الجمعة، 27 يناير 2012

دورة حياة الثورة


بين التغيير السياسي الممكن والتحولات الاجتماعية والثقافية العميقة


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
التحولات الاجتماعية والثقافية - وفق صيغة تفصيلية دقيقة جداً - والتي يناضل البعض اليوم في سبيل تحميلها قطار الثورة اليمنية الناهض، ما كان لها حتى أن تتحقق مباشرة عقب أعظم الثورات العالمية في العصر الحديث، ممثلة بالثورة الفرنسية، التي شكلت أولى الحلقات من سلسلة الثورات الأوروبية اللاحقة.

ويقدم لنا التاريخ حقيقة مفادها: إن التغييرات الاجتماعية والثقافية العميقة قد استغرق بلوغها عشرات السنيين لما بعد انطلاقات الثورات، وبعضها طالت إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير: في أمريكا مثلاً، التي خاضت حرباً أهلية شرسة في ستينيات القرن التاسع عشر على خلفية مشكلة الرق والعبودية، وجدنا أن التغيير الاجتماعي والثقافي العميق في مسألة التمييز العنصري ضد السود، لم ينتهِ إلا في ستينيات القرن العشرين تقريباً، فيما استغرقت ثقافة القبول بوصول أول رئيس أسود للبلاد أكثر من نصف قرن بعد ذلك.

ومع أن ثمة من يحاجج بالحديث عن فروق كبيرة بين نوعية وطبيعة تلك التغيرات مقارنة بواقعنا الأكثر تخلفاً، في إطار متغيرات عالمية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية أكثر تقدماً، إلا أن تعميمنا القياس هنا سيكون ضرورياً في إطار الحديث عن المنظومة الكلية لمعنى التحولات الاجتماعية والثقافية، مع خصخصة ما يتوافق مع الحالة اليمنية كجزء من الكل، وفق النسبة التي تتناسب مع عدم الإخلال بالنظرية العامة .

• بين التحول السياسي السهل والاجتماعي المعقد
والثورة الشعبية في اليمن حين قامت – مثلها مثل الثورة الفرنسية - كان حلمها الأكبر إسقاط رأس النظام: التخلص من الملك/ فرنسا، والرئيس/ اليمن. أي إحداث التحول السياسي أولاً. وهو وإن كان يعتبر – من زاوية ثورية دراماتيكية – مقدمة ضرورية لجر وحمل بقية التحولات الأخرى (الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية)، في كثير من الأحيان، أخذاً بالاعتبار السياق، أي سياق الفعل الثوري، إلا أن مثل هذه التحولات الأخرى - دون السياسية - غالباً ما ينظر إليها بعين كثير من المفكرين على أنها أصعب بكثير من التحول السياسي نفسه. ذلك أن هذا الأخير من الممكن أن تحدثه ثورة شعبية ميدانية مسلحة عنيفة، أو ثورة شعبية سلمية لا عنيفة ناضجة، أو ربما حتى ثورة وعي ديمقراطي وفق منهجية وأدوات التغيير السلس على شاكلة الانتخابات الديمقراطية. على أن كل تلك التغييرات تشترك في أن حتمية بلوغها تأتي تحقيقاً لتحول بات من المتوقع حدوثه في أي لحظة طالما دخلت في إطار الفترة الزمنية التي تكون الشعوب فيها قد بلغت منحنى التحول الحرج الذي يصعب عنده مواصلة الحياة وفقاً للنسق السياسي القديم.

بعكس تلك التحولات الاجتماعية والثقافية التي من طبيعتها أن تحدث، أولاً، في الأنفس (فرادى)، لتتراكم لاحقاً مخترقة أعماق النسيج الاجتماعي. وهذا يكون حدوثه بشكل بطيء جداً، بحيث يمكن تشبيهه بالتغيرات الجيولوجية للأرض. تلك التغييرات التي يصعب إدراكها وملاحظتها من قبل العامة. وحتى خبراء علوم الجيولوجيا، أنفسهم، يدركونها بعد زمن ليس بالقصير.

ومع ذلك يمكن القول – من زاوية تكاملية لحقل التحولات عامة - أن حدوث التحول السياسي بشكل دراماتيكي (مثير) من شأنه أن يعمل كرافعة (عامل مساعد، مسرع، ومحفز) لبقية تلك التحولات المطلوبة الأخرى. كما سبق وأن أشرنا بقليل من التفصيل، وإن كان لنا هنا أن نذكّر بأهمية أن تقيّم كل ثورة في سياقها الخاص، وبالتالي: لا يمكننا الحديث بالقدر نفسه من الواقعية عندما يتعلق الأمر بتلك الثورات التي تقوم أساساً على فكرة إحداث تغيرات اجتماعية وثقافية بالضرورة. وهذا يحدث غالباً بالنسبة للشعوب التي تتمتع بمسار سياسي متقدم تتوافر معه الرقابة الفعالة والفعل التغيري بكافة أداوته الديمقراطية.

• أثقال إضافية.. وانفصام متراكب
وثم، بالنسبة لنا في اليمن، سيكون من الخطأ جداً في اعتقادي أن نحمل ثورتنا كل تلك الأثقال (التي من شأنها أن تضاف إلى مثقلات الحركة في الوقت الراهن على الأقل) وذلك بمجرد أن ثمة من يعتقد أن التخلف الاجتماعي والثقافي القائم (ومع أنه في الأصل يعتبر إرثاً تاريخياً متأصلاً، فقد زاد من حدته سلوك النظام الحاكم لأغراض بقائه) يتوجب إدراجه، كبضاعة غير مرغوبة، في إحدى مقطورات قطار الثورة للتخلص منه في إطار التحول السياسي المرتقب، جنباً إلى جنب مع النظام الراحل.

وسيكون من غير اللائق، وباعثاً للحيرة في آن، أن يتراكب الخطأ بنسق ازدواجي مشين. ذلك حينما نجد أن مثل هؤلاء الثوريين المتحضرين يرسخون فكرة: أن تأخر حدوث التحول السياسي كاملاً إنما كان بالأصل لارتباطه بذلك الثقل الاجتماعي والثقافي المتخلف، فيما أنهم في الوقت ذاته، وبصورة غريبة باعثة للريبة، يعلنون رفضهم الصريح مبدأ بلوغ غايات التحول السياسي إن أتى عبر انتهاج المسار السياسي التفاوضي السلمي!

ومثل هذا المنهج الرافض للمسار السياسي التفاوضي، حتى مع أنه يشكل أحد أبرز سمات التخلف الاجتماعي والثقافي التقليدي، النازع أصلاً للقوة في إحداث التغيير وحسم الأحداث، إلا أننا مع ذلك نجد أن العرف القبلي- المنتقد غالباً من جهة خصومه التقليديين – ليس فقط أنه يرحب بالمسار السياسي في فض النزاعات القبلية الداخلية عبر التفاوض والحوار لبلوغ الحلول السلمية على قواعد مشتركة حقناً للدماء، بل أكثر من ذلك، نجد أنه يجعل من هذا المبدأ ملاذاً مقدساً لا يمكن رفضه والوقوف في وجه أي تدخل تقوم به أطراف أخرى كوسيطة.

وفي السياق السابق نفسه، فمن المعلوم للجميع (حداثيين وتقليدين) أن المسار السياسي التفاوضي المتمثل بالمبادرة الخليجية، إلى جانب أننا سنجده مساراً مثالياً يجنب البلد مزيداً من العنف ويحقن الدماء، في الوقت الذي لا يبخس الثورة السلمية معظم وأهم غاياتها – وإن بالتقطير – فإننا، أيضاً، سنجد أنه كان خلاصة ضغوط موزعة بين قوى دولية وإقليمية مؤثرة على حاضر ومستقبل البلاد. وهذا أمر سيكون من الحماقة تجاهله: فقط، لمجرد أن هناك من يعتقد أن الثورة ملكه وصنيعته. لأننا في مسلك كهذا سنكون ليس فقط دوغمائيين وانعزاليين، بل ربما أكثر تخلفاً من التيار التقليدي الموصوم بالتخلف الاجتماعي والثقافي؛ لا سياسيين حداثيين؛ نؤمن بالنضال والتغيير السلمي؛ مفتقدين النضوج السياسي الذي يقوم على منطق الحوار والقبول بالأخر، والتكامل مع المحيط.

• والخلاصة في هذه: 
أن من لا يؤمن بخيارات الحلول السياسية المتاحة، بكونها صفقات خلاص مأمونة ومجنبة لمزيد من إزهاق الأرواح والدماء والنزاعات المدمرة،..الخ، فهو بالضرورة أبعد ما يكون عن أن يطال التغيير الثقافي والاجتماعي بشكل سلس، لا على المدى القصير - بفرضه على مسار الثورة والتحول السياسي المرتقب - ولا على المدى البعيد الذي من شأنه أن يطال عمق النسيج الاجتماعي الموروث منذ مئات السنيين.

وعوضاً عن ذلك، فالتشدد في مواجهة المسار السياسي التفاوضي السلمي، يبدو أنه سيصب – في نهاية المطاف - لمصلحة تعزيز الموروث الاجتماعي والثقافي التقليدي المتخلف الضارب جذوره في العمق على قاعدة الندية والمواجهة. والنتيجة: أن الثورة لن تكون بمنأى عن أن أية عواقب كارثية في المستقبل. ذلك أن الثورة ستظل – في أقل تقدير - حاملة جذراً من جذور الصراعات السياسية، الاجتماعية والثقافية العميقة.. ما يجعل منها قابلة للظهور في أي لحظة ندية أو حتى: استفزازية.

• دورة حياة الثورة
وإذا كان ثمة من يفهم أن التحولات التي تترافق مع الثورات الشعبية (العنيفة واللا عنيفة على السواء) تتنوع لتشمل: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ليحاجج بعد ذلك برفض تجزيئها، فإنه وإن كان حقاً قد أورد نظرية عامة، إلا أنه بتمسكه المتعصب بمثل ذلك، يكون قد أخرجها من كونها مجرد نظرية - قابلة للتطبيق والفشل وفقاً للسياق والظروف المرافقة – إلى جعلها حقيقة حتمية.

وعلينا، في مثل هذا المقام، أن ننوه إلى أن ثمة من يشبّه الثورة بالكائن الحي. ولها دورة حياة كاملة، تبدأ بمرحلة ما قبل الثورة (إرهاصاتها ومبرراتها)، وأثناء الثورة، وما بعد الثورة. كما يرى مفكر الثورة والنهضة الجزائري مالك بن نبي. وفي الوقت الذي يعتقد فيه أن مرحلة ما بعد الثورة تعتبر غاية في الأهمية بالحفاظ على خط التوجه الثوري، والبناء والنهضة..الخ، فإن ثمة من يرى أن هذه المرحلة لا نهاية لها، وأن الثورة تستمر إلى ما لا نهاية.

وأخذاً بالاعتبار وجهتي النظر، فإن تجزيء أهداف وغايات الثورة بتحولاتها المختلفة (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية..الخ) سيعد أمراً حتمياً، بتوزيعها على المراحل الزمنية الثلاث، وفق خطة استراتيجية، آخذين بالاعتبار الأولوية، وما هو ضروري وملح، في كل مرحلة من المراحل، وبالتالي: تأخير ما هو عميق ومعقد وغير ملح للعمل عليها خلال الفترة الزمنية الممتدة خلال المرحلة الأخيرة اللا منتهية بطبيعتها.

أضف إلى ذلك، أنه وبغض الطرف حتى – إلى حدٍ ما - عن مسألة تقييم الثورة على أساس سياقها الخاص، فإن ثمة من يعتقد أن التحولات الجذرية الشاملة في الدول التي تتصارع وتتجزأ فيها الثقافات الاجتماعية، لاسيما إن كانت النسبة متقاربة، ربما من الأفضل لمثلها أن تحدث وفق نسق شبه منفصل – إلى حدٍ ما - عن التحولات السياسية الملحة الفجائية والطارئة. وبشكل خاص: حينما يكون التحول السياسي هو الجذر والمحور الرئيسي الذي قامت على أساسه الثورة.

• ولاحقاً:
سيكون التركيز على فكرة بناء الدولة المدنية الحديثة، باعتبارها قاعدة مشتركة، جزءاً رئيسياً ومهما للغاية لقبول فكرة إحداث تحول طوعي لا قسري للثقافة التقليدية الموروثة على اعتبار أن القانون المتشكل جماعيا بفعل الثورة – كمؤسسة جمعية حديثة – هو المنظومة التعاقدية الجديدة التي يتوجب استبدالها عن المنظومة التقليدية الموروثة، طالما أن هذا العقد الجديد سيعمل على إذابة تلك المسوغات التي جعلت من التمسك بالعرف والتقاليد كمقدس ضامن للقوة والبقاء في وجه الاستبداد والطغيان.

وإن كان مثل هذا بحاجة إلى أن يأخذ مداه الزمني وفقا لنسقه الطبيعي الذي غالبا ما يتسم بالحركة البطيئة. 

المصدر أونلاين
نشرت في صحيفة المصدر الأسبوعية: الثلاثاء 24 يناير 2012 - العدد 180

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق