إليه 83 شركة لشراء وثيقة التأهيل وقدمت 45 شركة وثائق تأهيلها وتأهلت 14 شركة فنياً وتقدمت إليه 11 شركة لشراء وثائق المناقصة، ولم تتقدم للمناقصة إلا شركة واحدة بعطائها المالي (بدون ضمان) ولذا تم تأجيل النظر في المناقصة إلى جانب الظروف الأمنية التي مرت بها بلادنا خلال الفترة 2011 ، 2012، وبسبب أن المناقصة غير قانونية لعدم تقديم المقاول للضمان وكونه عطاء وحيد وغير مستوفي الضمان فقد تم تأجيل إقرار المناقصة".

يرد الجهاز المركزي على ذلك أنه بالقول: "ومن خلال المراجعة لوحظ أن المشروع لم يبدأ العمل فيه أو إعلان مناقصة للمشروع مرة أخرى، وتم إلغاء كافة الإجراءات الخاصة بالمقطع الثاني الذي كان مقرراً تنفيذه (صنعاء – ذمار - بيت الكوماني) واستبداله بالمقطع الرابع (تعز - الحوطة - عدن)".

 إذاً، عوضاً عن البدء في تنفيذ المرحلة الأولى والمحددة بالمخطط والدراسات الأولية بالمقطع الثاني: (صنعاء - ذمار- بيت الكوماني)، اجتمعت لجنة تسيير المشروع، التي يرأسها وزير الأشغال عمر الكرشمي، في 10/10/2012، لتلغي كافة الإجراءات السابقة، لتقرر الانتقال إلى تنفيذ المقطع الرابع (تعز - لحج – عدن).

ومتى حدث هذا الوعي بصعوبة تنفيذ المرحلة الأولى؟
 بعد مرور أربع سنوات تقريباً على توقيع اتفاقية التمويل وبدء فترة سريان تنفيذ المشروع..!! وبعد أن صرفت في تلك الإجراءات (الملغية أخيرا) مبالغ للإعلانات ورواتب ومكافآت وبدل اجتماعات ومخصصات الشركة الاستشارية..الخ، واجمالاً: بعد مرور أربع سنوات تم خلالها صرف ما يربو عن مليونين ونصف المليون دولار..!!

وبعيدا عن ذلك كله، يؤكد تقرير الجهاز أن هذا القرار "سوف يستدعي بعض الوقت حتى يبدأ العمل فيه. حيث مطلوب دراسة مقدار التعويضات للمواطنين ومن ثم صرفها وتحديث الدراسات والتصاميم ومن ثم البدء بالتنفيذ"، منوهاً في نهاية هذه الفقرة بتأكيده: "وحتى تاريخ المراجعة لم يبدأ تنفيذ هذه الإجراءات".

كارثتان: قصور في الدراسات وفشل إداري
الواقع أن هذا التخبط يكشف قصوراً كبيراً في الدراسات والتصاميم الأولية، رغم أن المسؤولين في الدولة زعموا في السابق، منذ 2006، أنها جاهزة كليا وأن الحكومة خسرت عليها ستة ملايين دولار.

ففي 8/6/2006، نشرت صحيفة 26 سبتمبر خبراً جاء فيه: "من المقرر أن تعلن الحكومة عن مناقصة المشروع الاستراتيجي لطريق (عمران – عدن) خلال الفترة القليلة القادمة كمناقصة دولية وذلك بعد ان استكملت كل الاجراءات والدراسات والتصاميم اللازمة للطريق الاستراتيجي والحيوي".

 وأوردت الصحيفة تصريحات لوكيل وزارة التخطيط لقطاع برمجة المشاريع عبد الله الشاطر، أكد فيها أن مشروع طريق (عمران - عدن) الذي "سيربط بين 11 محافظة ويستفيد منه كل سكان تلك المحافظات قد انجزت كل التصاميم ودراسات  الجدوى والتي كلفت حوالى 6 ملايين دولار، تم تمويلها من قبل الصندوق السعودي للتنمية كقرض والحكومة اليمنية".

وهذا المبلغ الكبير والمبالغ فيه على الأرجح قدمه الصندوق السعودي من غير التمويل والقرض المخصصين لتنفيذ المشروع، بحسب ما تشير إليه تواريخ التصريح وتوقيع عقود التمويل والقرض.

لم يعلن أو يعرف لمن سُلم ذلك المبلغ الكبير والمبالغ فيه..!! كما لم يشر تقرير الجهاز المركزي إلى ذلك إطلاقاً، لكن صحيفة "الميثاق"، الناطقة باسم المؤتمر الشعبي العام، الحزب الحاكم سابقا، نشرت تقريراً ترويجياً مطولاً عن المشروع في 16 إبريل 2007، أشارت فيه إلى أن الدراسات والتصاميم الخاصة بالطريق المزدوج أعدت من قبل شركتي  "دورش الألمانية" و"هالكرو العالمية"، حيث أعدت الأولى دراسات وتصاميم المقطعين الأول والثالث، بينما تكفلت الأخرى بالمقطع الثاني.

وكان مهندسون يمنيون شككوا في وقت مبكر بجدوى تلك الدراسات والتصاميم، من حيث الدقة في تفاصيلها وتكلفتها المالية. وانتقد بعضهم كفاءة وقدرات معدِي تلك الدراسات والتصاميم المفتقدة للمعرفة وواقع البلاد الجيوجرافي، ناهيك عن عدم وجود دراسات مسبقة للأثر البيئي والاقتصادي الذي سينجم عن المشروع سلباً وإيجاباً. 

في 29/4/2009، كتب المهندس عبدالله الصايدي مقالاً في صحيفة "الوسط" اليمنية على خلفية إطلاعه على تقرير لجنتي الخدمات والتنمية والنفط بمجلس النواب اليمني حول مشروع الطريق المزدوج (عمران – عدن)، (ملاحظة: هذه اللجنة هي المسؤولة عن دراسة المشروع في المجلس قبل تقديمه إلى التصويت).

قدم المهندس في مقاله ملاحظات كثيرة جيدة وصادمة في الوقت ذاته بخصوص الدراسات الخاصة بالمشروع وجدواه وإمكانية تنفيذيه ومعيقاته. أهم ما لفت انتباهي هو حديثه عن التكلفة التقديرية للمشروع، الباهظة والمبالغ فيها كثيراً.

وفي هذا الخصوص، أشار إلى أنه، ومن خلال التقرير الخاص بلجنة النفط والتنمية بمجلس النواب، ومن خلال مناقشات أعضاء المجلس "اتضح أن التكلفة الوسطية لكل كيلومتر لطريق (عمران – عدن) قد تصل إلى خمسة ملايين دولار (أي مليار ريال يمني) وبعرض 37.7 متراً تقريباً". وبالتالي – يضيف "فإن متوسط التكلفة – في المناطق الجبلية - قد تصل إلى عشرة ملايين دولار لكل كيلومتر (أي 2 مليار ريال)".

اعتبر المهندس الصايدي أن هذا المبلغ "خرافي بكل المقاييس"، موضحاً أن "التكلفة الحالية لطريق بعرض 40 متراً مع الأكتاف تصل إلى 150 مليون ريال (يمني) لكل كيلومتر على أبعد تقدير للطرق الحضرية".

وهذا بالطبع يثير الكثير من علامات الاستفهام والاستهجان في آنٍ؟!
ومع ذلك، فكاتب المقال لم يكتف بطرح المشكلة بدون تقديم المبررات التي أدت إلى رفع التكلفة إلى ذلك المبلغ الخرافي، بل قدم أربعة أسباب عميقة أدت إلى ذلك، لكنه أيضا قدم مجموعة مقترحات وحلول عملية - بحكم خبرته كمهندس – من شأنها أن تعمل على تخفيض التكلفة الإجمالية للمشروع من مليار و950 مليون دولار، إلى 600 – 800 مليون دولار فقط.

لست مهندساً مدنياً، وليست لي خبرة في هذا المجال، كما أني لا أعرف من هو هذا المهندس الذي كتب المقال، لكنِي من خلال إطلاعي على طرحه للأسباب ومقترحاته بالحلول المُمكنة وفق طريقة علمية تنم عن خبرة طويلة في هذا المجال، شعرت أن ثمة أموراً رهيبة مستترة من وراء هذا المشروع، هي بطبيعة الحال لا علاقة لها إطلاقاً بإتقان العمل شعوراً بالمسؤولية الوطنية، بقدر علاقتها برؤوس كبيرة جداً بالدولة من مسؤولين كبار ونافذين وسماسرة مقاولات  واستشارات، يقفون وراء كل ذلك الفساد المعلن صراحة في وجوهنا جميعاً دون أن تهتز لهم شعرة أو يطرف لهم جفن.

ومع ذلك، استمرت حكومتنا في سيرها البطيء جداً. وبين الحين والآخر برزت محاولات مستميتة لمسؤولين تمتدح تلك الدراسات التي تكشف عن ضخامة المشروع وتروج وتسوق له بامتداح الإعدادات والتجهيزات المسبقة الكاملة من كافة النواحي دون أن تنسى التعريج دائما على "فخامة الرئيس" الذي يولي أهمية خاصة لهذا المشروع.

في النهاية، نجحت الحكومة في إقناع الصندوق السعودي للتنمية بتوقيع عقود التمويل (من منح وقرض)، كما تم الإشارة إليه سابقاً، ومن ثم الحصول على مصادقة مجلس النواب على القرض في 24/2/2009.

ومن المهم الإشارة إلى أن مصادقة مجلس النواب كانت مشروطة بالتزام الجانب الحكومي ممثلاً بوزير الأشغال العامة والطرق المهندس عمر الكرشمي بتوصيات المجلس، التي أكدت على ضرورة "إنزال المشروع في مناقصة دولية بعد التأهيل المالي والفني المسبق للشركات الراغبة في الدخول في المناقصة، وبعد استيفاء جميع الدراسات الفنية والجيولوجية والتنفيذية وفق أحدث المواصفات العالمية في مجال تنفيذ الطرق الدولية، وتحرِي الدقة في إرساء مناقصة هذا المشروع على شركة ذات سمعة ممتازة وكفاءة عالية ولها خبرة سابقة في تنفيذ مشاريع مماثلة لهذا المشروع، وسرعة تعويض أصحاب المزارع والمنشآت القائمة على مسار خط المشروع التعويض العادل، وفقاً لقانون الاستملاك للمنفعة العامة، وحسم ذلك قبل البدء في تنفيذ المشروع واتخاذ الإجراءات والحلول لكافة المشاكل التي تعترض سير العمل وبما يضمن عدم توقف تنفيذ المشروع".

توحي تلك التوصيات البرلمانية بوجود مخاوف لدى أعضاء المجلس بأن الأمر سيتخلله "فساد كبير"، وأن ثمة احتمالية كبيرة لأن يتوقف المشروع، وهو شعور طبيعي قياساً بمعظم -إن لم يكن كل- مشاريع الطرقات التي تنفذها وزارة الأشغال.

بعدها مر – تقريباً - عامان إلا بضعة أشهر دون أن يعلن عن إحراز أي تقدم (عملي) في إطار المشروع. إذ وفي 24/12/2010، نشرت وكالة "سبأ" الحكومية الرسمية خبراً مفاده أن "وزارة الأشغال العامة والطرق أعلنت عن بدء الخطوات العملية لتنفيذ مشروع طريق (عمران- عدن) الاستراتيجي العام القادم بعد استكمال تأهيل المقاولين وإقرار وثائق المناقصة الخاصة بالمشروع".

وفي سياق الخبر، أكد وكيل الوزارة الدكتور عبد الملك الجولحي لـ"سبأ" أن المقطع الأول من المشروع (صنعاء - بيت الكوماني) البالغ طوله 97.2 كيلومتراً، سيبدأ تنفيذه خلال فترة ستة أشهر، منوها إلى ان وزارة الاشغال ستقوم باستقبال العطاءات المقدمة من المقاولين وتحليلها وبدء التنفيذ.

بل وأكد حينها أن "اللجنة العليا للمناقصات وافقت على وثيقة المناقصة للمشروع والمقاولين الذين تم تأهيلهم من وزارة الاشغال والصندوق السعودي للتنمية باعتباره الممول للمشروع".

لكن فترة الستة أشهر، تمددت هي الأخرى إلى قرابة عامين آخرين دونما إحراز أي تقدم (عملي) يُذكر، باستثناء إنزال إعلانات رمزية في الصحافة الرسمية عن طلب موظفين للمشروع ومناقصات للشركات الراغبة في التنفيذ، حتى إنه لم يتم البدء نهائيا في البحث عن عملية "استملاك الأراضي"، وتعويض أصحابها بحسب توصيات مجلس النواب، وتنفيذاً لما ورد في الاتفاقية بأنه "سيتم تعويض المواطنين الذين يمر الطريق عبر أراضيهم"، إلا أن تقرير الجهاز أكد أنه "لم يتم البدء بذلك حتى نهاية العام 2012".

الحكومة تتدخل.. وتحويل اضطراري
وبدلاً عن ذلك دخل المشروع – كما أسلفنا مقدماً – في خلافات حول إمكانية تنفيذه من عدمه.  وآنذاك، أشيع أن المشروع سيتوقف العمل به. ولأن حكومة التوافق الوطني الجديدة أصبحت معنية بإنقاذ هذا المشروع الإستراتيجي المهم شددت على ضرورة الاستفادة من المنحة والقرض ومواصلة تنفيذ المشروع بعد إعادة تقييم المرحلة السابقة واختلالاتها والرفع للحكومة بمقترحات عاجلة للتنفيذ، طبقاً لمصدر في رئاسة الوزراء. وشكلت لذلك لجنة وزارية بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 124 لعام 2012.

وفي 10/10/2012، اجتمعت لجنة التسيير؛ ناقشت المشروع، وقررت إلغاء المناقصة السابقة، الخاصة بتنفيذ المرحلة الأولى (صنعاء – بيت الكوماني)، وذلك بسبب أن الشركة الصينية الوحيدة التي تقدذمت بعطائها لم تكن تمتلك الضمان، ما يعني أن المناقصة "غير قانونية"، إلى جانب ذلك أشار تقرير الجهاز أيضاً إلى اشكاليتين أخريين هما: "صعوبة تنفيذ المرحلة الأولى، وكذا المشاكل المتعلقة بالتعويضات والأراضي".

وطبقاً لتقرير الجهاز، رفعت لجنة التسيير مقترحين للاستفادة من القرض والمنحة الخاصة بهذا المشروع، هما:

تنفيذ المقطع الرابع من المشروع (تعز - عدن) بدلاً من المقطع الثاني (صنعاء –ذمار - بيت الكوماني) للمبررات التالية:
الاستفادة من المنحة والقرض لهذا المشروع؛ لأن وثائق المشروع التعاقدية متكاملة وجاهزة للبدء بإجراءات المناقصة.

إمكانية استخدام هذا الجزء كنواة لجلب استثمارات خارجية لتنفيذ بقية مراحل المشروع.
وجود عقد إشراف مع شركة EGIS الفرنسية بحيث يمكن المباشرة بإنزال المناقصة فور الموافقة على المقترح.

لأن حجم المشاكل المتعلق بالأراضي والتعويضات من المقطع (تعز -عدن) ستكون أقل من المقطع الثاني (صنعاء – ذمار - بيت الكوماني).
في حال عدم إمكانية تنفيذ المقطع (تعز - عدن) أو عدم الموافقة فيتم إعادة هيكلة القرض والمنحة وذلك لتغطية تمويل عدة مشاريع طرق أخرى.

وأقرت لجنة التسيير رفع المقترحين إلى اللجنة الوزارية المشكلة من الحكومة لاتخاذ القرار المناسب إزاء المقترحين.

وفي 6/2/2013، وافق مجلس الوزراء على البدء بتنفيذ المقطع (تعز - الحوطة - عدن)، ومخاطبة الممول (الصندوق السعودي) للموافقة على ذلك.

وفي 3/4/2013، رفع الصندوق خطاباً إلى الحكومة بموافقته على البدء بتنفيذ هذا المقطع.

وفي 20/5/ 2013، التقى وزير الأشغال عمر الكرشمي رئيس وفد الصندوق السعودي للتنمية المهندس عبد الله الشدوخي وبحث معه "إجراءات إنزال مناقصة جديدة للمشروع".

وقال خبر وكالة "سبأ" إن اللقاء استعرض "آلية تنفيذ المرحلة الأولى لمشروع (تعز – عدن) بطول 85 كم، وكذا آلية إنزال مناقصة المشروع التنافسية العالمية المتوقعة خلال الأسبوعين القادمين بعد استكمال إجراءات موافقة اللجنة العليا للمناقصات والصندوق السعودي للتنمية".

ملاحظات:
المقطع الرابع (تعز – لحج – عدن) يبلغ طوله 140 كم، وتم تقسيمه إلى ثلاثة حقائب، هي:
 الحقيبة الأولى (الجند – الدريجة) بطول 42 كم.
الحقيبة الثانية (الدريجة - نوبة دكيم) بطول 43 كم.
الحقيبة الثالثة (نوبة دكيم – العلم) بطول 55 كم.

وقد تم الاتفاق على تنفيذ الحقيبتين الأولى والثانية (مجموع طولها الكلي = 85 كم)، بتمويل سعودي من القرض والمنحة بمبلغ وقدره 400.000.000 دولار، وهي التي تحدث حولها الوزير الكرشمي مع رئيس وفد الصندوق السعودي في خبر الوكالة المشار إليه أنفاً.

البحث عن ممول آخر للحقيبة الثالثة
نجحت الفكرة إذن، بيد أنه تبقى البحث عن ممول للحقيبة الثالثة من المقطع المذكور (المتمثلة بـ: نوبة دكيم – العلم/ بطول 55 كم).

فكرت الحكومة باللجوء إلى البنك الدولي لتمويل تنفيذ الحقيبة المتبقية، وكلفت وزارة التخطيط بالتواصل مع البنك الدولي للإسراع في الموافقة على تمويل تنفيذ الحقيبة المتبقية (نوبة دكيم - العلم) بتمويل من قبل هيئة التنمية الدولية بمبلغ 150.000.000 دولار، وبحيث يتم التواصل من قبل وزارة التخطيط والتعاون الدولي مع البنك الدولي للإسراع في الموافقة على تمويل الحقيبة الثالثة بطول 55 كم. (تقرير الجهاز المركزي).

وكان لقاء سابق، في 11 فبراير 2013، جمع وزير الأشغال الكرشمي بمدير قطاع الطرق بالبنك الدولي تريسياكارتر، للبحث في إمكانية تقديم التمويل لتنفيذ هذه الحقيبة. يقول خبر وكالة "سبأ" بهذا الخصوص إن المسؤول الدولي "أكد على ضرورة الإسراع في استكمال وثائق المناقصات لمشاريع الطرق وفقاً لمحددات البنك الدولي ولما من شأنه الاستفادة القصوى من المخصصات المتاحة لليمن من قبل البنك الدولي".

ونسبت وكالة خبر اليمنية لمصدر في وزارة الأشغال، قوله إن مسؤول البنك الدولي "أبدى استعداد البنك للمساهمة في تنفيذ خط "عمران - عدن" الاستراتيجي بعد استكمال الإجراءات الفنية اللازمة للمشروع".

لكن، مع ما سبق الإشارة إليه أنفاً من حلول وإجراءات إلا تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة أكد "أن البدء بتنفيذ تلك الإجراءات وإنزال مناقصة بديلة لم يتم حتى كتابة التقرير نهاية شهر مايو 2013".

بل تشير المعلومات التي جمعناها ميدانياً ومن الأخبار المنشورة أن هناك تعثرات وإعاقات جديدة تواجه تنفيذ هذه المرحلة البديلة برمتها.

فلاحقاً، بعد ذلك كله وبعد تأكيد تقرير الجهاز المركزي أن الإجراءات لم تبدأ بعد حتى نهاية مايو الماضي، حدث أن قدم وزير الأشغال للحكومة في اجتماعها الأسبوعي المنعقد في 30 يوليو الماضي، مذكرة تؤكد وجود مشكلة جديدة أمام التنفيذ.

طالبت المذكرة من الحكومة بالموافقة على "تسوية التعارضات مع مسار مشروع الخط الدولي المزدوج (عمران - عدن) - المرحلة الأولى المقطع (تعز – الحوطة - عدن) بطول 140 كم".

إذن فقد ظهرت "تعارضات جديدة محتملة" أمام تنفيذ تلك المرحلة، لم توضح مصادرنا في الحكومة تفاصيلها ولا طبيعتها.

ويؤكد خبر وكالة "سبأ" بهذا الشأن أن الحكومة شكلت خلال اجتماعها ذاك "لجنة مشتركة للنظر في تلك التعارضات المحتملة مع مسار مشروع الخط الدولي المزدوج (عمران - عدن)".

وتشكلت اللجنة الحكومية برئاسة وزير الاشغال العامة والطرق وعضوية كلٍ من وزير المالية ومحافظو تعز ولحج وعدن.

"ومن المقرر أن تنظر اللجنة في التعارضات المحتملة مع مسار الطريق بهدف تسويتها أثناء قيام وزارة الاشغال بتحديد مسار مشروع الطريق وتقديم المقترحات اللازمة للمعالجة ورفعها إلى مجلس الوزراء كلما استدعى الأمر ذلك"، طبقاً لخبر وكالة "سبأ".

مخالفات وفساد مالي
عوضاً عما سبق الإشارة إليه سابقاً من تخبط وفشل إداري ومخالفات فنية وقانونية، يتطرق تقرير الجهاز المركزي بشأن المشروع إلى فساد كبير ومخالفات أخرى كثيرة.

لعلً أهمها هو مسألة التعاقد مع الشركة الاستشارية الفرنسية (egis becom) للإشراف على أعمال تنفيذ الطريق.

بحسب التقرير، تم التعاقد مع هذه الشركة بـ  8 ملايين و480 ألفاً و853 دولاراً. وصُرفت لها دفعة مقدمة بـ184.498 دولاراً "رغم عدم البدء بالتنفيذ ولم يتم التعاقد أصلاً مع الشركة التي ستقوم بأعمال التنفيذ".

 إضافة إلى ذلك، يؤكد التقرير أنه "تم صرف فاتورتين للشركة تحت بند الإشراف على أعمال التنفيذ بـ184.498 دولاراً، وبالتالي فإن هذا المبلغ غير مستحق للشركة المذكورة ويجب استعادته".

ردت وحدة المشروع بأن "الشركة إيجيس الفرنسية باشرت فعلاً مهامها بحسب شروط العقد. ومن تلك المهام مراجعة التصاميم قبل البدء بالتنفيذ لتلافي أي أخطاء لم يتم حلها مقدما". يجعلنا هذا الرد نتساءل عن الأخطاء والتعارضات والتخبط الذي أشرنا إليه أعلاه بالتفصيل..!!

يبرر رد وحدة المشروع أيضاً "كما توجد ضمانات بنكية بقيمة الدفعة المقدمة وحسن التنفيذ، وقمنا بصرف الدفعة المقدمة للشركة المذكورة بحسب شروط العقد مع العلم أنه تم صرف (1.441.745) دولاراً من منحة المملكة العربية السعودية في عام 2009، ولم تنفذ عملية الصرف إلا في عام 2010 كدفعة مقدمة مقابل ضمان بنكي نتيجة لتأخر الصندوق السعودي بصرف المبلغ وبقية المبلغ صرف مقابل قيمة الفاتورة رقم (1) لنفس الشركة بمبلغ وقدره (137.196) دولاراً، وكل هذا يؤكد وجود خطوات جادة لتنفيذ مشروع الطريق".

وتلك تبريرات لا تزيد إلا أن تؤكد الاختلال الكبير الذي قامت به وحدة المشروع. يقول تقرير الجهاز المركزي إنه "ومن خلال رد الجهة وعملية المراجعة لوحظ أنه قد تم التسرع بالتعاقد مع الشركة الاستشارية للإشراف على عملية التنفيذ حيث تم التعاقد مع الشركة الاستشارية في عام 2009 وتم صرف دفعة مقدمة لها رغم أنه حتى تاريخ المراجعة في 31/5/2013 لم يتم البت بالمقطع الذي سيتم تنفيذه، أي بعد مرور مدة 43 شهراً من تاريخ التعاقد مع الشركة الاستشارية الذي تم في 14/10/2009".

إلى جانب ذلك، يتحدث تقرير الجهاز المركزي عن "المبالغة الكبيرة في الانفاق على مشروع الطريق خلال الثلاث سنوات (2009 – 2011) خاصة من المساهمة المحلية (بند نفقات التشغيل). حيث تم صرف مبلغ 308.710 دولاراً، وتمثل ما نسبته 100% من المبلغ المخصص لنفقات تنفيذ المرحلة الأولى رغم عدم البدء بتنفيذ المشروع"، مشيراً إلى أن وحدة المشروع ردت على ذلك بالقول: "إن ما تم صرفه هو مقابل مكافآت صرفت نظير جهود بذلت مع المشروع، ومن تلك الجهود مكافآت لجان تحليل العروض الفنية والمالية للشركات الاستشارية".

ولم يقتنع مدققو الجهاز المركزي بهذا الرد، واعتبروا في تقريرهم أنه "غير مقنع، نظراً للمبالغة الكبيرة في حجم نفقات التشغيل المنصرفة".

الموقف العام من التمويل حتى نهاية العام الماضي
أرفق الجهاز المركزي في تقريره جدولاً تفصيلياً يوضح الموقف العام من التمويل حتى 31/12/2012. وبشكل إجمالي عام فقد تم صرف "2.509.831" دولاراً، خلال الفترة من نهاية 2011، وحتى نهاية 2012. (أنظر الجدول المرفق هنا في هذا التقرير).

وفي تحليله للجدول المرفق، يعود التقرير للحديث عن المخالفات المالية الكبيرة التي ارتكبتها وحدة المشروع خلال الفترة الماضية، بينها الكشف عن أن إجمالي المبالغ المنصرفة للشركة الاستشارية الفرنسية (egisbceom) بلغت 1.880.669 دولاراً، تمثل دفعة مقدمة للشركة صرفت في عام 2010 بـ 1.696.171 دولاراً، والباقي 184.498 دولاراً يمثل قيمة فواتير دفعت للشركة الاستشارية للإشراف على المشروع "مع العلم بأنه - وكما تم إيضاحه سابقاً- لم يتم البدء بأي أعمال تنفيذية حتى تاريخ المراجعة في 31/5/2013".

وعليه – يضيف التقرر - فإن الجهاز يؤكد على توصياته السابقة بضرورة استعادة تلك المبالغ من الشركة الاستشارية، حيث لا توجد أعمال تنفيذية حتى يتم التعاقد مع شركة استشارية للإشراف على التنفيذ.

بل أكثر من ذلك، يشير التقرير إلى أنه ومن خلال مراجعة وثائق المشروع "لوحظ عدم تواجد الشركة الاستشارية في اليمن حتى إنه في تاريخ 9/3/2013 تم تكليف كل من:
عبد الجبار سعيد سالم         مدير المشروع
إبراهيم الكبسي                الوكيل المساعد لقطاع الطرق.
م.نبيل الحيفي        مدير عام التعاون الدولي.
م.محمد الكحلاني              مهندس عقود..
للسفر إلى دُبي للاجتماع بممثلي الشركة الاستشارية الفرنسية؛ وذلك بسبب عدم إمكانية قدوم ممثلي الشركة الاستشارية إلى اليمن خلال هذه الفترة (نظراً للإجراءات المشددة من قبل الحكومة الفرنسية فيما يخصص السفر إلى اليمن للفرنسيين نتيجة للأحداث التي قامت في اليمن مؤخراً وبالذات في عام 2011 وبداية عام 2012".

وبهذا الخصوص يخلص التقرير إلى القول "ومنه يلاحظ عدم الجدوى من استمرار التعاقد مع هذه الشركة الاستشارية نظراً لعدم قدرة كادرها الحضور إلى اليمن للإشراف على التنفيذ".

أضف إلى ذلك أن المخصص من المنحة لبند الخدمات الاستشارية محدد هو 4.00000 دولار، و 705.883 دولاراً مساهمة محلية، أي أن إجمالي المخصص لهذا البند هو 4.705.883 دولاراً فقط، إلا أنه تم التعاقد مع الشركة الاستشارية بـ8.480.853 دولاراً. أي بزيادة عن المبلغ المخصص بـ3.774.970 دولاراً، وبما نسبته 80% من قيمة المخصص. يقول التقرير "ولم توضح إدارة الوحدة كيفية تغطية هذا الفارق".

مبالغة كبيرة في الإنفاق على "لا شيء"
وضمن الفساد المالي يرفق التقرير أيضاً جدولاً آخر يوضح أن ما تم صرفه خلال الأعوام الأربعة الماضية على المشروع بلغ 440.553 دولاراً، مقدماً تفصيلاً أوسع لكل بند صُرفت عليه تلك المبالغ، والتي بلغت 18 بنداً.

ويمثل هذا المبلغ المصروف ما نسبته 115 % من قيمة المخصص المعتمد للمرحلة الأولى من المشروع كنفقات تشغيل، طبقاً للجدول المرفق الموضح لذلك.

وحول تلك البيانات يقدم التقرير ملاحظاته التالية:
المبالغة الكبيرة في الانفاق على مشروع الطريق خلال الفترة المنقضية (2009-2012) خاصة من المساهمة المحلية (نفقات التشغيل) رغم أن المشروع لم يبدأ تنفيذه بعد بالرغم من أن النفقات هي خاصة بنفقات تشغيل المشروع كنفقات مساعدة للأعمال الأساسية بالمشروع التي لم يبدأ تنفيذها حتى تاريخ المراجعة في 31/5/2013 بل لم يتم التعاقد مع الشركة التي ستقوم بالتنفيذ ولم يتم إنزال مناقصة التنفيذ.

احتل بند المكافآت المرتبة الأولى وبلغ ما تم صرفه 142,285 دولاراً، ويمثل ما نسبته 32% من قيمة نفقات تشغيل المشروع رغم عدم وجود العمل الذي تستحق عليه تلك المكافآت وهو التنفيذ الفعلي للمشروع، وبالتالي فإن المبلغ المشار إليه أعلاه يمثل هدرا للمخصصات المعتمدة للمشروع.

تم صرف 44.163 دولاراً بدل جلسات للجنة تسيير المشروع خلال الفترة محل المراجعة وبصورة ثابتة شهرياً رغم عدم عقد جلسات شهرية تستحق صرف البدلات ومع ندرة الجلسات سنوياً، بالإضافة إلى أن البدء بتنفيذ المشروع لم يتم بالتالي، فإن المبلغ صرف بدون وجه حق، ويمثل هدراً للمخصصات المعتمدة للمشروع.

حساب السلف والعهد:
بلغ رصيد هذا الحساب 2.918 دولاراً يمثل:
1.986             عهدة أمين الصندوق بقيمة إيرادات بيع وثائق المناقصات للمشروع
466                سلفة بنظر أمين الزيلعي (المدير المالي للمشروع).
466                سفلة بنظر عبد الله الخياط (مدير الحسابات للمشروع).
2.918             الإجمالي

ويلاحظ:
عدم تصفية العهد والسلف حتى 31/12/2012.
عدم توريد قيمة بيع وثائق المناقصات حتى 31/12/2012، والمفترض توريدها إلى حساب الحكومة العام.
والجهاز يُوصي بسرعة إخلاء وتصفية العُهد والسلف المشار إليها، وتوريد قيمة إيرادات بيع وثائق المناقصات إلى حساب الحكومة العام وموافاته بما تم.

خلاصة الأمر
كان مشروع طريق "عمران – عدن" الإستراتيجي يدخل ضمن أهدافه إنقاذ أرواح آلاف اليمنيين الذين يلقون حتفهم جراء حوادث الموت المجانية بسبب خطوط الطرقات الوعرة، الملتوية والضيقة (خطوط حلزونية بمسار واحد ذهابا وإيابا)، وعوضاً عن أنها أنشئت بعقلية بدائية تقليدية وغير مدروسة بطرق علمية أصبحت متهالكة ومنتهية الصلاحية. (طبقاً لإحصائية رسمية، أدت حوادث السير في اليمن إلى وفاة ٣١ ألفاً و٤٥٨ شخصاً من مختلف الفئات العمرية خلال فترة الـ12 سنة الأخيرة (2000 – 2012)، فيما أدت إلى إصابة ٢١٠ آلاف و٩٣٢ شخصاً, في الوقت الذي تسببت في خسائر مادية قدرت بحوالي ٣٤ ملياراً و٧٢٠ مليوناً و٩٠٩ آلاف ريال).

من الواضح إذنً أن أكبر وأهم مشروع حيوي إستراتيجي تحول من كونه مشروعاً سينعش اقتصاد نصف اليمن خلال الفترة القادمة (ثماني محافظات رئيسية تجمع أكثر من نصف عدد السكان، بواقع ما يزيد عن 12 مليون نسمة)، إلى إنعاش اقتصاد وحدة صغيرة في وزارة الأشغال طوال الفترة الماضية.

بل أكثر من ذلك، بدا - حتى الآن على الأقل - وكأنه سيتحول من مشروع جاذب للاستثمارات في اليمن إلى نكبة كبيرة على اليمنيين بفقدان ثقة المانحين الدوليين ليس فقط بقدرات الحكومة على استغلال المنح والقروض، بل أيضا بجديتهم ومسؤوليتهم الوطنية في تنمية البلاد الأكثر فقرا في الشرق الأوسط.

الحال الآن، خمس سنوات من مدة المشروع، ولم يتبق سوى ثلاث سنوات فقط على المحددة في اتفاقية تنفيذ المشروع بثماني سنوات، والسؤال هنا: إذا كانت الدولة، الحكومة، وحدة تسيير المشروع، أياً كان المسؤول عن ذلك لم ينجز شيئاً يُذكر خلال فترة الخمس سنوات الماضية، فهل سيمكنه أن ينجز المشروع كاملاً خلال فترة الثلاث سنوات المتبقية؟ 

بانتظار الإجابة العملية على هذا السؤال، دعونا نختتم تقريرنا هذا بالإحالة إلى ما انتهى به المهندس عبد الله الصايدي لمقالته المنشورة في صحيفة "الوسط" اليمنية في 27/4/2013، بخصوص المشروع.

كتب المهندس الصايدي: "فإذا كان مشروع طريق ذمار - الحسينية ينفذ منذ ثلاثين عاماً؛ وأرحب - حزم الجوف منذ 25 عاماً؛ وتعز - شرعب الرونة منذ 20 عاماً، وهي مشاريع صغيرة فإن المشروع الضخم المسمى طريق عمران – صنعاء – عدن سينفذ بهذا الاسلوب خلال قرنين على الأقل، وسينفذ خلال أطول فترة ينفذ فيها أي مشروع خلال التاريخ البشري قاطبة.."!!
-------------------------------------------
نشرت المادة في يومية "المصدر" لعدد يومي الخميس-السبت الموافق 19-21 ديسمبر 2013
وعلى موقع "المصدر أونلاين" السبت 28 ديسمبر ، على الرابط أدناه

الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

مشكلة «المؤتمر» اليوم


جاء انسحاب القوى المعتدلة وابتعادها عن الفعل السياسي المؤثر في الحزب لمصلحة سيطرة التيار التقليدي المشايخي سداً للفراغ، ما خلق حالة حزبية جديدة متفلتة برزت مساؤها مؤخراً.

مؤخراً تحول حزب المؤتمر الشعبي العام إلى ما يشبه كتلة "المحاربين القدامى", أولئك الذين يعيش معظمهم بقية حياته على ذكرى لذيذة تمنحه قوة البقاء والاستمرار والتفاخر، فيما قلة منهم يشعرون بالضيم والإهمال بالنظر إلى ما كانوا يمثلونه في السابق من أهمية وتأثير وقوة وبطولات وسيطرة.

هؤلاء القلة، قلة منهم يتمردون على واقعهم الجديد ويمارسون أعمالا تخريبية، إرهابية وعدمية أحيانا يهدفون من خلالها إلى لفت القيادات الجديدة إلى وجودهم هنا مهملين خارج نسق الحياة الجديدة، فيما أنهم مازالوا يتمتعون بالقوة والقدرة على عمل أشياء تعجيزية خارقة.

في أحد أفلام الأكشن الأمريكية، قام أحد الجنرالات القدامى بتجميع أفراد من فريقه الخاص الذين أحيلوا معه إلى التقاعد وأصبحوا جميعا مهملين في ظل القيادة الجديدة. نجح معهم في سرقة صواريخ كيماوية واختاروا مكانا استراتيجيا، قلعة سجن قديمة، في مدينة لوس أنجلوس (أصغر حجما من ريمة حميد)، ومن هناك مارسوا الضغط والابتزاز والتهديد على القيادة الأمريكية لمنحهم امتيازات بموجب اشتراطات مقابل وقف عملية تدمير المدينة. لكن أبطالا أمريكيين، وهذا ديدن هوليود، تمكنوا في نهاية المطاف من إفشال تلك الثورة الانتقامية المدمرة.

في الواقع، جاء انسحاب شخصيات ليبرالية وتكنوقراطية مدنية، تتسم بالعقلانية والاعتدال، من زمام الفعل والتأثير في حزب المؤتمر الشعبي العام (الحاكم سابقا، والشريك بنصف السلطة حاليا)، على رأسهم وأبرزهم الدكتور عبد الكريم الإرياني، عرّاب فكرة التجديد والتغيير داخل الحزب والقبول بالأمر الواقع للانخراط مجددا في العملية السياسية، ومعه - إلى حد ما- الدكتور أحمد بن دغر، وربما الدكتور يحيى الشعيبي وآخرون من نسقهم..

جاء لمصلحة عودة وبروز وسيطرة التيار التقليدي المشايخي القبلي العسكري في الحزب، على رأسهم – على سبيل المثال لا الحصر: الراعي، الشايف (الابن)، البركاني، دويد، حسين حازب، (وإلى حد ما) الزوكا...ومعهم نجل صالح، الذي ترك عمله كسفير في الإمارات وعاد للمشاركة في التشكيلة الجديده إلى جانب أولاد عمه المقالين من السلك العسكري والأمني والاستخباراتي.. وآخرون من منوالهم.

حتى بات من الواضح أن الفعل السياسي الوطني المعتدل داخل الحزب انحسر بدوره لمصلحة الأفكار التقليدية النازعة أكثر إلى خلق الأعداء والإبقاء عليهم لمجابهتهم، إحياء وامتثالا لفكرة القوة والتحدي والانتقام، تجسيدا لعملية الصراع والتعارك المستبطنة في عقلية مجتمع القبيلة. بل بالأحرى جزء القبيلة التي حكمت البلاد في السابق، وتشعر أن روح وأهداف الثورة الأخيرة استهدفتها هي بشكل خاص، واستهدفت فيها مشاعر العلو والزهو والغلبة والشجاعة..الخ معاني السيطرة تلك. والتي – كما يعتقدون - لزم لها أن تعود اليوم عبر الحامل السياسي المتاح، لاسيما وقد تراجعت وانحسرت فاعلية حاملي متعارضاتهم السياسية داخل الحزب من أولئك الذين كانوا يعملون كمياه تبريد ثقيلة داخل مفاعلهم الحزبي. 

لذلك ليس بمستغرب ما يحدث اليوم داخل هذا الحزب من سيطرة لتلك الحالة العشوائية المتفلتة، التي ظهرت مؤخرا بشكل واضح بعد لجوء رئيس الحزب، صالح، إلى منح تلك المشيخات التقليدية والعسكرية جزءا من سلطة التحكم معه في توجيه دفة الحزب خلال المرحلة القادمة، وذلك سدا للفراغ الذي خلّفه انحسار المعتدلين الممتلئين بحكمة التعامل السياسي المتزن مع متطلبات المرحلة الراهنة بقصد الاندماج مع المجتمع للعودة المستقبلية للحزب كحزب - وليس لاستعادة سيطرة زعيمه أو أحد أفراد أسرته - وفقا للقواعد الجديدة التي خلقتها المتغيرات الحديثة.

حتى أننا بتنا نلاحظ ما خلقته تلك الحالة الحزبية العشائرية الجديدة من نسق تصارعي مع الكل وضد الجميع، من خارج شبكة الموالاة الداخلية، وصولا إلى معاركه الأخيرة مع المجتمع الدولي (الذي ما زال بيده إمكانية قلب الطاولة واتخاذ اجراءات عقابية، قد تصل حد البحث والتنقيب في إمكانية استخدام الأدوات والتشريعات الدولية السحرية المستترة لإلغاء الفرصة الممنوحة بالحصانة، وإمكانية الإحالة إلى محاكمات دولية على جرائم إنسانية ارتكبت قبل وأثناء الثورة الشعبية الأخيرة).

وذلك الخطاب التشنجي، المشيخي، الذي ظهر في مجموعة البيانات الأخيرة الصادرة عن الحزب في مواجهة الأزمة (التي خلقتها – في الأصل - انحباسات هؤلاء في ثنايا رغبات شخص واحد وأسرته)، كالحديث – مثلا - عن حرص ممثل الأمم المتحدة في الحفاظ على البدل المالي الذي يتقاضاه وتوصيفه بالجنون..، والكثير من التصريحات الأخرى على شاكلة اتهامه بـ "تنفيذ أجندة صهيونية وأمريكية لتقسيم البلاد"، واستبعاث عبارات تآمرية قديمة كـ "المخطط الدولي للشرق الأوسط الجديد"!

كل ذلك وغيره، إنما يجسد هذه الحالة الجديدة التي تكشف عن ضعف واضح في التعامل السياسي الحصيف والمؤثر إيجابا، نزوعا إلى الخطاب التصارعي الحاد الذي لا يجيد مثلهم غيره، كون هذا هو مبلغهم من السياسة. بل السياسة في زمن ما بعد السقوط والوهن والوصاية الدولية. 

وليس أفظع من ذلك، سوى ذلك المنطق المشايخي الأهوج بمطالبتهم مجلس الأمن تغيير المبعوث الأممي! مع أن مطلبا كهذا يدرك مراهقو السياسة أنه لن يكون مرحبا به في منظمة عالمية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، الذي ليس فقط لم يلتفت إليه إطلاقا، بل ألقمهم ردا أصابهم في مقتل (سياسي) حين جدد ثقته بمبعوثه الأمين إلى اليمن، ودعاهم إلى التعامل معه بثقة. وبمثله أيضا جاء رد الأمين العام للأمم المتحدة.

بل أكثر من ذلك، عزز المجلس الدولي، أيضا، تفسيرات بنعمر لنهاية المرحلة الانتقالية، دون أن يحفل بتلك الرسالة الطللية المطولة والغريبة في العرف السياسي، التي بعثها حزب المؤتمر إلى أمين عام الأمم المتحدة ومجلس الأمن بشأن التشكيك بأمانة وتوجهات هذا المبعوث الدولي للمرحلة القادمة. (قال أحدهم إن حزب المؤتمر في رسالته تلك أراد أن يتعامل مع المجتمع الدولي وكأنه يتعامل مع شيخ قبيلة).

ولعل الإجماع الدولي الذي حظي به تقرير جمال بنعمر الأخير إلى مجلس الأمن، والذي سمّى فيه صالح بالاسم كمعرقل رئيسي، إلى جانب آخرين، وما نجم عنه من مضمون إيحائي واضح في سياق بيان مجلس الأمن، وكذا الإجماع الدولي - بدون أية اعتراضات من أحد - على التهديد باستعدادهم "لإعادة النظر في اتخاذ مزيدٍ من التدابير رداً على أي إجراءات من قبل الأفراد أو الأطراف الذين يهدفون إلى تعطيل عملية الانتقال"، لعل كل ذلك، كان دليلا كافيا على عدم التفات المجتمع الدولي إلى تلك التخرصات الطفولية الساذجة التي تورطت بها تلك القيادات المؤتمرية التقليدية.

كما أنها قد تبدو لتكون أيضا رسالة واضحة لتلك القوى الإقليمية التي تحاول حرف مسار العملية الانتقالية، بسعيها لدعم هذه الحالة التحولية على منوال ما حدث في مصر. 

ويمكنني أن أجزم بالآتي: لو كان ذلك التيار الليبرالي المعتدل، مازال في أتون الفعل والتأثير داخل الحزب، لما صدرت تلك البيانات الحزبية السامجة؛ ولنجحت في امتصاص حدة ونتائج تلك التصريحات العدائية المتفلتة؛ ولساعدت في تهدئة المواجهة المفتعلة مع المبعوث الأممي، وفي نهاية المطاف، لكان لها دور بارز، كالسابق، في تخفيف حدة التهديدات الأخيرة التي أطلقها مجلس الأمن.

جملة ما يمكن قوله، إن الخسارة التي مني بها الحزب بانحسار معتدليه، ستكون مكلفة كثيرا، ومن المتوقع أنها ربما تفضي إلى تخلفه عن الوفاء بالتزاماته السابقة أمام المجتمعين المحلي والدولي. وهذا بدوره سيؤثر كثيرا على مستقبل الحزب، الذي كان يرومه معتدلوه في إمكانية الاندماج مجددا في المجتمع والتأثير في العملية السياسية التوافقية.

وهذا التأثير لن يعمل فقط على تضعضع شعبيته (ظهر مؤخرا ليهدد خصومه بالعودة إلى قواعده الشعبية)، بل ايضا قد يتجاوز ذلك إلى إمكانية فقدان الثقة به كحليف رئيسي، ضمن مخطط القوى الدولية والإقليمية التآمرية الشاذة والراغبة في استعادة التوازنات في المنطقة والانقلاب على الثورة بثورة آخرى على الشاكلة المصرية.

يمكن التأكيد، هنا، إن الفوائد التي كان سيجنيها الحزب فيما لو أصغى لتياره العقلاني المعتدل بإحداث تغييرات داخلية جوهرية، بالتزامن مع مساره السياسي (الذي كان قد بدأه بالموافقة على توقيع المبادرة الخليجية) في الانخراط بفاعلية في العملية السياسية، كانت ستكون أكثر قيمة وتأثيرا على مستقبله السياسي ومستقبل البلاد، من تلك التي يعتقد أنه قد يجنيها فيما لو انقلب على هذه العملية التوافقية في نهايتها، محملا بوهم إمكانية عودته بالطريقة المصرية. 
-------------------------------------
نشرت المادة في يومية المصدر بتاريخ 4 ديسمبر 2013