الأربعاء، 16 مارس 2011

كيف يمكننا إسقاط النظام باستخدام القوة "الناعمة"؟


تجارب عالمية.. تساعد على إنجاح الثورة الشعبية

المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، تساقطت معظم النظم الاشتراكية في أوروبا الشرقية بهدوء وسلاسة. وفي ديسمبر 1989 بدأت تتضح في الأفق معالم سقوط آخر معاقلها من تحت قبضة الرئيس نيكولاي تشاوشيسكو الذي كان الشعب الروماني يصفه بـ"الطاغية". ومع أن تلك الثورة الشعبية اتسمت بطابع سلمي، إلا أن النظام استخدم عنفاً أحال رومانيا إلى نهر من الدماء.

بدأت الانتفاضة الشعبية من بلدة صغيرة اسمها "تيميشوارا" في 17 ديسمبر 1989، عندما ووجهت مظاهرة ضد طرد القس البروتستانتي لازلو توكس المعارض للنظام برصاص الأمن لتنتهي بحمام من الدم، لقي خلاله الآلاف من الأشخاص مصرعهم.

العنف الذي مارسه النظام الديكتاتوري، ونقل على شاشات التلفزيون على الهواء مباشرة لأول مرة، عمل على إذكاء نيران الغضب الشعبي، لتنتقل عدوى المظاهرات سريعاً من مدينة إلى أخرى.

بعد عقدين تقريباً منها، تأتي المفارقة هنا عبر التشابه في بعض أهم جزئيات تلك الثورة مع الثورات العربية الأخيرة بنوعيها: تلك التي انتهت إلى النجاح في تونس ومصر، وتلك الأخرى التي ما زال الشعب الليبي يصنعها باقتدار، بينما يعمل الشباب اليمني على تخليقها منذ أسابيع.

وقبل مصرعه بأربعة أيام، وفي لقاء صحفي، سئل تشاوشيسكو عما يجري في بلده؟ وهل يخشى أن تتطور الأمور إلى الأسوأ؟ فرد الرجل بكل عنجهية "عندما تتحول أشجار البلوط إلى تين قد تتغير الأوضاع في رومانيا".

قذف الصحفي بسؤال آخر: لكن العاصفة عرت كل الأشجار في أوروبا الشرقية! لكن الرئيس الممتلئ بالطغيان رد ساخراً، كأي ديكتاتور يعتقد اليوم أنه مازال قوياً وقادراً على السيطرة،: "هذا صحيح، لقد تغيرت الأوضاع في أوروبا الشرقية، لكن رومانيا ليست أوروبا الشرقية..إنها غير وأنتم لا تعرفونها كما نعرفها..".

لم يمر سوى أقل من شهر تقريباً على انطلاق الانتفاضة وأربعة أيام فقط على تلك المقابلة الشهيرة، كانت الانتفاضة الشعبية خلالها تتسع لتصل إلى العاصمة بوخارست. مع كل تلك العنجهية المقيتة، والثقة اللامحدودة على القوة والقدرة، إلا أن الأحداث ستتجه إلى منعطف خطير سيؤدي في النهاية إلى سقوط تشاوشيسكو. أعدم الديكتاتور مع زوجته بعد إدانتهما في محاكمة صورية في فناء إحدى ثكنات الجيش.

حدث ذلك أمام عدسات التلفزيون، بطريقة دراماتيكية. أعدم البطل، على الرغم ما أشيع أنه كان يمتلك قرابة 100 ألف رجل من الشرطة السرية (معلومات أخرى نشرت أكدت أن العدد بلغ نصف مليون ضابط وملايين المرشدين)، كانوا جميعهم يعملون على القتل والإعدامات، وخلق مناخ من الخوف المستمر.

حين سقط نظام الرئيس التونسي بن علي بفراره، قال الرئيس المصري المخلوع، مصر ليست تونس، فسقط في ظرف أيام من تلك المقولة. قال كل من الديكتاتور الليبي: ليبيا ليست تونس ومصر، فسقطت معظم مدن البلاد تحت قبضة الثوار. وبالمثل وبشكل تدريجي كان الرئيس اليمني وفلتات نظامه يؤكدون المعنى ذاته: اليمن ليست تونس، اليمن ليست مصر، وهاهم اليوم مازال الصوت يخنقهم وهم يقولون أيضاً: اليمن ليست ليبيا.

* من يكرس العنف؟
تمضي ثورة الشباب اليمني منذ انطلاقها منتصف فبراير الماضي، نحو التشكل. تتسع وتكبر يوما بعد آخر لتتضح معالمها السلمية، على أسس من مبدأ اللاعنف أو النضال السلمي لتحقيق هدفهم المستلهم من الثورات العربية الحديثة: "الشعب يريد إسقاط النظام".

بينما كنا في أحد استوديوهات إذاعة صنعاء، صباح السبت الفائت، سألتني مذيعة برنامج "صوتك مسموع" في إذاعة الشباب الرسمية – ضمن لقاء مسجل استمر لمدة ساعة – حول سلمية ثورتنا الشبابية، وإمكانية تحولها إلى العنف. أجبت فيما معناه أن: "جميع الشباب في كافة ساحات الجمهورية يؤمنون إيماناً راسخاً لا يمكنه أن يتزعزع أن ثورتهم سلمية. وقد أثبتت الأحداث السابقة من عمر الثورة القصير أن الشباب ليس لديهم إلا صدورهم العارية يواجهون بها همجية وبلطجية النظام".

والأحد الماضي كان الناطق الرسمي لأحزاب المشترك محمد قحطان يستهل عمله بتأكيد المعنى ذاته. كانت تصريحاته تعزز اتفاقا ضمنياً بين جميع عناصر الثورة. وكان من الجيد أن يحدث ذلك بعيداً عن أي تنسيق بين الطرفين، كون الشباب يشددون على مبدأ استقلالية الثورة من الحزبية، لكنهم يرحبون بكل من يريد السير معهم لتحقيق أهدافهم أياً كانوا وإلى أي جهة أو فئة أو حزب ينتمون.

أضفت في ردي على سؤال المذيعة: الشباب ملتزمون بمبدأ اللاعنف، وأي عنف يطال الثورة فبالتأكيد هو لن يكون إلا عنف الطرف الذي يمتلك قوة السلطات الثلاث: التشريعية، التنفيذية، القضائية، مضافاً إليها سلطة الجيش والأمن.

* بين خيارات العنف واللاعنف
يغنينا التاريخ البشري بكثير من التجارب التي تؤكد أن العنف، سواء ذلك الذي ينتشر ويتوسع إلى حرب أهلية، أو ذلك الذي يقتصر على تنفيذ مجازر جماعية، من طرف مسلح ضد آخر لا حول له ولا قوة، هو عنف يتسبب بحدوثه الطرف الأقوى الذي تمثله غالباً الأنظمة الديكتاتورية. الحالة الأولى مثلاً تنشأ في مجتمع مسلح، حينما لا يجد هذا المجتمع خياراً آخر للحصول على ما يفتقده (حق، حرية، توزيع عادل للثروة..الخ) بالطرق السلمية. مع التأكيد هنا أن التحرك يبدأ عبر المجتمع سلمياً – لاسيما في الأنظمة الديمقراطية الهشة ذات النزعة الاستبدادية، ثم يتحول إلى العنف حينما تستخدم هذه الأنظمة القوة والقمع والقتل والتدمير ضد من تعتقد أنهم يسعون لإضعافها وتقويض سلطتها.

كما أن الحالة ذاتها يدخل ضمنها – أحياناً - التعامل مع الأنظمة الديكتاتورية الخالصة، وإن بعد فترات طويلة من الحكم بالحديد والنار. بينما تحدث الحالة الأخرى (الإبادة الجماعية) في إطار الأنظمة الهجينة، والأنظمة المستبدة في مجتمعات غير مسلحة غالباً.

بالنسبة للأنظمة شبه الديمقراطية (تلك التي ترفع شعار الديمقراطية بهدف تعزيز وجودها واستمراريتها في الحكم، ليس إلا) من الصعب على مجتمعاتها، وبالأخص إذا كان المجتمع مسلحاً، أن تتجنب الدخول في العنف، حينما تمارس السلطة مهامها وإجراءاتها التسلطية والمهينة، بينما تسعى شريحة أو شرائح متعددة استخلاص حقوقها أو مطالبها المشروعة حتى عبر الآليات الديمقراطية المفترضة.

هنا تكون المعادلة أكثر تعقيداً، وستتعلق النتيجة النهائية بأحد أمرين: إما أن يكون المجتمع أقل وعياً في استخدامه لوسائل وآليات الديمقراطية لانتزاع الحق، أمام نظام لا يعرف إلا القوة، وبالتالي يحدث المكروه ويتوسع العنف. وإما أن يكون المجتمع قد بلغ درجة كبيرة من الوعي بحيث يستطيع أن يستخلص تلك الحقوق والمطالب بعيداً عن السلاح، مهما كانت الاستفزازات التي يمكن أن يقوم بها النظام الخائف من انهياره وسقوطه.

* حتمية العنف سيكولوجياً
يرى الدكتور مصطفى حجازي في مؤلفه "التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" أن المجتمع المتخلف يصل "بالضرورة في مرحلة من مراحل تطوره إلى العنف، بعد فترة شيوع العلاقات الاضطهادية. وهنا يتوجه العنف ضد القوى المسئولة عن القهر (المستعمر والمتسلط الداخلي). يتضح للشعب المقهور أن العنف المسلح هو السبيل الوحيد كي يعبر عن نفسه وعن حقه في الوجود. لقد يئس من إمكانية الوصول إلى الحق الذاتي بالرضوخ أو بالعنف الداخلي. ليس هناك من لغة ممكنة من قوى التسلط سوى لغة مماثلة للغتها، لغة القسوة، لغة الغلبة. ومع ترسخ اليأس من الحوار السلمي أو الرضوخ، يترسخ الإحساس بضرورة العنف وإلا تحول الشعب إلى ضحية دائمة ونهائية".

ويقول: نحن هنا أمام الظاهرة التي يسميها علماء الأحياء برد الفعل الحرج التي تتلخص في خيارين: الفناء أو المجابهة. وهي تلاحَظ عند الإنسان والحيوان على حد سواء. فقد يستسلم الكائن الحي ويرضخ أو يهرب طالما برزت لديه إمكانية للنجاة، ولكن عندما تنعدم هذه الإمكانية يتحول الضعف إلى قوة يستجيب برد فعل حيوي، يعبئ كل طاقاته ويكثفها في دفاع مستميت عن وجوده.

ويستدرك قائلاً: ومن المعروف في هذه الحالة أن فئة مستضعفة قد تغلب فئة قوية، أنست إلى قوتها واطمأنت إلى أن الغلبة ستكون بجانبها.

ثم يقرر الخلاصة "الكثير من الانتصارات المفاجئة وغير المتوقعة التي حققتها فئة قليلة ضد فئة تفوقها عدة وعدداً، كان للاستجابة الحرجة دور هام فيها". إن نموذج تشاو شيسكو هو النموذج الأكثر وضوحاً لتأكيد هذه الفكرة. وفي الواقع، فلن تختلف النتيجة مهما طالت مدة الاحتضار بالنسبة للنموذج الليبي.

* لكننا نستطيع تجنبه.. وننجح
لكن، وعلى الرغم من أن المفكر الغربي جين شارب، يبدأ في مؤلفة المهم "البدائل الحقيقية" بالفكرة ذاتها التي تؤكد مبدأ حدوث العنف، إلا أنه في خلاصة الأمر يستطيع أن يقنعنا بفكرة مناقضة تماماً عبر تقديم بدائل أخرى تجنبنا العنف مهما كانت مبرراته. فهو، في كتابه، يركز على تأصيل فكرة النضال اللاعنيف.

هناك بديل للعنف، في نظر شارب. ولتجنب أن تصبح الحرب وأشكال العنف الأخرى في النزاعات الحادة الحل النهائي للدفاع عن المبادئ والمعتقدات والمجتمع والوجود، علينا أن نوفر بديلاً قوياً للسيطرة على النزاع بحيث يضع هذا البديل أمامنا فرصة للنجاح أو تفوق خيار العنف.

لدى شارب حقائق مؤكدة تعزز وتحمي سير ثورتنا الشبابية القائمة على النضال السلمي. وهو ما سأفرد له ما تبقى من مساحة، يقودني إلى ذلك هدف أساسي يتمحور حول محاولة الحفاظ على مبدأ سلمية الثورة مهما كانت المعقدات والاستفزازات، لاسيما وأن خيار جرنا إلى العنف سيكون أحد أبرز خيارات نظام استبدادي يحتضر.

* قوة اللاعنف
يرى شارب أن الدليل على قوة هذا البديل (النضال السلمي) يكون كامناً في حقيقة أن مصدر القوة- وإن كان مصدراً لقوة حتى الديكتاتوريات- ينبع أساساً من مصادر القوة الموجودة في المجتمع التي بدورها تعتمد على التعاون بين المؤسسات والشعب..

ويلفتنا إلى ما يزخر به التاريخ البشري الذي يقدم لنا "تجارب تشهد انتصارا للنضال السلمي اللاعنيف في وجه خصوم كانوا دائماً مستعدين لاستخدام أقوى إجراءات القمع مثل الإعدام والضرب والاعتقالات والسجن والذبح الجماعي. فبالرغم من وجود أشكال القمع هذه إلا أن المحتجين أصروا على النضال بطرق اللاعنف التي أدت أحيانا إلى انتصارهم".

قبل الألفية الجديدة كانت هناك ثورات سلمية ناجحة عديدة على مستوى العالم، حدثت معظمها ضد ديكتاتوريات راسخة القوة. ومع مطلع الألفية الجديدة حدثت انتفاضات انتهجت السبل السلمية اللاعنيفة، وحققت نجاحات مفاجئة على مستوى العالم. لعل أهمها – على سبيل المثال - حركة المقاومة والديمقراطيون الصرب التي أدت إلى سقوط نظام حكم ميلوسوفتش الديكتاتوري أوائل العام 2000. وفي أوائل العام 2001 أسقطت حملة شعبية فلبينية نظام الرئيس استرادا المتهم بالفساد. بينما مثلت ثورتا تونس ومصر مفاجآت أخرى مع مطلع العقد الثاني من الألفية (2011) كونها خرقت الفكرة السائدة في الوطن العربي والقائمة على الخنوع والاستسلام والخصومة مع التغيير، إلا عبر الانقلابات العسكرية التي اشتهرت بها الأنظمة العربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي.

إلا أنه وبالمقارنة بين العنف واللاعنف، تبرز مفاهيم خاطئة تنزع إلى القول أن خيار العنف أسرع فتكاً بالأنظمة الديكتاتورية من اللاعنف. أو أن هذا الأخير يعبر عن الضعف، أو أنه لا يحتاج إلى قائداً يسحر الجماهير..الخ، لكن شارب يفند تلك الادعاءات، ويصفها بأنها "مفاهيم خاطئة". هي وغيرها من المفاهيم الأخرى كالزعم مثلاً أن أساليب اللاعنف تنجح فقط ضد الأنظمة الديمقراطية والخصوم الذين يؤمنون بحقوق الإنسان، أو أن النجاح لا يحالفها إلا فقط حين ترق قلوب الأنظمة القمعية. لكن ذلك كله غير صحيح كما يقول شارب، فقد نجح النضال السلمي في مواجهة أكثر الأنظمة وحشية وديكتاتورية، وأطاح بأنظمة ديكتاتورية قمعية.

وحتى ينجح النضال السلمي في تحقيق أهدافه يقدم لنا شارب هذه النصيحة:"علينا أن نعي وجود عنصرين ضروريين قد نواجهها عند استخدام بعض أشكال اللاعنف في النضال، وهي: القدرة على مواجهة وقلب تأثيرات القمع، والقدرة على تقويض مصادر قوة الخصم".

* العنصر الأول قلب تأثيرات القمع
تحت عنوان "القمع وسياسة المصارعة اليابانية"، يشرح المؤلف هذا العنصر. إذ يعتقد أن التهديد والقمع هو ردة الفعل الطبيعية للحساسية التي تتمتع بها الأنظمة الديكتاتورية ضد أي عمل يضعف تسلطها وانفلات قوتها. ومع ذلك يؤكد:"ولكن القمع والوحشية لا ينتجان دائماً الاستمرارية والخضوع اللذين يمكنان أنظمة الحكم الدكتاتورية من الاستمرار". وعليه يعتقد الكاتب أن بعض الظروف التي يولدها القمع تؤدي أحياناً إلى ما يسمى "سياسة المصارعة اليابانية". هذه السياسة ترتكز على خلق وضع صراع خاص بين القمع والنضال السلمي. هذا الوضع يفتقر إلى الانسجام والتناسق. بحيث يستطيع المحتجون استخدام هذا اللا تناسق من أجل وضع خصمهم في موقف سياسي يشابه ما يحدث أثناء المصارعة اليابانية. فالتناقض الذي يولده استخدام أساليب اللاعنف في مواجهة العنف يضع الخصم في وضع سياسي غير متوازن يضعف من قوته ويزيد من قوة المحتجين، وفق ما يسمى بسياسية المصارعة اليابانية. إن هذه السياسة، في نظر شارب، تؤدي "إلى زيادة عزلة الخصم عن ثلاث مجموعات هي: أعضاء جماعة الخصم نفسه والمواطنون الذين يؤثر عليهم الوضع والأطراف المتورطون في النزاع بشكل غير مباشر. وقد تؤدي هذه العزلة إلى زيادة المعارضة الداخلية في معسكر الخصم، وهي عادة ما تؤدي إلى أن تتحول الأطراف الأخرى ضد الخصم وإلى مناصرة المحتجين".

وهنا، علينا أن ندرك أن ثورتنا السلمية تسير في الاتجاه الصحيح. فهذا بالضبط هو ما حدث وما زال يحدث اليوم بوضوح في النموذج السلمي الذي ينتهجه الشباب اليمني. إذ وعلى مدى الأيام الماضية على انطلاق الثورة الشبابية السلمية، وُجد أعضاء في كتلة الحزب الحاكم البرلمانية، يقدمون استقالتهم من الحزب وينضمون إلى المحتجين. كما تتالت تلك الاستقالات من قبل مشايخ، وقياديين ورجال أعمال ومناصرين وأعضاء، وقواعد، بسبب العنف، والقمع، والأساليب الدنيئة والخسيسة (البلطجة) التي مارستها السلطة ضد المحتجين.

العنصر الثاني: تقويض قوة الخصم
يرى الكاتب أن هذه الطريقة تؤتي فعاليتها عندما يكون هدف النضال السلمي "ممارسة ضغط على حكومة ما، لكي تقوم بعمل ما أو لكي تتخلى عن القيام بأمر ما، أو عندما يكون الهدف تفكيك النظام".
مبدأ هذه الطريقة بسيط، ويستند أساساً على أن الأنظمة الدكتاتورية بحاجة إلى مساعدة الشعوب التي تحكمها التي بدونها لا تستطيع أن تبقي على مصادر قوتها السياسية.

مصادر القوة السياسية تلك، يسردها الكاتب على النحو التالي: السلطة والشرعية، المصادر البشرية (الأشخاص والمجموعات التي تنصاع لأوامر الحكام وتتعاون معهم وتساندهم)، المهارات والمعرفة (التي يحتاجها نظام الحكم ويقدمها الأفراد والمجموعات المتعاونة)، العوامل غير الملموسة (مثل العوامل النفسية والفكرية التي قد تشتمل على الأشخاص الذين يطيعون ويعينون الحكام)، المصادر المادية (الممتلكات والمصادر الطبيعية والمصادر المالية والنظام الاقتصادي ووسائل الاتصال والمواصلات)، وأخيراً: العقويات (التي يهدد الحكام باستخدامها لضمان خضوع الناس وتعاونهم وهما الأمران الضروريان اللذان يحتاج النظام إليهما لاستمراريته واستمرارية سياسته).

وعليه يرى الكاتب أن "رفض التعاون مع الأنظمة وتحديها يقلب الطاعة المطلوبة والتعاون التي تقدم مصادر القوة اللازمة. فمثلاً نجد أنه عندما ترفض الجماهير شرعية الحكام يفقد هؤلاء الحكام طاعة الناس لهم، وهذا يخلق مشاكل كبيرة أمامهم حيث أن الإضرابات الشاملة تشل الاقتصاد وعدم التعاون الإداري يعيق العمليات الحكومية، وفي حال تمرد الشرطة والجيش على الخصم فإنه يفقد القدرة على ممارسة القمع ضد المحتجين من أجل الحفاظ على نظام الحكم".

وبإسقاط هذا المبدأ على ثورتنا الشبابية سيمكننا ملاحظة أن بعضها تحقق، لكننا مازلنا بحاجة إلى الانتقال لتحقيق الكثير مما تبقى من تلك العناصر. وهذا ما سيتوجب علينا التخطيط له خلال الأيام القليلة القادمة، بينما سيتوجب علينا العمل على تحقق بعضها من خلال التركيز على بعض التصرفات واتخاذ القرارات إزاءها، حتى نحقق ما تبقى منها كتلك الخاصة بتمرد الشرطة والجيش، مع أننا قد بدأنا نلمس تحقق بعضها، ولكن بكمية بسيطة جداً.

إننا حين ننجح في تحقيق ذلك سنحصد نتائج مهمة، كتلك التي يسردها الكاتب وهي: "قوة الخصم تضعف وتنهار عندما يفقد مصادر قوته هذه، وبالتالي يسقط بسبب الضعف السياسي. وهذا ما يؤكد صحة ملاحظة العالم السياسي كارل دويتش التي جاءت في عام 1953 حيث قال إنه حتى الديكتاتوريات الاستبدادية تعتمد على دعم الجماهير والمجتمعات لكي تستمر في حكمها".

إن النجاح منوط بالتركيز على عدة طرق يقول الكاتب إنها تعتمد بشكل كبير على مجموعة عوامل، تشمل: طبيعة النزاع والقضايا المتنازع عليها، والتركيبة الاجتماعية لجماهير المحتجين وطبيعة الخصم، بالإضافة إلى: الاستراتيجية الرئيسية (إن وجدت)، وآلية التغيير، والأساليب المستخدمة والمهارات والانضباط وتماسك المحتجين.

بيد أن التطور المستقبلي لهذا الأسلوب يتطلب –في نظر الكاتب- بدائل اللاعنف في معالجة أنواع الأزمات التالية: إسقاط أنظمة الحكم الدكتاتوري، الوقوف في وجه أي انقلاب على الحكم ومنع إنشاء أي دكتاتوريات جديدة، مقاومة أي اعتداءات أو احتلال أجنبي، الحفاظ على وجود وأساليب حياة الشعوب الأصلية، الوقوف في وجه اللاعدالة الاجتماعية والاقتصادية، نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان واستمرارية بقائها، إدخال وسائل إضافية للنضال باستخدام اللاعنف إلى المجتمعات الديمقراطية.

أهمية التخطيط الاستراتيجي
ويفصل الفصل الثاني من الكتاب أهمية التخطيط الإستراتيجي في النضال السلمي. كون التخطيط الإستراتيجي السليم يزيد من قوة وفرص نجاح النضال اللاعنيف. "وتكمن أهمية التخطيط الإستراتيجي في النضال اللاعنيف في أنه مفتاح تحول الحركات الاجتماعية والسياسية إلى أكثر فعالية، وقد لا يضمن أن تحقق حركة ما أهدافها ولكنه يرجح كفة فرص النجاح".

يتعلق الأمر أساساً باستخدامنا الأفضل للمصادر والإمكانيات المتوفرة. فذلك يضاعف من فرص تحقيق الأهداف المتوخاة. وعليه، يشدد الكاتب على ضرورة وجود خطة استراتيجية "مصممة لنقلنا من الحاضر (حيث نفتقر إلى تحقيق الأهداف) إلى المستقبل (حيث نتمكن من تحقيق أهدافنا). وتكمن الاستراتيجية في تخطيط سير العمل الذي ينقلنا من الحاضر إلى المستقبل الذي نرغب في الوصول إليه".

إن الاستراتيجية هنا يعرفها المؤلف، وفقاً لعدة معان. فهي "مفهوم يعكس الطريقة الأفضل لتحقيق أهداف الصراع.." وهي "تهتم بكيف ومتى نحقق أقصى تأثير للوصول إلى أهداف معينة". كما أنها أيضاً "خطة التوزيع العملي والتأقلم وتطبيق الوسائل المتوفرة لتحقيق الأهداف المرغوبة". وقد تشمل أيضاً "الجهود من أجل تطوير وضع استراتيجي متميز لدرجة أنه يحقق النجاح دون صراع مفتوح. وتكون الاستراتيجية عند تطبيقها على الصراع نفسه الفكرة الأساسية لكيفية تطوير الحملة وكيف يتم جمع محتوياتها المتفرقة معاً بطريقة تحقق أهدافها". بل "وتشمل الاستراتيجية أيضاً اعتبار النتائج التي قد تّتبع أعمالاً معينة وتطوير خطة عمل عريضة ونشر مجموعات الصراع في أعمال أصغر واعتبار متطلبات النجاح في أسلوب العمل المختار وتوظيف النجاح بأفضل طريقة".

في نهاية الأمر سيمكننا تلخيص أهم ما جاء في هذا الفصل بعبارات موجزة، تعلمنا أنه لابد لنا من التفكير بخطة عمل استراتيجية عريضة وطويلة الأمد تحدد الأهداف ومراحل تحققها بدقة، وبحيث لا تتيح لنا الابتعاد عن أهدافنا بالتركيز على القضايا الصغيرة والانجرار إلى ردات فعل متكررة لمواجهة الأفعال التي يبدأ بها الخصم، فذلك قد يبدد أوقاتنا ويمنعنا من اكتشاف استراتيجيات بديلة عند الضرورة.

كما سيتوجب علينا أن نؤمن في قرارة أنفسنا أننا لسنا ضعفاء أو لا حول لنا ولا قوة لمقاومة القوة العاتية، لنعتقد أن أفضل ما يمكننا القيام به هو الإصرار أو الموت ونحن مؤمنون أننا على حق. وبالتالي نمتنع عن محاولة التفكير والتخطيط بطريقة استراتيجية لتحقيق ما نصبو إليه. فهذا تكون نتيجته الفشل والإضعاف والقضاء على فرص النجاح وتبديد القوة وإفقاد الإعمال تأثيرها وتضييع التضحيات سدى.

نتائج إغفال التخطيط الاستراتيجي
إن عدم وجود خطة عمل استراتيجية دقيقة قد تؤدي – بنظر المؤلف- إلى:
- انحراف الطاقة نحو قضايا ثانوية واستخدامها بطريقة غير فعالة.
- عدم استغلال الفرص التي تؤدي إلى تقدم في القضية.
- تحدد مبادرة الخصم خط سير الأحداث.
- يزيد من ضعف الطرف المناضل وتؤثر بشكل مصيري على العمل لتحقيق الأهداف.
- تضعف فرص نجاح الجهود المبذولة لتحقيق الأهداف.

ثمار التخطيط
وبالمقابل –يعتقد المؤلف- إن العمل الموجه وفق التخطيط الاستراتيجي يمكننا من
- تركيز قوانا وأعمالنا للسير في اتجاه محدد نحو تحقيق الهدف المرغوب فيه وتركيزها في خدمة الهدف الرئيسي.
- وزيادة الأزمة التي تخلقها نقاط ضعف الخصم.
- يمكننا أن نقلص عدد الإصابات والخسائر الأخرى وأن نكرس التضحيات لخدمة الهدف الرئيسي بطريقة أفضل.
- وبالتالي تزاد فرص نجاح العمل باستخدام اللاعنف.

* أساليب العمل باستخدام اللاعنف
في جزء من الكتاب يقدم المؤلف مجموعة من أساليب العمل باستخدام اللاعنف. يبدأها بأساليب الاحتجاج والإقناع باستخدام اللاعنف. هذه الأساليب يبلغ عددها 198 استخدمت في أعمال النضال السلمي عبر التاريخ. تبدأ بالتصريحات الرسمية، التي يقسمها إلى 6 أساليب تتعلق جميعها بالتعامل الإعلامي من خطابات عامة ورسائل، وبيانات وتصريحات، وتقديم عرائض جماهيرية. الجزء الثاني يتعلق بمخاطبة الجماهير العريضة، وتقسم هي الأخرى إلى 6 أساليب، ضمن العمل الإعلامي، من شعارات وكاريكاتورات ورموز، ولافتات وملصقات وإعلانات، ونشرات وكتيبات، وصحف دورية، وتسجيلات وإذاعة وتلفزيون، وكتابة في الجو وعلى الأرض. ثم ينتقل إلى الجزء الثالث: احتجاجات جماعية، من تفويض وأحكام صورية (هزلية)، جماعات ضاغطة (لوبي)، اعتصامات، وانتخابات صورية.

ثم تليها بقية الأجزاء، ونشير هنا إلى أهمها بدون التفاصيل التي تحتويها، وهي: أعمال رمزية عامة، الضغط على الأفراد، المسرح والموسيقى، تكريم الموتى، التجمعات الشعبية، انسحاب وتنصل، أساليب اللاتعاون، اللاتعاون مع الأحداث الاجتماعية والتقاليد والمؤسسات، الانسحاب من النظام الاجتماعي، أعمال يقوم بها المستهلكون، أعمال يقوم بها العمال والمنتجون، أعمال يقوم بها الوسطاء، أعمال يقوم بها أصحاب الأملاك والمدراء، أعمال يقوم بها أصحاب المصادر المالية، ... الإضرابات الزراعية، الإضرابات الصناعية العادية، الإضرابات الجزئية، الإضرابات الصناعية المزدوجة، الجمع بين الإضرابات والإغلاقات الاقتصادية، اللاتعاون السياسي....الخ

في الخاتمة يقول شارب: يجب أن ندرك أن أعظم التأثيرات تحدث عندما تعمل الأساليب الفردية التي نختارها على تطبيق الاستراتيجية المتبناة سابقاً، ومن الضروري أن نعي أي نوع من الضغط سنستخدم قبل أن نختار أشكال العمل الملائمة التي تمارس هذا الضغط بأفضل الطرق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق