الأحد، 27 فبراير 2011

الشباب اليمني يعيشون حياة أخرى في وطن جديد اسمه "ساحة التغيير"


لاذوا بحياة أخرى في مساكن من قماش، بدءوها في مساحة صغيرة، فوجدوها أفسح من وطن أضيق من خرم إبرة

المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال

وأخيراً، حظي الشباب بمدينة جديدة، سموها على أمل بـ "ساحة التغيير". إنه وطن، في ظرف أسبوع واحد، بدأت ملامحه تتضح وتتشكل وسط العاصمة.

لطالما حلم الشباب اليمني، بمدينتهم الفاضلة. المدينة التي حلم بها آبائهم وأجدادهم من قبل، فضحوا بأرواحهم لتوريثها لهم. لكنهم، ومنذ قامت الثورة اليمنية المبجلة، قبل ما يقارب نصف قرن في (1962)، وحتى اليوم، ما ورثوا أكثر من الحلم نفسه. ذلك الجاثم فوق صدورهم المثخنة بالمآسي والآلام.

وهاهم اليوم، بات لهم وطنهم المفعم بالحيوية والنشاط والحب. مدينة أخرى تحرسها إرادة صلبة، وتقودها رغبة شبابية جامحة نحو "المدينة الفاضلة".

مركزها الساحة التي يتأنق وسطها نصب "الأيمان يمان والحكمة يمانية"، وحدودها تمتد غرباً على طول المسافة حتى بوابة الجامعة الجديدة، لتتجه شرقاً على مد النظر باتجاه شارع العدل، وإلى الشمال تكاد تلامس جولة "السنباني"، وبينها وبين جولة "القادسية" بضعة أمتار باتجاه الجنوب.
مدينة "ساحة التغيير"، هي الآن لا تعدو أن تكون مساحات محدودة، بيد أنها تشكل نواة لحلم كبير.

حين أتيتها من جولة القادسية، كانت عقارب الساعة تشير للواحدة والنصف من فجر يوم الأربعاء، استقبلتني آثار دمار سيارتين محترقتين كتب عليها عبارات "سيارات بلطجية النظام"، و "إرحل"..أو ما شابه. مازالت هناك كنصب تذكاري يدل على آثارهم ليلة أن حالوا اقتحام المدينة الجديدة عنوة وصدهم الشباب فحدثت المعركة التي راح ضحيتها شابان وجرح قرابة 20.

حياة أخرى في مساكن من القماشوقبل أن تلج إلى تفاصيل مدينة "ساحة التغيير"، تواجهك ثلاثة أسيجة أمنية منيعة. كل سياج مكون من مجاميع شبابية مصطفون هناك لتفتيشك.
تبدأ الرحلة بعبور أسفلت كان يزدحم بالسيارات، لكنه اليوم مكسو بالخيام الكبيرة. هذه الخيمة كتب عليها "خيمة الشهداء"، وتلك خيمة "شهيد التغيير: عوض السريحي" وعليها وضعت صوره في كافة الاتجاهات، وآيات وعبارات تمجد الشهداء وتعاهدهم بالوفاء وعدم نسيان دمائهم. استشهد السريحي برصاص غادرة حين داهم البلطجية الساحة بأسلحتهم وهراواتهم مساء الثلاثاء (15 فبراير).

وهنا خيمة أخرى كتب عليها خيمة "أبناء مأرب"، وتلك خيمة "شباب البيضاء"، وهذه خيمة "شباب التغيير"، وهناك خيمة "شباب الثورة"، خيام وخيام سميت بمسميات مختلفة، وعلقت عليها صور، أعلام، رسومات، وعبارات تنوعت صياغتها من خيمة إلى أخرى، ومن جدار إلى آخر، ومثلها على اللوحات القماشية التي توزعت في الأرجاء. هنا فقط، كسروا حاجز الخوف ومارسوا حريتهم بشراهة. كانت محاورها تدور حول: المطالبة برحيل وإسقاط النظام، الإرادة والعزيمة والإصرار، الفساد، التوريث، سخريات من الواقع، وآيات قرآنية، وأشعار ثورية وأخرى تبعث الحماس، وأشعار ساخرة. بينما تنوعت الصور لتشمل إلى جانب صور الشهداء، صوراً لقادة يمنيين سابقين كالنعمان، والحمدي، وقادة عالميين كتشي جيفارا. وهناك وسط الساحة علقت لوحة الشرف متضمنة صور النواب الشرفاء الذين قدموا استقالتهم من الحزب الحاكم.

هنا قرب باب إحدى الخيام، يتحلق مجموعة من الشباب حول شخص يتحدث عن شيئاً ما، لا أكاد أبلغ سماعه من شدة الزحام. وهناك في المقابل شباب يجلسون على الأرصفة الجانبية حيث ينشدون الهدوء ليعكفوا على ملازمهم وينهمكون بقراءتها. وهنا ينام البعض على الرصيف فوق لحافات خفيفة، بينما لا تخلو الساحة من مجاميع شبابية وكبيرة السن وهم يغدون ويروحون.

لوحة بديعة يرسمها ويسطرها الشباب والشيوخ من شتى المدن والمناطق والقبائل اليمنية. كلما تعمقت في الدخول أكثر، كلما وجدت أن الحياة تزداد نشاطاً وحيوية. فهنا حماس لا ينام، ومن مكان قريب تأتيك أصوات مظاهرة تهتف بسقوط النظام، ورحيله، وهناك في العمق البعيد، تكاد تصل إلى مسامعك أصوات شباب يرقصون ويبترعون على إيقاع الطبول، وهم يلهجون بأهازيج ثورية وزوامل وطنية.

الحياة في قلب ساحة التغييرتقترب من قلب الوطن الجديد، فتستقبلك بقالة مزدحمة، وبوفية مليئة بالحياة. على أضوائها الباهرة تشهد حراكاً كخلية نحل، وعمالها يجهدون أنفسهم لتلبية مطالب الشباب. وبالقرب تلمح شباباً يتحلقون حول وجبة طعام خفيفة، علها تقيم صلبهم لمواصلة السهر.

في قلب الساحة، أنى التفت، تجد مجاميع من الناس بعضهم يمضغ القات، وآخرين يخوضون نقاشات هادئة حول أمر ما، أجزم أنه لا يخلو من الحدث. إلى أي اتجاه تنتقل عيناك، تجد من العبارات والحكم والنضج والإدراك والوعي ما يبعث فيك القوة والحماسة، ومن كتل الشباب المتحفز ما يثلج الحماسة في صدرك.

من هنا مثلاً، يمكنك أن تشاهد هناك، على امتداد النظر باتجاه شارع العدل، لوحة عملاقة، كتب عليها عبارات أرحل بلهجات يمنية عدة، وفي مكان أخر تجد لوحة أخرى كتبت عليها العبارة نفسها بلغات عالمية عدة. وعلى الأرض أيضا كتبت بخط أبيض كبير. وفي إحدى الجزر المرتفعة تجد لوحة عليها صور مجاميع من البلطجية كتب عليها "مطلوبون للعدالة". وعلى عمود كهربائي بالجوار تقرأ عبارات تستحث الأمن والجيش لحماية المواطنين والدفاع عن الوطن لا عن أصحاب الكراسي.

وهنا في مركز الحياة الجديدة، صفت الخيام الصغيرة على امتداد المساحة، من نصب "الأيمان يمان والحكمة يمانية" حتى بوابة الجامعة على الامتداد في كلا الجانبين والوسط، حتى أنك لا تكاد تجد مساحة خالية أكثر من ممر ضيق للعبور. كل خيمة كانت شبه مغطاة بلوحات ورقية كتبت عليها عبارات مختلفة، تعكس مدى الوعي والفهم والثقافة التي يتمتع بها هؤلاء الثوار ضد سلب حريتهم ونهب وطنهم، وقوة إرادتهم اليوم لتغيير ذلك كله.
من أعينهم، وملامح وجوههم العاكسة لقسوة الحياة، مع أني أستطيع اليوم أن أقرأ عليها شيئاً ما يشبه بداية التحول، فإن الحياة في مخيم صغير كهذا، ربما بدت لهؤلاء، أوسع وأفضل من حياة أسفنجية لا تحدها المساحة لكنها بدت أكثر ضيقاً من خرم إبرة.

هنا على اليسار تجد خيمة صغيرة كتب أعلى بابها "اللجنة الإعلامية"، وإلى جوارها خيمة "لجنة التنظيم"، وتلك خيمة "لجنة الخدمات"، على أمتار قليلة من خيمة "اللجنة الأمنية". وعلى مساحة أكبر تجد خيمة "اللجنة الطبية" داخلها وعلى بابها يقف شباب الصحة وهم يلبسون الأبيض. هنا تتجسد كل معاني الدولة التي سلبت منهم. تلك التي لم تمنحهم الفرصة ليفرغوا طاقتهم وقدراتهم وإبداعاتهم من أجلها.

حماسة لا تنام، وأعين تشعر بالأمانالآن، عقارب الساعة تقترب من الثانية والنصف، بعد منتصف الليل، ومازالت الحماسة تسكن الأجواء إذ تنضح من تلك المجاميع الشبابية وهم يحملون على أكتافهم النائب المستقيل من البرلمان "فؤاد دحابة" يجوبون به الساحة ويهتفون خلفه بسقوط النظام.

لم يسبق أن توحدت اليمن مثلما هي الآن. ويبدو أن الحسنة الوحيدة لهذا النظام– إذا كانت له حسنات – أنه عمل على توحيد هؤلاء الشباب القادمين من مختلف المناطق اليمنية والمشارب الفكرية. لفت أحد الزملاء انتباهنا لهذا المعنى المكتسب من هذه الحياة التي تعاش هنا في هذه المدينة الجديدة.
كانت فرقة النظافة تجوب الساحة بأكياس صغيرة يرفعون الأوراق ويجمعون من على الأرض ما أسقطتها أنشطتهم ومظاهراتهم النهارية. لابد أن يقوموا بهذا حفاظاً على نظافة وطنهم الجديد.

يا الله، هذا شاب ثلاثيني، ثيابه بسيطة، ويجعل من الأرض والحصى سريره، ومن الرصيف الحجري مخدته. مدد جسده بحميمية، وأغمض عينيه، دون أن تفارق شفتيه بسمة تنم عن سعادة بالغة. في هذه اللحظة لم أكن بحاجة لمزيد من الوقت للتخلص من لا وطنية مخيلتي إذ تنقلني باتجاه تلك الفلل الضخمة والأسوار المرتفعة التي تحيط غرفاً فاخرة مليئة بأسرة تغطيها فرش وثيرة، لكن أشخاصها أنى لهم أن يغمضوا أعينهم اليوم مثل هذا الشاب المسجي بجسده على هذه الأرض الصلدة.

الآن أنظر إلى ابتسامته وعينيه المغمضة بأمان، والآن بإمكاني أن أقرأ الفرق بينه وبين أولئك. إنه ينام على أرضه، حيث لا أحد اليوم يمكنه أن يطلب منه الرحيل، بينما أنهم يعجزون عن النوم لأن هذا الشاب وأمثاله باتوا يدركون أن هناك من نام طويلاً في أماكن ما كان يجب عليهم أن يناموا عليها أكثر من اللازم، فخرج، مع هؤلاء الشباب، ليهتف معهم بصوت واحد: الشعب يريد إسقاط النظام.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق