الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

مشكلة «المؤتمر» اليوم


جاء انسحاب القوى المعتدلة وابتعادها عن الفعل السياسي المؤثر في الحزب لمصلحة سيطرة التيار التقليدي المشايخي سداً للفراغ، ما خلق حالة حزبية جديدة متفلتة برزت مساؤها مؤخراً.

مؤخراً تحول حزب المؤتمر الشعبي العام إلى ما يشبه كتلة "المحاربين القدامى", أولئك الذين يعيش معظمهم بقية حياته على ذكرى لذيذة تمنحه قوة البقاء والاستمرار والتفاخر، فيما قلة منهم يشعرون بالضيم والإهمال بالنظر إلى ما كانوا يمثلونه في السابق من أهمية وتأثير وقوة وبطولات وسيطرة.

هؤلاء القلة، قلة منهم يتمردون على واقعهم الجديد ويمارسون أعمالا تخريبية، إرهابية وعدمية أحيانا يهدفون من خلالها إلى لفت القيادات الجديدة إلى وجودهم هنا مهملين خارج نسق الحياة الجديدة، فيما أنهم مازالوا يتمتعون بالقوة والقدرة على عمل أشياء تعجيزية خارقة.

في أحد أفلام الأكشن الأمريكية، قام أحد الجنرالات القدامى بتجميع أفراد من فريقه الخاص الذين أحيلوا معه إلى التقاعد وأصبحوا جميعا مهملين في ظل القيادة الجديدة. نجح معهم في سرقة صواريخ كيماوية واختاروا مكانا استراتيجيا، قلعة سجن قديمة، في مدينة لوس أنجلوس (أصغر حجما من ريمة حميد)، ومن هناك مارسوا الضغط والابتزاز والتهديد على القيادة الأمريكية لمنحهم امتيازات بموجب اشتراطات مقابل وقف عملية تدمير المدينة. لكن أبطالا أمريكيين، وهذا ديدن هوليود، تمكنوا في نهاية المطاف من إفشال تلك الثورة الانتقامية المدمرة.

في الواقع، جاء انسحاب شخصيات ليبرالية وتكنوقراطية مدنية، تتسم بالعقلانية والاعتدال، من زمام الفعل والتأثير في حزب المؤتمر الشعبي العام (الحاكم سابقا، والشريك بنصف السلطة حاليا)، على رأسهم وأبرزهم الدكتور عبد الكريم الإرياني، عرّاب فكرة التجديد والتغيير داخل الحزب والقبول بالأمر الواقع للانخراط مجددا في العملية السياسية، ومعه - إلى حد ما- الدكتور أحمد بن دغر، وربما الدكتور يحيى الشعيبي وآخرون من نسقهم..

جاء لمصلحة عودة وبروز وسيطرة التيار التقليدي المشايخي القبلي العسكري في الحزب، على رأسهم – على سبيل المثال لا الحصر: الراعي، الشايف (الابن)، البركاني، دويد، حسين حازب، (وإلى حد ما) الزوكا...ومعهم نجل صالح، الذي ترك عمله كسفير في الإمارات وعاد للمشاركة في التشكيلة الجديده إلى جانب أولاد عمه المقالين من السلك العسكري والأمني والاستخباراتي.. وآخرون من منوالهم.

حتى بات من الواضح أن الفعل السياسي الوطني المعتدل داخل الحزب انحسر بدوره لمصلحة الأفكار التقليدية النازعة أكثر إلى خلق الأعداء والإبقاء عليهم لمجابهتهم، إحياء وامتثالا لفكرة القوة والتحدي والانتقام، تجسيدا لعملية الصراع والتعارك المستبطنة في عقلية مجتمع القبيلة. بل بالأحرى جزء القبيلة التي حكمت البلاد في السابق، وتشعر أن روح وأهداف الثورة الأخيرة استهدفتها هي بشكل خاص، واستهدفت فيها مشاعر العلو والزهو والغلبة والشجاعة..الخ معاني السيطرة تلك. والتي – كما يعتقدون - لزم لها أن تعود اليوم عبر الحامل السياسي المتاح، لاسيما وقد تراجعت وانحسرت فاعلية حاملي متعارضاتهم السياسية داخل الحزب من أولئك الذين كانوا يعملون كمياه تبريد ثقيلة داخل مفاعلهم الحزبي. 

لذلك ليس بمستغرب ما يحدث اليوم داخل هذا الحزب من سيطرة لتلك الحالة العشوائية المتفلتة، التي ظهرت مؤخرا بشكل واضح بعد لجوء رئيس الحزب، صالح، إلى منح تلك المشيخات التقليدية والعسكرية جزءا من سلطة التحكم معه في توجيه دفة الحزب خلال المرحلة القادمة، وذلك سدا للفراغ الذي خلّفه انحسار المعتدلين الممتلئين بحكمة التعامل السياسي المتزن مع متطلبات المرحلة الراهنة بقصد الاندماج مع المجتمع للعودة المستقبلية للحزب كحزب - وليس لاستعادة سيطرة زعيمه أو أحد أفراد أسرته - وفقا للقواعد الجديدة التي خلقتها المتغيرات الحديثة.

حتى أننا بتنا نلاحظ ما خلقته تلك الحالة الحزبية العشائرية الجديدة من نسق تصارعي مع الكل وضد الجميع، من خارج شبكة الموالاة الداخلية، وصولا إلى معاركه الأخيرة مع المجتمع الدولي (الذي ما زال بيده إمكانية قلب الطاولة واتخاذ اجراءات عقابية، قد تصل حد البحث والتنقيب في إمكانية استخدام الأدوات والتشريعات الدولية السحرية المستترة لإلغاء الفرصة الممنوحة بالحصانة، وإمكانية الإحالة إلى محاكمات دولية على جرائم إنسانية ارتكبت قبل وأثناء الثورة الشعبية الأخيرة).

وذلك الخطاب التشنجي، المشيخي، الذي ظهر في مجموعة البيانات الأخيرة الصادرة عن الحزب في مواجهة الأزمة (التي خلقتها – في الأصل - انحباسات هؤلاء في ثنايا رغبات شخص واحد وأسرته)، كالحديث – مثلا - عن حرص ممثل الأمم المتحدة في الحفاظ على البدل المالي الذي يتقاضاه وتوصيفه بالجنون..، والكثير من التصريحات الأخرى على شاكلة اتهامه بـ "تنفيذ أجندة صهيونية وأمريكية لتقسيم البلاد"، واستبعاث عبارات تآمرية قديمة كـ "المخطط الدولي للشرق الأوسط الجديد"!

كل ذلك وغيره، إنما يجسد هذه الحالة الجديدة التي تكشف عن ضعف واضح في التعامل السياسي الحصيف والمؤثر إيجابا، نزوعا إلى الخطاب التصارعي الحاد الذي لا يجيد مثلهم غيره، كون هذا هو مبلغهم من السياسة. بل السياسة في زمن ما بعد السقوط والوهن والوصاية الدولية. 

وليس أفظع من ذلك، سوى ذلك المنطق المشايخي الأهوج بمطالبتهم مجلس الأمن تغيير المبعوث الأممي! مع أن مطلبا كهذا يدرك مراهقو السياسة أنه لن يكون مرحبا به في منظمة عالمية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، الذي ليس فقط لم يلتفت إليه إطلاقا، بل ألقمهم ردا أصابهم في مقتل (سياسي) حين جدد ثقته بمبعوثه الأمين إلى اليمن، ودعاهم إلى التعامل معه بثقة. وبمثله أيضا جاء رد الأمين العام للأمم المتحدة.

بل أكثر من ذلك، عزز المجلس الدولي، أيضا، تفسيرات بنعمر لنهاية المرحلة الانتقالية، دون أن يحفل بتلك الرسالة الطللية المطولة والغريبة في العرف السياسي، التي بعثها حزب المؤتمر إلى أمين عام الأمم المتحدة ومجلس الأمن بشأن التشكيك بأمانة وتوجهات هذا المبعوث الدولي للمرحلة القادمة. (قال أحدهم إن حزب المؤتمر في رسالته تلك أراد أن يتعامل مع المجتمع الدولي وكأنه يتعامل مع شيخ قبيلة).

ولعل الإجماع الدولي الذي حظي به تقرير جمال بنعمر الأخير إلى مجلس الأمن، والذي سمّى فيه صالح بالاسم كمعرقل رئيسي، إلى جانب آخرين، وما نجم عنه من مضمون إيحائي واضح في سياق بيان مجلس الأمن، وكذا الإجماع الدولي - بدون أية اعتراضات من أحد - على التهديد باستعدادهم "لإعادة النظر في اتخاذ مزيدٍ من التدابير رداً على أي إجراءات من قبل الأفراد أو الأطراف الذين يهدفون إلى تعطيل عملية الانتقال"، لعل كل ذلك، كان دليلا كافيا على عدم التفات المجتمع الدولي إلى تلك التخرصات الطفولية الساذجة التي تورطت بها تلك القيادات المؤتمرية التقليدية.

كما أنها قد تبدو لتكون أيضا رسالة واضحة لتلك القوى الإقليمية التي تحاول حرف مسار العملية الانتقالية، بسعيها لدعم هذه الحالة التحولية على منوال ما حدث في مصر. 

ويمكنني أن أجزم بالآتي: لو كان ذلك التيار الليبرالي المعتدل، مازال في أتون الفعل والتأثير داخل الحزب، لما صدرت تلك البيانات الحزبية السامجة؛ ولنجحت في امتصاص حدة ونتائج تلك التصريحات العدائية المتفلتة؛ ولساعدت في تهدئة المواجهة المفتعلة مع المبعوث الأممي، وفي نهاية المطاف، لكان لها دور بارز، كالسابق، في تخفيف حدة التهديدات الأخيرة التي أطلقها مجلس الأمن.

جملة ما يمكن قوله، إن الخسارة التي مني بها الحزب بانحسار معتدليه، ستكون مكلفة كثيرا، ومن المتوقع أنها ربما تفضي إلى تخلفه عن الوفاء بالتزاماته السابقة أمام المجتمعين المحلي والدولي. وهذا بدوره سيؤثر كثيرا على مستقبل الحزب، الذي كان يرومه معتدلوه في إمكانية الاندماج مجددا في المجتمع والتأثير في العملية السياسية التوافقية.

وهذا التأثير لن يعمل فقط على تضعضع شعبيته (ظهر مؤخرا ليهدد خصومه بالعودة إلى قواعده الشعبية)، بل ايضا قد يتجاوز ذلك إلى إمكانية فقدان الثقة به كحليف رئيسي، ضمن مخطط القوى الدولية والإقليمية التآمرية الشاذة والراغبة في استعادة التوازنات في المنطقة والانقلاب على الثورة بثورة آخرى على الشاكلة المصرية.

يمكن التأكيد، هنا، إن الفوائد التي كان سيجنيها الحزب فيما لو أصغى لتياره العقلاني المعتدل بإحداث تغييرات داخلية جوهرية، بالتزامن مع مساره السياسي (الذي كان قد بدأه بالموافقة على توقيع المبادرة الخليجية) في الانخراط بفاعلية في العملية السياسية، كانت ستكون أكثر قيمة وتأثيرا على مستقبله السياسي ومستقبل البلاد، من تلك التي يعتقد أنه قد يجنيها فيما لو انقلب على هذه العملية التوافقية في نهايتها، محملا بوهم إمكانية عودته بالطريقة المصرية. 
-------------------------------------
نشرت المادة في يومية المصدر بتاريخ 4 ديسمبر 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق