الخميس، 10 نوفمبر 2011

كيف يمكن إزاحة ديكتاتور متشبث بالسلطة؟



* عبد الحكيم هلال
ثمة ديكتاتور، وعلى حين غفلة، أستلم السلطة، ليصنع بالبلد ما يشاء، ثم وبعد ما يقارب الثلث قرن، وحين تسنى له أن يحولها إلى ما يشبه "الإمبراطورية العائلية الخاصة"، هاهو يطلب منه بكل سهولة: التخلي عن كل ذلك بـ"توقيع"..!
هل من الممكن أن يقوم "طاغية" ما، بتوقيع قرار رحيله بنفسه، عما بات يؤمن أنها إمبراطوريته الخاصة – هكذا بكل سهولة؟
وحتى مع عدم معرفتي بالكيفية التي أنتزع فيها - على مر التاريخ - جزء كبير من الطغاة من كراسي عروشهم، وفصلوا عن سطوتهم وجبروتهم، إلا أني أؤمن أن مثل هذا الذي ننتظر – وينتظر العالم معنا – حدوثه، هنا في بلادنا، ما حدث قط مع "طاغية"..!.
ربما يتوجب علينا أن نضع الظروف التي نمر بها بعين الاعتبار من باب الحرص، فقط، أن لا نجافي بعض ما قد يتشابه مع الحقائق التاريخية.
يعتقد المفكر الفرنسي "أتين دي لابويسيه" (1530م -1562م) في رسالة كتبها لأحد أصدقائه تحت عنوان: «مقالة في العبودية المختارة»، أن هناك ثلاثة أصناف من الحكام الطغاة، الصنف الثالث منهم هو "الحاكم الذي ولاه شعبه الحكم". ولنقل أنه الصنف الذي نعيشه اليوم - بغض النظر عن اختلافنا حول ملابسات الطريقة التي تولى فيها "صالح" السلطة، بداية، أو حتى نزاهة الإنتخابات التي أبقته في السلطة مؤخرا.
المهم، هنا، أن لابواسيه - في هذا الصنف - يؤمن "..أنه ما أن يرى نفسه (أي الطاغية) يرتقي مكاناً يعلو به الجميع، وما أن يستغويه هذا الشيء الغريب المسمى بالعظمة، حتى يعقد النية على ألا ينزاح من مكانه قط.."
مثل هذه الحقيقة، لا غرو، أنها تسري على معظم، إن لم يكن جل، الحكام العرب، وغيرهم في العالم الثالث، الذين تحولوا إلى رؤساء وزعماء استثنائيين حين فرضوا أنفسهم على شعوبهم بكل الطرق والأساليب الممكنة، وتجاوزوا ببقائهم في السلطة أكثر من عقدين، وثلاثة عقود..! ليس ذلك فحسب، بل باتوا لا يتورعون عن المجاهرة "المثيرة للاشمئزاز" بتوريث العرش – وفي أغلب الظن، أن يحدث مثل هذا: من بعد توقف قدراتهم العقلية والجسدية.
والآن، وبعد أن بلغ الطغيان مبلغه، وبلغت القلوب حناجر الشعوب العربية المقهورة، هلت شمس الربيع العربي لتقول قولتها، وكانت النتيجة أن: فر زين العابدين (تونس) إلى منفاه الإجباري، وترك حسني مبارك (عرش مصر) عنوة منتظرا مصيره الأخير على محفة المرض في المحكمة، وقتل قذافي (ليبيا) بصورة بشعه..فيما ما يزال عبق الحرية يفوح في الأرجاء تحمله رياح التغيير بانتظار أن تحط رحالها في المحطة القادمة، هناك في مكان ما في دول عربية أخرى بينها بلادنا: اليمن. 
لكن، صالح، ما زال يعبث ولما ينتهي بعد من عبثه..!
-         إن ما يغريه في المواصلة لهذا العبث، ليست القبيلة التقليدية أو قلة الوعي الشعبي لليمنيين، كما كان يروج له عقب سقوط أول رمزين من رموز الحكام العرب، الطغاة المستبدين، العسكريين. لا، إنه لم يكن ذلك، ليس بعد أن أثبتت القبيلة مع مختلف شرائح هذا الشعب وعيا سياسيا، بنضالهم السلمي، وجلدا وصبرا، ومنهجا حداثيا، فاق التوقعات.
-         كما أنها ليست القوة العسكرية الغاشمة التي مازال يمتلكها، ويستخدمها للذوذ عن عرشه، وحراسته وعائلته وزبانيته، ولضرب أبناء تعز، أرحب، نهم، ومعارضيه في حي الحصبة بأمانة العاصمة. فمثل تلك القوة، هي الأخرى لم تثني إصرار المستهدفين بها. لا هنا، في اليمن، كما أثبتت الوقائع والأحداث اليومية المتواصلة، ولا هناك في سوريا التي لا يمر يوما واحدا دون أن تحصد العشرات من أبناء الشعب. إنها – أبعد من ذلك - لم تحجم أو تمنع الليبيين من قبل. ولا وجه للمقارنة بين قوة صالح وقدراته، مع ما كان يمتلك الراحل "القذافي" من قوة عسكرية رادعة، قدرات أعظم، سطوة، جبروت وقسوة..
-         إنها، أيضا، ليست السياسة، أو الذكاء، أو الاستشارات الحصيفة..الخ. فأين ذكاء صالح من مبارك – أستاذ الزعماء العرب في التخطيط، التلاعب، الخداع والمكر..
الواقع أن صالح حظي بفرص جمة، متتالية، لم يحظى بها أي من سابقيه، مكنته من البقاء والاستمرار ومواصلة العبث.
ولقد كان لموقع اليمن الإستراتيجي والحساس في المنطقة، دورا رئيسيا في حصوله على معظم تلك الفرص، ترافق ذلك، مع ضعف وعشوائية وتخبط في حكم البلاد، الأمر الذي جعل مساحات كبيرة نائية تخرج عن سيطرة السلطة المركزية، ما حول اليمن إلى مقر مناسب لتنظيم القاعدة يفزع ويثير هلع القريب والبعيد.
ومذاك، حين جلب هذا الوضع المتدهور أعين الغرب واهتمامهم، أدراك صالح أن الأمر يستحق الخوض في لعبة: فتح "الحصالة" مقابل "الأمن". ومع الدولارات الكثيرة والتجهيزات والمعدات العسكرية الأمريكية التي تدفقت بغزارة، طور "صالح" اللعبة حين فتح شهية واشنطن لبسط نفوذها على أجواء، مداخل ومخارج هذا الموقع الإستراتيجي. وحصلت أمريكا على صفقة السيطرة تلك مع السماح لجنودها "رسميا" – حسب برقيات السفارة الأمريكية المسربة عبر موقع ويكيليكس - بالحضور والانتشار، وباتت قادرة على التحرك ومراقبة السواحل اليمنية، الطويلة، والهامة، والتي تسابق عليها الأوروبيون وغيرهم من الدول العظمى للحضور فيها تحت ذريعة "مكافحة القرصنة"، ولكن بصورة غير "رسمية" وعن بعد.
في الأثناء، استطاعت الجارة السعودية أن تتخلص من قلقها الكبير وطردت عناصرها الإرهابية الكبيرة خارج حدودها إلى اليمن. وطالما ظل الوضع هنا غير مستقر فذلك على ما يبدو سيكون هو المناخ المناسب لبقائهم وبالتالي طردهم لفكرة عودتهم من حيث أتوا.
إن "صالح"، الذي ساعد على إنجاح الصفقة، مقابل خدمة سلطته وبقائه أكثر كحليف مهم وأكثر ليونه مع رغبات واشنطن في بسط سيطرتها ونفوذها على أجواء وسواحل المنطقة الحساسة التي تمر منها وعبرها نسبة كبيرة من الطاقة العالمية، هو نفسه الذي أصبح التاج الملكي السعودي – الحليف الإستراتيجي الأهم لواشنطن – يرغب باستمراره (حتى مع وجود رفض من أطراف في العائلة المالكة لسياسته الابتزازية وعدم جديته - بحسب ويكيليكس) ليس إلا لمنع نجاح ثورة يعتقد أنها ستكون وبالا على الإقليم الذي تقبع اليمن في ذيله الجنوبي. والأمر هنا ربما يتعلق بأحد أمرين: أما خوفا من انتقال العدوى، وإما أنه خوفا من أفكار وهيئة القادمين المتوقعين إلى السلطة. وهناك من يرجح كلا الأمرين معا.
وعلى هذا النحو، أعتبر البعض أن المبادرة الخليجية – بصيغتها الأولية (أبريل) جاءت لتمنح صالح طوق النجاة، بعد ما كان قد بدأ نظامه يدخل فيما يشبه بعاصفة الانهيار عقب جمعة الكرامة (18 مارس).
وفي الوقت الذي كان الهدف منح الأمل لصالح، فقد كان، ربما أيضا، يراد عبرها وضع المعارضة في موقف حرج. نجح الهدف الأول، لكن الثاني لم يحرز حين لم ترفض المعارضة المبادرة، لكنها وضعت شروطها وتعديلاتها عليها، ولم تستطع أكثر من نجاحها في تلبية بعض من أهم مطالب الثورة، في إطار المبادرة.
 بعدها، وحين بدى – على الأرجح - أن الأمر يخرج عن السياق المطلوب، لجأ صالح إلى التلاعب بالوقت: يوافق، ثم يرفض ليوافق مجددا حتى يرفض أخرى. ولثلاث مرات متفاوتة ظل يقوم بذلك على مدى الشهرين وبضعة أيام التي تلت جمعة الكرامة، استعاد فيها أنفاسه مع مدد لوجستي عابر للحدود. ويعتقد بعض السياسيين أنه وحين شعر الرجل بضوء اخضر من الجهة التي بدأت تدرك أن بنود المبادرة تخرج عن سيطرتها بعد التعديلات النهائية، قام بعملته تلك حين جهر صراحة برفضه التوقيع مع احتجاز الدبلوماسيين العرب والغربيين - الوسطاء – في السفارة الإماراتية (22 مايو).

وفيما يعتقد أنه ربما بسبب إدراك دول غربية أخرى بما يحاك في اليمن بعيدا عن مصالحها وشعورها بأن الضغط المطلوب على صالح ليس بالمستوى المطلوب لكونه حليفا مهما حقق رغبات دول أخرى على حسابها في المنطقة النفطية الهامة، فقد لوحظ أنها بدأت في رفع وتصعيد حدة خطابها وتصريحاتها ضد صالح. الأمر الذي – ربما - وضع واشنطن والدول المتبنية للمبادرة في موضع حرج لتعمل على محاكة التصعيد على استحياء.
وفي الواقع، ربما جاء حادث النهدين ليمنح صالح، إحدى تلك الفرص. فبحسب دبلوماسي غربي في اليمن، كان للحادث تأثيرا كبيرا ساعد على تخفيف حدة المواقف والضغوط الغربية إزاء صالح.
لكن الأمر بدء بعد أسابيع ينحو منحا مغايرا، بعد أن رأت واشنطن – وربما دول أوروبية – إشارات إيجابية من نائب الرئيس باعتباره الرجل الأنسب في هذه الفترة لخلافة صالح من حيث إمكانية إعتباره الحل التوافقي الأنسب، وهذا يتوافق مع بعض الرغبات الإقليمية والدولية في بقاء حزب صالح وبالتالي إمكانية كبيرة في بقاء بعض المسئولين المطلوب بقائهم في السلطة خلال المرحلة القادمة. وهو سيلبي تلك الرغبات، ورغبات مجاورة أيضا، من حيث إعاقة نقل السلطة كليا إلى المعارضة التي مازالت موضع تخوف عند البعض فيما لو استفردت بالسلطة كليا.
بعدها أنتقل الصراع السياسي من التوقيع على المبادرة الخليجية كمطلب رئيسي وحيد، إلى صراع حول الآليات المرافقة التي طالب الحزب الحاكم بها – مستغلا مستجدات حادث النهدين – ودخول الأمم المتحدة في الوساطة. ليظل الشد والجذب يراوح بين تعديل وآخر، وإشكالية توقيع النائب وتفويضه، ليأخذ الأمر شهرين آخرين إلى جانب شهر الجمود الذي تبع حادث الرئاسة.
لكن، عودة صالح مجددا إلى صنعاء، بدت وكأنها الحجر التي ألقيت على المياه الراكدة لتمنع الرؤية. وقد اعتبرت تلك العودة على أنها مثلت إحباطا لشبه الاتفاقات التي أبرمت حول آلية التنفيذ.
بعدها كان لدول مؤثرة في الإتحاد الأوروبي دورا مهما في قيادة المجتمع الدولي إلى رفع ملف اليمن إلى مجلس الأمن واتخاذ قرار دولي يرغم صالح على توقيع المبادرة (في 21 أكتوبر).
في هذه الأثناء، فقد صالح أحد الامتيازات التي تمنحها المبادرة حين أكد قرار مجلس الأمن توصيات مفوضية حقوق الإنسان بخصوص عدم منح أي حصانة  لكل من ارتكب وتورط في الجرائم الإنسانية.
وكالعادة، أعلن النظام ترحيبه بالقرار الدولي، لكنه لم يتخذ أي خطوة متقدمة تثبت إنصياعه لمقررات المجتمع الدولي الملزمة. وعدى الإعلانات المتكررة لصالح ومسئولي نظامه أنه سيوقع المبادرة بناء على قرار مجلس الأمن، إلا انه وحتى الآن ما يزال الأفق ملبدا بالغيوم ولم يتقرر بعد الموعد المحدد للتنفيذ.
والأربعاء ظهرت تصريحات عبر مسئولين في النظام أنه لن يتم التوقيع قبل أن يتفق على آلية التنفيذ.
لكن الوقت يمر سريعا، وقرار مجلس الأمن يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تقديم تقريره بعد 30 يوما من إصداره، وعليه لم يتبقى سوى 10 أيام فقط. ويعتقد أن تصريحات صالح ومسئولين في نظامه – بخصوص الموافقة على التوقيع - أنها تندرج في إطار محاولة  لملاحقة هذه الأيام المتبقية قبل رفع التقرير الأولي للامين العام.
لكن صالح قد يفقد امتيازات أخرى في حال واصل تلاعبه. ومؤخرا أطلق وزير الخارجية الفرنسي تصريحات توحي بمثل ذلك، حين أكد أن الإتحاد الأوروبي سيناقش مسألة تجميد أرصدة صالح وأسرته ومسئولين مهمين في نظامه. وقال أن إتخاذ عقوبات أخرى ضد النظام ستناقش أيضا في الاجتماع القادم (الأثنين).
 وإذا ما حدث ذلك فعلا، فإنها ستكون الجزء المهم من الإجابة على التساؤل الوارد في المقدمة: هل من الممكن أن يقوم "طاغية" ما، بتوقيع قرار رحيله بنفسه، عما بات يؤمن أنها إمبراطوريته الخاصة – هكذا بكل سهولة؟
 إذ أن إجراءات صارمة وجدية من المجتمع الدولي ضد صالح – على تلك الشاكلة بداية – هي من ستجبره على أن يقوم بذلك. وأفضل ما سيمكنه القيام به في مثل هذه الحالة، أن يمنح نائبه تفويضا كاملا بالتوقيع، ليجنب نفسه التوقيع على ترك إمبراطوريته.
أما في حال لم يحدث ذلك، فعلى المجتمع الدولي، فقط، أن يرفع من وتيرة الضغط عبر آليات الأمم المتحدة المتاحة أو حتى باتفاقات ثنائية في حال عرقلت آليات مجلس الأمن.
ويأتي بضمن تلك الإجراءات المطلوبة، رفع ملف صالح والمسئولين معه على الانتهاكات والقتل إلى محكمة الجنايات الدولية، وإصدار قرار يجعله مطلوبا للمحاكمة الدولية.  
وعلى الإتحاد الأوروبي، إذا قرر فعلا أن يقوم منفردا بتلك الإجراءات، عليه أن لا يخشى مما سيحدث لاحقا فيما لو صدرت مثل تلك القرارات. فما قد حدث حتى الآن لن يكون أسوء مما سيحدث، والشعب اليمني قادر على مواجهة النتائج المترتبة عن أي تحركات وقرارات دولية جدية تتجه نحو تحقيق تطلعاتهم التي من أجلها تركوا منازلهم منذ عشرة أشهر ليقطنوا في الشارع ويصبروا على كل تلك الجرائم التي تنتهك بحقهم والعقاب الجماعي الذي يواجهونه كل يوم. 
--------------------------------------------
نشرت المادة في صحيفة الصحوة الأسبوعية الخميس 10 نوفمبر 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق