الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

حرب صالح المعلقة


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال

قال أحد مستشاري الرئيس الذين خبروا تصرفاته وطباعه إن ردة الفعل الطبيعية للرئيس صالح حينما يكون في موقف الضعف تأتي عبر الهجوم. فبحسب إحدى البرقيات الدبلوماسية التي نشرها موقع ويكيليكس مؤخراً، وتطرقت لقضية إطلاق صالح لسراح جمال البدوي في 2007، (والبدوي يعتبر أحد أهم المطلوبين أمريكياً بتهمة كول) كشف أحد مستشاري الرئيس، في لقاء جمعه مع السفير الأمريكي، أن صالح أدرك لاحقاً – بعد الضغوطات الأمريكية - فداحة الخطأ الذي ارتكبه، بإطلاق سراح البدوي، مؤكداً أن تصرفاته (أي الرئيس) في الاجتماع الأخير كشفت ردة فعله الطبيعية (وهي الهجوم) دائماً، عندما يجد نفسه في موقف ضعيف. بحسب ما أوضحت البرقية على لسان المستشار. (والاجتماع المشار إليه في حديث المستشار يقصد به اجتماع سابق بأيام، ضم صالح والسفير الأمريكي بخصوص إطلاق سراح البدوي).

 وحين تحدث علي صالح قبل أيام (وتحديدا: السبت 8 أكتوبر) انه سيغادر السلطة بعد أيام، كان كثيرون يرونها مناورة مفضوحة لتثبيط تحركات المجتمع الدولي وعمل مغناطيس في طريق مجلس الأمن يعيق مواصلة إجراءاته لإصدار قرار بشأن اليمن.

هذا التفسير كان يبدو هو الأقرب للواقع كون التصريحات جاءت بعد أيام قليلة من ذيوع خبر تحركات ثلاث دول دائمة العضوية (هي: أمريكا، بريطانيا، وفرنسا) لمناقشة مشروع قرار حول اليمن يصدره المجلس خلال أيام.

ومع أن الرئيس في خطابه ذاك كرر مقولة أنه جاء حاملاً غصن الزيتون، وحمامة السلام، إلا أن قواته، بعدها بأيام (مساء الأحد الماضي)، شنت حرباً ليلية شرسة ضد مناوئيه في الحصبة، ومدينة صوفان، والفرقة الأولى مدرع، استخدمت فيها المدافع الثقيلة، والصواريخ، والطيران – بحسب بعض الروايات. ووفقاً لمعظم وسائل الإعلام المحلية –غير الرسمية – والخارجية، فقد عاشت صنعاء أسوأ لياليها منذ تسعة أشهر.

• غالباً ما تكون الحقيقة بخلاف التصريح 
بالنسبة لي، كنت أتحدث بشكل شبه دائم عن طبيعة خطابات الرئيس بوصفها النقيض العملي السلوكي لما يند عنه من تصريحات. وحتى لا أجافي الواقع، يمكنني التريث قليلاً لأقول إن هذا يصدق مع معظم خطاباته وليس جميعها. ولدينا أمثلة خصبة تدعم ذلك، موزعة على مدى سنوات حكمه. وعلى سبيل المثال - وهو الأبرز دائماً – فهو حينما كان يتحدث عن إجراءات حكومية شديدة لمنع ارتفاع الأسعار، كانت الأسعار ترتفع مباشرة في اليوم التالي لخطابه! أما حينما كان يتحدث عن السلام وضرورة الحوار ونبذ العنف والتخلي عن السلاح، أو عن قرب التوصل إلى إيقاف الحرب في صعدة، كانت الأيام التالية تنذر بمعارك أشد ضراوة.

وعلى مدى سنوات الحوار الطويلة مع المعارضة، فإنه حينما كان يتحدث عن قرب التوصل إلى اتفاق، مطعّماً حديثه بوصفه المعارضة «الوجه الثاني للسلطة»، وضرورة أن يشارك الجميع في بناء الوطن، كان ذلك يعد مؤشراً لتصاعد حدة الخلاف بين الطرفين.

وبالمقابل، فإن تصريحاته التهديدية، الساخنة، المتحدية، والمشبعة بالقوة والغرور والضرب بيد من حديد، وحروب ومواجهات والتهديد بأن الدماء ستسيل إلى الركب..الخ. كانت تعني، في معظم الأحيان، مقدمة للتهدئة، وسيادة الحوار والسلم والأمان. غالباً ما كانت تقف وراء تلك التصريحات النارية شخصية ضعيفة ومنهزمة. وهو في مثل هذه المواقف، كان غالباً ما يحاول تقمص دور الرجل القوي والشجاع، ليخفي حقيقة ما هو عليه ساعتئذ الرجل الضعيف في داخله، الخائف، الواقع في ورطة كبيرة يخشى نتائجها.

وفي موقف كهذا يروقني إيراد المثل الشهير«الكلاب التي تنبح لا تعض». هذا هو منطوق المثل القادم من التراث الجنوب أمريكي على ما أعتقد، أما المفهوم العام فيتبين من نقيضه: احذروا دائما أن تباغتكم الكلاب الهادئة.

ولطالما حملت السياسة معاني غير نبيلة، كالخسة والنذالة والمكر والخداع. فهدوء وسكينة الحكام – لاسيما الطغاة منهم – في مواجهة العواصف والاضطرابات والخصوم..الخ، قد تشي بخديعة ما. أو أن ثمة أمراً جللاً وخطيراً قادم سيتوجب الحذر منه. أما صراخهم المرتفع فيكشف أنهم لا يمتلكون شيئا يقومون به للمواجهة سوى الصراخ. تذكروا صراخ القذافي في أنه سيعمل على تطهير ليبيا من الثوار«بيت بيت، ودار دار..» وصولا إلى «زنجة زنجة»..والحقيقة على الأرض الآن: أنهم هم اليوم من يبحثون عنه وأولاده «زنجة زنجة» لتطهير ليبيا منهم.

أما السوريون فعليهم فعلا أن يحذروا هدوء «الأسد» المقل في خطاباته، الموغل في قتله ومخططاته الإجرامية. لا يتحدث الأسد كثيرا، لا يهدد شعبه بالقتل والتطهير، لا يقول إن الدماء ستسيل إلى الركب..لا ..لا.. لكنه يقوم بكل ذلك فعلا، بل وأكثر مما يجب.

الحالة اليمنية تختلف كثيرا عن الحالتين الليبية والسورية، سواء على مستوى بعض سلوكيات وتصرفات قمة النظام، وانهياره العملي، أو على مستوى ما وصلت إليه حالة الثورة الشعبية السلمية من تقدم كبير، ونزول الثوار إلى الشوارع والتخييم في أكثر من 17 ساحة في مختلف المحافظات.

• لماذا الحرب الآن؟
في الواقع، ربما كان خطاب الرئيس بتسليم السلطة بعد أيام، فعلاً، مناورة حقيقية أمام ضغوطات المجتمع الدولي، غير أنه لاحقاً، باستخدامه القوة والعنف المفرط ضد خصومه، قد يوحي بعكس ذلك تماما. لكن هناك من ما زال يعتقد أن استخدام القوة والعنف، هو الآخر، حتى، لا يخرج عن إطار المناورة ذاتها. من حيث أن صالح إنما أراد بهذا العنف أن يوصل رسالة مفادها: إن مزيدا من الضغط، في اتجاه إصدار قرار دولي يفرض التوقيع على المبادرة الخليجية، والذي قد يقضي بالضرورة على تلك المساعي الأخيرة في فرض مزيد من الاشتراطات ترافق التوقيع عليها (آلية التنفيذ)، لن يعني سوى الإعلان عن انتهاء خيارات السلم وضبط النفس التي كانت تتيحها الدبلوماسية. يأتي هذا، في الوقت الذي لا يفتأ يكرر فيه حديثه عن استعداده للتوقيع على المبادرة الخليجية وتسليم السلطة (كما جاء في آخر خطاب له، الأحد الماضي أمام أجهزته الأمنية)، وقبل ساعات قليلة فقط من إمطار منطقة الحصبة، وحي صوفان، ومقر الفرقة الأولى بالقذائف الثقيلة والصواريخ.

وفيما يرى البعض، أنه لم يعد أمام صالح مزيد من الخيارات، أو كثير من الوقت لخوض مناورات جديدة، كون المجتمع الدولي، كما المحلي والإقليمي، بات يدرك تماما حقيقة تصرفاته وأساليبه ومناوراته وخدعه تلك. لاسيما بعد أن نقض كافة الوعود والعهود التي أبرمها مع الجميع دون استثناء. إلا أن هناك من يعتقد أن لجوؤه للقوة في ظل تضييق الخناق عليه، إنما جاء على خلفية نصيحة غير صادقة بأن قرار مجلس الأمن المتوقع لن يشكل خطرًا كبيراً على مخططاته الانتقامية ومساعيه العنيفة في فرض سياسة الأمر الواقع. والاستشهاد المناسب هنا تقدمه حرب صيف 1994، التي فرض فيها الأمر الواقع على قرارات مجلس الأمن. ناهيك عن ضمان فيتو دولتين دائمتي العضوية هما روسيا والصين.

• ما وراء مخطط الحرب وإفشاله
لكن ثمة أمراً آخر لا يخرج عن سياق البحث في تفسيرات هذه التطورات، على ضوء تغييرات المشهد اليمني الأخير، والتي ربما يرى البعض عدم توافقها – منطقيا – مع تصاعد الضغوطات الدولية. وفي هذا السياق، يرى البعض، أن استخدام صالح للعنف، في مثل هذا التوقيت المعقد، إنما أراد من خلاله جر الطرف الآخر، وبشكل خاص، الفرقة الأولى مدرع، بقيادة علي محسن، إلى مربع الحرب الشاملة. ما سيعني دخول البلاد في حالة حرب، وبالتالي احتمالية القضاء على فكرة الثورة السلمية التي تحظى بدعم المجتمع الغربي، الخائف أصلا – وخصوصا أمريكا – من فكرة الحرب تحت مخاوف توفير المناخ المناسب والحرية الكاملة لتحركات تنظيم القاعدة. حينها سيكون الحديث عن ضرورة التوقيع على المبادرة الخليجية عبر قرار من مجلس الأمن أمراً عبثياً أمام ما يجب انتظار ما ستفرضه سياسة الأمر الواقع.

وإن تفسير تراجع حدة الهجوم الحكومي المسلح في اليوم التالي، يمكن إرجاعه بسبب عدم انجرار الفرقة، أو آل الأحمر ومناصريهم، للرد على ذلك العدوان. وسمعنا تصريحات تؤكد هذا الأمر، وتتحدث عن اعتداء من طرف واحد. ما قد يعني أن المخطط ربما يكون قد تعقد، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه قد توقف بشكل نهائي. بقدر ما قد يعني التريث إما أمام دراسة النتائج التي أسفر عنها الهجوم سلبا أو إيجابا، وبالتالي تغيير أساليب المعركة بهدف إنجاح المخطط، وإما إنها تنظر في ردود الفعل الدولية، والتي غالبا ما تبدأ بتوجيه رسائل بصورة شخصية.

قد يكون الأمر غير هذا وذاك تماما إذا ما تحدثنا عن تنامي رفض داخلي لمنهجية الحرب ونتائجها المدمرة، في إطار «حمائم» الحزب والنظام نفسه. علينا أن لا نغفل مثل هذا الأمر. الذي يعتقد انه كان ضمن أسباب الضغط التي أرضخت صالح لقبول الدخول في حوار سياسي يجنب الحزب نهاية مأساوية، ويحافظ على مصالحهم الشخصية في المستقبل. وهنا علينا أن نذكر بتلميحات الرئيس، حين قال مخاطبا خصومه: «وكما تحدثتم في مقايلكم وفي جلساتكم أنكم ستجتثون المؤتمر الشعبي العام وقياداته كما اجتثوا حزب البعث في العراق»، مضيفا أن هذا الأمر«سيبدأ تدريجيا بالرئيس وعائلته ..». في خطابه أمام أعضاء من مجلسي النواب والشورى (السبت 8 أكتوبر). هذه التلميحات من الواضح أنه هدف بها بعث مخاوف من يطالبون باستقالة الرئيس مقابل تجنب الانهيار الكلي للحزب والنظام.

• ولكن ما التالي؟
وفي حال لم تشهد البلاد تطوراً وانفراجاً في التحركات السياسية بحيث إما أن تفضي تلك التحركات إلى تطمين النظام، أو حتى تضعه أمام حقيقة ما سيجنيه من انعكاسات سالبة بسبب ما أقدم عليه، فإننا قد نشهد عودة الهجوم في أي لحظة.

وإذا كان علينا أن نفترض أن قوات صالح قررت معاودة اعتداءاتها على خصومه في الفرقة وقبائل آل الأحمر، في إطار مخطط وقرار نهائي وأخير ضد تحركات المجتمع الغربي، وجناح الحمائم في الحزب الحاكم، فإن السؤال هنا سيكون: ما نوع الانتصار الذي يفترض أن يتحقق من تلك الحرب؟

خصوصاً إذا أيقنا أن اجتثاث الفرقة وقبائل آل الأحمر لن يعمل على القضاء على الثورة ويمنعها من تحقيق أهدافها ومطالبها بإزالة النظام، بقدر ما سيزيد ذلك من إصرارها على المضي قدماً وبوتيرة أكثر من ذي قبل.

أضف إلى ذلك؛ أن صالح وأفراد أسرته من قيادات الجيش وأعوانهم لن يكونوا سوى أمراء حرب، لا قادة دولة مستقرة.
-------------------------
نشرت المادة في صحيفة المصدر في العدد (187) الثلاثاء 18 أكتوبر 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق