الأحد، 4 ديسمبر 2011

المرحلة الانتقالية.. وموجبات البقاء أو الموت



المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال

إذا كان من الملاحظ، بشكل مثير للشفقة، أن علي صالح وآلته الإعلامية يحاولون بذل جهد كبير لتصوير «رضوخه» للتهديدات الدولية بتوقيع المبادرة الخليجية على أنه إنجاز سياسي، ليّاً للحقيقة، فإن الملاحظ أكثر، بشكل يبعث على الغرابة، أن أحزاب المعارضة ظهرت على العكس لتوحي أنها الطرف الخاسر من الاتفاق. ذلك على الرغم أن الحقيقة تخبرنا أنها على أعتاب إنجاز سياسي، لطالما فشلت في تحقيق ولو نسبة يسيرة من مضامينه بعد أن ظلت تصارع النظام على مدى العشرين عاما التي خلت.

والواقع أن ذلك التعاكس مع الحقيقة، من المرجح أن أسبابه ترجع إلى أمرين اثنين يتوزعان بين النظام والمعارضة.

أما الأول، وهو ما يتعلق بصالح وآلة نظامه الإعلامية، فالهدف من ذلك الاحتفاء، المتعارض مع الواقع، لا يبرره سوى أنه إنما يسعى إلى الحفاظ على ولاء أتباعه في الجيش وعدم تسرب وتخلي ما تبقى له من أنصار في النظام والإيحاء إلى المتذبذبين من أفراد الشعب بأن شعرة المصلحة التي تبقيهم صامتين، مازال النظام يمسك بطرف منها.

وأما الآخر، والذي يتعلق بالمعارضة، فإن مظهرها وهيئتها البائسة التي ظهرت بها أثناء وبعد التوقيع، فربما أن مرد ذلك لكونها: إما تدرك تماماً، نظراً للتجربة الطويلة التي خاضتها معه، بأن صالح ونظامه غير جادين ولم يكونا يوماً كذلك أمام الالتزام بالاتفاقات والتعهدات التي يبرمها. وإما، من زاوية أخرى، لكونها ربما أجبرت، هي الأخرى، أمام الضغط الدولي، على قبول ما كانت تعتبره أحد المستحيلات، وهو بقاء صالح ولو رئيساً فخرياً لمدة 90 يوماً، وهي أشهر الفترة الانتقالية الأولى التي من المفترض أن تبدأ بتشكيل حكومة إنقاذ وطنية وتنتهي بإجراء الانتخابات الرئاسية (21 فبراير القادم) وتنصيب رئيس جديد. على أن كلا الاحتمالين مجتمعين، بالنسبة للمعارضة، يمكنهما أن يشكلا سبباً واحداً.

• المتشائمون والجدية بين مستقبل المؤتمر وصالح
في الواقع، ثمة تباين ما في الاعتقادات تتجلى في إطار توقعات المناهضين لصالح بشكل خاص. هذا التباين، مع أنه مرتبط بمبررات ومؤشرات محددة، يتقاسمه مجموعة من المتشائمين والمتفائلين بمستقبل اليمن على ضوء المتغيرات الأخيرة المتمثلة بتوقيع صالح على المبادرة الخليجية، وتوقيع طرفي حزب المؤتمر والمعارضة على آلية تنفيذها (الأربعاء الفائت في الرياض).

لم تكن المعارضة وحدها فقط من يعتريها التشكيك، بل إن معظم المراقبين المتشائمين يجزمون بأن حزب صالح لن يكون له دور مؤثر في إحراز أي تقدم جدي بشأن المرحلتين الانتقاليتين القادمتين (الـ90 يوما، أو السنتين). وبالطبع فهذا التشاؤم قد يكون له ما يبرره عند كثيرين بفعل التجربة الطويلة والسيئة التي اتسم بها تاريخ الحزب، ليس فقط لكون مبررات نشأته الأولى لم تتجاوز ما هو أبعد من فكرة المصالح الخاصة، بل لكون مبررات ومردات تلك النشأة الطارئة كانت قد بسطت سيطرتها على كافة مكونات الحزب، حتى أنها، بصيرورتها الثقافية، السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية..الخ، لم تزد أكثر من أنها ساهمت هي الأخرى في تبرير انتهاج مسار يتعارض مع المساقات المفترضة للخلاص من التخلف، ومبادئ البناء الوطني المفضية إلى التقدم والازدهار. حدث ذلك كله، فيما كان «ميثاق» الحزب «الوطني»، على العكس من ذلك، يطلق مبادئ أخرى تسمت بالسمو، لكنها خلت من الروح.

وفيما كان الحزب حريصا بالحفاظ على وطنه «الخاص»، كان، مع المدى، يقود الوطن «العام» إلى نفق مظلم لم تكن حدوده الضيقة تتسع لأكثر من مجموعة أشخاص احتل معظمهم الأطر العليا للحزب. ومع ما كانت تتطلبه تلك الحالة من ضرورة فتح نافذة يشترك فيها الجميع لإخراجه (الوطن العام) إلى الضوء، إلا أن قيادة «المنصة العليا» في الحزب ظلت تخشى من ذلك، جزعا من أن تلك النافذة حين تفتح فإن ذلك سيتطلب ليس فقط إتاحة مساحة ما من جدار وطنهم «الخاص»! بل إن العملية بحد ذاتها ستكشف عورة «المنصة العليا». وعوضاً عن التضحية، ظلت تلك القيادات العليا حريصة على المضي قدماً في الظلام حتى بلغت التماهي بين ما يفترض أنها «السلطة» الشعبية، وبين ما كان يفترض أنها «مكونات الحزب» الخاصة. بل أبعد من ذلك، وما زاد الطين بله، أن كافة قرارات الحزب، بما فيها المصيرية، ظلت منحصرة، أكثر، بمصالح المنشئ (صالح) رئيسه، مالك العلامة التجارية، وصاحب اليد الطولى فيه.

ومن هنا، كان هؤلاء (المتشائمون)، يصرون على أن لا تخلو توقعاتهم بمصير ومستقبل البلاد، خلال المرحلتين القادمتين، من التشكيك بقدرة الحزب على أن يتمثل الجدية في تنفيذ التزاماته. ذلك أنه، ووفقا لذلك السرد أعلاه، ولتلك الصيرورة فإن النتيجة الأكثر احتمالا تؤكد لهم أن رجلا مثل صالح الذي بات في نظرهم يدرك تماما أنه أصبح في حكم المنتهي سياسيا لن يكون حريصا على ترك الوطن «العام» يمضي بعيدا عن النفق المظلم، طالما لن يكون فيه حزبه «الخاص» سوى جزء من كل لا أكثر، في الوقت الذي لن يكون فيه هو شخصيا أكثر من رئيس«سابق» – وبشكل أكثر تحديدا: بعد الـ 90 يوما. بل ما هو أشد من ذلك أنه سيكون الرئيس اليمني السابق الذي لفظه شعبه، واعتبره «مجرما» و«قاتلا» لشعبه، ما يستوجب ملاحقته ومحاكمته!

إن كل ذلك، بنظر هؤلاء، من شأنه أن يضعنا أمام رجل يسعى للانتقام، لا البناء والوئام. المسألة لا تخرج كثيرا عن تشبيهها بـ«الكيمياء» الحيوية، إلا بقدر ما لـ «الكيمياء» الحياتية، ولـ«كيمياء» النفس الإنسانية غير السوية، بشكل خاص، من قدرة على التقلب والتلون والتستر على ما تضمره تلك النفس المنتقمة من خبث شيطاني. بل إن النفس الإنسانية غير السوية المنتقمة تتجاوز خبث الشيطان نفسه من حيث الإضمار والإعلان، ذلك أن هذا الأخير كان واضحا إذ لم يضمر أو يتستر على رغبته الانتقامية، كاشفا للخالق عز وجل عنها بقوله: «فبما أغويتني لأغوينّهم أجمعين».

إن هذا المنطق ربما لا يختلف كثيرا، بالمعنى الجوهري مع اختلاف السياق، عن منطق: «أنا ومن بعدي الطوفان»، العبارة التي تنسب للسيدة «بومبادور»، زوجة الملك لويس الخامس عشر، ومعناه الشائع: أن كل شيء، فيما عداي أنا فقط، ليس مهماً! هو منطق كل ذي قوة وجبروت بدأ يشعر بفقدان ملكه وسطوته، ليصبح، آنذاك، لسان حاله أو مقاله: إذا ذهبت أنا فليذهب الجميع إلى الجحيم!. وثمة من يقول بمعنى آخر، وهو الأكثر تداولا، وهو: في حال حكمت الضرورة بأن أترك الملك والسطوة، فإني، وبما تبقى لي من سلطة وقوة، سأدمر كل شيء، ولن أدع لكم شيئاً لتتمتعوا به من بعدي!

• المتفائلون: الفرصة بيد الحزب الآن
ومع ذلك، إلا أن هناك القليل – وربما القليلين جدا- من المتفائلين يرون أن حزب الرئيس سيعمل على انتهاز هذه الفرصة الاستثنائية التي لم يحظَ بمثلها نظراؤه من الأحزاب التي كانت حاكمة واندثرت نهائيا بفعل ربيع الثورات العربية.

ويعتقد هؤلاء أن الجدية هذه المرة ستفرض نفسها بقوة خلال المرحلة القادمة، وذلك ربما لعدة اعتبارات طارئة. منها على سبيل الأهمية: أن الصفقة التي منحت الحزب فرصة البقاء على قيد الحياة في السلطة جاءت نتيجة عملية قيصرية معقدة أجريت من قبل المجتمع الدولي والإقليمي الوسيط بعد مخاض طويل وصعب، وبالتالي فإن المولود القادم سيوضع في الحضانة - لثلاثة أشهر- تحت رقابة طبية لصيقة حتى يستكمل فترته الانتقالية بأمان.

الأمر الآخر: أن الشعب اليمني أصبح أكثر رسوخاً ووعياً في الفعل السياسة، بفعل الممارسة الثورية الميدانية الطويلة، وبالتالي: أكثر قوة وإصراراً على صناعة ومواصلة الفعل الثوري التغييري.

أضف إلى ذلك، يرى المتفائلون، أنه لمن المرجح، إلى درجة شبه مؤكدة، أن حزب المؤتمر لن يكون ساذجاً بعد الآن ليواصل ربط مصيره المستقبلي بمصير رجل بات من المحتم أنه سيكون جزءاً من التاريخ المندثر بعد أشهر قليلة جداً. وعليه، فإن مثل تلك التبعية المدمرة من المرجح جداً أنها لن تستمر، ليس بعد أن كادت رغباته (صالح)، في البقاء والاستئثار الجنوني بالحكم وتوريثه لأسرته من بعده، تقضي على الجميع وترسل الحزب – مثل غيره – إلى مقبرة التاريخ. وتباعاً، فإن ذلك لن يحدث، ليس بعد أن أدرك الحزب أن هذه الفرصة الأخيرة التي سنحت له في البقاء والمواصلة – بصورة استثنائية لن تتكرر مقارنة بنظرائه المندثرين – قد انتزعت انتزاعاً بصعوبة بالغة. وعليه فسيكون من السذاجة والحماقة معاً، أنه سيقضي على تلك الفرصة التاريخية الاستثنائية التي ما شهد التاريخ مثلها ولن تتكرر على الإطلاق.

وإذن، يقرر هؤلاء المتفائلون، بعد كل ذلك، سيتوجب على المؤتمر أن يكون مدركاً تماماً أن المرحلة القادمة لن تكون كسابقاتها، وأن الجدية والحصافة من عدمها ستكون هي العامل الحاسم الأكثر تأثيراً في المرحلة الانتقالية لتحديد الطرف الذي سيتوجب أن يبقى أو يموت.

• البداية.. من الحكومة والكفاءات 
ما بين تشاؤم المتشائمين وتفاؤل المتفائلين، فإن الحكم على جدية المؤتمر الحاكم من عدمها لن يطول انتظار إدراكه كثيراً. ذلك أن أول اختبار سيتوجب عليه خوضه، وهو أقرب ما يكون (أيام قليلة فقط تفصلنا)، من شأنه أن يجعلنا نقرر مدى جدية المؤتمر من عدمها. إن ذلك سيتجلى، بداية وقبل كل شيء، من خلال إحداث أو لا إحداث تغييرات جوهرية في الشخصيات المرشحة من جهته لحكومة الإنقاذ الوطني. ذلك أن نوعية الأشخاص المرشحين ستكشف لنا هل يريد المؤتمر أن يتجدد ويحافظ على بقائه في الواجهة خلال المرحلة القادمة - التي ستكون مختلفة وصعبة ومعقدة - أم إنه لن يستفيد من الفرصة التي أتيحت له – استثناء دونا عن غيره من الأحزاب العربية الحاكمة التي تبخرت بفعل الربيع العربي.

وما لم يتجنب المؤتمر الانجرار وراء التحدي الذي سيستمر صالح في خوضه، من خلال فرضه شخصيات يتوخى فيها إما طابع «المواجهة» والندية، لا الكفاءة، وإما شخصيات أثبتت ولاءها وبلطجتها وقسوتها، لا القدرة والنزاهة، بقصد أن يمرر عبرها رغباته في تدمير فكرة البناء والإصلاحات وتحقيق ما يصبو إليه الشعب اليمني، راجياً من ذلك إفشال مساعي المعارضة – التي ستقود الحكومة القادمة – ليثبت للعالم أنه الأفضل وما دونه هو الأسوأ.. نقول: ما لم يتجنب المؤتمر الانجرار وراء ذلك الانتقام الشخصي، فإنه سيؤكد ليس فقط عدم قدرته على أن يكون حزباً حقيقياً، ويتجاوز مرحلة العدمية والصنمية التي تجعل من قياداته وأفراده مجرد مجموعة عرائس وأراجيز تتحرك تباعاً لرغبة الممسك بخيوطها من الخلف.. ليس ذلك فحسب، بل إنه سيثبت، أيضاً، أن فكرة التخلص نهائياً من الأحزاب الحاكمة الحاملة لفيروس الاستبداد والتخلف، هي الفكرة الأكثر صواباً من الاكتفاء فقط بالوقاية منها أو المعالجة بواسطة المضادات الحيوية.

• المعارضة والحكومة
لعلنا الآن بتنا ندرك لِمَ لم تحتفي المعارضة بتوقيع المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية بالقدر الموازي لما حاول صالح وبقايا نظامه أن يظهروا عليه! ذلك أن المعارضة تدرك، بدايةً، مخاطر بقاء مثل هذا الرجل خلال المرحلة الانتقالية الأولى. وعلى الرغم من تحوطها من نزع أسنان الثعبان السامة إلا أنها تخشى من عدم وجود حزب حقيقي قادر على اتخاذ قراره بنفسه بعيداً عن رغبات رجل لم يعد لديه ما يملكه ليدمر كل شيء.

إن ذلك يجعل البعض على يقين بأن المعارضة حين قبلت أن ترضخ لحل وسط يبقي صالح لفترة أشهر، بل أسابيع قليلة قادمة، كانت مدركة تماماً أنها بذلك تكون قد قررت الوقوف وجهاً لوجه أمام عمقها الشعبي.

ومع ذلك، يرى آخرون أن مثل هذا الأمر لن يكون هو الأخطر مقابل أنها، وبدرجة سابقة ورئيسية، قد قررت خوض مغامرة أكبر مع النظام. ربما تكون بالفعل قد حرصت فيها، قدر ما تستطيع، على توخي الحذر من المجهول. إلا أن المؤكد أنه لن يكون بمقدورها توقع كل ما يمكن أن يحدث في حقل مليء بالألغام.

وإذا كان أقل ما يمكن أن يتوقعه المتشائمون هو أن تقع المعارضة في مأزق مواصلة العمل كرافعة لإنقاذ مريض تتهدده علل الموت من كل جانب، عوض أن تعمل، كما هو منتظر منها، كرافعة لوطن بأكمله، فإن المتفائلين يؤمنون بأن الواقع اليوم قد منح المعارضة رافعة حديثة الصنع (وكالة) من صناعة الربيع العربي، أحد مميزاتها القدرة السريعة على التخلص من كل الحمولات الزائدة والقذف بها بسهولة إلى ما وراء التاريخ.

إن ذلك، برأي هؤلاء المتفائلين، قد يحدث، فقط، عند أعلى التوقعات، وذلك، فقط، فيما لو ظل الحزب الحاكم مغيباً عن الوعي، يواصل التعامل مع عالم ما بعد 2010 بالطريقة نفسها التي كان عليها من قبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق