الأربعاء، 14 مارس 2012

هكذا يصنع الديكتاتور «هادي»


مظاهر التماهي بقيم المتسلط السابق وأسلوبه الحياتي تبعث مخاوف البعض من صناعة «متسلط» آخر جديد


عبد الحكيم هلالa.hakeem72@gmail.com
كان الرئيس عبد ربه منصور هادي، على ما يبدو، نهب مخاوف وتوجسات قاتلة مبعثها احتمالية حصوله على نتيجة انتخابية "مخزية" غير مشرفة، من شأنها أن تضن عليه بالفخر والاعتزاز؛ وتبقيه خجلا ومفتقدا للقوة خلال العامين القادمين من فترته الرئاسية.

على العكس حصد الرجل من الأصوات فوق المتوقع. وفي أكثر من خطاب له، بعد انتخابه، بدا أنه يظهر بهالة جديدة، متشحا وشاح النصر. ولقد كان يحلو له أن يتحدث عن شرعية الشعب التي أكسبته إكسير القوة للتحكم في مستقبل البلاد.

الذين يشخصون سلوك الرئيس الجديد بإسناده إلى الماضي الذي جاء منه - كنائب سابق لرئيس شمولي ظل شطرا كبيرا من سنوات حكمة الـ 34 حريصا على صناعة نفسه بقهر كل من حوله كي يبقى هو فقط الرجل الأقوى، المتسلط دون منازع، يعتقدون بإمكانية تلبس وسيطرة حالة القهر على النائب السابق، الرئيس الجديد، أمام قوة التسلط التي فرضت عليه من المتسلط؛ الحاكم القوي؛ ولي نعمته الأول، ومانحه المكانة والجاه وكل ما هو عليه، والذي لولاه ما كان له أن يكون شيئا يذكر. بل حتى أنه هو من وجه الشعب لانتخابه. كما أراد أن يوعزه هو [المتسلط السابق] من خلال خطاباته الأخيرة بهذا الخصوص.

وهنا تتجسد فكرة العلاقة بين المتسلط والإنسان المقهور. بحسب الدكتور مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الاجتماعي – مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور". فالمقهور "..لا يجد سوى الرضوخ والتبعية، سوى الوقوع في الدونية كقدر مفروض"

"ومن هنا شيوع تصرفات التزلف والاستزلام، والمبالغة في تعظيم السيد، اتقاء لشره أو طمعا في رضاه.." يواصل المؤلف. وبعد عدة مراحل يقدمها، يوصلنا إلى مرحلة يسميها: "تماهي المقهور بقيم المتسلط وأسلوبه الحياتي" والذي يصل الأسلوب في هذه الحالة أخطر درجاته.."من خلال رغبة الإنسان المقهور في الذوبان في عالم المتسلط، بالتقرب من أسلوبه الحياتي وتبني قيمه ومثله العليا"..

يقتضي التنويه، أن المؤلف، فيما سبق، كان يتحدث عن المجموع (الشعوب المقهورة من سيدها، حاكمها المتسلط)، وهو أمر ينطبق بالضرورة على كل فرد بذاته. وتكون نسبة انطباق النظرية أكثر من غيرها في الدائرة الأكثر قربا من محيط المتسلط.
بالنسبة لهادي، فمن يعرفونه جيدا يزعمون بأن الأمر، ربما، ليس على ذلك النحو تماما. من حيث أن الرجل ظل غالبا يفضل البقاء بعيدا عن دائرة المتسلط شديدة الجاذبية. حتى مع ما يفترضه العكس بكونه كان الرجل الثاني، إلا أنه – في واقع الفعل - لم يكنه على الإطلاق. وهذا من شأنه أن جعله، ربما، أقل من غيره تزلفا وتمسحا مقارنة بالمحيط الرئاسي المخصص أكثر من أي مكان آخر لحاملي تلك الصفات القهرية. على أن هذا لا ينفي عنه – بالضرورة – كونه أحد المقهورين.

ومع ذلك، يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل: هل كان النائب المقهور يشعر بدونيته وضعف مكانته الحقيقية مقارنة بموقعه الرسمي، ولاسيما حينما كان يحضر مجالس الرئيس السابق ويشاهد غيره من المقهورين وهم يتمسحون ويتزلفون ويبالغون في "تعظيم السيد، اتقاء لشره أو طمعا في رضاه.."؟.

الإجابة على هذا التساؤل تفضي بنا إلى الحديث عن كيفية "صناعة الديكتاتور" في مصنع يعمل به المقهورون. ومعه قد يساعدنا ذلك إلى معرفة نسبة التماهي المحتملة بقيم المتسلط وأسلوبه الحياتي. ثم ليبعث ذلك مخاوفنا أكثر، أو ليطمئننا من أننا إزاء أو لسنا إزاء "متسلط" جديد؟

إن صور الرئيس الجديد، التي فرضتها العملية الانتخابية، وغطت كافة شوارع الجمهورية والأماكن العامة، ما زال بقاؤها حتى الآن يذكرنا بنفس الطريقة والأسلوب والإخراج والبذخ الذي شكل جزءاً من حياة المتسلط السابق. ويقال إن الديكتاتور يشعر بسعادة غامرة حين ينظر إلى نفسه في كل مكان يمر به. وإن فكرة فرض مثل تلك الصور غالبا ما كانت تأتي بداية من قبل ناصحين متزلفين أو متمصلحين من إضفاء مزيد من الشعور بالسعادة لدى المتسلط.

وإن أحد مباعث التخوف، هو: أن الطاقم السابق من المقهورين المقربين، بدأ مباشرة، وبشكل سريع، وبحرفية بمهنته التزلفية مع الرئيس الجديد. ظهر ذلك على شاشات التلفزيون المتغنية به، والممجدة له، وعلى صفحات الجرائد الرسمية باستبدال الإضاءات اليومية باسمه. وكما برز ذلك باستبدال البعض اسم "الصالح" باسم "الهادي"، فقد ظهر أيضا بالتقرب والتمسح والمبالغة في التعظيم، وتكلل بتطوع البعض في إسداء النصائح الخاصة والتسابق إلى مرافقته في تحركاته ومحافله الرسمية..الخ.

وكان أحد المصادر الخاصة، في دار الرئاسة، أكد لي، باستهجان: أن ثمة من يحاول أن ينقل ويحاكي العهد السابق من خلال إحياء وتجسيد بعض المظاهر القديمة في دار الرئاسة خلال الأيام القليلة الماضية. وعلى سبيل المثال: صور الرئيس الجديد الكبيرة والباذخة نشرت على نطاق واسع لتغطي معظم الأماكن هناك. ونجل الرئيس وسكرتيره الصحفي حضرا بهدف إعادة تأهيل المسبح وحمامات السونا والبخار النوعية وباهظة الثمن..الخ. ناهيك عن ملاحظات استفزازية أخرى، منها: حضور طاقم كبير من البلاد والقبيلة معه إلى الدار، والتصرف بطريقة باعثة على التقزز..!

كل تلك الأمور، بالطبع، لا ترقى إلى درجة الخطورة المقلقة. فمن حق الرئيس الجديد، الذي أشيع ولعه بالسباحة، أن يعمل كل ذلك دون ملامة من أحد، بيد أن ما يثير حفيظة المنتقدين هو شعورهم بنسبة – ولو أنها ضئيلة جدا - من التماهي الحياتي مع عهد المتسلط السابق. مما يذكر إلى حد ما بسياسات المصنع السابق. ولعل ما يفرض حساسية أكبر ويدعو إلى تسليط الضوء عليه أكثر، كونه جاء على أنقاض رفض الشعب الثائر لمسالك ذلك العهد المشبع بالبذخ والفساد.

وبالتالي فإن أي توجه – حتى إن كان طبيعيا بريئا وغير مستفز – وفقط ان يكون مشابها، فمن شانه أن يذكر بالماضي البغيض، في الوقت الذي يثير مخاوف البعض من إمكانية السير نحو إعادة صناعة ديكتاتور جديد آخر.
إن كل ديكتاتور، متسلط، غالبا لا يبدأ بكونه كذلك. غير أن صناعته تبدأ بتلك الطريقة المشابهة: تبدأ بمظاهر بسيطة من التبجيل والتطبيل والمبالغة في التعظيم، لتضفي لاحقا شعورا بالعظمة والذكاء والقوة والتفرد، ومن ثم – غالبا – ما يقود ذلك إلى استمراء الواقع الجديد المزيف، والذي يفضي بدوره إلى سيطرة شهوة السلطة والتسلط، ومن ثم، من شأن ذلك أن يفرض عليه استملاء المتمسحين والمتزلفين وشراء الخبراء والمستشارين للتخطيط والمساعدة في الحفاظ على التسلط والقوة، ما يجعل الفساد يستشري..الخ، لينتهي الأمر بتخليق وصناعة ديكتاتور خالص لا يمنعه شيئا عن القمع والقتل والظلم..حفاظا على سلطاته.

المصدر أونلاين 
--------------------------
نشرت في صحيفة المصدر الأسبوعية العدد 196 بتاريخ: 6 مارس 2012


الأحد، 4 مارس 2012

السير على فوهة بركان متفجر


إعادة هيكلة الجيش كبؤرة لتفجير الصراع مجدداً


عبد الحكيم هلالa.hakeem72@gmail.com
عكست الطريقة التي تابعناها ومضامين التصريحات التي أدلى بها الرئيس السابق عقب وصوله صنعاء، قادماً من رحلته العلاجية الأخيرة، شعوراً ما يوحي أن الرجل قرر جدياً التسليم بالأمر الواقع. ولعل أهم ما أوحى بذلك حديثه المكتوم عن قيادة واحدة وسيف واحد في غمد واحد، وضرورة تكاتف الجميع وتعاونهم مع الرئيس الجديد المنتخب..الخ

ذلك ما تبادر، لأول وهلة، إلى ذهن أحد الأصدقاء بعد سماعه الخطاب.

حسناً، هذا أمر جيد. ولعله سيتيح للرئيس اليمني المنتخب، ولحكومة الوفاق الوطني، ولليمنيين بشكل عام، مساحة مناسبة من العمل بعيداً عن المؤامرات والضغوط النفسية. وسيمكنه تكثيف الجهود للتوصل إلى صيغة محترمة للتخلص أولاً من الملفات الواقعة على ألغام متفجرة، تلك التي خلفها الرجل على مدى السنوات الـ34 التي حكم فيها البلاد. ما سيعني بالطبع أن ذلك سيساعد كثيراً على بناء اليمن الجديد الذي حلمنا به جميعا.

بيد أن ثمة متشائمين ممن يعتقدون أنهم على وعي جيد بسلوك وطباع الرجل، مازالوا يشككون بإمكانية أن يحدث ذلك. ولأن صالح –على سبيل المثال– أصر على أن يعود على ذلك النحو (من الواضح أنه مازال يعاني وضعاً صحياً متدهوراً)، ولأنه، إضافة إلى ذلك، حرص بعودته العنيدة تلك -إلى جانب ما تضمنته عبارات أخرى في سياق تصريحاته- على أن يوجه رسالة مزدوجة للمناوئين له ولأنصاره اليائسين، أراد من خلالها الإيحاء بأنه ما زال قوياً وقادراً على مواصلة المواجهة بطرق أخرى..

لذلك وغيره، فإن هؤلاء المتشائمين لا يستبعدون أن يكون ثمة ترتيبات ما قد تم أعدادها مسبقاً من قبل صالح وأسرته ومعاونيهم لخوض مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية المبكرة.

حتى الآن لم تتضح بعد ماهية تلك الترتيبات؟ إلا أنه يمكن لأولئك التبؤ بأنها، بدرجة رئيسية، ستعقد مسار المرحلة الانتقالية الثانية وتدخلها في متاهات جديدة، ومن المتوقع جداً أن تعرقل الجهود الدولية الحالمة بتوجيه وتسيير المبادرة الخليجية وآليتها المزمنة في مسارها الصحيح خلال السنتين القادمتين!

إن مسألة إعادة هيكلة الجيش تبدو الميدان المثالي، ومن المتوقع أن تشكل البؤرة لبداية جيدة لإثارة الفوضى. صحيح أن المبادرة وآليتها التنفيذية جعلت من هذه المسألة ركناً أساسياً خلال المرحلة القادمة، بل وحددت بهذا الخصوص مجموعة أسس ومعايير لعمل الرئيس المنتخب، واللجنة العسكرية المعينة تحت قيادته، لإنجاز هذا الأمر.. إلا أن ثمة مخاوف جدية بشأن هذه المسألة. وهناك مؤشرات أولية توحي بوجود تعارض عميق في التفسيرات والتوجهات بخصوص إعادة الهيكلة، تعمل على تعزيز تلك الشكوك والمخاوف.

وتتباين التفسيرات والتوجهات بين: ما تفترضه المبادرة وآليتها شمولاً في هذا الجانب (على اعتبار أن إعادة هيكلة الجيش إلى جانب أنها تهدف إلى إزالة بؤر التوتر الرئيسية والتابعة لأطراف النزاع، فإنها أيضا تتوجه إلى بناء جيش قوي مؤسسي تحت قيادة مدنية)، وبين ما يفترضه التفسير الخاص لصالح وأولاده في قيادة الجيش بناء على توجهاتهم المستقبلية ورغباتهم الخاصة لما يجب أن تكونه عليه الهيكلة بعيداً عما يرونها «خطوطاً حمراء»..!

يعتقد البعض بأنه من غير المستبعد بأن ثمة وعوداً ما قطعت بهذا الخصوص من أطراف خارجية مؤثرة، وفقاً لترتيبات خاصة توخت تأمين مصالح الطرفين المستقبلية. لكن وحتى الآن، لا يمكن البناء على تلك التأويلات التي تقيم صلبها على فرضيات، يمكن القول بأنها لم تتأكد بعد. ومع ذلك، سيكون من الغباء، أيضا، التغاضي عن تلك المؤشرات، التي قد لا تؤكد بالضرورة وجود مثل تلك الوعود والترتيبات، إلا أنها حتماً تحذرنا من حقيقة وجود مثل ذلك التباين في التوجهات العامة القائمة على اختلاف وجهات النظر التفسيرية. ومنها، على سبيل المثال، تلك التصريحات التي استبقت الانتخابات بأسبوع واحد من جهة أحد نواب أحمد علي صالح في الحرس الجمهوري، والتي أكد فيها بأن نجل الرئيس السابق لن يغادر موقعه وأنه باق على رأس الحرس الجمهوري لـ «يضرب بيد من حديد على رؤوس البغاة والمرجفين والمخربين أينما كانوا..». وحذر كل من يقترب من هذه المواضيع، باعتبارها «خطوطاً حمراء»..!

أضف إلى ذلك، أن شخصاً مثل صالح، ناهيك عن أن صحته مازالت بائسة، ما كان له أن يقرر العودة هكذا لممارسة العمل السياسي -كما قد زعم مراراً- دون أن يكون قد ضمن بقاء القوة التي ستسنده في مواجهة نسبة ما زال لا يمكنه الاستهانة بها من شعب ثبت أنه يحمل إرادة لا تقهر بعد أن خرج إلى الشوارع وظل فيها لأكثر من عام مطالبا برحيله، بل ومازال هناك حتى الآن رافضاً ترك الساحات قبل تحقيق بقية أهدافه ومطالبه بمحاكمته، وقبل أن يتحقق من رحيل بقية أفراد أسرته وبقايا نظامه!

وإذا ما حدث ذلك بالفعل: بقاء صالح لممارسة العمل السياسي مع بقاء أبنائه وأبناء أخيه في مواقعهم في الجيش والأمن والاستخبارات، فإن الرئيس الجديد سيكون في الواجهة، كأول المتضررين. إنه لن يستطيع القيام بما يتوجب عليه في تنفيذ بقية نصوص المبادرة وآليتها التنفيذية: لا في إعادة هيكلة الجيش كما يفترض: على أسس وطنية، وفقا للمعنى الجوهري الذي تقتضيه المبادرة في إيجاد حلول نهائية، ولا أيضا في فكفكة بقية تلك الملفات الموروثة الملغمة. وبشكل عام، لن يكون بمستطاعه تحقيق شعاره الانتخابي «من أجل بناء يمن جديد».

في مقال له نشره على مدونة تحمل اسمه ومخصصة لليمن على موقع (bigthink)، تساءل الكاتب الأمريكي، المتخصص في الشأن اليمني، جريجوري جونسون، مستهجناً: «.. ومع كل ما حدث، فما هي الفائدة المرجوة من تغيير الرؤساء إذا كان الرئيس السابق مازال قادراً على ممارسة سلطاته من خلال عائلته المسيطرة على الجيش؟».

وعند أسوأ الاحتمالات، هناك من يتحدث حول إمكانية البدء بهيكلة ومأسسة المؤسسة العسكرية في حدودها الدنيا مع تأجيلها في القمة إلى ما بعد الانتهاء من مؤتمر الحوار الوطني الشامل، الذي من المفترض أن ينجز خلال فترة العامين القادمين بهدف حلحلة ملفات القضية الجنوبية وصعدة، وكافة القضايا الأخرى العالقة والموروثة من عهد الرئيس السابق بما فيها ملف التدهور الاقتصادي.

إن عملية إعادة الهيكلة ستتطلب تأنياً، ومدة زمنية طويلة قد تستغرق سنوات، في إطار إستراتيجية مدروسة بعناية فائقة تشمل كافة الجوانب بهدف تأسيس مؤسسة عسكرية متينة على أسس وطنية تنتهي لتكون في نهاية المطاف تحت يد قيادة مدنية. ذلك، إجمالا، ما أمكن تلخيصه – بهذا الخصوص - على لسان السفير الأمريكي في آخر مقابلة له مع صحفي البريطاني توم فيين، ونشرت الجمعة الماضية.

ومن خلال الاطلاع على تفاصيل تلك المقابلة، ربما كان سهلا علينا أن نكتشف محاولة السفير في التهرب من سؤال الصحفي: هل تتوقع بأن يتخلى أقارب الرئيس صالح عن مواقعهم في السلطة، وإذا كان الأمر كذلك، فمتى تعتقد حدوثه؟

ومع أن السؤال كان مباشراً، إلا أن السفير لم يجب عليه بطريقة مباشرة. ومع أن إجابته احتلت مساحة كبيرة (230 كلمة باللغة الإنجليزية)، إلا أنه لم يقترب من الإجابة المطلوبة، إلا في نهايتها وبطريقة غير مباشرة زادت من التعقيد والتشكيك أكثر. فالسفير الذي نوه، بداية، على أنه يتوجب النظر إلى القضية باعتبارها قضية مؤسساتية، اختتم بالقول «ونحن نعتقد بأن المسائل المتعلقة بالأشخاص سترتب كجزء من المؤسسة..».

ولكن، هل سيكون ذلك ممكنا؟ هل من الممكن مثلا أن تحل قضيتي الجنوب وصعدة قبل إعادة مأسسة وهيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية؟ وماذا بشأن من يعتقد بالعكس تماما؟ خصوصا وأن هناك تشكيكات واتهامات تنسب لبعض القيادات العسكرية التابعة لأسرة صالح ضلوعها في تمويل العمليات المسلحة في الجنوب وصعدة وما جاورها؟ ربما صحيح، أن الأمر لا يعدو عن كونه مجرد تأويلات، لكنه من ناحية أخرى يرسم معالم الصورة القاتمة والمقلقة التي سنظل نشهدها طوال الأيام القادمة: فكلما سيحدث حادث سيجد له تأويلاً على ذلك النحو، طالما ظلت القيادات العسكرية والأمنية والاستخباراتية نفسها في مواقع المسؤولية ذاتها!

ولعل من يشككون ويتهمون لديهم مبرراتهم. فلمصلحة من توتر الأجواء بعد رحيل صالح بالقوة؟ وبالتالي: ألن تضل تلك القيادات تسعى – من خلال السلطات التي تمتلكها - إلى إحداث مزيد من الاختلالات، وتقديم التسهيلات لتوسيعها، وخلط الأوراق لإضفاء مزيد من التعقيدات..؟ إن هذا بالضرورة سيدفع إلى توقف - أو على الأقل تأخير- مسألة الهيكلة؟ وإذاك قد يحدث الانفجار في أي لحظة، ساعة بلوغ درجة الحرارة الحرجة؟

في الدول المضطربة المهددة دائما بالحروب الأهلية، والتي تمر بمرحلة تحول نحو الدولة المدنية الحديثة، يؤكد رالف إم. غولدمان، مؤلف كتاب «من الحرب إلى سياسة الأحزاب»، بأن الأولوية فيها تبدأ بمركزة المؤسسة العسكرية قبل كل شيء، أي مأسستها وجعلها محكومة بقيادة مركزية، هي في نهاية المطاف تؤول إلى سيطرة مدنية. إن غولدمان ظل دائماً في كتابه يشدد على أن الدول التي تظل مؤسساتها العسكرية منقسمة تظل مهددة بشبح الحروب الداخلية، وأنها لن تتخلص من ذلك الشبح ما لم تبدأ بمأسستها وجعلها تحت قيادة مركزية واحدة وتحويلها إلى مؤسسة قوية ومتينة على أسس وطنية بقيادات عسكرية وطنية كفوءة..

واليوم، في اليمن، مع ما حدث من تهدئة وإنجازات كبيرة ومهمة خلال المرحلة الانتقالية الأولى، إلا أن شبح الحرب مازال قابعاً بالقرب يطل برأسه بين الحين والآخر، طالما ظلت المؤسسة العسكرية منقسمة، فيما مازال أولاد صالح وأبناء أخيه على رأسها على الرغم من تتزايد الأصوات المطالبة بضرورة إقالتهم بأسرع وقت.

يوم الاثنين أصدرت اللجنة التنظيمية للثورة الشعبية اليمنية السلمية بياناً أكدت فيه على مطالبها خلال المرحلة القادمة. وعلى رأسها يتربع هذا المطلب: «إعادة هيكلة الجيش وإقالة جميع رموز عائلة صالح وأقاربه من جميع المؤسسات العسكرية والأمنية..»، بل أخطر من ذلك، ربط البيان بين تنفيذ هذا المطلب والحوار الوطني، من حيث أنه اعتبر تنفيذه «مدخلاً لأي حوار وطني قادم».

ولقد كان يمكن اعتبار ما حدث مساء الجمعة قبل الماضية من ردة فعل عنيفة على صفحات الفيس بوك كمقياس معياري للحساسية البالغة من هذا الأمر. مساء ذلك اليوم، غرق الفيس بوك بتصريحات منسوبة للسفير الأمريكي مفادها: بأن نجل صالح، قائد الحرس الجمهوري، وعلي محسن الأحمر، قائد الفرقة الأولى، سيحتفظان بمواقعهما العسكرية. حينها، عندما شعر الشباب بما يشبه الخديعة صبوا جام غضبهم على الصفحات الإلكترونية لموقع التواصل الاجتماعي، حتى أنك لم تعد ترى أمامك شيئا سوى الغضب، الاستنكار، الرفض، دعوات التصعيد وكيل الاتهامات.

في الواقع، لقد أخطأ موقع إلكتروني في ترجمة تلك الأجزاء من مقابلة السفير الأمريكي مع الصحفي البريطاني توم فين، ليعود لاحقاً وينشر المقابلة كاملة بترجمة صحيحة تقدمها اعتذار كبير على الخطأ.

ومع ذلك، فإن ما حدث وما نتج عنه من مطالب، منها على سبيل المثال: الدعوة لمسيرات تصعيدية كبيرة، المطالبة بضرورة طرد السفير، تجريم المبادرة ورفضها، رفض التدخل الخارجي، وضرورة تصعيد الفعل الثوري.. وكذا من تخوين واتهامات غاضبة للأطراف الحزبية التي وقعت المبادرة..الخ. كل ذلك وغيره الكثير، لا يمكن اعتباره إلا مؤشراً مهما ونموذجاً مبسطاً وخطيراً لما يمكن أن تؤول إليها الحالة - في أي لحظة انحراف - من اشتعال وانفجار في ظل أجواء مازالت متوترة.

لقد شعر البعض أن العملية السياسية بدأت بالانهيار أو أنها قاب قوسين أو أدنى من ذلك. لولا أن سارع بعض المجيدين للغة الإنجليزية بإنزال تأكيدات بوجود خطأ في الترجمة، الأمر الذي أثار حفيظة الكثيرين ضد الموقع حتى شعر بالخطأ ليتداركه لاحقاً. لكن ومع ذلك، فحتى مع اكتشاف الخطأ والاعتراف به وتداركه، إلا أنه مازال هناك من لم يقتنع، ومازال حتى اللحظة يشكك ويفسر ما نشر على أنه لم يكن سوى تسريبات مقصودة لمحاولة جس النبض.

وعليه، ولمواصلة النجاح والحفاظ على سلاسة وشفافية وسلامة العملية السياسية، ربما سيكون لزاماً على المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي الفاعلة والمؤثرة، إثبات مزيد من حسن النوايا والجدية في تحقيق ما تبقى من تطلعات الشعب اليمني، الذي تنازل وقبل بالحل السياسي على مضض لتجنب إراقة الدماء، آملاً في بناء يمن جديد، يبدأ أولا بقطع صلته بالماضي وكل من تورط فيه.

وإن دعم الرئيس الجديد معنوياً ولوجستياً لن يكون كافياً للمحافظة على أجواء هادئة، ولا حتى في ضمان وتأمين عدم انحراف المبادرة عن مسارها الصحيح، بل سيتعين عليهم أيضاً – وربما بشكل عاجل - الوقوف بحزم في مواجهة تلك التصريحات والتسريبات الاستفزازية من أي طرف حول كل ما يتعلق بالترتيبات الخاصة لمسألة إعادة هيكلة الجيش، وذلك لدرء أية محاولات مستقبلية تهدف إلى توتير الأجواء وإحداث شروخ وانقسامات داخلية بعد توحد اليمنيين بإجماعهم على رئيس جديد. وإن ذلك قد يلزم، وبشكل عاجل، البدء بحديث صارم لا يقبل التأويل مع تلك القيادات بخصوص مفترضات المبادرة الخليجية فيما يتعلق بمسألة إعادة هيكلة الجيش.

وأخيراً، وحتى ينجح المجتمع الدولي الوسيط في تعزيز ثقة الشعب اليمني إزاء مقاصدهم النبيلة في مساعيهم بهذا الخصوص، فعليهم أن يشرعوا مباشرة في مسألة إعادة الهيكلة، وإنجاز خطوات أولية عملية وملموسة. الأمر الذي سيساعد، إلى حد ما، على تجنب التعامل مع أية تسريبات تشكك بوجود أهداف وترتيبات خاصة.

وما لم يحدث ذلك كله وبشكل عاجل، فإن كافة السيناريوهات المخيفة ستظل مفتوحة على مصراعيها، وأن حدوثها لا يعدو عن كونه مسألة وقت لا أكثر. 

------------------------
نشر الموضوع في صحيفة المصدر الأسبوعية - العدد 195 - بتاريخ 28 فبراير 2012