الأربعاء، 25 يونيو 2014

اليمن.. مسارات الحرب السابعة



بدأت الحرب في جزء من محافظة صعدة عام 2004 بين النظام السابق وجماعة الحوثي الفكرية، ذات المذهب الزيدي الشيعي، لتستمر بعدها ست جولات انتهت في 2010 بتوقيع اتفاق بين الطرفين.
مع بداية الحرب، كانت الجماعة تقاتل دفاعا عن حقها في اعتناق ونشر مذهبها الذي اعتقدت أنه أُقصي من الحياة بعد عقود طويلة من الحكم. لكنها حين توقفت كانت الجماعة قد تحولت من حركة فكرية مذهبية إلى مليشيات مسلحة.

الإصلاح ضد الحرب
مع انطلاق الحرب الأولى، كان حزب التجمع اليمني للإصلاح، ذو التوجه الإسلامي المعتدل، قد أصبح حليفا لمجموعة أحزاب يسارية وقومية ومذهبية، بينها أحزاب زيدية المذهب، في إطار تحالف "اللقاء المشترك".

عبثا، حاول النظام السابق أن يقحم حزب الإصلاح في معاركه تلك. بيد أنه ظل متمسكا برفضه فكرة الحرب في مواجهة الفكر، أيا كانت تشوهاته.
"مع تحالف المشترك غالبا، ومنفردا أحيانا، رفض الإصلاح منهجية الحرب والعنف، ودعمت وسائل إعلامه حقوق الحوثيين الفكرية، وانتقدت سلوك النظام في قتل الأبرياء ومحاولات سحقهم"
ومع تحالف المشترك غالبا، وبشكل منفرد أحيانا، أصدر الإصلاح بيانات رافضة لمنهجية الحرب والعنف. وشاركت وسائل إعلامه، وأيضا أحزاب المشترك، في دعم حقوق الحوثيين الفكرية، وتشنيع وانتقاد سلوك النظام في قتل الأبرياء ومحاولات سحقهم.

حدث ذلك حتى مع ما تخلل تلك الحروب من شكوك في نوايا أطرافها، اتضحت لاحقا في وقت متأخر، من رغبة مشتركة في تطويل أمدها، بهدف مواصلة الحصول على دعم.

فالنظام يسعى لمواصلة الدعم من الجيران القلقين من توسع نشاط حلفاء خصومهم التاريخيين، وجماعة الحوثي، من إيران حاملة لواء التشييع والخصم التاريخي للمملكة السعودية.

وحين توقفت الحرب السادسة عام 2010، كانت محافظة صعدة قد أصبحت، شبه كاملة، بيد الحوثي الذي كانت جماعته حينها قد تحولت إلى قوة كبيرة على الأرض، تمتلك أسلحة ثقيلة، بعضها غنمته من المعارك وأخرى وصلتها كمدد من الحليف الخارجي، إلى جانب قوة بشرية ظلت تتنامى طوال جوالات الصراع التي استمرت قرابة سبع سنوات. 

متغيرات ما بعد الثورة
في فبراير/شباط 2011 اندلعت الثورة الشعبية السلمية ضد نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح. ومع شرارتها الأولى، استغل الحوثي الاضطرابات ليتمكن من بسط سيطرته الكاملة على محافظة صعدة.

بالتزامن شاركت الجماعة بمندوبيها في ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء إلى جانب الثوار، في وقت كانت ذراعها المسلحة تتوسع شيئا فشيئا في محافظات مجاورة لمملكته عبر حروب متفاوتة خاضها في محافظات الجوف وحجة وعمران. وفي جميعها لم تكن تستهدف سوى القبائل التابعة والمحسوبة على حزب الإصلاح.

دخل الإصلاح في مفاوضات مع الحوثيين في تلك المناطق لإيقاف المواجهات. وكان يحرص في جميعها على إشراك حلفائه في اللقاء المشترك، ربما كشهود على النتائج ومعرفة الحقائق، وربما حرصا منه على تجنب مغبة الانفراد في مواجهة انتهاكات الحوثي التوسعية على حساب حلفائه الآخرين من القبائل التي تستهدفها جماعة الحوثي، بعد تحولها إلى مليشيات مسلحة تقاتل للتوسع وبسط سيطرتها على مناطق جديدة.

أفضت الثورة الشعبية إلى مرحلة انتقالية بعد توقيع المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية في الرياض أواخر 2011. وبموجب ذلك قسمت السلطة مناصفة بين الحزب الحاكم وحلفائه، وأحزاب المشترك وشركاؤهم في الثورة. في حين رفضت جماعة الحوثي المبادرة وما آلت إليه.

منتصف مارس/آذار 2013، انطلق مؤتمر الحوار الوطني كجزء رئيسي أكثر أهمية تضمنته المبادرة وآليتها، استكمالا للمرحلة الانتقالية. وكانت المفاجأة أن قبلت جماعة الحوثي، رغم رفضها كليا للمبادرة، المشاركة في الحوار باسمها الجديد "أنصار الله".

لم يكن التمثيل الذي حصلت عليه الجماعة في المؤتمر (35 عضوا) أمرا مهما أو مثيرا بالنسبة لبقية المكونات التي حصل بعضها على حجم أقل بكثير من حضورها السياسي والجماهيري، طالما أن ذلك سيصب في مصلحة جر الجماعة إلى الحوار، كخطوة أولية هامة ومحسوبة للتحول إلى مكون سياسي واجتماعي والتخلي عن السلاح.

وعلى مدى عشرة أشهر خاض فيها الجميع حربا أخرى حول طاولة الحوار، تشكلت على ما يبدو خريطة سياسية جديدة غير تلك التي كانت قبل وأثناء وبعد معركة الثورة الشبابية السلمية.

كان حزب المؤتمر الشعبي العام، التابع للرئيس السابق، قد ترك كافة خصومه السابقين ليركز معركته على عدو وحيد هو "حزب الإصلاح"، الذي يشعر أنه كان المتسبب الأول والأقوى في إسقاطه عمليا من الحكم.

بينما كانت جماعة الحوثي، مثله، قد تحولت من خصم وعدو لدود للنظام الذي قاتلها، لتركز جهودها أيضا على المنافس الأقوى على الأرض "حزب الإصلاح": إنه حزب ينتشر بكثافة في كافة المناطق المجاورة التي يسعى لضمها إلى مملكته، في الوقت الذي يجسد فيه تيار السنة المعتدل، المنتهج سبل السياسة والديمقراطية للتوسع والانتشار، عكس ذلك تماما.
"قبل نهاية مؤتمر الحوار بأسابيع قليلة، وحين شعر الحوثي بأنه سيكون الخاسر الأكبر من تنفيذ تلك المخرجات، أمر مليشياته بمعاودة القتال حيث بدأ بالهجوم على مركز تعليمي للسلفيين بمنطقة دماج "
تجمعت المصالح المشتركة، بعد أن تجسدت علاقة التزاوج المصالحي الجديدة تلك على الأرض، بفعل التعاون الثنائي الوثيق خلال معارك الحوثي الأخيرة في محافظات مجاورة، قبل مؤتمر الحوار، وتلك التي تخللت الحوار أحيانا بين الفينة والأخرى. بينما تجسدت سياسيا بتوافق المواقف والتناصر بين الطرفين داخل أروقة الحوار.

جاء ذلك في وقت كانت فيه علاقة تحالف المشترك قد شهدت فتورا ظل يتنامى شيئا فشيئا، وساعد على تعميقه أكثر بعض المواقف المتمايزة حول طاولة الحوار، وعلى مستوى السلوك التنفيذي في حكومة الوفاق الوطنية.

بدى وكأن الخطة المشتركة كانت تسير وفقا لقاعدة "ابدؤوا بقتل كبار الفيلة". بكل تأكيد كان ثمة إدراك أن فتح جبهات مع الجميع سيعني إعادة تقوية أواصر "المشترك" كجبهة سياسية وطنية ستكون قادرة على تحطيم كافة المخططات.

كما أنه وبكل تأكيد أيضا، فإن أي استهداف قد يشمل أي حزب من أحزاب تحالف "المشترك" الأخرى، سيمنح الإصلاح ورقة رابحة لتجسيد دور الفيل الأقوى المدافع عنهم. لذلك وبطريقة ما، نجحت جماعة الحوثي في تأمين حلفاء الإصلاح بتحييدهم من المعركة القادمة التي تخطط لها.

حدث ذلك على الأرجح حين أوصلت لهم قناعات بأنهم خارج إطار المعركة المخصصة أصلا بين قوتين متنافستين ستقومان بتصفية حساباتهما بعيدا عنهم.

ومع أن الجميع يدرك جيدا أن قتل الفيل الأكبر سيفضي إلى أكل قطيع الفيلة كاملا، فإن الأمر بدأ يمر بكل بساطة كونه ربما وافق اختلالا سياسيا في موازين التحالفات السابقة، بفعل المتغيرات الداخلية، كما ذكرنا، والإقليمية التي أفضت مؤخرا إلى شيطنة الثورات العربية وعملت على تشويهها. 

انقلاب الحوثي
كانت كافة مكونات الحوار قد أجمعت على سحب كافة الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من كافة الجماعات المسلحة خارج إطار القانون، مع ضرورة إعادة الأسلحة المنهوبة من الدولة.

لذلك، وقبل نهاية مؤتمر الحوار بأسابيع قليلة، وحين شعر الحوثي بأنه سيكون الخاسر الأكبر من تنفيذ تلك المخرجات، أمر مليشياته بمعاودة نشاطها القتالي. وبدأ بالهجوم على مركز لتعليم السلفيين بمنطقة دماج بمحافظة صعدة.

عجزت الدولة عن القيام بشيء، فلجأت إلى تنفيذ شروطه بتهجير سكان دماج، وتسليم المنطقة له. لكنه لم يتوقف، لينتقل إلى محافظة عمران ومديرية "أرحب" التابعة لمحافظة صنعاء، مواصلا معاركه التوسعية. ونتيجة لتكريس الدولة عجزها عن القيام بشيء واصل خطته بقتل خصومه واعتقالهم وتدمير منازلهم.

لم يتدخل أحد، لا الجيش ولا حزب الإصلاح الذي كان المستهدف الأول من تنفيذ تلك الخطة (قتل كبار الفيلة) عبر استهداف قيادات وأبناء القبائل التابعة والمحسوبة عليه، أملا في جرّه إلى معترك العنف كيما تخلط الأوراق وتنتهي مسوغات تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني.

دعا الإصلاح الدولة لممارسة دورها، رافضا القيام بهذا الدور نيابة عنها. وحين ظل الجميع صامتين بما فيهم الدولة، انتقلت المليشيات إلى منطقة همدان المجاورة، التابعة لمحافظة صنعاء، وعملت فيها ما عملت في سابقاتها.

ظلت الدولة تمارس دور المصلح بإرسال لجان رئاسية لعقد اتفاقات تنتهي غالبا بوقف القتال، مع بقاء مليشيات الحوثي في أماكنها الجديدة.

وفي كل تلك المعارك كان معظم مشايخ وقادة حزب "صالح"، الحليف الجديد، يتحولون إلى أتباع لجماعة الحوثي، يقاتلون معها ويناصرونها، تنفيذا لمخطط التحالف الجديد الذي أنشأته المصلحة في الانتقام من العدو الأكبر (بالنسبة لصالح)، والقضاء على خصم قوي سيقف عقبة أمام تحقيق أهدافه التوسعية واستعادة الحكم بالقوة (بالنسبة للحوثي).

هدأت تلك الجبهات قليلا، بعد أن فرض الحوثي سيطرته عليها ببقاء مسلحيه فيها بحسب الاتفاقات التي أبرمتها اللجان الرئاسية.

معركة عمران الأخيرة
ومع نهاية أبريل/نيسان الماضي دخلت الدولة حربا موسعة ضد تنظيم القاعدة في محافظتي أبين وشبوة الجنوبيتين. ومع أول أسبوعين فقط، حقق الجيش نجاحات معلنة. بينما كانت هناك مطالبات -حسبت على مناصرين للإصلاح- بضرورة أن يتعامل الجيش مع مليشيات الحوثي بنفس الطريقة، وإن لم يكن فبقسرها على تسليم أسلحتها الثقيلة والمتوسطة تنفيذا لمخرجات الحوار.
"لم يعد هناك من ينظر إلى الحوثيين كحركة مستعدة للاندماج وإلقاء السلاح عبر الحوار إلا من يدافعون عن عنفها، بهدف استغلالها لتحقيق أجندة خاصة في إفساد قيم الثورة السلمية كمنقذة من التسلط"
وقبل أن تنتهي معركة الجيش مع القاعدة، انفجرت الحرب في عمران بشكل أعنف من قبل.

تؤكد المعلومات أن الحوثي هو من بدأها بتنفيذ هجوم على مواقع للجيش هناك. ويعتقد أنه قرر تفجير المعركة خشية أن يستكمل الجيش انتصاراته كاملة على تنظيم القاعدة، مما سيمثل له دفعة قوية وتوحدا كان يفتقده، الأمر الذي سيغري الدولة بالتفرغ لسحب أسلحتهم تنفيذا لمخرجات الحوار، وهذه المرة ستكون مستعدة للقيام بأي شيء لتحقيق ذلك، والذي يدخل ضمنه ردع أية هجمات قد تقوم بها الجماعة مجددا ضد الجيش أو حتى ضد القبائل.

في الواقع، وقبل تفجير معركتها تلك، كانت مليشيات الحوثي لا تزال محيطة بسوار محافظة عمران من كافة الاتجاهات، تحشد وتسعد للقيام بهجومها على المحافظة، لكن اللواء 310 المرابط في المحافظة كان قد نشر قواته في مواقع إستراتيجية هامة لمنع مسلحي الحوثي من بسط سيطرتهم عليها دفاعا عن المحافظة. آنذاك قرر الحوثي تنفيذ هجومه ضد قوات الجيش بهدف إزاحتها من طريقه.

فجاء رد الجيش قويا بطريقة لم تكن متوقعة لتحتدم المعارك تباعا بين الطرفين. وأثناء ذلك، رفع الحوثي من وتيرة تحشيده واستقدم من صعدة مليشيات إضافية وأسلحة ثقيلة، ومع اشتداد الصراع تدخل الطيران الحربي لقصف مواقع المليشيات، في رسالة واضحة أن الدولة لم تعد قادرة أكثر على مواصلة صمتها المغري للجماعة في استهداف قواتها وإضعاف حزمها الذي بدأته في أبين وشبوة ضد تنظيم القاعدة.

كما أنها جاءت أيضا لتخرس ألسنة الإعلام التابع للجماعة والتابع لحليفه (النظام السابق) والإعلام الموالي لهما، لتؤكد أن تلك المعركة تدور بين الدولة ومليشيات متمردة هاجمت الجيش، ردا على ادعائها زيفا أنها بين الحوثيين ضد التكفيريين وتنظيم القاعدة وقبائل الإصلاح. كما كانت تزعم بطريقة ساذجة.

بعد ذلك كله، لم يعد هناك من ينظر إلى المتمردين الحوثيين كحركة قادرة على ترك السلاح عبر الحوار والاندماج مع المجتمع اليمني، إلا من يدافعون عن عنفها بهدف استغلالها لتحقيق أجندتهم الخاصة في إفساد قيمة الثورة السلمية كمنقذة من التسلط، أو أولئك الذي يرومون عبرها إضعاف من يعتقدون أنهم منافسوهم الأكثر تأثيرا على مجريات الحياة السياسية بوسائل مدنية سلمية.
المصدر : الجزيرة
------------------------------------------------------------
نشرت المادة في الجزيرة نت بتاريخ 25 يونيو 2014
http://www.aljazeera.net/opinions/pages/995b0921-8328-4464-8c62-7fa829bcea75

الأربعاء، 14 مايو 2014

ماذا سيحدث لو قبل الحوثي؟

عبد الحكيم هلال

------------------------------------
-----------------------------

يا "عزّي": اسمع جيداً الآن.. فهذه فرصة عمرك الأكبر.

يا "عزي": لو كنتُ مكانك "ترساً" فاعلاً في آلة "السيد"؛ دويداراً، أخشى على سمعته وأتكفل بدور "مسح أخطائه"، وأفسّر خطاباته "المسهبة" للعامة..

لو كنت كذلك، لنصحته بالانصياع والرضوخ للقانون. عليك أن تبلغه، بالطريقة التي تبلغه بها دائماً، بالاستجابة لطلب النيابة وتسليم نفسه للتحقيق معه في التهم الموجهة إليه وبعض قيادات الجماعة في بعض الجرائم المرتكبة من قبل المسلحين التابعين في همدان وثلا مؤخراً.  

ربما كانت كلمات على شاكلة: "تبلغه"، و"تسليم نفسه"، و"للتحقيق معه"، و"الجرائم المرتكبة"، قاسية قليلاً، أو بالأحرى غير ملائمة لمقام "السيد" من وجهة نظرك على الأقل. لكن ربما سيمكننا إعادة الصياغة بطريقة أفضل، وإن شئت فبـ "عبارات أكثر احتراماً وتقديراً لمقامه المبجل"، على النحو التالي: عليك أن تشير عليه (من الاستشارة) بأن يحضر إلى النيابة للاستماع إلى أقواله في التهم الموجهة إليه في الأحداث الأخيرة بهمدان وثلا.

لا ضير، فذلك ممكن، المهم أن تصله الرسالة في كل الأحوال.

أجزم أن إيماناً راسخاً يبسط قدميه بداخلك أن هذا الإجراء الذي قامت به النيابة أخرق وغبي ولا يستند إلى منطق.

 لكن دعك الآن من تلك الحالة المتلبسة بداخلك، لقد حدث الأمر فعلاً، ورفع من فجرت الجماعة منزله دعوى قضائية ضد "السيد" وقيادات الجماعة.

الآن عليك أن تفكر بطريقة سياسية أكثر دهاءً. مثلاً: إن ذلك لو حدث (أي الاستجابة لطلب النيابة بالتحقيق) فسيكون ادعى لك - في سياق ترشيد دورك التحسيني - من انتظار خطاب السيد الجديد، لكتابة قصيدة شعرية طللية حول "المقاصد السياسية والمدنية النبيلة في خطاب سيد العشيرة".

القبول بالأمر في مثل هذا التوقيت سيكون خطوة عملية مدهشة ومؤثرة، بل قفزة كبيرة لتحسين السمعة، ومسح المخلفات الكثيرة العالقة على جسد الجماعة.

سيبلغنا ذلك - عملياً لا تنظيراً - ان السيد: مدني لا عشائري؛ ديموقراطي لا مستبد؛ رجل دولة وقانون لا زعيم عصابة وقاطع طريق؛ صاحب حق لا  باحثاً عن حق بانتهاك حقوق الآخرين؛ ويقبل بالحق ولا يستمري الباطل.. الخ تلك الثنائيات الكثيرة التي لن تتوقف مالم نقطع مواصلتها.

 حسناً: سيمكنك بهذه النصيحة ان تقطع أشواطاً كثيرة لتقول لنا: إن كل ما يقال عن ما يقوم به "السيد"، لم يكن بتلك الصورة القبيحة والبشعة كما نعتقد.

سيغنيك ذلك كثيراً، آلآف المرات، عن بذل جهد مضنٍ في الحديث عن ضرورة تصديق ما ورد في خطاباته عن رفض القوى التقليدية، وترسيخ الدولة المدنية، وضرورة ترسيخ عرى العدل والقانون، و.. .ضرورة تصحيح السجل الانتخابي.

كما سيكفيك ذلك، قطعاً، عن الفهلوة في دعوة المنتقدين والمشككين والأعداء الى التعامل بحسن نيه مع ما ورد في ظاهر خطاباته، دون الغوص في البحث عما خفي في أعماق قلبه، وتحميل الخطاب أكثر مما جاء على لسانه.

وبدلاً من المطالبة بكل ذلك، تحت مبرر: "ضرورة التعامل مع خطابات السيد بروح المسؤولية الوطنية بهدف جرجرته الى المعترك السياسي"، باعتبار ذلك خطوة مسؤولة لتحويله من سيد مذهبي "كهنوتي" صرف، الى مواطن مدني "أليف".. والذي لن يتأتى إلا من خلال التعامل مع خطابه الأخير باعتباره تحولاً نوعياً (نادراً) وغير مسبوق في مسار الجماعة المذهبية وفكرها.

بدلاً عن ذلك، جديرٌ بك الآن أن تنتهز هذه الفرصة، لتنتقل أنت قبل سيدك من الفهلوات النظرية البحتة، التي لا تزيد أكثر من مجرد بيع الوهم للأتباع والمريدين، الى الميدان العملي والتصرف بمسؤولية وطنية: سيتوجب عليك أن تقنع السيد والمطلوبين الـ ١٤ أن يستجيبوا للقانون ويحضروا الى النيابة للتحقيق معهم.

ذلك فقط.. وتلك ستكون أول خطوة عملية - أؤكد وأجزم أنها ستلجم الأعداء، وتستثير عواطف الأصدقاء - لتحقيق دولة "العدل" التي أدوشنا "السيد" أنه يجاهد عبر المجاهدين الأشاوس لتحقيقها.

ليس هناك وقت للبحث عن مبررات (نظرية) كالعادة، ذلك أن تأثيرها - حين توجد تلك التبريرات - تدرك جيداً أنها لن تتجاوز أكثر من مخاطبة قناعة الأتباع والأنصار. بيد أنك، بحسب علمي، تجهد لمخاطبة، وخطب ود ورضا، قوى ومكونات أخرى، قوى غير تقليدية، لا تؤمن بأكثر من دولة: "المساواة والعدل والقانون". 

لن تحدث مفاجآت مثيرة، فالأمر كما تعرف لا يعدو عن كونه مجرد إجراءات شكلية، لم نشهد طوال تجربتنا الفريدة أنها مست أحد مراكز القوى والنفوذ. فكيف إذاً بمن غامر بالخروج عن الحاكم بالسيف ليكون هو الحاكم الوريث لتركة النبوة!

إذاً تعرف ونعرف جميعاً أنه لن تحدث مفاجآت، لكن مع ذلك، طالما وأنك أحد كبار مؤلفي الدراما، والمفتونين بها، فدعنا نشاهد ما سيجري! مجرد فضول أرعن لا أكثر.

 في نهاية المطاف: ماذا سيجري؟

 لا جديد سيمنحنا الفضول من الناحية الإجرائية، لكنك – سياسياً- ستكسب نجاحاً باهراً، ربما لم تحلم به، تجسيداً لدورك في "تحسين السمعة"، وذلك بالتأكيد ليس بأقل مما سيكسبه السيد والجماعة من "سمعة حسنة" بفضل مقترحك العملي.  

أما نحن- الأعداء والمتربصين-، لن يسعنا سوى التراب ندس فيه رؤوسنا، والتوقف عن كل تلك الحماقات العصبية.  

أعدك بذلك. عليك فقط أن تفحمنا.
-----------------------------
- نشر المقال في يومية "المصدر" - العدد (586) الموافق 14 مايو 2014
- رابط المقال على موقع "المصدر أونلاين":
http://almasdaronline.com/article/57724

السبت، 19 أبريل 2014

اليمن.. "عالق" بانتظار تنفيذ مخرجات الحوار


جردة حساب.. بين تطلعات الثورة المرتفعة وبطء الإنجاز

مصادر سياسية: هادي يريد استغلال مناصب دبلوماسية شاغرة لإبعاد قيادات عسكرية وأمنية مثيرة للجدل

سريعة كسابقاتها تمر الأشهر الأولى من السنة الرابعة على قيام الثورة الشعبية السلمية، فيما يقابلها على أرض الواقع بطء في إنجاز حلم الدولة المدنية الحديثة التي نهض لأجلها الشباب بهمة عالية وقدموا لأجلها أرواحهم رخيصة.

تشهد اليمن اليوم فشلاً واضحاً في قيام مؤسساتها العليا وأجهزتها الرئيسية بمهام وأولويات الدولة البسيطة، لتوفير أبسط مقومات العيش الكريم، ناهيك عن تحقيق تطلعات الحالمين بجني ثمار الثورة، حيث لا تقوم الثورات إلا لتغيير واقع مُر يفتقد للعدل والنزاهة، بآخر أكثر استيفاءاً لسبل ومتطلبات العيش التي افتقدت في العهد المثار عليه.

لقد كان الحلم كبيراً، بيد أن الحمل ربما كان أكبر.
 هكذا يمكن للمنصف النزيه والمتفائل، تلخيص تبرير الحالة التي آلت إليها الثورة اليوم.

على ساحة الفعل السياسي لم يتوقف الزمن، لكن الإنجاز ظل بطيئاً جداً، لدرجة يكون فيها أحياناً "شبه متوقف"، وذلك مقارنة بتطلعات الثوار وحماسهم المتقد. وعلى ذلك بدت الثورة – بعد ثلاث سنوات ونيف - وكأنها عاجزة عن المضي قدماً في تحقيق الأهداف التي قامت لأجلها.

ولعل الوقوف على ما وصل إليه الحال اليوم، وأسبابه، سيتطلب منا بداية المرور بإيجاز سريع على أبرز محطات ما بعد الثورة، في سياق الفعل الإداري والسياسي للدولة الجديدة، دولة ما بعد الثورة، من مسالك وقرارات متخذة وما لم يتخذ منها حتى الآن في سبيل تحقيق الحلم اليمني.

مكافحة إرهاب القاعدة
بعد عام على الثورة، وتحديداً في 21 فبراير 2012، أضفت الانتخابات التوافقية لتصعيد رئيس جديد شعوراً جيداً للبدء بقطف أولى ثمار الثورة والانطلاق نحو إنجاز بقية التطلعات.

وعلى مدى الأشهر الأولى لانتخابه، كان الهم الأول للرئيس الجديد هو إثبات قوته وقدرته على اتخاذ القرار، فكان قرار إعادة بسط نفوذ الدولة في المناطق التي آلت لاحتلال مجاميع تنظيم القاعدة في الجنوب، إبان استغلال الفوضى خلال الأشهر الأولى للثورة.

 وبعد ثلاثة أشهر من انتخابه، أي في مايو 2012، رتب الرئيس لحمله عسكرية كبيرة تكللت بالنجاح، حين تمكنت في ظرف شهر وأيام من طرد تلك المجاميع بعد أن كانت فرضت حكمها وشريعتها على مناطق في محافظة ابين.

في الواقع لم تنجح الحملة في القضاء عليها تماماً بل نجحت في طردها وتشتيتها في مناطق شتى من البلاد، لكنها أفضت إلى منحى آخر يتعلق بمستقبل وقدرات تلك المجاميع الإرهابية على إعادة تنظيم نفسها على نحو أفضل مما كانت عليه، ولاحقا كبدت الجيش خسائر بالغة في عمليات مست عمق كبرياء الدولة وهيبتها، وأثبتت ضعف قدراتها واختراقها.  

ويبدو التنظيم الآن في وضع أكثر قدرة وتمكناً، وأصبح يشكل قلقاً بالغاً للدولة والجيش، تارة في تنفيذ اغتيالات واسعة ومتواصلة ضد ضباطه وأفراده، وأخرى في تنفيذ العمليات النوعية ضد مؤسساته السيادية الكبرى.

هيكلة الجيش
مع نهاية العام ذاته، 19 ديسمبر 2012، صدرت الحزمة الأولى من قرارات إعادة الهيكلة العسكرية. ومع أنها لم تمس كبار القادة الذين كانت تتجه الأعين صوبهم إنتظاراً لإقصائهم، إلا أنها بدت وكأنها الخطوة الأولى لإشعارنا باستخدام الرئيس المنتخب صلاحياته الرئاسة.

بعد أربعة أشهر تقريباً، في العاشر من أبريل 2013، صدرت الحزمة الثانية من قرارات إعادة الهيكلة. وهذه المرة طالت أولئك القادة المنتظرين.

كان الرئيس يمضي بطيئا في استخدام صلاحياته وإصدار القرارات المصيرية، لكن الأمر كان مقبولا إلى حد ما، كونه كان أشبه بمن يخوض في رمال متحركة لتحقيق حلم ظل لعقود يصعب حتى مجرد التفكير بتحقيقه.  

عند هذا المستوى من قضية مصيرية مثل هذه، ظل الأمر أكثر بطئاً حيث لم تصدر بعدها أية قرارات هامة في هذا الجانب، إلا بعد مرور عام تقريبا. حيث صدرت الحزمة الثالثة في 17  مارس الماضي (2014). في الواقع لم تتضمن هذه القرارات أكثر من تبديل وتغيير لقادة من موقع إلى آخر، بعضهم ممن عينوا في مواقعهم ضمن قرارات الهيكلة السابقة، وآخرين تم تصعيدهم لمواقع جديدة حلاً لإشكاليات ظلت قائمة ومعلقة في ألويتهم ومعسكراتهم لأشهر طويلة.  

الحوار الوطني
أسندت المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، الموقعة في 23 نوفمبر 2011، مهمة بناء الدولة المدنية الحديثة إلى مؤتمر الحوار الوطني. ونصت على أن تشكل لجنة تواصل مع الشباب وبقية المكونات من أجل الحوار، مباشرة بعد تشكيل الحكومة.

تشكلت الحكومة مطلع يناير 2012، لكن اللجنة الفنية للتحضير والإعداد للحوار الوطني لم تتشكل مباشرة، بل بعد سبعة اشهر على تشكيل الحكومة، وبعد خمسة اشهر على انتخاب الرئيس، الذي أصدر قراراً بتشكيلها في 14 يوليو من العام ذاته.

وعلى غير الموعد المحدد لها واصلت اللجنة عملية الإعداد والتحضير حتى مطلع العام القادم (2013). بعدها ظل تشكيل قوام مؤتمر الحوار معلقاً حتى منتصف شهر مارس، ليصدر الرئيس في 16 من الشهر قرارا بتشكيل قوام المؤتمر من مختلف المكونات، وشرع في عقد أولى جلساته في 18 من الشهر.

تمددت فترة أعمال المؤتمر من ستة أشهر، طبقا لقرار تشكيله، إلى عشرة أشهر، حتى بدون إصدار أي قرار بذلك، أخذاً بالاعتبار إتاحة الفرصة لاستكمال مقرراته المطلوبة.

مخرجات الحوار
شكل مؤتمر الحوار حجز الزاوية للرئيس هادي قبل غيره، ثم ومن بعده تاليا شكل أهمية كبرى لبقية القوى المختلفة، باعتباره نواة الحل التي من خلالها ستحل كافة النزاعات ويفضي إلى تشكل أطر وهيئة الدولة المدنية المنتظرة.    

ومع كل يوم كان يمضي من الأشهر العشرة للحوار، كان الحلم اليمني يكبر، خصوصا مع كل إنجاز كان يتحقق داخل أروقة وطاولات الحوار.

لكن في المقابل أيضا ظلت أسس الدولة ومقوماتها، تتراجع إلى الوراء. وشهدت البلاد تدهوراً تراكمياً بطيئاً في معظم مناحي الحياة: الإقتصادية والسياسية بشكل خاص؛ البنية التحتية تدمر تباعاً جراء التخريب المتكرر والمتواصل؛ الأمن المنفلت، عنف الجماعات الإرهابية والدينية الطائفية يتخذ منحاً تصاعدياً..الخ.

بالنسبة للرئيس، كانت كافة الحلول الممكنة والمتاحة بيد الدولة مؤجلة. ذلك أن استخدامها الآن قد يعيق توافقات الحوار الوطني.

 لقد كان الأمر هنا، بالنسبة لشخص مثل الرئيس هادي، يتعلق بمبدأ آخر من مبادئ التعامل الرئاسي. مبدأ لا يوجب التسرع في استخدام صلاحياته الرئاسية المفترضة والحاسمة، حفاظاً على مسار التوافق؛ بل هو مبدأ ضرورة الصبر والانتظار حتى ينتهي مؤتمر الحوار من حلحلة كافة تلك القضايا.

كان من الضروري لهادي أن يعول أكثر من غيره على ما سيفضي إليه الحوار. وإن كان ما سيفضي إليه قد رسم مسبقاً بالقلم والمسطرة، مع خبرائه والشركاء السياسيين المتقاربين معه بفكرة الدولة القادمة. طبقاً لاتهامات معارضين لبعض مخرجاته المتعارضة مع ما ينشدونه هم من شكل وهيئة الدولة المطلوبة مستقبلا.

ومع وضوح كل تفاصيل الأرض والواقع السياسي في ضعف مؤسسات الدولة، ظل "التحالف الحاكم" يعول كثيراً على مخرجات الحوار؛ وكان يتم تأجيل كل ما هو متاح من حركة ممكنة لمواجهة التدهور وإنقاذ هيبة الدولة وإصلاح أمن المواطن ومعيشته وإعادة ثقته بثورته وحكومته إلى ما بعد الحوار الذي سيقرر ما على الدولة وما على المكونات السياسية وما على المواطن من حقوق وواجبات، وبعدئذ ستقوم الدولة بما عليها، وفق شرعية كاملة تكون قد استمدتها من ضوء ما أقرته وتوافقت عليه كافة القوى السياسية.

بدى الأمر وكأن مخرجات الحوار ستكون "العصا السحرية" التي ستنقذ الدولة والبلد من التدهور وتحل كل المشكلات.

وصممت في أثناء ذلك ضمانات خاصة لتنفيذ مخرجات الحوار، كفكرة جيدة، أشبه بعمل سياج اضطراري بأركان قوية ومتينة تحرس وتحافظ على بيئة طبيعية لتنفيذ تلك المخرجات.

ما بعد الحوار
انتهت إذاً مرحلة صعبة من أهم مراحل الفترة الانتقالية، ودخلت البلاد في مرحلة أخرى جديدة: مرحلة تنفيذ مخرجات الحوار الوطني. وهي مرحلة ربما كانت في اعتقاد النظام والحكومة أنها الأسهل، لاسيما وأن هذه المرحلة منحته شرعية إضافية للبقاء حتى تنصيب رئيس جديد بانتخابات تجرى وفق الدستور الجديد.

غير أن عدة شهور مرت منذ انتهاء مؤتمر الحوار الوطني، فيما قضايا كبيرة ومن ذات الأكثر أهمية ما تزال معلقة حتى الآن.

وفضلاً عن أن الاقتصاد الوطني بدأت تند مساوئه على السطح مؤخراً وبشكل أكثر وضوحاً من قبل، بفعل تراكمية الأداء التوافقي، مهددة بانهيار وشيك للميزانية العامة، فإن الخلافات الداخلية والبينية، بين شركاء الحكم ظهرت على خلفية بعض المواقف.

تحديد شكل الدولة وعدد الأقاليم، شكلت نقطة خلاف وخصام بين الرئيس وبعض شركائه، مثل الحزب الاشتراكي، الذي خلق موقفه المتشدد من الستة أقاليم ـ أيضاً ـ فجوة مع حليفه التجمع اليمني للإصلاح، فيما أحدث تقارباً أكبر مع جماعة الحوثي المطالبة – كالحزب – بدولة فدرالية من إقليميين فقط.

وماذا بشأن ضمانات التنفيذ؟
قد يبدو الخلاف الأخير، المشار إليه آنفاً، أمراً طبيعياً، وقد يستند إليه البعض كدليل على حزم الرئيس ورغبته في تنفيذ وإنفاذ مخرجات الحوار، فيما قد يراه البعض إستقواءاً على مبدأ التوافق لتمرير رغباته المحددة مسبقاً لشكل الدولة التي يريدها وعدد أقاليمها.

على أن الأهم هو تلك القضايا المتعلقة بتحقيق تطلعات المواطن وشئونه الحياتية والأمنية؛ بشأن الدولة المدنية الحديثة وأسس بنائها.

تجعل النقطة السادسة من المبادئ العامة الواردة ضمن ضمان تنفيذ مخرجات الحوار، من المواطن محوراً للعملية السياسية "وتلبية طموحاته هو غايتها"، أي تلك الضمانات. وبالتالي تؤكد على "رفع مستوى ثقة المواطن بالعملية الإنتقالية وتشجيعه لضمان مشاركته في العملية السياسية خاصة في الجنوب".

وتؤكد النقطة رقم (5) من المبادئ العامة الواردة في وثيقة الضمانات على: "إحداث تغيير حقيقي: تنعكس آثاره في العملية السياسية وعلى حياة المواطنيين بشكل واقعي وملموس".

هكذا تقول الضمانات، بينما الواقع الذي يعيشه المواطن، والوطن عموماً، مازال أكثر رداءة. ذلك أمر من الصعب تحقيقه بعد شهرين ونيف من انتهاء مؤتمر الحوار. قد يكون ذلك صحيحاً جداً، إلا أن المواطن حتى الآن – وبعد انقضاء تلك الفترة - لم يلمس بوادر لتحقيق أبسط تلك القرارات والإصلاحات التي أكدت عليها الضمانات، فيما يتعلق بشأن المواطن. وهي ليست بحاجة سوى لإرادة وعزم لا أكثر، ذلك أنها ليست معقدة التنفيذ على أرض الواقع.

على سبيل المثال، ورد ضمن المهام الرئيسية في وثيقة الضمانات، في إطار ما أطلق عليها بـ"المحطة الأولى"، النقاط التالية:
-  إصدار تعليمات قانونية وإدارية محددة إلى النيابة العامة ودوائر الشرطة والسجون والأمن للتصرف وفقا للقانون والمعايير الدولية، وإطلاق سراح الذين احتجزوا بصفة غير قانونية.
- العمل على إنهاء جميع النزاعات المسلحة.
- "إتخاذ الخطوات اللازمة، وبالتشاور مع سائر الجهات المعنية الأخرى، لضمان وقف جميع أشكال العنف وانتهاكات القانون الإنساني، وفض الاشتباكات بين القوات المسلحة والتشكيلات المسلحة والمليشيات والجماعات المسلحة الأخرى، وضمان عودتها إلى ثكناتها، وضمان حرية التنقل للجميع في جميع أنحاء البلاد، وحماية المدنيين وغير ذلك من التدابير اللازمة لتحقيق الأمن والإستقرار وبسط سيطرة الدولة.
- استكمال إجراءات إعادة هيكلة الجيش والأمن.
- اتخاذ خطوات ترمي إلى تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث إنتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلا (إصدار قانون العدالة الإنتقالية) وفقاً لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
- استكمال تشكيل اللجنة الخاصة بالتحقيق في انتهاكات 2011م.
- إطلاق سراح معتقلي شباب ثورة التغيير والحراك الجنوبي السلمي والذين اعتقلوا خارج إطار القانون.

في الواقع، لقد اقتربنا من مرور الشهر الثالث، لما بعد الحوار وفي إطار فترة تنفيذ المخرجات، بيد أن أياً من تلك النقاط السابقة، السهلة والبسيطة، وغير معقدة التطبيق، لم نشهد حتى الآن أي توجه رئاسي أو حكومي لتحويلها إلى واقع ملموس. لا يحتاج الأمر سوى إلى قرارات رئاسية بدرجة رئيسية، وحكومية بدرجة تالية، تضعها موضوع التنفيذ. ثم ليأخذ التنفيذ مداه المطلوب والمعقول.

لم تصدر أية قرارات أو توجيهات بإطلاق المحتجزين بصفة غير قانونية، ولا إطلاق سراح شباب الثورة، وربما الحراك، المعتقلين خارج سياق القانون.

سنجد مثلا أن المحطة الثانية في الضمانات، والتي أخذت عنوان: "تأسيس الدولة وإجراء الانتخابات"، تضمنت نقاط هامة عدة، ومن جزئها الثاني، غير المتعلق بالانتخابات، بل بالإصلاحات العاجلة والسريعة المطلوبة لضمان التنفيذ، نورد هذه النصوص:  

- البدء في إصدار تعليمات قانونية وإدارية ملائمة إلى جميع فروع القطاع الحكومي للالتزام الفوري بمعايير الحكم الرشيد وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والضامنة للإصلاح ويجب الشروع بالجهات التالية ذات الأولوية :

الخدمة المدنية، وزارة المالية والبنك المركزي، الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، الإعلام، النيابة العامة، مكتب رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، الإدارة المحلية، أي تشريعات أخرى تتعلق بمكافحة الفساد وبالحقوق والحريات مثل قانون الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وقانون مكافحة الفساد، والقانون المالي والذمة المالية، وقانون حماية الدولة( تعطى هذه التشريعات الأولوية).

- العمل على ضمان أداء المهام الحكومية على نحو منظم بما فيها الإدارة المحلية وفقاً لمبادئ الحكم الرشيد وسيادة القانون وحقوق الإنسان والشفافية والمساءلة.
- البدء في إعادة تأهيل من لا تنطبق عليهم شروط الخدمة في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية.
- أية إجراءات أخرى من شأنها أن تمنع حدوث مواجهة مسلحة في اليمن.
- اتخاذ الوسائل القانونية وغيرها من الوسائل التي من شأنها تعزيز حماية الفئات الضعيفة وحقوقها، بما في ذلك الأطفال والنهوض بالمرأة.

لن أضيف شيئاً جديداً إن قلت إن كل ذلك، لم يتم بعد، أو بل لم نشعر بخطوة أولية هامة للدولة – رئاسة وحكومة – في التوجه نحو تنفيذ تلك الأمور على أرض الواقع، وإن حتى بإصدار قرار، أو مشروع لقرار ينحو بهذا الإتجاه.

الواضح اليوم، أن كل شيء بات معلقاً، فيما تواصل مؤسسات الدولة الحكومية إنهيارها العملي والقيمي.  

وتمنح الضمانات، ضداً على بنود المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، رئيس الجمهورية الحق في إحداث تغيير في الحكومة، بناء على نصها (الضمانات) القائل: " يقوم رئيس الجمهورية بممارسة صلاحياته الدستورية للتغيير في الحكومة بما يضمن تحقيق الكفاءة والنزاهة والشراكة الوطنية، وكذلك الأجهزة التنفيذية الأخرى على المستوى المركزي والمحافظات لضمان الشراكة الوطنية والكفاءة.".

عقب انتهاء مؤتمر الحوار كثر الحديث والجدل حول التعديل الحكومي المرتقب الذي عول عليه الكثيرون في إحداث فارق في حياة المواطنين، غير أن ذلك التعديل اقتصر على وزير الداخلية، إلى جانب تعيين وزير نفط بدلا عن المستقيل، وإقالة رئيس جهاز الأمن السياسي، فيما كان حديث الشائعات يدور حول ست إلى سبع وزارات فاشلة على الأقل.

تخوض الحكومة حالياً، صراعاً كبيراً مع ميزانيتها المنهارة، بحيث يشاع أنها لن تكون قادرة على تلبية النفقات لأكثر من أربعة أشهر أخرى تقريبا. وهذا الأسبوع ابتعث وزراء المالية والتخطيط إلى الولايات المتحدة الأمريكية لبحث دعم دولي من صندوق النقد الدولي والإدارة الأمريكية، فيما نفذ جمال بنعمر، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص إلى اليمن، زيارة استغرقت يومين إلى العاصمة السعودية (الرياض) لحشد الدعم العاجل، والتهيئة لمؤتمر أصدقاء اليمن القادم المقرر انعقاده في لندن في 29 من الشهر الجاري.

حيث تعول بلادنا على هذا المؤتمر الكثير من الآمال في تقديم المساعدات الموعود بها منذ سنوات من قبل المانحين الدوليين.

في السياق أيضا، ثمة خلافات متراكمة، بعضها منذ سنوات وأخرى حديثة، بشأن تغيير بعض محافظي المحافظات. هذا الأمر بدأ يتردد من أكثر من عام تقريباً، إلا أن الأمر بات منوطاً برئيس الجمهورية، بدلاً عن رئيس الحكومة. الأمر الذي أقحم خلافات الأحزاب ومصالحها في هذه المسألة، وكان يشاع قبل فترة طويلة أنها جاهزة، والمسألة مسألة وقت!

هذه الإشكالية أفضت إلى إضعاف أداء السلطات المحلية بالمحافظات، وشبه توقفها عن أداء مهامها لاسيما في المشاريع التنموية، حتى بات الأداء الوحيد الذي يبرز هو أداء الفساد وإهلاك ميزانية المحافظات لشخوصها ومتنفذيها، وفي المحسوبية وشراء الذمم، إلى جانب سيطرة جماعات الإرهاب والعنف والتقطع..!!

وفي الإطار ذاته، لم يتم اتخاذ قرارات سهلة وبسيطة، تغطي الفجوة القائمة منذ العام 2012 تقريباً، بتعيين سفراء واستيفاء دبلوماسية اليمن في الخارج، في حوالي 30 سفارة. انتهت فترة عملهم المتعارف عليها دبلوماسياً، لكن مواقعهم لم تشغل حتى الآن.

يرجع الأمر، بحسب ما يعتقد، إلى خشية من ردود الفعل الداخلية من جهة مختلف القوى السياسية المطالبة والمنتظرة إشراكها في تعيينات مواقع السلك الدبلوماسي.

لقد توقفت تلك التعيينات منذ صعود الرئيس إلى سدة الحكم، فيما عدا قرارين بارزين، أحدهما قضى بتعيين الدكتور مجور سفيراً لليمن في جنيف، والآخر الذي قضى بتعيين أحمد علي عبد الله صالح سفيراً لبلادنا في دولة الإمارات العربية المتحدة. وثمة تعيينات أخرى لملاحق عسكرية اقتضتها ضرورة إبعادهم من مناصبهم في مواقع هامة في الجيش، مع أن بعضهم لم يستلم موقعه حتى الآن منذ أكثر من عام.

أطر وهيئات الرقابة والتنفيذ
الشيء الوحيد الذي تم تنفيذه من المخرجات حتى الآن هو "تشكيل لجنة صياغة الدستور". حتى مع أن تشكيلها هو الآخر تعرض لموجة نقد يمكن وصفها بأنها "سريعة وخفيفة"، من جهة عدم الالتزام بمعايير التشكيل الواردة ضمن وثيقة الضمانات.   

ستعمل اللجنة، بحسب تصريحات مسئولين فيها، على مدى أربعة أشهر لتعد صيغة لمشروع الدستور اليمني القادم.

يعتقد أن مهامها لن تكون كبيرة، أكبر من البحث عن قالب مناسب لتصب فيه مواد وقرارات مخرجات فرق عمل الحوار والمتضمنة في وثيقة المخرجات، بشكل قانوني وتشريعي.

ولن يكون من المناسب والمقنع التعويل على ما ستنتجه وانتظار ما ستفعله هذه اللجنة كما كان يعول على سابقا على مخرجات الحوار، لاتخاذ اجراءات تحسن من الحياة المعيشية للناس.

ثمة أمور أخرى مهمة لم تنجز حتى الآن، لكنها مؤجلة بسبب ما يشاع أنها خلافات بين الرئيس واطراف رئيسية، أو بين أطراف سياسية وأخرى. يدخل في ذلك، مثلا توسيع مجلس الشورى "بما يضمن تمثيل جميع المكونات والفعاليات السياسية والإجتماعية المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني بنفس نسب التمثيل في مؤتمر الحوار...الخ". حسب وثيقة الضمانات.

الأهم من ذلك، من الناحية العملية التنفيذية، الغموض الذي يكتنف تشكيل ما تعرف في وثيقة الضمانات بـ"الهيئة الوطنية". من خلال "توسيع لجنة التوفيق وتعمل كهيئة وطنية تمثل فيها جميع المكونات والفعاليات السياسية والاجتماعية المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الشامل، بنفس نسب التمثيل وحسب المعايير المتفق عليها في مؤتمر الحوار الوطني على أن لا يقل عن مقعدين لأي مكون أو فعالية..الخ"

على عظم أهمية هذه اللجنة في: 1ـ الإشراف والمتابعة في تنفيذ مخرجات الحوار الوطني الشامل. 2ـ المتابعة والإشراف على لجنة صياغة الدستور، والتأكد من وثيقة الدستور والموافقة عليها قبل رفعها لرئيس الجمهورية لاتخاذ الإجراءات الدستورية اللازمة للاستفتاء. بحسب ما ورد في وثيقة الضمانات..

يقال إن هناك خلافات بشأن طريقة تشكيل اللجنة وعددها أدت إلى تعقيد مسألة حسم تشكيل اللجنة، في الوقت الذي بدأت فيه عملية تنفيذ المخرجات قبل شهرين تقريباً، فيما مر على عمل لجنة صياغة الدستور قرابة شهر، بعيداً عن اللجنة المسئولة عن الإشراف والرقابة عليها.  

 الواقع الآن..المسببات..النتـائج..الكــارثة
تفرض قضايا ذات طابع سيادي وأمني، مثل: إرهاب تنظيم القاعدة، مسلحو الحراك الجنوبي الداعين للإنفصال، ومليشيات الحوثي المسلحة، أجندتها على مسألة بناء الدولة القادمة، باعتبارها معيقات مثقلة على الأرض، بدى من الصعب مواجهتها.

وتلك حقيقة باتت أكثر وضوحاً، مع تصاعد أعمال العنف ضد الجيش من قبل تنظيم القاعدة، ومؤخراً مسلحو الحراك، إلى جانب ما تفرضه مليشيات الحوثي المسلحة من متغيرات على الأرض في شمال الشمال وجوار العاصمة صنعاء.

في الحقيقة يمكن التأكيد أن ذلك ساعد على وضع الدولة موضع العاجز، في مقابل كل تلك الإشكاليات المتواجدة في مربع عملها التنفيذي. على رأسها الحالتين الأمنية والاقتصادية، المتداخلتين فيما بينهما بشكل تراكمي، إلى جانب إشكاليات الخلافات السياسية المتجددة وفق مسارات عمودية وأفقية بين الحين والآخر.

من الانصاف والنزاهة القول ان كل تلك الاشكاليات، غير معنية بها فقط مؤسستي الرئاسة والحكومة، بل تنسحب عملية خلقها وتأثيرها على كافة أطراف العملية السياسية، سواءً التي شاركت في الحوار وتوافقت على مخرجاته بدرجة رئيسية، أم تلك التي لم تشارك لأسباب داخلية خاصة أو لاعتبارات أخرى بينها الإقصاء والتهميش.

ولعل من الإنصاف القول أن وصول التحالفات السياسية إلى موضع مهدد بمواصلتها على أساس المصلحة العامة في بناء اليمن وطغيان المصالح الحزبية الخاصة والضيقة، سواءً كان ذلك بفعل خلافات ذاتية أم عبر عوامل خارجية من قبيل إدارة الأزمات والصراعات تحت القاعدة السياسية الشهيرة "فرق تسد"، كان له تأثير مهم على إدارة التوافقات الوطنية منذ مرحلة الدخول في مؤتمر الحوار الوطني وتصاعدت بشكل دراماتيكي حتى اليوم.

لقد أدى ذلك، قطعاً، إلى بروز خرائط تحالفات سياسية جديدة، بعضها واضحة وأخرى معقدة وغير مفهومة حتى الآن. الأمر الذي أضعف جبهة التحالف القوية التي كان يستند إليها الرئيس نفسه، منذ توليه سدة الحكم.

في هذه الأثناء، ترتفع حدة الاستقطابات الداخلية والخارجية لقوى طفيلية تستغل فوضى أداء منظومة الدولة شبه المنهارة، في الوقت الذي تبرز فيه ولاءات عصبوية وحزبية تعمل على البحث عن استحقاقات خاصة، لا عامة، ولا يكون الوطن إلا في آخر قائمة الاشتغال على إنقاذه.
-------------------------------------------
نشرت المادة في يومية "المصدر"- العدد (567)، عدد الخميس-السبت: 17-19 إبريل 2014
- رابط النشر في الموقع:
http://almasdaronline.com/article/56838


الأحد، 29 ديسمبر 2013

أين ذهبت مليارات مشروع الطريق الاستراتيجي «عمران-عدن»؟


طريق عمران - حضرموت

منذ العام 2006، ونحن فقط نسمع ونقرأ عن أكبر وأضخم مشروع إستراتيجي حيوي لتطوير شبكة النقل البري في اليمن من خلال مشروع طريق الخط المزدوج (عمران –عدن).

هذا المشروع الاستراتجي الذي طالما "ضجنا" المسؤولون بشأنه منذ ثمانية أعوام خلت؛ بكونه "سيُسهم في تنمية المناطق الحضرية والريفية" في إطار المحافظات الـ11 بداية، ثم الـ8 لاحقاً، ليستقر مؤخرا عند الـ7 محافظات، التي سيمر عبرها المشروع، الأمر الذي سيضفي إنعاشاً اقتصادياً كبيراً لتلك المحافظات بشكل خاص، والبلاد عموماً.   

"يعتبر هذا المشروع من أهم المشاريع التي يوليها فخامة الأخ علي عبد الله صالح رئيس الجمهورية اهتماماً خاصاً حيث يبلغ الطول التقديري لهذا المشروع حوالي (450كم)..".

ما تزال العبارة أعلاه منشورة حتى اليوم في موقع وزارة الأشغال العامة والطرق. وجاءت في سياق "مقدمة" للمعلومات الوحيدة المنشورة على موقع الوزارة المعنية بهذا المشروع الإستراتيجي الهام. حيث اكتفت الوزارة فقط – بعد تلك المقدمة – بسرد سبع أهميات حيوية له.

المشكلة الكبرى (مغزى هذا التحقيق الاستقصائي)
وإذنً، ليس ثمة معلومات كثيرة أو بيانات تفصيلية واضحة منشورة حول هذا المشروع تكافئ أو توازي تصريحات المسؤولين المنشورة في الصحافة طوال السنوات الثمان الماضية بشأن أهميته وضخامته.

لكن، من خلال البحث والتنقيب والتحقيق وجدنا إلى جانب المعلومات التفصيلية الموضحة لطبيعة المشروع وبياناته معلومات أخرى هائلة ومفجعة تكشف حجم الفشل واللا مسؤولية والتخبط والفساد الذي رافق المشروع.

وكان سندنا الأكبر في ذلك تقرير حديث للجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة رُفع إلى وكيل وزارة الأشغال العامة والطرق نهاية الشهر الماضي (27 نوفمبر).

ولكي تتضح تفاصيل الصورة أكثر، بحثنا ونقبنا في تصريحات المسؤولين منذ بداية الإعلان عن المشروع منتصف العام 2006، وما لحقه بعد ذلك من توقيع على عقد التمويل في العامين 2008-2009، ومن ثم المصادقة الحكومية والبرلمانية على المشروع والتمويل والقروض في العام 2009، حيث بدأ سريان العقد واحتساب المدة الزمنية المحددة - في عقد التمويل - بثماني سنوات للانتهاء من إنجاز المشروع؛ أي في العام 2016.

غير أن المشكلة الكبرى أن أكثر من نصف تلك المدة مرت دون، ليس فقط إنجاز كل ما كان مطلوباً إنجازه خلال الخمس السنوات الماضية، بل إن المشروع في حقيقة الأمر لم يبدأ تنفيذه بعد..!!

خلفية وتفاصيل المشروع الإستراتيجي
كحقيقة نظرية يعتبر المشروع فعلاً أضخم وأكبر مشروع إستراتيجي حيوي للبلاد في مجال تطوير شبكة النقل البرية، من حيث الحجم والمسافة التي سيغطيها والمواصفات والتفاصيل وحجم التمويل.

فالمشروع – كما أسلفنا – يهدف أساساً إلى تطوير شبكة النقل البري وتنمية المناطق الحضرية والريفية في الجمهورية اليمنية من خلال إنشاء طريق مزدوج يمر بسبع محافظات رئيسية وحيوية، هي: عمران، صنعاء، ذمار، إب، تعز، لحج، وعدن. وتضيف بعض التصريحات إليها "أمانة العاصمة" كمحافظة ثامنة.

يتكون المشروع من أربعة مقاطع، هي:
الأول: "عمران – صنعاء" بطول 68 كم.
الثاني: "صنعاء - ذمار- بيت الكوماني" بطول 95كم.
الثالث: "بيت الكوماني – إب – تعز" بطول 117 كم.
الرابع: "تعز- الحوطة – عدن" بطول 140 كم.

المجموع الكلي لطول المسافة التي سيغطيها المشروع من عمران وحتى عدن تبلغ 420 كم، وبعرض كلي يصل إلى 38 متراً (بواقع: ثلاثة خطوط ذهاباً ومثلها إياباً، وعرض كل اتجاه منها يصل إلى 13.45 متراً + جزيرة وسطية بعرض 3.6 متر + أكتاف على الجانبين بعرض 3.6 متر لكل اتجاه).

وبحسب ما أكدته تصريحات سابقة لمسؤولين عن المشروع، فالمشروع يشمل حفر وإنشاء خمسة أنفاق؛ طول كل نفق تسعة كيلو تقريباً. مع أن تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، الذي استقينا منه تلك التفاصيل أعلاه، لم يتحدث عن أي أنفاق ضمن المشروع.

وطبقا لتقرير الجهاز، تقدر تكلفة المشروع الإجمالية بحوالي مليار و950 مليون دولار، بتمويل من الصندوق السعودي والحكومة اليمنية. وكان مسؤولون عن المشروع بدأوا بالحديث عن تكلفة إجمالية أقل تصل إلى مليار و578 مليون دولار، طبقاً لتقديرات وزارة التخطيط.

الموقف العام للتمويل حتى 31 -12 -2012م
(المبالغ بالدولار الأمريكي)

أكبر وأهم مشروع إستراتيجي (فاشل)
ما سبق كان من زاوية نظرية. أما كواقع عملي، فإن المشروع يعتبر، حتى الآن على الأقل، من أفشل مشاريع الطرقات التي نفذتها أو مازالت تنفذها الوزارة حتى اليوم. يشمل هذا الفشل كافة الجوانب الإدارية والفنية والدراسات والتصاميم الأولية، وصولاً إلى عملية التنفيذ وما رافقها من تخبط ولا شفافية مالية وفساد كبير تخلل المشروع.

 واستناداً إلى تقرير جهاز الرقابة والمحاسبة، فوحدة تنفيذ المشروع بوزارة الأشغال، لم تنشئ حتى الآن "نظام مالي ومحاسبي، أو لائحة مالية تحدد بموجبها السلطات والمسؤوليات في وحدة التنفيذ"، ناهيك عن "عدم وجود مراجع داخلية للمشروع للقيام بمراجعة عمليات الصرف المختلفة، وعدم وجود إدارة مالية مستقلة للمشروع، وعدم حفظ وأرشفة الوثائق والمستندات الخاصة بالمشروع بالشكل الذي يضمن المحافظة عليها ويمكن الرجوع إليها عند الحاجة بسهولة ويُسر".

ما سبق عبارة عن ملاحظات مرفوعة ضمن التقرير الرسمي للجهاز، الذي أكد أصلاً أن المشروع لم يبدأ تنفيذه حتى الآن، على الرغم من انقضاء نصف المدة المحددة لتنفيذه.

ملاحظة: (حديث التقرير عن مرور نصف المدة محدد بنهاية العام 2012، أما الآن، مع نهاية هذا العام 2013، ستكون مرت خمس سنوات، والواقع المشار إليه في التقرير لم يتغير كثيرا عدا بعض الإجراءات البسيطة التي سنوردها لاحقا).

ومع ذلك، صُرف على المشروع، حتى نهاية العام 2012، أكثر من مليونين ونصف المليون دولار من مخصصات التمويل..!! (المصدر: تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة - أنظر الجدول المرفق تحت عنوان: رابعاً الموقف العام للتمويل حتى 31/12/2012).

بدايات مخالفة للقانون
ومع أن تصريحات المسؤولين، على أعلى مستوى في الدولة والحكومة وفي الجهات المعنية بالمشروع، ظلت تروج له منذ العام 2006 عقب أشهر من مؤتمر المانحين بلندن الذي عُقد في يناير 2006، إلا أنه عملياً لم يبدأ احتساب فترة الثماني سنوات الرسمية لسريان العمل به، إلا في العام 2009، وذلك بعد توقيع اتفاقية التمويل مع الجانب السعودي أواخر العام 2008، ومصادقة مجلس النواب على اتفاقية القرض الخاصة بالمشروع المقدمة من الصندوق السعودي للتنمية في جلسته التي عُقدت في 24/2/2009.

وطبقا لتقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، حددت خطة المشروع تنفيذه على عدة مراحل، بحيث تبدأ بالمرحلة الأولى بتنفيذ المقطع الثاني المتمثل بطريق "صنعاء - ذمار- بيت الكوماني".

وأكد التقرير أنه تم توفير التمويل اللازم لتنفيذ هذه المرحلة الأولى بإجمالي 400 مليون دولار، مقدمة من المنحة السعودية رقم (2/1430) بمبلغ 213.000.000 دولار، ومن قرض الصندوق السعودي للتنمية رقم (30/494) بمبلغ 106.666.667 دولاراً، ومن مساهمة الحكومة اليمنية المقدرة بمبلغ 80.333.333 دولاراً. 
(أنظر الجدول المرفق)
وذلك لتغطية بنود عمل ثلاثة من هذه المرحلة الأولى، هي: أعمال مدنية، أعمال إستشارية، واحتياطي. وذلك وفقاً للتفصيل المنشور في الجدول المرفق أدناه: (المبالغ بالريال السعودي)

ويشير تقرير الجهاز، تحت بند "بيانات اتفاقيات التمويل"، إلى أن تاريخ منحة المملكة السعودية رقم "2/1430" هو: 13/10/2008، وتاريخ اتفاقية قرض الصندوق السعودي رقم "30/494" هو 5/4/2009. فيما يبدأ تاريخ سريان اتفاقية القرض في 12/5/2009، وينتهي السحب من المنحة والقرض في 31/12/2016، "أو أي تاريخ آخر يحدده الصندوق"، ونسبة الفوائد السنوية للقرض 2% على جميع المبالغ المسحوبة من القرض وغير المسددة، مع فترة سماح محددة بخمس سنوات تبدأ من تاريخ سريان العقد.  

لكن وحتى نهاية العام الماضي (2012)، طبقاً للتقرير، مرت قرابة أربع سنوات من الفترة المحددة بالاتفاقية دون أن يحرز المشروع تقدماً عملياً يُذكر، باستثناء عددٍ من الإجراءات الأولية البسيطة بينها "إنزال إعلان في الصحف في عام 2010 لاختيار مديراً للوحدة التنفيذية على ضوء المنافسة. وفي عام 2011، أعلنت مناقصة عامة ضمن الصحف الرسمية لعدد من كوادر المشروع وتم اختيار الكادر الفني للمشروع (كبير مهندسين، مهندس عقود مسؤول عن تقنية المعلومات، وأجلت عملية اختيار المحاسب والسكرتير التنفيذي ومسؤول التجهيزات إلى حين اتخاذ إجراءات اختيار الشركة المنفذة للمشروع).

وذلك حسب رد الوحدة الخاصة بالمشروع في الوزارة، بتاريخ 27/2/2013، رداً على ملاحظات الجهاز المركزي للرقابة المحاسبة المرفوعة إليها بتاريخ 2/1/2013.

وفي 31/5/2013، قام الجهاز المركزي بالمراجعة، ولاحظ – طبقاً لتقريره المرفوع لوكيل الوزارة بتاريخ 27/11/2013 - أن إجراءات تعيين بقية كادر المشروع لم تكتمل "بحسب الإجراءات القانونية المتعارف عليها في المشاريع الممولة دولياً وخصوصاً كادر الإدارة المالية".

كما أنه لم تنشأ "وحدة مالية وفقاً لما ينص عليه القانون"، أخذاً بالاعتبار أن المشروع "مستقل مالياً وإدارياً، فيما يخضع فقط لإشراف لجنة تسيير برئاسة وزير الأشغال". وبدلاً من السير وفق القانون، يؤكد تقرير الجهاز المركزي أنه تم "تكليف المختصين بوحدة تنفيذ المشاريع الممولة دولياً (الشؤون المالية) بمهام الإدارة المالية في المشروع إلى جانب عملهم في وحدة تنفيذ المشاريع الممولة دولياً"؛ إضافة إلى "عدم وجود نظام محاسب أو لائحة يتحدد بموجبها السلطات والمسؤوليات والرقابة والضبط الداخلي على التصرفات المالية المنفذ من المخصصات المعتمدة للمشروع وبما يضمن تحقيق الهدف النهائي الذي على أساسه تم إنشاء الوحدات المالية والمحاسبية في الجهات والمشاريع العامة للدولة وفقاً للقانون المنظم لذلك".

وجاء رد وحدة المشروع في الوزارة بهذا الشأن كالتالي: "كما أشرنا سابقاً بأنه لم يتم إنشاء وحدة مالية لأعمال المشروع والتي أسندت إلى الوحدة المالية للمشاريع الممولة دولياً بالوزارة، وتم العمل بنفس النظام المحاسبي المعمول به لدى وحدة تنفيذ المشاريع الممولة دولياً بالإضافة إلى أن المشروع مدرج ضمن النظام المحاسبي العالمي الـLegumes، والذي يتبع وزارة المالية".

وهنا يؤكد تقرير الجهاز "ومن خلال رد الوحدة يلاحظ أن الوحدة حتى تاريخ المراجعة لم تقم بإنشاء وحدة مالية ولم تقم بالحصول على نظام محاسبي خاص بها. حيث يتم العمل بالنظام الخاص بوحدة المشاريع الممولة دولياً كما أن نظام الـLegumes هو نظام تراسل ومتابعة السحب من التمويل الخارجية وليس نظاماً محاسبياً يتم استخدامه للعمل في الوحدات الممولة دولياً".

تخبط يزيد الطين بلة  
إلى جانب تلك المخالفات التي بدأت مع بداية الشروع في تنفيذ المشروع ومازالت قائمة حتى الآن، تطرق تقرير الجهاز المركزي إلى مخالفات فنية ومالية وتوقيع عقود مخالفة مع الشركة الفرنسية المشرفة..الخ، والتي سنتطرق إليها بالتفصيل لاحقاً في سياق هذا التقرير.

على أن التعقيدات التي يشوبها المشروع حتى الآن، تستدعي منا السير وفقا للترتيب الزمني والعملي للأحداث حتى نتمكن من تفكيكها وتقديم مادة سهلة وواضحة تتيح للقارئ فهم واستيعاب المشكلة.

 كان أبرز وأهم ما أكد عليه تقرير الجهاز، وكرره في أكثر من موضع، هو: "عدم البدء بتنفيذ مشروع الطريق ءالذي حددت مدة تنفيذه بثماني سنوات (2009-2016) رغم انقضاء ما نسبته (50%) من الفترة الإجمالية المحددة لإنجاز كامل الطريق". (كما نوهنا سابقاً، يحدد التقرير هذه الفترة حتى نهاية 2012، وليس حتى يومنا هذا الذي لم يتبق على نهاية عام 2013 سوى أيام فقط)

وردا على ملاحظة الجهاز تلك، أشارت وحدة المشروع إلى أنه "تم البدء بتنفيذ خطوات المشروع وذلك باختيار الشركة الاستشارية والتي قامت بمراجعة المخططات للجزء الأول (صنعاء - بيت الكوماني)" ، المقصود هنا هو المرحلة الأولى المعتمدة ضمن المخطط. وأضاف رد الوحدة "وعلى ضوء ذلك تم إنزال إعلان طلب تأهيل شركات تنفيذية للمشروع تقدمت إليه 83 شركة لشراء وثيقة التأهيل وقدمت 45 شركة وثائق تأهيلها وتأهلت 14 شركة فنياً وتقدمت إليه 11 شركة لشراء وثائق المناقصة، ولم تتقدم للمناقصة إلا شركة واحدة بعطائها المالي (بدون ضمان) ولذا تم تأجيل النظر في المناقصة إلى جانب الظروف الأمنية التي مرت بها بلادنا خلال الفترة 2011 ، 2012، وبسبب أن المناقصة غير قانونية لعدم تقديم المقاول للضمان وكونه عطاء وحيد وغير مستوفي الضمان فقد تم تأجيل إقرار المناقصة".

يرد الجهاز المركزي على ذلك أنه بالقول: "ومن خلال المراجعة لوحظ أن المشروع لم يبدأ العمل فيه أو إعلان مناقصة للمشروع مرة أخرى، وتم إلغاء كافة الإجراءات الخاصة بالمقطع الثاني الذي كان مقرراً تنفيذه (صنعاء – ذمار - بيت الكوماني) واستبداله بالمقطع الرابع (تعز - الحوطة - عدن)".

 إذاً، عوضاً عن البدء في تنفيذ المرحلة الأولى والمحددة بالمخطط والدراسات الأولية بالمقطع الثاني: (صنعاء - ذمار- بيت الكوماني)، اجتمعت لجنة تسيير المشروع، التي يرأسها وزير الأشغال عمر الكرشمي، في 10/10/2012، لتلغي كافة الإجراءات السابقة، لتقرر الانتقال إلى تنفيذ المقطع الرابع (تعز - لحج – عدن).

ومتى حدث هذا الوعي بصعوبة تنفيذ المرحلة الأولى؟
 بعد مرور أربع سنوات تقريباً على توقيع اتفاقية التمويل وبدء فترة سريان تنفيذ المشروع..!! وبعد أن صرفت في تلك الإجراءات (الملغية أخيرا) مبالغ للإعلانات ورواتب ومكافآت وبدل اجتماعات ومخصصات الشركة الاستشارية..الخ، واجمالاً: بعد مرور أربع سنوات تم خلالها صرف ما يربو عن مليونين ونصف المليون دولار..!!

وبعيدا عن ذلك كله، يؤكد تقرير الجهاز أن هذا القرار "سوف يستدعي بعض الوقت حتى يبدأ العمل فيه. حيث مطلوب دراسة مقدار التعويضات للمواطنين ومن ثم صرفها وتحديث الدراسات والتصاميم ومن ثم البدء بالتنفيذ"، منوهاً في نهاية هذه الفقرة بتأكيده: "وحتى تاريخ المراجعة لم يبدأ تنفيذ هذه الإجراءات".

كارثتان: قصور في الدراسات وفشل إداري
الواقع أن هذا التخبط يكشف قصوراً كبيراً في الدراسات والتصاميم الأولية، رغم أن المسؤولين في الدولة زعموا في السابق، منذ 2006، أنها جاهزة كليا وأن الحكومة خسرت عليها ستة ملايين دولار.

ففي 8/6/2006، نشرت صحيفة 26 سبتمبر خبراً جاء فيه: "من المقرر أن تعلن الحكومة عن مناقصة المشروع الاستراتيجي لطريق (عمران – عدن) خلال الفترة القليلة القادمة كمناقصة دولية وذلك بعد ان استكملت كل الاجراءات والدراسات والتصاميم اللازمة للطريق الاستراتيجي والحيوي".

 وأوردت الصحيفة تصريحات لوكيل وزارة التخطيط لقطاع برمجة المشاريع عبد الله الشاطر، أكد فيها أن مشروع طريق (عمران - عدن) الذي "سيربط بين 11 محافظة ويستفيد منه كل سكان تلك المحافظات قد انجزت كل التصاميم ودراسات  الجدوى والتي كلفت حوالى 6 ملايين دولار، تم تمويلها من قبل الصندوق السعودي للتنمية كقرض والحكومة اليمنية".

وهذا المبلغ الكبير والمبالغ فيه على الأرجح قدمه الصندوق السعودي من غير التمويل والقرض المخصصين لتنفيذ المشروع، بحسب ما تشير إليه تواريخ التصريح وتوقيع عقود التمويل والقرض.

لم يعلن أو يعرف لمن سُلم ذلك المبلغ الكبير والمبالغ فيه..!! كما لم يشر تقرير الجهاز المركزي إلى ذلك إطلاقاً، لكن صحيفة "الميثاق"، الناطقة باسم المؤتمر الشعبي العام، الحزب الحاكم سابقا، نشرت تقريراً ترويجياً مطولاً عن المشروع في 16 إبريل 2007، أشارت فيه إلى أن الدراسات والتصاميم الخاصة بالطريق المزدوج أعدت من قبل شركتي  "دورش الألمانية" و"هالكرو العالمية"، حيث أعدت الأولى دراسات وتصاميم المقطعين الأول والثالث، بينما تكفلت الأخرى بالمقطع الثاني.

وكان مهندسون يمنيون شككوا في وقت مبكر بجدوى تلك الدراسات والتصاميم، من حيث الدقة في تفاصيلها وتكلفتها المالية. وانتقد بعضهم كفاءة وقدرات معدِي تلك الدراسات والتصاميم المفتقدة للمعرفة وواقع البلاد الجيوجرافي، ناهيك عن عدم وجود دراسات مسبقة للأثر البيئي والاقتصادي الذي سينجم عن المشروع سلباً وإيجاباً. 

في 29/4/2009، كتب المهندس عبدالله الصايدي مقالاً في صحيفة "الوسط" اليمنية على خلفية إطلاعه على تقرير لجنتي الخدمات والتنمية والنفط بمجلس النواب اليمني حول مشروع الطريق المزدوج (عمران – عدن)، (ملاحظة: هذه اللجنة هي المسؤولة عن دراسة المشروع في المجلس قبل تقديمه إلى التصويت).

قدم المهندس في مقاله ملاحظات كثيرة جيدة وصادمة في الوقت ذاته بخصوص الدراسات الخاصة بالمشروع وجدواه وإمكانية تنفيذيه ومعيقاته. أهم ما لفت انتباهي هو حديثه عن التكلفة التقديرية للمشروع، الباهظة والمبالغ فيها كثيراً.

وفي هذا الخصوص، أشار إلى أنه، ومن خلال التقرير الخاص بلجنة النفط والتنمية بمجلس النواب، ومن خلال مناقشات أعضاء المجلس "اتضح أن التكلفة الوسطية لكل كيلومتر لطريق (عمران – عدن) قد تصل إلى خمسة ملايين دولار (أي مليار ريال يمني) وبعرض 37.7 متراً تقريباً". وبالتالي – يضيف "فإن متوسط التكلفة – في المناطق الجبلية - قد تصل إلى عشرة ملايين دولار لكل كيلومتر (أي 2 مليار ريال)".

اعتبر المهندس الصايدي أن هذا المبلغ "خرافي بكل المقاييس"، موضحاً أن "التكلفة الحالية لطريق بعرض 40 متراً مع الأكتاف تصل إلى 150 مليون ريال (يمني) لكل كيلومتر على أبعد تقدير للطرق الحضرية".

وهذا بالطبع يثير الكثير من علامات الاستفهام والاستهجان في آنٍ؟!
ومع ذلك، فكاتب المقال لم يكتف بطرح المشكلة بدون تقديم المبررات التي أدت إلى رفع التكلفة إلى ذلك المبلغ الخرافي، بل قدم أربعة أسباب عميقة أدت إلى ذلك، لكنه أيضا قدم مجموعة مقترحات وحلول عملية - بحكم خبرته كمهندس – من شأنها أن تعمل على تخفيض التكلفة الإجمالية للمشروع من مليار و950 مليون دولار، إلى 600 – 800 مليون دولار فقط.

لست مهندساً مدنياً، وليست لي خبرة في هذا المجال، كما أني لا أعرف من هو هذا المهندس الذي كتب المقال، لكنِي من خلال إطلاعي على طرحه للأسباب ومقترحاته بالحلول المُمكنة وفق طريقة علمية تنم عن خبرة طويلة في هذا المجال، شعرت أن ثمة أموراً رهيبة مستترة من وراء هذا المشروع، هي بطبيعة الحال لا علاقة لها إطلاقاً بإتقان العمل شعوراً بالمسؤولية الوطنية، بقدر علاقتها برؤوس كبيرة جداً بالدولة من مسؤولين كبار ونافذين وسماسرة مقاولات  واستشارات، يقفون وراء كل ذلك الفساد المعلن صراحة في وجوهنا جميعاً دون أن تهتز لهم شعرة أو يطرف لهم جفن.

ومع ذلك، استمرت حكومتنا في سيرها البطيء جداً. وبين الحين والآخر برزت محاولات مستميتة لمسؤولين تمتدح تلك الدراسات التي تكشف عن ضخامة المشروع وتروج وتسوق له بامتداح الإعدادات والتجهيزات المسبقة الكاملة من كافة النواحي دون أن تنسى التعريج دائما على "فخامة الرئيس" الذي يولي أهمية خاصة لهذا المشروع.

في النهاية، نجحت الحكومة في إقناع الصندوق السعودي للتنمية بتوقيع عقود التمويل (من منح وقرض)، كما تم الإشارة إليه سابقاً، ومن ثم الحصول على مصادقة مجلس النواب على القرض في 24/2/2009.

ومن المهم الإشارة إلى أن مصادقة مجلس النواب كانت مشروطة بالتزام الجانب الحكومي ممثلاً بوزير الأشغال العامة والطرق المهندس عمر الكرشمي بتوصيات المجلس، التي أكدت على ضرورة "إنزال المشروع في مناقصة دولية بعد التأهيل المالي والفني المسبق للشركات الراغبة في الدخول في المناقصة، وبعد استيفاء جميع الدراسات الفنية والجيولوجية والتنفيذية وفق أحدث المواصفات العالمية في مجال تنفيذ الطرق الدولية، وتحرِي الدقة في إرساء مناقصة هذا المشروع على شركة ذات سمعة ممتازة وكفاءة عالية ولها خبرة سابقة في تنفيذ مشاريع مماثلة لهذا المشروع، وسرعة تعويض أصحاب المزارع والمنشآت القائمة على مسار خط المشروع التعويض العادل، وفقاً لقانون الاستملاك للمنفعة العامة، وحسم ذلك قبل البدء في تنفيذ المشروع واتخاذ الإجراءات والحلول لكافة المشاكل التي تعترض سير العمل وبما يضمن عدم توقف تنفيذ المشروع".

توحي تلك التوصيات البرلمانية بوجود مخاوف لدى أعضاء المجلس بأن الأمر سيتخلله "فساد كبير"، وأن ثمة احتمالية كبيرة لأن يتوقف المشروع، وهو شعور طبيعي قياساً بمعظم -إن لم يكن كل- مشاريع الطرقات التي تنفذها وزارة الأشغال.

بعدها مر – تقريباً - عامان إلا بضعة أشهر دون أن يعلن عن إحراز أي تقدم (عملي) في إطار المشروع. إذ وفي 24/12/2010، نشرت وكالة "سبأ" الحكومية الرسمية خبراً مفاده أن "وزارة الأشغال العامة والطرق أعلنت عن بدء الخطوات العملية لتنفيذ مشروع طريق (عمران- عدن) الاستراتيجي العام القادم بعد استكمال تأهيل المقاولين وإقرار وثائق المناقصة الخاصة بالمشروع".

وفي سياق الخبر، أكد وكيل الوزارة الدكتور عبد الملك الجولحي لـ"سبأ" أن المقطع الأول من المشروع (صنعاء - بيت الكوماني) البالغ طوله 97.2 كيلومتراً، سيبدأ تنفيذه خلال فترة ستة أشهر، منوها إلى ان وزارة الاشغال ستقوم باستقبال العطاءات المقدمة من المقاولين وتحليلها وبدء التنفيذ.

بل وأكد حينها أن "اللجنة العليا للمناقصات وافقت على وثيقة المناقصة للمشروع والمقاولين الذين تم تأهيلهم من وزارة الاشغال والصندوق السعودي للتنمية باعتباره الممول للمشروع".

لكن فترة الستة أشهر، تمددت هي الأخرى إلى قرابة عامين آخرين دونما إحراز أي تقدم (عملي) يُذكر، باستثناء إنزال إعلانات رمزية في الصحافة الرسمية عن طلب موظفين للمشروع ومناقصات للشركات الراغبة في التنفيذ، حتى إنه لم يتم البدء نهائيا في البحث عن عملية "استملاك الأراضي"، وتعويض أصحابها بحسب توصيات مجلس النواب، وتنفيذاً لما ورد في الاتفاقية بأنه "سيتم تعويض المواطنين الذين يمر الطريق عبر أراضيهم"، إلا أن تقرير الجهاز أكد أنه "لم يتم البدء بذلك حتى نهاية العام 2012".

الحكومة تتدخل.. وتحويل اضطراري
وبدلاً عن ذلك دخل المشروع – كما أسلفنا مقدماً – في خلافات حول إمكانية تنفيذه من عدمه.  وآنذاك، أشيع أن المشروع سيتوقف العمل به. ولأن حكومة التوافق الوطني الجديدة أصبحت معنية بإنقاذ هذا المشروع الإستراتيجي المهم شددت على ضرورة الاستفادة من المنحة والقرض ومواصلة تنفيذ المشروع بعد إعادة تقييم المرحلة السابقة واختلالاتها والرفع للحكومة بمقترحات عاجلة للتنفيذ، طبقاً لمصدر في رئاسة الوزراء. وشكلت لذلك لجنة وزارية بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 124 لعام 2012.

وفي 10/10/2012، اجتمعت لجنة التسيير؛ ناقشت المشروع، وقررت إلغاء المناقصة السابقة، الخاصة بتنفيذ المرحلة الأولى (صنعاء – بيت الكوماني)، وذلك بسبب أن الشركة الصينية الوحيدة التي تقدذمت بعطائها لم تكن تمتلك الضمان، ما يعني أن المناقصة "غير قانونية"، إلى جانب ذلك أشار تقرير الجهاز أيضاً إلى اشكاليتين أخريين هما: "صعوبة تنفيذ المرحلة الأولى، وكذا المشاكل المتعلقة بالتعويضات والأراضي".

وطبقاً لتقرير الجهاز، رفعت لجنة التسيير مقترحين للاستفادة من القرض والمنحة الخاصة بهذا المشروع، هما:

تنفيذ المقطع الرابع من المشروع (تعز - عدن) بدلاً من المقطع الثاني (صنعاء –ذمار - بيت الكوماني) للمبررات التالية:
الاستفادة من المنحة والقرض لهذا المشروع؛ لأن وثائق المشروع التعاقدية متكاملة وجاهزة للبدء بإجراءات المناقصة.

إمكانية استخدام هذا الجزء كنواة لجلب استثمارات خارجية لتنفيذ بقية مراحل المشروع.
وجود عقد إشراف مع شركة EGIS الفرنسية بحيث يمكن المباشرة بإنزال المناقصة فور الموافقة على المقترح.

لأن حجم المشاكل المتعلق بالأراضي والتعويضات من المقطع (تعز -عدن) ستكون أقل من المقطع الثاني (صنعاء – ذمار - بيت الكوماني).
في حال عدم إمكانية تنفيذ المقطع (تعز - عدن) أو عدم الموافقة فيتم إعادة هيكلة القرض والمنحة وذلك لتغطية تمويل عدة مشاريع طرق أخرى.

وأقرت لجنة التسيير رفع المقترحين إلى اللجنة الوزارية المشكلة من الحكومة لاتخاذ القرار المناسب إزاء المقترحين.

وفي 6/2/2013، وافق مجلس الوزراء على البدء بتنفيذ المقطع (تعز - الحوطة - عدن)، ومخاطبة الممول (الصندوق السعودي) للموافقة على ذلك.

وفي 3/4/2013، رفع الصندوق خطاباً إلى الحكومة بموافقته على البدء بتنفيذ هذا المقطع.

وفي 20/5/ 2013، التقى وزير الأشغال عمر الكرشمي رئيس وفد الصندوق السعودي للتنمية المهندس عبد الله الشدوخي وبحث معه "إجراءات إنزال مناقصة جديدة للمشروع".

وقال خبر وكالة "سبأ" إن اللقاء استعرض "آلية تنفيذ المرحلة الأولى لمشروع (تعز – عدن) بطول 85 كم، وكذا آلية إنزال مناقصة المشروع التنافسية العالمية المتوقعة خلال الأسبوعين القادمين بعد استكمال إجراءات موافقة اللجنة العليا للمناقصات والصندوق السعودي للتنمية".

ملاحظات:
المقطع الرابع (تعز – لحج – عدن) يبلغ طوله 140 كم، وتم تقسيمه إلى ثلاثة حقائب، هي:
 الحقيبة الأولى (الجند – الدريجة) بطول 42 كم.
الحقيبة الثانية (الدريجة - نوبة دكيم) بطول 43 كم.
الحقيبة الثالثة (نوبة دكيم – العلم) بطول 55 كم.

وقد تم الاتفاق على تنفيذ الحقيبتين الأولى والثانية (مجموع طولها الكلي = 85 كم)، بتمويل سعودي من القرض والمنحة بمبلغ وقدره 400.000.000 دولار، وهي التي تحدث حولها الوزير الكرشمي مع رئيس وفد الصندوق السعودي في خبر الوكالة المشار إليه أنفاً.

البحث عن ممول آخر للحقيبة الثالثة
نجحت الفكرة إذن، بيد أنه تبقى البحث عن ممول للحقيبة الثالثة من المقطع المذكور (المتمثلة بـ: نوبة دكيم – العلم/ بطول 55 كم).

فكرت الحكومة باللجوء إلى البنك الدولي لتمويل تنفيذ الحقيبة المتبقية، وكلفت وزارة التخطيط بالتواصل مع البنك الدولي للإسراع في الموافقة على تمويل تنفيذ الحقيبة المتبقية (نوبة دكيم - العلم) بتمويل من قبل هيئة التنمية الدولية بمبلغ 150.000.000 دولار، وبحيث يتم التواصل من قبل وزارة التخطيط والتعاون الدولي مع البنك الدولي للإسراع في الموافقة على تمويل الحقيبة الثالثة بطول 55 كم. (تقرير الجهاز المركزي).

وكان لقاء سابق، في 11 فبراير 2013، جمع وزير الأشغال الكرشمي بمدير قطاع الطرق بالبنك الدولي تريسياكارتر، للبحث في إمكانية تقديم التمويل لتنفيذ هذه الحقيبة. يقول خبر وكالة "سبأ" بهذا الخصوص إن المسؤول الدولي "أكد على ضرورة الإسراع في استكمال وثائق المناقصات لمشاريع الطرق وفقاً لمحددات البنك الدولي ولما من شأنه الاستفادة القصوى من المخصصات المتاحة لليمن من قبل البنك الدولي".

ونسبت وكالة خبر اليمنية لمصدر في وزارة الأشغال، قوله إن مسؤول البنك الدولي "أبدى استعداد البنك للمساهمة في تنفيذ خط "عمران - عدن" الاستراتيجي بعد استكمال الإجراءات الفنية اللازمة للمشروع".

لكن، مع ما سبق الإشارة إليه أنفاً من حلول وإجراءات إلا تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة أكد "أن البدء بتنفيذ تلك الإجراءات وإنزال مناقصة بديلة لم يتم حتى كتابة التقرير نهاية شهر مايو 2013".

بل تشير المعلومات التي جمعناها ميدانياً ومن الأخبار المنشورة أن هناك تعثرات وإعاقات جديدة تواجه تنفيذ هذه المرحلة البديلة برمتها.

فلاحقاً، بعد ذلك كله وبعد تأكيد تقرير الجهاز المركزي أن الإجراءات لم تبدأ بعد حتى نهاية مايو الماضي، حدث أن قدم وزير الأشغال للحكومة في اجتماعها الأسبوعي المنعقد في 30 يوليو الماضي، مذكرة تؤكد وجود مشكلة جديدة أمام التنفيذ.

طالبت المذكرة من الحكومة بالموافقة على "تسوية التعارضات مع مسار مشروع الخط الدولي المزدوج (عمران - عدن) - المرحلة الأولى المقطع (تعز – الحوطة - عدن) بطول 140 كم".

إذن فقد ظهرت "تعارضات جديدة محتملة" أمام تنفيذ تلك المرحلة، لم توضح مصادرنا في الحكومة تفاصيلها ولا طبيعتها.

ويؤكد خبر وكالة "سبأ" بهذا الشأن أن الحكومة شكلت خلال اجتماعها ذاك "لجنة مشتركة للنظر في تلك التعارضات المحتملة مع مسار مشروع الخط الدولي المزدوج (عمران - عدن)".

وتشكلت اللجنة الحكومية برئاسة وزير الاشغال العامة والطرق وعضوية كلٍ من وزير المالية ومحافظو تعز ولحج وعدن.

"ومن المقرر أن تنظر اللجنة في التعارضات المحتملة مع مسار الطريق بهدف تسويتها أثناء قيام وزارة الاشغال بتحديد مسار مشروع الطريق وتقديم المقترحات اللازمة للمعالجة ورفعها إلى مجلس الوزراء كلما استدعى الأمر ذلك"، طبقاً لخبر وكالة "سبأ".

مخالفات وفساد مالي
عوضاً عما سبق الإشارة إليه سابقاً من تخبط وفشل إداري ومخالفات فنية وقانونية، يتطرق تقرير الجهاز المركزي بشأن المشروع إلى فساد كبير ومخالفات أخرى كثيرة.

لعلً أهمها هو مسألة التعاقد مع الشركة الاستشارية الفرنسية (egis becom) للإشراف على أعمال تنفيذ الطريق.

بحسب التقرير، تم التعاقد مع هذه الشركة بـ  8 ملايين و480 ألفاً و853 دولاراً. وصُرفت لها دفعة مقدمة بـ184.498 دولاراً "رغم عدم البدء بالتنفيذ ولم يتم التعاقد أصلاً مع الشركة التي ستقوم بأعمال التنفيذ".

 إضافة إلى ذلك، يؤكد التقرير أنه "تم صرف فاتورتين للشركة تحت بند الإشراف على أعمال التنفيذ بـ184.498 دولاراً، وبالتالي فإن هذا المبلغ غير مستحق للشركة المذكورة ويجب استعادته".

ردت وحدة المشروع بأن "الشركة إيجيس الفرنسية باشرت فعلاً مهامها بحسب شروط العقد. ومن تلك المهام مراجعة التصاميم قبل البدء بالتنفيذ لتلافي أي أخطاء لم يتم حلها مقدما". يجعلنا هذا الرد نتساءل عن الأخطاء والتعارضات والتخبط الذي أشرنا إليه أعلاه بالتفصيل..!!

يبرر رد وحدة المشروع أيضاً "كما توجد ضمانات بنكية بقيمة الدفعة المقدمة وحسن التنفيذ، وقمنا بصرف الدفعة المقدمة للشركة المذكورة بحسب شروط العقد مع العلم أنه تم صرف (1.441.745) دولاراً من منحة المملكة العربية السعودية في عام 2009، ولم تنفذ عملية الصرف إلا في عام 2010 كدفعة مقدمة مقابل ضمان بنكي نتيجة لتأخر الصندوق السعودي بصرف المبلغ وبقية المبلغ صرف مقابل قيمة الفاتورة رقم (1) لنفس الشركة بمبلغ وقدره (137.196) دولاراً، وكل هذا يؤكد وجود خطوات جادة لتنفيذ مشروع الطريق".

وتلك تبريرات لا تزيد إلا أن تؤكد الاختلال الكبير الذي قامت به وحدة المشروع. يقول تقرير الجهاز المركزي إنه "ومن خلال رد الجهة وعملية المراجعة لوحظ أنه قد تم التسرع بالتعاقد مع الشركة الاستشارية للإشراف على عملية التنفيذ حيث تم التعاقد مع الشركة الاستشارية في عام 2009 وتم صرف دفعة مقدمة لها رغم أنه حتى تاريخ المراجعة في 31/5/2013 لم يتم البت بالمقطع الذي سيتم تنفيذه، أي بعد مرور مدة 43 شهراً من تاريخ التعاقد مع الشركة الاستشارية الذي تم في 14/10/2009".

إلى جانب ذلك، يتحدث تقرير الجهاز المركزي عن "المبالغة الكبيرة في الانفاق على مشروع الطريق خلال الثلاث سنوات (2009 – 2011) خاصة من المساهمة المحلية (بند نفقات التشغيل). حيث تم صرف مبلغ 308.710 دولاراً، وتمثل ما نسبته 100% من المبلغ المخصص لنفقات تنفيذ المرحلة الأولى رغم عدم البدء بتنفيذ المشروع"، مشيراً إلى أن وحدة المشروع ردت على ذلك بالقول: "إن ما تم صرفه هو مقابل مكافآت صرفت نظير جهود بذلت مع المشروع، ومن تلك الجهود مكافآت لجان تحليل العروض الفنية والمالية للشركات الاستشارية".

ولم يقتنع مدققو الجهاز المركزي بهذا الرد، واعتبروا في تقريرهم أنه "غير مقنع، نظراً للمبالغة الكبيرة في حجم نفقات التشغيل المنصرفة".

الموقف العام من التمويل حتى نهاية العام الماضي
أرفق الجهاز المركزي في تقريره جدولاً تفصيلياً يوضح الموقف العام من التمويل حتى 31/12/2012. وبشكل إجمالي عام فقد تم صرف "2.509.831" دولاراً، خلال الفترة من نهاية 2011، وحتى نهاية 2012. (أنظر الجدول المرفق هنا في هذا التقرير).

وفي تحليله للجدول المرفق، يعود التقرير للحديث عن المخالفات المالية الكبيرة التي ارتكبتها وحدة المشروع خلال الفترة الماضية، بينها الكشف عن أن إجمالي المبالغ المنصرفة للشركة الاستشارية الفرنسية (egisbceom) بلغت 1.880.669 دولاراً، تمثل دفعة مقدمة للشركة صرفت في عام 2010 بـ 1.696.171 دولاراً، والباقي 184.498 دولاراً يمثل قيمة فواتير دفعت للشركة الاستشارية للإشراف على المشروع "مع العلم بأنه - وكما تم إيضاحه سابقاً- لم يتم البدء بأي أعمال تنفيذية حتى تاريخ المراجعة في 31/5/2013".

وعليه – يضيف التقرر - فإن الجهاز يؤكد على توصياته السابقة بضرورة استعادة تلك المبالغ من الشركة الاستشارية، حيث لا توجد أعمال تنفيذية حتى يتم التعاقد مع شركة استشارية للإشراف على التنفيذ.

بل أكثر من ذلك، يشير التقرير إلى أنه ومن خلال مراجعة وثائق المشروع "لوحظ عدم تواجد الشركة الاستشارية في اليمن حتى إنه في تاريخ 9/3/2013 تم تكليف كل من:
عبد الجبار سعيد سالم         مدير المشروع
إبراهيم الكبسي                الوكيل المساعد لقطاع الطرق.
م.نبيل الحيفي        مدير عام التعاون الدولي.
م.محمد الكحلاني              مهندس عقود..
للسفر إلى دُبي للاجتماع بممثلي الشركة الاستشارية الفرنسية؛ وذلك بسبب عدم إمكانية قدوم ممثلي الشركة الاستشارية إلى اليمن خلال هذه الفترة (نظراً للإجراءات المشددة من قبل الحكومة الفرنسية فيما يخصص السفر إلى اليمن للفرنسيين نتيجة للأحداث التي قامت في اليمن مؤخراً وبالذات في عام 2011 وبداية عام 2012".

وبهذا الخصوص يخلص التقرير إلى القول "ومنه يلاحظ عدم الجدوى من استمرار التعاقد مع هذه الشركة الاستشارية نظراً لعدم قدرة كادرها الحضور إلى اليمن للإشراف على التنفيذ".

أضف إلى ذلك أن المخصص من المنحة لبند الخدمات الاستشارية محدد هو 4.00000 دولار، و 705.883 دولاراً مساهمة محلية، أي أن إجمالي المخصص لهذا البند هو 4.705.883 دولاراً فقط، إلا أنه تم التعاقد مع الشركة الاستشارية بـ8.480.853 دولاراً. أي بزيادة عن المبلغ المخصص بـ3.774.970 دولاراً، وبما نسبته 80% من قيمة المخصص. يقول التقرير "ولم توضح إدارة الوحدة كيفية تغطية هذا الفارق".

مبالغة كبيرة في الإنفاق على "لا شيء"
وضمن الفساد المالي يرفق التقرير أيضاً جدولاً آخر يوضح أن ما تم صرفه خلال الأعوام الأربعة الماضية على المشروع بلغ 440.553 دولاراً، مقدماً تفصيلاً أوسع لكل بند صُرفت عليه تلك المبالغ، والتي بلغت 18 بنداً.

ويمثل هذا المبلغ المصروف ما نسبته 115 % من قيمة المخصص المعتمد للمرحلة الأولى من المشروع كنفقات تشغيل، طبقاً للجدول المرفق الموضح لذلك.

وحول تلك البيانات يقدم التقرير ملاحظاته التالية:
المبالغة الكبيرة في الانفاق على مشروع الطريق خلال الفترة المنقضية (2009-2012) خاصة من المساهمة المحلية (نفقات التشغيل) رغم أن المشروع لم يبدأ تنفيذه بعد بالرغم من أن النفقات هي خاصة بنفقات تشغيل المشروع كنفقات مساعدة للأعمال الأساسية بالمشروع التي لم يبدأ تنفيذها حتى تاريخ المراجعة في 31/5/2013 بل لم يتم التعاقد مع الشركة التي ستقوم بالتنفيذ ولم يتم إنزال مناقصة التنفيذ.

احتل بند المكافآت المرتبة الأولى وبلغ ما تم صرفه 142,285 دولاراً، ويمثل ما نسبته 32% من قيمة نفقات تشغيل المشروع رغم عدم وجود العمل الذي تستحق عليه تلك المكافآت وهو التنفيذ الفعلي للمشروع، وبالتالي فإن المبلغ المشار إليه أعلاه يمثل هدرا للمخصصات المعتمدة للمشروع.

تم صرف 44.163 دولاراً بدل جلسات للجنة تسيير المشروع خلال الفترة محل المراجعة وبصورة ثابتة شهرياً رغم عدم عقد جلسات شهرية تستحق صرف البدلات ومع ندرة الجلسات سنوياً، بالإضافة إلى أن البدء بتنفيذ المشروع لم يتم بالتالي، فإن المبلغ صرف بدون وجه حق، ويمثل هدراً للمخصصات المعتمدة للمشروع.

حساب السلف والعهد:
بلغ رصيد هذا الحساب 2.918 دولاراً يمثل:
1.986             عهدة أمين الصندوق بقيمة إيرادات بيع وثائق المناقصات للمشروع
466                سلفة بنظر أمين الزيلعي (المدير المالي للمشروع).
466                سفلة بنظر عبد الله الخياط (مدير الحسابات للمشروع).
2.918             الإجمالي

ويلاحظ:
عدم تصفية العهد والسلف حتى 31/12/2012.
عدم توريد قيمة بيع وثائق المناقصات حتى 31/12/2012، والمفترض توريدها إلى حساب الحكومة العام.
والجهاز يُوصي بسرعة إخلاء وتصفية العُهد والسلف المشار إليها، وتوريد قيمة إيرادات بيع وثائق المناقصات إلى حساب الحكومة العام وموافاته بما تم.

خلاصة الأمر
كان مشروع طريق "عمران – عدن" الإستراتيجي يدخل ضمن أهدافه إنقاذ أرواح آلاف اليمنيين الذين يلقون حتفهم جراء حوادث الموت المجانية بسبب خطوط الطرقات الوعرة، الملتوية والضيقة (خطوط حلزونية بمسار واحد ذهابا وإيابا)، وعوضاً عن أنها أنشئت بعقلية بدائية تقليدية وغير مدروسة بطرق علمية أصبحت متهالكة ومنتهية الصلاحية. (طبقاً لإحصائية رسمية، أدت حوادث السير في اليمن إلى وفاة ٣١ ألفاً و٤٥٨ شخصاً من مختلف الفئات العمرية خلال فترة الـ12 سنة الأخيرة (2000 – 2012)، فيما أدت إلى إصابة ٢١٠ آلاف و٩٣٢ شخصاً, في الوقت الذي تسببت في خسائر مادية قدرت بحوالي ٣٤ ملياراً و٧٢٠ مليوناً و٩٠٩ آلاف ريال).

من الواضح إذنً أن أكبر وأهم مشروع حيوي إستراتيجي تحول من كونه مشروعاً سينعش اقتصاد نصف اليمن خلال الفترة القادمة (ثماني محافظات رئيسية تجمع أكثر من نصف عدد السكان، بواقع ما يزيد عن 12 مليون نسمة)، إلى إنعاش اقتصاد وحدة صغيرة في وزارة الأشغال طوال الفترة الماضية.

بل أكثر من ذلك، بدا - حتى الآن على الأقل - وكأنه سيتحول من مشروع جاذب للاستثمارات في اليمن إلى نكبة كبيرة على اليمنيين بفقدان ثقة المانحين الدوليين ليس فقط بقدرات الحكومة على استغلال المنح والقروض، بل أيضا بجديتهم ومسؤوليتهم الوطنية في تنمية البلاد الأكثر فقرا في الشرق الأوسط.

الحال الآن، خمس سنوات من مدة المشروع، ولم يتبق سوى ثلاث سنوات فقط على المحددة في اتفاقية تنفيذ المشروع بثماني سنوات، والسؤال هنا: إذا كانت الدولة، الحكومة، وحدة تسيير المشروع، أياً كان المسؤول عن ذلك لم ينجز شيئاً يُذكر خلال فترة الخمس سنوات الماضية، فهل سيمكنه أن ينجز المشروع كاملاً خلال فترة الثلاث سنوات المتبقية؟ 

بانتظار الإجابة العملية على هذا السؤال، دعونا نختتم تقريرنا هذا بالإحالة إلى ما انتهى به المهندس عبد الله الصايدي لمقالته المنشورة في صحيفة "الوسط" اليمنية في 27/4/2013، بخصوص المشروع.

كتب المهندس الصايدي: "فإذا كان مشروع طريق ذمار - الحسينية ينفذ منذ ثلاثين عاماً؛ وأرحب - حزم الجوف منذ 25 عاماً؛ وتعز - شرعب الرونة منذ 20 عاماً، وهي مشاريع صغيرة فإن المشروع الضخم المسمى طريق عمران – صنعاء – عدن سينفذ بهذا الاسلوب خلال قرنين على الأقل، وسينفذ خلال أطول فترة ينفذ فيها أي مشروع خلال التاريخ البشري قاطبة.."!!
-------------------------------------------
نشرت المادة في يومية "المصدر" لعدد يومي الخميس-السبت الموافق 19-21 ديسمبر 2013
وعلى موقع "المصدر أونلاين" السبت 28 ديسمبر ، على الرابط أدناه