الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

قراءة في «تحولات الموقف الأمريكي» خلال الثورة اليمنية


  
-       عبد الحكيم هلال
كان للولايات المتحدة جهد واضح في إيصال ملف اليمن إلى مجلس الأمن الدولي، وصياغة -وكذا اتخاذ - القرار الأممي رقم 2014 في 21 أكتوبر الماضي، والذي حاز - وبشكل استثنائي- على إجماع كافة أعضاء دول المجلس الـ15 الدائمة، وغير الدائمة العضوية.
موقف أمريكا هذا قد يبدو أمرا لا جدال فيه، سواء لاحظه المتابعون على مضض، أم أكده السفير الأمريكي لدى صنعاء، جيرالد فيرستاين، في تصريحات أو مقابلات صحفية، أم تم تعزيز تأكيده من قبل مسئولين أمريكيين آخرين، من واشنطن; إما خلال الفترات التي سبقت القرار (من خلال تحركات أمريكية نشطة سعيا لاتخاذه) وإما بعد ذلك (بهدف تأكيد هذا الدور..). 
لكن، ومع ذلك، إلا أن الموقف الأمريكي، بشكل عام (ولنقل: المفترض، ذو التأثير والفاعلية على مسار الأحداث في اليمن) ما زال يثار حوله كثير من التشكيك!
بالنسبة للسفير الأمريكي، هنا في صنعاء، يزعجه مثل سوء الفهم هذا، وتغضبه مثل تلك التهم فـ«هناك كثير من الإشاعات..»، قال السفير – بلهجة أقرب للغضب – بينما كان يرد على سؤال (ذو طبيعة اتهامية بشأن ما يشاع حول ما تريده أمريكا وما لا تريده في اليمن!) في مقابلة سابقة كانت أجرتها معه «المصدر» بتاريخ 11 أكتوبر الماضي. «كما أن الكثير من الناس يتنبأ بحدوث الكثير من الأمور..»، أضاف السفير واصفاً من يطلقون الأحكام، بأنهم «يفترضون أنهم يعلمون الكثير عن السياسات والرؤى الأمريكية التي وببساطة لا توجد على أرض الواقع..».
وببساطة كبيرة، كان يمكننا أن نكتشف قدرات السفير فايرستاين الدبلوماسية في رده على أكثر الأسئلة إحراجاً – حول سياسات بلده وتحركاتها، ورغباتها - خلال مقابلات صحفية مباشرة (وهذا بعكس كثير من السفراء الغربيين والعرب الذين إما يصرون على أن ترسل إليهم الأسئلة عبر الفاكس للرد عليها، أو ببساطة يرفضون إجراء الحوارات الصحفية، مع استثناء السفير البريطاني).
ومع ذلك، إلا أن أسئلة كثيرة ما زالت بحاجة إلى إجابات صريحة، وواقعية، يطالب بها بعض السياسيين والمتابعين! وهذا ينطبق ليس على المتابع والسياسي اليمني، بل، أيضا، ظهر باحثون غربيون – بعضهم أمريكيون بالطبع– مازالوا يشككون حول ما يريده، وما لا يريده البيت الأبيض في اليمن.

•       السياسة الأمريكية في اليمن
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، كتب جيرمي إم شارب، وهو متخصص بشئون الشرق الأوسط، دراسة مطولة تحت عنوان «اليمن: الخلفية والعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية»، قدمت إلى/ ونشرت عبر (خدمة الأبحاث في الكونجرس) في 8 يونيو 2011، وقد غاصت الدراسة في عمق الأحداث الجارية في اليمن على خلفية قيام الثورة الشعبية السلمية. وتحت العنوان الفرعي:«الاستجابة السياسية للولايات المتحدة»، قال شارب: إن «الاستجابة السياسية للإدارة الأمريكية طوال الأزمة اليمنية الحالية تمثلت بتجنب إدارة الرئيس اوباما دعوة الرئيس صالح للتنحي عن السلطة بشكل مباشر وصريح، لكنها انتقلت للتصديق على عملية نقل [صالح للسلطة] مجاراة [تماشيا] مع خارطة مجلس التعاون الخليجي لتصحو بعد ذلك مباشرة بشأن إثارة مسألة مغادرة صالح للسلطة».
وأضاف شارب، على لسان مسئول أمريكي مجهول الهوية، قوله أن الإدارة الأمريكية ما كانت لـ «تتصور أو تحاول التنبؤ بهذه النتيجة». ويستشهد الباحث بتصريحات لمساعد مستشار الأمن القومي بن رودز، قال فيها «أعتقد أن وجهة نظرنا هي أن التحرك هناك يجب أن يكون واضحا بالمضي نحو إحداث حل سياسي في اليمن بحيث يشمل هذا الحل حكومة تكون أكثر استجابة لتطلعات الشعب اليمني...تلك كانت رسالتنا المبدئية الثابتة للرئيس صالح».
وفيما يبدو أن الاستشهاد بتلك التصريحات هنا إنما جاءت في سياق تعزيز الحديث عن ضعف التحرك وعدم تطور الموقف قياسا بقوة الإدارة الأمريكية وتأثيرها المفترض في حث صالح والضغط عليه للتنحي. ولذلك لم ينتظر الباحث الأمريكي الشهير (المعروف بكتاباته ومؤلفاته المنتشرة على نطاق واسع والتي تنظر وتحث على «الكفاح اللاعنيف» من أجل إحداث التغيير في الأنظمة الاستبدادية) لينتقل إلى إيراد ما تضمنه تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش» الحقوقية العالمية - مقرها أمريكا – وذلك عقب مجزرة (18 مارس - جمعة الكرامة) حين حثت الرئيس أوباما على ضرورة إيقاف المساعدات الأمريكية، العسكرية والاقتصادية، فورا، والتي كانت خصصت لليمن (115 مليوناً أقرها الكونجرس ضمن ميزانية 2012)، وذلك حتى «تتوقف الهجمات التي يتعرض لها المحتجون السلميون على نطاق واسع، ويحال المتورطون فيها للمحاكمة». وبحسب الباحث فإن جيف موريل، أمين سر الإعلام في البنتاجون، حين سئل، مطلع أبريل، حول ما إذا كانت الإدارة تدرس مسألة إيقاف المساعدات، رد أنه «على حد علمي فإن تلك المساعدات لم تكن... من الواضح أننا نراقب الوضع عن كثب. إنه مقلق. ونحن نعمل على تقييم ودراسة الوضع معتمدين على مدى تقدمه..». (المصدر: عن وكالة رويترز: «الولايات المتحدة تحث اليمن على نقل السلطة، والبنتاجون لم يقطع المساعدات» – 5 ابريل 2011).
ومع ذلك، فإن تصريحات لاحقة، نسبت لمسئولين أمريكيين ويمنيين، أكدت أن واشنطن قطعت/ أو خفضت مساعداتها لليمن. لكن السفير الأمريكي – في مقابلة المصدر المشار إليها سابقا، أكتوبر الماضي – أجاب صراحة بقوله «لم نقم بتقليص مساعداتنا لليمن»، بل أكد أن بلاده في واقع الأمر قامت «برفع المساعدات المقدمة إلى اليمن خلال الأعوام القليلة الماضية..»، مع أنه في نفس سياق الإجابة، تحدث عن تقلص المساعدات الاقتصادية بسبب الوضع الأمني. وحين طلب منه تحديد الإجابة بخصوص «المساعدات العسكرية»، بشكل خاص، لا الاقتصادية، تجنب الإجابة المباشرة، بداية، مكررا حديثه حول تأثيرات الوضع الأمني، إلا أنه عاد وأكد «ومع هذا فإن تعاوننا الأساسي مع اليمن فيما يتعلق بالجانب الأمني سوف يستمر»، وبعد إصرار على تحديد إجابة مباشرة بخصوص ما ورد على لسان أركان حرب الأمن المركزي اليمني، نجل شقيق الرئيس، يحيى صالح، بخصوص تقليص المساعدات العسكرية الأمريكية، أوضح السفير أن ما حدث هو أن «برامج التدريب التي كنا ننفذها مع تلك الوحدات قد توقفت لأن تلك الوحدات قد توقفت عن التدريب، وبالتالي فإن قرار وقف التدريب تم اتخاذه من قبل تلك الوحدات وليس من قبلنا». بعدها بيوم أو يومين تقريبا، التقى السفير بيحيى صالح، دون أن تكشف المعلومات ما الذي دار في اللقاء، غير تلك العبارات الرسمية المعهودة التي دأبت عليها وكالة الأنباء اليمنية الرسمية أن اللقاء ناقش جوانب التعاون الأمني بين الجانبين!

•       ما بعد قرار مجلس الأمن
ولاحقاً، وبعد إصدار قرار مجلس الأمن (رقم 2014)، في 21 أكتوبر، وحين كان متوقعا ممارسة مزيد من الضغط على صالح ونظامه من أجل تطبيق مضمون القرار، إلا أنه وعلى العكس، لوحظت بعض التغييرات - ربما - في تصريحات الدبلوماسية الأمريكية ممثلة بالسفير فايرستاين، بشكل خاص. ففي لقاء مع صحيفة الصحوة الأسبوعية المعارضة، نشرت الخميس (27 أكتوبر)، كانت نبرة السفير متغيرة – أو ما أعتقد البعض أنها كذلك - تجاه المعارضة اليمنية وأطراف الصراع الأخرى التي تعارض أو انشقت عن صالح. والتي حملها السفير جزءاً من مسئولية ما يحدث من انتهاكات، وخروقات.. وبطريقة غير مباشرة، فقد ساوى في جزء من تصريحاته بين النظام وبين المعارضين الفاعلين!
ولوضع ما يمكن اعتباره تحولا في المواقف، في سياق أكثر وضوحا، فقد جاءت تلك التصريحات بعد يوم واحد من نشر خبر حول لقاء تم بين صالح والسفير الأمريكي (الثلاثاء 25 أكتوبر). 
وقد اعتقد البعض أن مثل هذا التحول المعلن، ليس فقط أنه اعتبر سببا رئيسيا ساعد صالح ومنحه فرصة جديدة لمواصلة التلاعب والمماطلة في توقيع المبادرة الخليجية بموجب ما يلزمه قرار مجلس الأمن، بل أكثر من ذلك، جعله يواصل لعبته باستخدام العنف وقمع المناهضين له في محافظة تعز، ومديريات أرحب ونهم- محافظة صنعاء، وذلك بهدف جرجرة المعارضة للدفاع عن نفسها بما يعزز فكرة المساواة بين انتهاكات الطرفان. بل غير ذلك، جعله يطالب بإضافة تعديلات على الصفقة تمنحه فرصة البقاء رئيسا رمزيا حتى إجراء الانتخابات الرئاسية. وهو أمر، مع انه يخرج عن إطار ولب محتوى المبادرة (التي تدعوه بشكل واضح إلى التنحي مباشرة عقب التوقيع وتسليم السلطة لنائبه)، إلا أن مثل هذا الأمر، كما يبدو، قد وجد قبولا وتأييدا من قبل واشنطن. ومثل هذا القبول أورده السفير في مقابلته مع صحيفة الصحوة أيضا، وإن بشكل تلميح وبصورة غير مباشرة. فحين سئل حول ما يتردد من القول بإمكانية أن تتضمن التسوية الجديدة «بقاء صالح رئيسا رمزيا حتى إجراء الانتخابات»، أجاب «أعتقد أن هناك إشكالية ما، وبمعنى آخر أن الآلية التي ناقشها كلا الطرفين لا تتطلب استقالة رسمية لرئيس الجمهورية، لكنها وبالتأكيد ستنقل قيادة البلد وبشكل يومي إلى يد نائب الرئيس مع حكومة ائتلاف، لذا فسلطة اتخاذ القرار ستكون في يد نائب الرئيس..». وهذا يعني بوضوح غير قابل للتشكيك، تفسيرا جديدا للآلية التي يتم مناقشتها مع المعارضة، يحمل تبريرا لبقاء صالح رئيسا رمزيا!
الأمر على هذا النحو، يتعارض مع تصريحات الدبلوماسية الأمريكية السابقة التي ظلت تدعو على وتيرة واحدة بضرورة التنحي الفوري، حتى دون أن تتطور أو تتوافق مع متغيرات الأحداث وتسارعها على الأرض!

•       ليس جديداً.. بل على النسق ذاته
وفي الوقع، إذا ما عدنا قليلا، وأمعنا النظر في موقف الإدارة الأمريكية إجمالا إزاء اليمن، سنلحظ بشكل أكثر وضوحا أن السفير الأمريكي لم يكن وحده ملتزما بهذا التوجه السياسي.
بل إننا سنجد أن موقف الإدارة الأمريكية إزاء صالح، وما يحدث في اليمن، ككل، لم يشهد تغييراً كبيراً، طوال فترة الأحداث، في سياق تصريحات معظم مسئولي الإدارة، وذلك بالنظر إليها من جهة التطور المفترض إزاء الأحداث، سواء من حيث التطور الزمني أم التطور الميداني.
ثمة مؤشرات واضحة في هذا السياق. أهمها: أن الإدارة الأمريكية لم تكن لتضع الحالة اليمنية موضع الخطر الكبير الذي يتوجب الإسراع في حله (ومسألة المخاوف من تنظيم القاعدة هنا، مع أنها قد تبدو حقيقية، إلا أنها لم تكن تمثل ذلك القلق البالغ الذي يجبرها على رفع مؤشر الخطر إلى اللون الأحمر). وما يدل على هذا التوجه أن أعلى مستوى قيادي سلم إليه ملف اليمن هو السفير الأمريكي في صنعاء، بداية. وحين تطورت الحالة، اقتسم الملف مع المملكة السعودية. وهذا أمر يمكن ملاحظة دقته، بمقارنته مع بقية ملفات ثورات الربيع العربي في المنطقة (تونس، مصر، ليبيا، وسوريا..). وإذا ما كنا واقعيين أكثر، فيمكن القول – من خلال الملاحظة – أن أعلى مسئول أمريكي في واشنطن أبدى اهتماما بملف اليمن – بعد السفير – لم يتجاوز الناطقين الرسميين باسم وزارة الخارجية. وحتى هؤلاء كانوا يطلقون التصريحات مجبرين بالرد على أسئلة الصحفيين. أما أهم أشخاص الإدارة الأمريكية وهم: الرئيس أوباما، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، فمدى قياس اهتمامهم بملف اليمن، يتضح ضعفه بالمقارنة مع بقية الملفات الساخنة. ومن خلال إطلاقهم التصريحات، فإنها حتى لم تساوِ الـ10 بالمائة من التكرارات قياسا بالفترة (10 أشهر من الثورة اليمنية، لم تبلغ فيها التصريحات حتى بنسبة مرة واحدة على الأقل شهر. مع أن بعضها ساقتها أحداث كبيرة مثل اغتيال العولقي).
وخلاصة الأمر، في هذا: يمكننا القول إن الإدارة الأمريكية، وضعت ملف اليمن بيد السفير، والأقدار، ترمي بها حيث تشاء..ففي نهاية المطاف، لا تمثل اليمن الأولوية القصوى– إذا ما استثنينا موضوع الإرهاب – التي من شأنها أن تؤثر على بؤر اهتمام وأولويات الإدارة على مستوى العالم.
وبالعودة إلى الدراسة التي أجراها شارب حول اليمن، فإن التقارير أشارت إلى أن إدارة أوباما، وطوال فترة الجدل السياسي حول شروط المبادرة الخليجية الداعية لإحداث انتقال سياسي للسلطة في اليمن، ظلت تمارس ضغطا على صالح لتوقيع الصفقة. وفي خطاب أوباما في 19 مايو، أمام وزارة الخارجية الأمريكية، فقد حث أوباما الرئيس صالح علنا على توقيع المبادرة. غير أنه أضاف «ولكن إذا كانت أميركا تريد أن تكون ذات مصداقية، فيجب أن نقر بأن أصدقائنا في المنطقة، في بعض الأحيان، لم يستجيبوا لجميع مطالب التغيير الثابتة – أي التغيير الذي ينسجم مع المبادئ التي أوجزتها اليوم». وأضاف أوباما «تلك هي الحقيقة في اليمن، حيث أن الرئيس صالح بحاجة إلى متابعة لتنفيذ التزامه بنقل السلطة». وبعدها بأيام قليلة فقط، وعوضا عن التوقيع، رتب الرئيس صالح، بحسب التقارير، حصارا عبر مناصريه حول سفارة الإمارات العربية المتحدة بصنعاء وبداخلها السفراء، بينهم السفير الأمريكي، بعد أن رفض التوقيع على المبادرة في نفس ذلك اليوم (22 مايو). لكن، مع أن هذا كان عيبا دبلوماسيا غير مسبوق (إلا ما فعله ميلوسوفيتش مع بعثة الأمم المتحدة) إلى جانب كونه يعد يعتبر الرفض الثالث للتوقيع، إلا أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، مارك تونر، علق قائلا «نحن نعتقد أن الرئيس صالح مازال لديه القدرة والفرصة لتوقيع هذه المبادرة ليعمل على كسر الجمود الحاصل». كان ثمة مقترحات بأن ترفع واشنطن من نسبة الضغط أكثر لإرضاخ صالح على التوقيع، بما في ذلك مقترحات بعقوبات ضده وضد أسرته ومقربيه، عبر مجلس الأمن. إلا أن ذلك لم يحدث، وعوضا عنه، سافر جون برينيان، مستشار الرئيس لشئون الإرهاب، إلى الخليج، عقب تصاعد المواجهات في الشارع اليمني. والتقى بزعماء الخليج ليتدارس معهم كيفية إعادة صالح إلى طاولة المفاوضات واستئناف المحادثات بشأن نقل السلطة. (كل تلك التفاصيل التي تضمنتها دراسة جيرمي شارب، هي في الأصل معلومة لدى الكثيرين. ومع ذلك، إلا أن حجم الكاتب، والجهة الصادرة عنها، ربما، هما العاملين اللذين يمنحانها تلك الأهمية).

•       السبب: الفيل في الغرفة
إن شارب مثله مثل كثير من الباحثين الأمريكيين، وبشكل خاص المسئولين الأمريكان، وغيرهم من الباحثين الغربيين، يصلون في نهاية المطاف إلى تفسير سببي هو الأكثر انتشارا كسبب رئيسي يربط  تلك السياسة الأمريكية، المتخاذلة، بمخاوف من استغلال تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة للاضطرابات المتوقعة في اليمن، والتي قد تتفاقم في كلا الحالتين: سواء في حال تنحى صالح عن السلطة نهائيا، أم تمسك بها بشكل جنوني، ورفض التخلي عنها.
ففي الحالة الأولى تأتي المخاوف، من كون رحيل صالح سيترك فراغا كبيرا في السلطة، في الوقت الذي تفتقر فيها أمريكا لشريك قوي قادر على التصرف بسرعة وفق المعايير الأمريكية في مواجهة أي خطر إرهابي. حيث أن صالح – وهنا نستشهد بشارب – "كان مدركا بشكل جيد للمخاوف الأمريكية والسعودية والقلق الدولي حول استمرار التعاون في الحرب على الإرهاب، وأنه طوال فترة الأزمة أثار تلك المخاوف بسحب قواته من المحافظات البعيدة من أجل إرغام المجموعة الدولية على القبول بمبدأ استمرار بقاء حكمه. استشهد التقرير بأحداث محافظة أبين كنموذج أكثر وضوحا للخطة التي يزمع صالح مواصلتها في حال تواصلت الضغوطات المطالبة بتنحيه الفوري.
أما في الحالة الثانية، وهي تشبّثه الجنوني بالسلطة، فيمكنه أن يوصل إلى حتمية نشوب حرب أهلية. وبالتالي إتاحة مناخ مناسب للقاعدة للتوسع والانتشار! 
هذا ما يجعل الخيارات الأمريكية المفترضة محدودة. ووسط الحيرة على مستقبل اليمن السياسي، يقول شارب، فإن المسئولين الأمريكيين يناضلون من أجل الإبقاء على التعاون في مكافحة الإرهاب المستقبلي باعتباره خيارا رئيسيا. ويضيف «إن حجم العلاقة الأمريكية بالمعارضة السياسية اليمنية أو القادة العسكريين من خارج الدائرة المقربة لعائلة صالح، هي علاقة مجهولة». وطبقا لـ جوشوا فوست، وهو زميل في مشروع الأمن الأمريكي والمحلل السابق في وكالة الاستخبارات الدفاعية، فإن «الحاصل هو أن مهمة التدريبات الأمريكية، وكذا برامج جمع وتبادل المعلومات الاستخباراتية الساري المفعول مع اليمن – لا احد يعرف ما إذا كانت ستتأثر أو المدى الذي ستتأثر به [تلك البرامج] في ظل حكومة جديدة». وأضاف «ليس لدينا علاقات جيدة مع حركات المعارضة، التي تعتبر هي نفسها مرتبكة ومن المحتمل أن تبدأ المشاكل الداخلية قريبا على أية حال، ولذلك من الصعوبة التنبؤ بالكيفية التي سيتفاعلون بها مع مثل هذه البرامج» (المصدر: خطورة اللعبة الأمريكية في اليمن – الأمة The Nation ، 30 مارس 2011).
وإذا كان من الممكن التغاضي على أن يهاجم السفير فايرستاين بعض اليمنيين الذين وصفهم بأنهم يفترضون معرفتهم كل شيء عن السياسية الأمريكية، فما الذي سيتوجب عليه قوله، هنا، أمام تصريحات خبراء أمريكان شغلوا مناصب أمنية سابقة؟
تقرير آخر، يستشهد به الكاتب، يؤكد أن «مسئولين أمريكيين يقرون بشكل خاص بأنهم ليس لديهم النفوذ القوي الذي يمكنهم من مواجهة صالح بخصوص مسألة بقائه وخروجه من السلطة. وأنهم في أفضل الأحوال، يقول المسئولون الأمريكيون، أن الأمريكان ينظرون [يبحثون] بعناية كبيرة في مسألة تحديد هوية ودعم مسئولين على المستوين العالي والمنخفض وكذا مسئولين مدنيين من الذين يمكنهم أن يسيطروا على المؤسسات الأمنية في حال أن أجبر  أقرباء صالح على الفرار». (المصدر: النظر إلى الاضطرابات في اليمن كفرصة ملائمة لفرع القاعدة – صحيفة «نيويورك تايمز» 5 أبريل 2011).

•       خطورة الاستمرار في اللعبة
وعلى هذا المنوال، وغيره، من الاستشهادات والتصريحات والتقارير، التي تعزز المخاوف الأمريكية من القادم المجهول في اليمن، بغض النظر عن واقعية تلك المخاوف من عدمها، فإن معظم المتابعين يضعون تفسيراتهم وانطباعاتهم حول طبيعة الموقف الأمريكي من قضية التغيير المنشود في اليمن، باعتباره أحد الدعامات الرئيسية لإطالة أمد الأزمة، على أمل أن تتغير مواقف أحد الطرفين: صالح ونظامه، أو المعارضة وأنصارها. وفي كل الأحوال فقد حاولت الإدارة مرارا لكنها أثبتت فشلها في تجريب إنفاذ الخيار الأول. وذلك، وفي أحسن تقدير، لكونها أجبرت عليه بسبب تسارع الأحداث المتجهة صوب حتمية إسقاط نظام صالح، لاسيما بعد جمعة الكرامة. وربما بات عليها الآن أن تنتقل إلى محاولة إنفاذ الخيار الثاني بالضغط على المعارضة، وهو الخيار الذي باتت مسوغاته أكثر مواتة، من حيث أنها أصبحت تعتقد، الآن، أن قبول المعارضة ببقاء صالح رئيسا فخريا حتى إجراء الانتخابات، سيمثل الحل الأسهل، الذي ساقته الأقدار، وليس بينها وبين تحقيقه سوى أن تضغط على المعارضة, الباحثة عن تعزيز ثقة المجتمع الدولي بها. والبداية كانت من حيث بدأ السفير نفسه: التهديد بعقوبات تطال الجميع من خلال إطلاق تصريحات تساوي في الانتهاكات وتجعل من المعارضة متورطة في الجرم مثلها مثل نظام صالح!
بيد أن الأمر، ربما سيكون أكثر كلفة، من حيث أنها تعيد الأمور إلى نقطة الصفر، ويساعد ويمنح صالح عذرا ومبررا وفرصة أخرى وحياة جديدة لمواصلة محاولاته ومساعيه في البقاء في السلطة. ليس ربما بشكل رمزي حتى الانتخابات الرئاسية القادمة، بل بفاعلية لن يعدمها طالما ظل يمتلك المال وقوة الجيش – بيد أسرته – ما قد يغريه ويحفزه على إحداث إرباكات سياسية قد يصل مداها إلى تغيير المعادلة السياسية المفترضة خلال الفترة الانتقالية، وبالتالي إطالة أمد الأزمة مجددا. وفي حال افترضنا جدلا أن شباب الثورة قبلوا بتلك التسوية السابقة، وهو أمر مستبعد جدا، فإن القادم سيكون أكثر خطورة ودماراً، في حال لم تسر الأمور وفقا لآخر تسوية سياسية تم التوصل إليها. ليس على مستوى الداخل اليمني فحسب، بل على مستوى أبعد من ذلك بكثير، قد يطال الإقليم والمصالح الدولية برمتها في اليمن والمنطقة.
------------------------------------------------
نشرت في صحيفة المصدر الإسبوعية - العدد (181) - الثلاثاء: 21 نوفمبر 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق