الأربعاء، 28 سبتمبر 2011

عربدة في حضرة نائب وقور


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
بشكل مفاجئ، وبعد أيام قليلة فقط من توقيعه تفويضاً رسمياً لنائبه، عاد صالح فجر الجمعة الماضية سراً. ليست هذه هي القضية. فالمهم أو الحقيقة المؤكدة أنه عاد بعد قرابة أربعة أشهر من مغادرته إلى الرياض مجروحاً، حتى قيل إن الموت يتهدده، في مثل هذه الظروف بالغة الحساسية والتعقيد.

كان من اللافت أن عودته تلك - وإلى جانب تعارضها مع فكرة التفويض– جاءت بعد ستة أيام دامية وملتهبة شهدتها البلاد حينما شرعت قوات الجيش والأمن بقيادة أبنائه وأبناء أخيه – وبطريقة تصعيدية هستيرية مفاجئة – في إمطار مداخل ساحة التغيير في أمانة العاصمة بكل ما خفّ وثقل من وابل النيران والمدفعية ورصاصات القناصة القاتلة من وفي كل اتجاه.

ولأن تلك المعارك شهدت، لأول مرة ربما، ردة فعل قوية، وموازية من قبل أفراد الفرقة التي كانت تحمي جماجم وصدور المتظاهرين العزّل، فقد تمددت وتوسعت في ظرف أيام قليلة لتصل حد قصف مقر الفرقة الأولى مدرع، مع كسر الهدنة في الحصبة، حتى لكأن كثيرين، في الداخل والخارج، قد أيقنوا أن الحرب اليمنية الداخلية التي كان يخشى من قسوتها وجنونيتها، هاهي قد دقّ جرس بدايتها بقوة، وأن ثمة من اتخذ هذا القرار سراً وبدأ بتنفيذه فقط قبل أيام من تلك العودة المباغتة التي وضعها البعض في خانة «المستحيل». على الأقل ليس بهذه السهولة أمام تصريحات دولية مطمئنة، بل وبعد الموافقة – أخيراً – على التفويض حينما كان مثله يعد أمراً مستحيلاً بحد ذاته. على ما تقوله المقدمات والأحداث التي تلت حادثة 3 يونيو، في مسجد دار الرئاسة. الحقيقة هنا تؤكد أن كافة تلك الضغوط التي مارسها المجتمع الدولي المؤثر قد فشلت في إمكانية النجاح بانتزاع مثله (أي التفويض).

• ما علاقة النائب بذلك كله؟
وفيما عدا بعض الحراك المتململ، يعلن هنا أو هناك، من قبل النائب المحاصر، الفاقد لقوة الفعل الحقيقية، فقد شلت كافة التحركات ودخلت الحالة اليمنية في وضع «موت سريري» هناك حيث وضعت في غرفة العناية المركزة.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، وتحديداً منذ امتلك صالح قدرة تحريك أصابع يده المحنطة بالجبس وقرر تجريبها مع القلم لتوقيع التفويض، استفاقت الحالة لنشهد تفويضاً، فمجازر بشعة، فأصوات مدافع ليليّة مفزعة ومواجهات نهارية مرعبة، فانهيار هدنة فمخاوف متعاظمة..الخ، حتى أعلن الجمعة عن عودة صالح نفسه. لم تكن تلك النهاية بقدر ما كانت – في نظر كثيرين – هي البداية لشيء ظل الجميع يخشاه ويحرص على تجنبه بتأجيله.

أثمة علاقة بين قرار استخدام القوة المفرطة ضد المعتصمين العزل وصدور القرار الأخير بتفويض صالح نائبه للحوار مع المعارضة والتوقيع على ما يتفق عليه تحت إطار المبادرة الخليجية؟ ربما كان التساؤل الآخر والصادم: لمَ عاد الرئيس إذن؟ وما علاقة كل ذلك بالتسريبات الأخيرة لصحيفة الحارس – تابعة لوزارة الداخلية - عشية عودة صالح، من أن النائب كان يخطط لإصدار إعلان رسمي – ربما مستغلا التفويض الأخير – بإعفاء صالح من منصبه؟

تطرح تساؤلات كهذه نفسها وربما بقوة، لاسيما إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء وقوفاً عند حادثة قصف جامع الرئاسة (يونيو)، وقبلها بأيام: نشوب معارك الحصبة. آنذاك ترددت أخبار تؤكد أن الرئيس أعاد إلى ذهنه فكرة إمكانية التوقيع على المبادرة الخليجية بعد أن كان رفضها للمرة الثالثة. الدكتور أبو بكر القربي وزير الخارجية، وهذا على سبيل الاستشهاد فقط، كان كشف لرويترز في وقت سابق - بعد أشهر من مغادرة صالح إلى الرياض- أنه (صالح) كان فعلاً على وشك التوقيع على الاتفاقية في يوم حادثة النهدين نفسه!

دعونا نربط بين هذه الفكرة المتاحة: قبول الرئيس التوقيع على المبادرة الخليجية، مع الفكرة الأخرى، التي ربما ظلت متداولة خلف الكواليس، والقائلة: إن نجله أحمد وأولاد عمه يرفضون إنفاذ فكرة رضوخ الأب - والعم في الوقت نفسه - للتنازل وتسليم العرش من بعده لغيرهم. لماذا؟ إنهم يمتلكون قوة عسكرية كبيرة، وطموحاً شبابياً غضاً يستحوذ عليه ما يمكن وصفه بـ «الحق المستبطن» إزاء ضرورة تحقيق حلم المستقبل بالوراثة. ناهيك عن أن الجزء المعياري الآخر يرتبط بطبيعة الصراع مع منافسيهم من أولاد الأحمر. إنهم يعتقدون بل ربما يكتنفهم إيمان راسخ أن التنازل عن وراثة العرش سيعني بطريقة دراماتيكية نصراً مؤزراً يحققه الطرف الآخر.

• بؤرة الصراع المركزية
إن تلك الفكرة المرفوضة من هؤلاء، على منوال ما سقناه أعلاه، تظل هي البؤرة المركزية للمشكلة بكل احتمالياتها. حتى إن كان ثمة شبه إجماع قسري على أن دار الرئاسة بما يمثله من عرش سيكون من نصيب نائب الرئيس باعتباره الحل الاستراتيجي المرحلي الأمثل لتجنيب البلد المزيد من التدهور والعنف وبحار الدم المتوقعة من مواصلة حالة الصراع والتفكك الداخلي. بل، قد يغدو الرفض هو الأمر الأكثر ترجيحاً مع ما تعززه تلك الاشتراطات المتفق على محوريتها – داخلياً وخارجياً - في إطار النقاش حول تنفيذ المبادرة الخليجية. من حيث أن المجتمع الدولي الضاغط – وحتى نلتزم الدقة أكثر، نقول: بعض أطرافه التي لا تخلو من تأثير بما فيها مجموعة الدول المهمة والمؤثرة في الاتحاد الأوروبي مثلاً- يتفهم ويتفق وينسجم مع نظرة المعارضة بخصوص ضرورة إعادة هيكلة الجيش كإجراء مهم ورئيسي يجب أن يحدث بالتوازي مع إجراءات نقل السلطة. راجع أفكار وتعديلات مبعوث أمين عام الأمم المتحدة: جمال بن عمر، والتصريحات الرسمية للأمم المتحدة، بريطانيا، ألمانيا..الخ، بهذا الخصوص.

إن مثل هذا الأمر (إعادة هيكلة الجيش) لا يبدو بالنسبة لهؤلاء أن ثمة احتمالية متاحة للتسليم به. على الأقل ما زال ثمة إمكانية سانحة لرفضه من خلال اللجوء إلى استخدام العنف المفرط لإرسال رسالة إشعار مفادها: إن القوة الضاربة ما زالت بيد من يراد إعادة هيكلتهم على ذلك النحو المتفق عليه وسلبهم مواقعهم العسكرية، التي هي أصلاً مستبطنة كحق وراثي. إن الأمر بالنسبة لهم ليس فقط مجرد إعادة هيكلة، بقدر ما سيعني الاستسلام السهل، بل ومقدمة لتسليم السلطة بعيداً عن أية امتيازات مقنعة، مقابل التنازل عن هذا الحق. هنا من المهم التذكير أن هذا الفهم لمعنى الحق على هذا النحو، لا يجب أن يقاس بالتشريعات والقوانين، بقدر ما يتوجب وضعه في مقاس معياري آخر يتعلق بتماهي ماهو كلي (فكرة الدولة) مع ماهو جزئي (الأسرة المالكة).

• تفسيران لا يخلو أحدهما من حقيقة 
وفقاً للسياق سيمكن للبعض تفسير ما يحدث باعتباره إرادة خاصة من طرف الأولاد فيما الرأس – وهو هنا الأب – يظل خارج سياق تلك الإرادة من خلال إظهاره ميولاً متكررة بالرضوخ للضغوطات الدولية الهادفة لإيجاد حلول دبلوماسية سلمية تضمن له وأسرته إفلاتاً من العقاب، في الوقت الذي تمكن حزبه من مواصلة البقاء كطرف مؤثر في الحياة السياسية والعامة.

هذا التفسير قد يكون له نسبة ترجيح ممكنة من حيث القبول بفكرة أن الأب بلغ من التجربة السياسية شأواً بجعله قادراً على النظر إلى مدى أبعد بكثير من شباب طامح لا تتجاوز نظرته إلى المستقبل ما يمتلكه في اللحظة الراهنة – والحرجة بطبيعتها- من قوة تدميرية هائلة وبإمكانها أن تقول لا تقوله السياسة. ففي الوقت الذي تقتصر فيها نظرة هؤلاء إلى ما تحت أيديهم باعتبارها قوة مرجحة وجسراً لبلوغ حلم المستقبل، أو حتى البقاء في محيطه القريب، تذهب النظرة المتعمقة والخبيرة إلى اعتبارها، في الحقيقة، نقطة الضعف المهلكة التي وبشكل شبه مؤكد ستقود إلى قصم ظهر ما كان يمكن حؤزه من صفقة تأمين للبقاء في الجوار بطريقة سلمية، سياسية وأكثر دبلوماسية.

ومع ذلك، فلو رجحنا تلك الفرضية، لكان الحل سهلاً بين أيدينا، ولاعتبرنا رجوع صالح منحة إلهية لإنقاذ البلاد. لقلنا فعلاً أنه عاد إذن كمسيح منتظر، وفقط قرر أن يكون كذلك حين أدرك فعلا أن ما ظل تحت قبضته 33 عاماً بدأ ينهار وعليه أن يوقف تهور الأبناء الذي سيقوده هو أولاً إلى تلك الصفحة السوداء. لا شك أنها ستكون لعنة التاريخ بامتياز.

لا. إنه لا يبدو كذلك. مطلقاً ليس هذا ما يخشاه صالح. إنه لا يخشى شيء أكثر مما يخشاه الأولاد، وربما أكثر. ذلك الشيء الذي وإن حاول المناورة فيه، أمام المجتمع الدولي، فإن لسانه تسبق تصرفاته دائماً. إنها تفضحه كالعادة، لتقول لنا إنه مازال غير قادر على أن يستوعب دروس التاريخ في لحظاتها الأكثر تعقيداً. غالباً ما يأتي ذلك تحت مسمى «الشرعية»، «الدستور»، لا تنازل إلا عبر صناديق الاقتراع. قال كل ذلك في سياق كل خطبه طوال فترات الثورة، ولم ينجح بالتستر عليها حتى في آخر خطاب قاله بمناسبة العيد الـ 49 للثورة اليمنية. عشية الأحد، بعد عودته من تجربة طويلة ما كان ليحظى بها مثله من الزعماء المنبوذين من شعوبهم. في الواقع، إنه يقول لنا صراحة إن تلك التصرفات الجنونية التي يقوم بها الأولاد لا تخرج عن كونها عبارة عن تبادل وتوزيع أدوار معه، هو الأب. هذا التفسير لا يمكن إسقاطه نهائياً لاسيما أنه يمكن تعزيزه من خلال تجميع مقاطع الصورة. وضع الأحداث الأخيرة في سياقاتها الممكنة والمحتملة وربطها بالتصريحات والمواقف.

• نائب رئيس في الواجهة لا أكثر
هنا يمكننا مثلاً وضع ما هو معلن بوضوح، مباشر، مع ما هو معلن بشكل تلميحي، غير مباشر، مع ما ظل مستتراً لكنه مشاع على لسان المقربين والساسة وتناولته تسريبات الشارع اليمني.

فأما ما هو معلن وواضح: أن نائب الرئيس هو القائم بأعمال الرئاسة، وفقاً – وهذا بدرجة رئيسية - لما يحتمه الدستور في حالة غياب الرئيس، وبدرجة ثانية: إعلان الرئيس تفويض صلاحياته (سواءً بحسب تصريحات قديمة أعلنت عقب مغادرته البلاد، أو وفقاً للقرار الأخير المعلن على الملأ). وأما ما هو معلن بشكل غير مباشر، عبر التلميح، فالرئيس وأسرته وأركان حكمه يكتنفهم الخوف من وضعية النائب الحالية وما يمكن أن يجره وضع كهذا تدريجياً إلى ما هو أبعد من كونه فقط مجرد متحمل للمسؤولية أمام الشعب والعالم (ربما كان الحديث الأخير حول سريان مفعول التفويض والتوقيع للنائب هو الاستشهاد النموذجي هنا). ومع ذلك ليس من المستبعد أن تواصل اللعبة – حتى بعد العودة – ليستمر النائب كمجرد مؤتمن على المنصب الرئاسي لوقت محدد. أكثر من مرة برزت تصريحات تلمح بذلك. لقد كشف على لسان أكثر من مسؤول مقرب من الرئيس أنه (أي الرئيس) يرغب في نقل السلطة ولكن لنائب آخر يعينه هو لاحقاً! ومؤخراً ترددت معلومات تقول إن الرئيس اشترط اسم نجله كرئيس قادم لليمن. حتى إن فشل هذا الخيار أمام الضغط، فعلى الأقل يتم فرض خيار وضع قطع الشطرنج على نحو شاذ: الملك قبل الضابط. أي الانتخابات قبل إعادة تشكيل الجيش.

في الواقع، وهذا أمر لم يعد متداولاً على نطاق واسع فحسب بل له ما يؤكده على أرض الواقع، أن أحمد علي ظل يدير البلاد طوال الفترة الماضية وما يزال كذلك حتى اليوم. ربما إلى ما قبل عودة أبيه. إن كان هذا الأخير سيكون قادراً على عمل شيء على ما هو عليه من حالة صحية يرجح أنه لن تمكنه من التحرك كرئيس دولة، بل كأب روحي يصدر التوجيهات.

في السابق، ومع المواجهات المسلحة الأخيرة، كانت أوامر النائب المرتفعة بإيقاف إطلاق النار، يتم التعامل معها باعتبارها خارج سياق المخطط الاستراتيجي المعدّ له سلفاً والمندفع بقوة نحو التصعيد العسكري. ومؤخراً، ولكن قبل التفويض الأخير، وما لحقه من معارك مسلحة، حينما كان النائب قد توصل مع قيادة المعارضة إلى شبه اتفاق على نقاط بعينها بخصوص آليات تنفيذ المبادرة الخليجية المطعّمة بتعديلات مبعوث الأمم المتحدة، كان الرئيس قد لجأ إلى إراقة وجه نائبه من خلال الإيعاز للجنة حزبه الدائمة مناقشة الأمر داخلياً، ومن ثم تشكيل لجنة خاصة تصل إليه إلى الرياض للخروج بتفويض ولكنه تفويض مفخخ بشروط: غير تلك المتفق عليها سلفاً مع المعارضة. كان من الواضح أنها لعبه لتبرير الرفض.

ولقد كان كل ذلك يحدث وفقاً لاستراتيجية أسفنجية تعمل على سحب البساط من تحت النائب بيد، والأخرى تمسح على خده من خلال الإشادة بجهوده ووطنيته. هي ذاتها الطريقة التي تعامل بها الأولاد مؤخراً بإعلان تنفيذ أوامر النائب بوقف إطلاق النار، في الوقت الذي كانت فيه قذائف الهاون ورصاص القناصة تتساقط وتتناثر وتتوزّع على مختلف مداخل ساحة التغيير، ومقر الفرقة الأولى مدرع، وصولاً إلى كسر الهدنة في الحصبة. بل بلغ الأمر حد اتهامه بالسعي لتنفيذ مخطط تآمري على الرئيس مع المعارضة. وفقاً لمجلة الحراس الصادرة عن وزارة الدفاع!
بل، حينها، وبعد أن بدا أن ما يحدث في الميدان من مواجهات أشبه بكونه أمراً غير مقدور عليه من جهة النائب، عاد الرئيس كما يعود البطل في أفلام الأكشن الهندي، لينقذ الوضع.

• النوايا الحسنة وحدها لا تكفي 
الآن ماذا تبقى للنائب ليقوم به؟ أيمكن القول إنه بعد أن أصبحت أوامره حتى غير ذات جدوى الآن، لم يعد لديه شيءٌ البتة؟. في الواقع كان ولابد ان يتبقى له شيء واحد على الأقل: الحديث عن سريان عملية التفويض والتوقيع على المبادرة الخليجية. هكذا وضع له الطعم في السنارة. لمَ عاد الرئيس إذن؟

بعد كل ما سبق، ربما، سيكون من الحماقة الخوض بتفكير جدي بحثاً عن الإجابة، لاسيما كأن يقول لك أحدهم: لمساعدته في إيقاف النزيف أولاً، لفرض مناخ هادئ للحوار مع المعارضة من أجل تحقيق مبدأ التخلي عن السلطة بطريقة آمنة وسلمية! يقولها بينما تبدو على وجهة علامات الجدية والتفكير والتقدير والدهشة! من حيث – بشاكلته تلك – أراد أن يقول لك أن الأمر برمته يجب أن يكون معقداً إلى هذا الحد.
------------------
نشر في صحيفة المصدر الأسبوعية - العدد 175 - الثلاثاء: 27 سبتمبر 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق