الأحد، 3 نوفمبر 2013

صالح أم الإصلاح.. من يدعم «الإرهاب» في اليمن؟

ما وراء اتهامات الرئيس السابق لحزب الإصلاح باغتيال الضباط

عناصر من تنظيم القاعدة في اليمن يتدربون

في آخر مقابلة تلفزيونية مسجلة ومقتضبة له، خرج الرئيس السابق علي عبد الله صالح من صدمته المرضية ليكيل اتهامات جديدة لما أسماها بجماعة الإخوان المسلمين باليمن.

كان صالح رتب لهذه المقابلة، السبت الماضي، 26 أكتوبر، على قناتي "اليمن اليوم" و "آزال" التابعتين له، ردا على شائعات قالت بوفاته - مع أنه تم تداولها على نطاق ضيق في صفحات "الفيس بوك" - أو على الأرجح لما أراد أن يبدو وكأنه كذلك. بدأ باتهام حزب الإصلاح بالوقوف وراء تلك الشائعات ليتمدد بعدها باتهامه بالترتيب لحادثة دار الرئاسة، وتمدد أكثر حين أتهمه بالوقوف وراء الاغتيالات وكافة القضايا الأمنية التي تمر بها البلاد اليوم.

اتهم "صالح" من أطلق عليهم "إخوان اليمن" بأنهم "ربما وراء كل الأحداث لاغتيال الضباط من العسكريين والأمنيين..ويرمون بها إلى ظهر تنظيم" القاعدة"، الذي قال إنه "فصيل من فصائل حركة الإخوان المسلمين وخرج من عباءتهم".

وبعد ساعات من تلك التصريحات، خرج جلال بلعيدي المرقشي، زعيم جماعة "أنصار الشريعة" المحسوبة على تنظيم القاعدة في اليمن، في تسجيل تلفزيوني مسجل، ونادر جدا حدوثه، ليعلن تبني جناح القاعدة للعمليات التي استهدفت ضباطا وجنودا في الجيش اليمني في أكثر من محافظة خلال الشهرين الماضيين.

كما أن تصريحات صالح الأخيرة تزامنت أيضا مع نشر صحف محلية تقريرا، قالت إنه عن المخابرات المصرية، يتهم إخوان اليمن (الذي يفترض أن يكون هنا "حزب الإصلاح")، بالتعاون مع إخوان مصر، بإيواء قياداتهم الفارة وتدريب مجاهدين وإرسالهم إلى مصر لتنفيذ عمليات إرهابية. 

ومن ذلك، يمكن بلوغ مجموعة دلالات مستوحاة من الإيعازات الضمنية. بدأ بتسريب ما زعم أنه تقرير للمخابرات المصرية، ثم بالتسبيق – الذي قام به صالح – بإسناد فعل "الإغتيالات" للجماعة، وتاليا بالربط بين الجماعة والتنظيم الإرهابي (المتهم أصلا من قبل السلطات بتلك الأعمال). ومن ثم سيأتي التعزيز بتبني التنظيم لها، ليؤدي دوره الإيحائي – المستهدف - في وعي المتلقي.  

وحيث سنحاول، هنا، أن نستقصي الدلالات الإيحائية (المستهدفة) من هذا التزامن والتطابق الضمني بين تلك المسارات الثلاثة، سنعمل على تقسيم هذه التناولة إلى محورين أثنين منفصلين. الأول: سيركز على تحليل التطابق والتزامن والربط بين تلك المسارات. بينما سيتناول الأخر – بشكل مستقل – الاستدلالات التي تثبت العكس تماما وصولا إلى "من هو المرتبط فعلا بالإرهاب"؟.

أولا: القاعدة..الإصلاح..وإرهاب مصر..لماذا الأن؟
ربما سيكون من المناسب ربط مضامين التسجيلين الأخيرين (لصالح والقاعدة) بالتوقيت الزمني للنشر. إذ يمكن الجزم هنا أن تسجيل البيان الصوتي الأخير لجناح القاعدة، كان سابقا لتسجيل مقابلة "صالح" – نظرا لما يحتاجه القيام بمثل هذا العمل-، بينما جاء توقيت النشر عكسيا، حيث سر�'ع مطبخ الأخير نشر مقابلته الشخصية المسجلة قبل ساعات من نشر تنظيم القاعدة تسجيله.  

في الواقع، قد يمكن التشكيك بالنوايا، إذا ما وقفنا أمام ما بات يشكل حقيقة شبه مؤكدة، مفادها: أن تنظيم القاعدة ظل - طوال الفترة السابقة – يتجاهل تبني أية عملية اغتيال طالت قيادات رفيعة في الجيش والأمن، عبر بيان رسمي (كما يفعل عادة مع بقية عملياته)، فهو لم يتبن - بشكل خاص - تلك الاغتيالات المتزايدة باستخدام الدراجات النارية، التي تمت خلال العامين الماضيين..!!

ملاحظة: مع أن السلطات دأبت على رمي تهمها لتنظيم القاعدة، إلا أن هناك من ظل يشكك بدقة ذلك، طالما لم يصدر التنظيم بيانا رسميا يتبنى مثل تلك الاغتيالات الفردية. حتى ظهر المرقشي ليقوم بذلك في مثل هذا التوقيت، وبتلك الطريقة التي ندر أن يستخدمها التنظيم في غير العمليات النوعية الكبرى. أضف إلى ذلك أن تبني عملية المنطقة الثانية بحضرموت في هذا التسجيل الصوتي الأخير، يمكن اعتباره غريبا، أيضا، كون التنظيم كان قد أصدر قبل أيام بيانا مكتوبا تبنى فيه تلك العملية بتفاصيل أكثر.  

بيد أن تزامن اتهامات صالح الأخيرة، مع تسريبات نشرتها بعض الصحف، من شأنها أن تعزز التسويق ألإيعازي ذاته، ويساعد أكثر على بلوغ بعض الحقائق.

 ففي نفس اليوم الذي أطلق فيه صالح ادعاءاته نشرت بعض الصحف تقريراً صحفياً يتحدث عن علاقة الاصلاح بالقاعدة، وأنه يقوم باغتيالات ويخطط للقيام بالمزيد". هكذا يلفت انتباهنا مصدر إعلامي في حزب الإصلاح في تصريحات نشرها موقع "المصدر أونلاين"، ردا على تلك التصريحات الأخيرة للرئيس السابق. والتي وصفها المصدر الإعلامي بـ"هذرمات صالح الذي يعيش حالة احباط بسبب حالة الرفض له حتى داخل حزبه وهو ما يجعله يفتش في خبرته في استخدام العنف كسلاح لإيقاف العمل السياسي الذي، وكما هو واضح، لا يسير في الاتجاه الذي يتمناه". وذلك في سياق تحذيره من أن صالح "يدب�'ر أمراً سيئاً لليمن"، قراءة لتصريحاته.

كان مصدر حزب الإصلاح، يشير إلى تطابق تصريحات صالح مع ما نشرته صحيفة محلية – قبل يوم من تصريحات الأخير- نسبت، هذه الصحيفة، إلى من قالت إنه مسئول أمني كبير، قوله إن الإستخبارات المصرية سلمت رئيس جهاز الأمن القومي اليمني ملفا يتضمن معلومات إستخباراتية تفيد بوجود علاقة لإخوان اليمن بالإرهاب الذي يحدث في مصر، من خلال إيواء قيادات وعناصر من إخوان مصر "وتدريب مقاتلين وإرسالهم من اليمن إلى مصر للقيام بأعمال إرهابية ضد الجيش المصري هناك".

وأعتبر المصدر الإعلامي في الإصلاح أن ما نشر منسوباً لتقرير للمخابرات المصرية "متطابقا إلى درجة التماهي في اتهام الإخوان المسلمين بتدبير التفجير واعتبار القاعدة فصيلاً لجماعة الإخوان". وتسائل: "هل يعني ذلك أن من يكتب تقارير المخابرات المصرية حول اليمن هو نفسه الذي أطل على قناته ليردد بنفس الصيغة تلك ألاتهامات"

ومن الواضح أن المصدر يشكك بصحة تلك التسريبات المهدفة، من حيث أنها – إذا فرضنا جدلا أنها إستخباراتية حقا – فكيف تسربت بهذه السرعة؟ بعد أيام قليلة من عودة رئيس جهاز الأمن القومي اليمني من زيارته الأخيرة إلى مصر؟

الأمر الذي يجعل من التساؤل السابق الذي أطلقه المصدر الإعلامي في الإصلاح، وكأنه استدلال منطقي بكون التطابق هنا، إنما جاء متماشيا مع تلك الرغبة ذاتها في الربط – المتزامن - بين الإرهاب والإصلاح.

وفي الحقيقة، علينا أن نعود قليلا إلى الوراء لندرك أن هذه المضامين (الإيحائية) لم تكن سوى تعزيزات لاحقة لمقاصد سابقة، ترجع تحديدا إلى ما بعد أحداث (الإنقلاب) الأخيرة في مصر. وأن ما يحدث هنا يصب في سياق محاولات استغلال ما يعتقد أنها موجة جماهيرية نشأت بعد نجاح إسقاط حكم الإخوان هناك.  

نظرية صالح قبل المخابرات المصرية
إذ يمكن التأكيد هنا أن مضمون ما زعم أنه التقرير الإستخباراتي المصري الأخير، لم يكن سوى تصريحات سابقة للرئيس اليمني السابق، وتداولته وسائله الإعلامية على نطاق واسع ومتكرر، عقب نجاح الإنقلاب الأخير في مصر.

في مقابلة سابقة نشرتها صحيفة حزبه "الميثاق" تزامنا مع قناته الخاصة "اليمن اليوم" في 24 أغسطس الماضي (أي بعد أقل من شهر من إنقلاب مصر)، قال "علي صالح": "أنا متأكد أن قيادات من الاخوان المسلمين في مصر سيهربون الى اليمن، على أساس أنهم سيأمنون في جبال اليمن وبمناطق محصنة.. ونحن كنا نقول: إن المنبع هي مصر ولكن اليمن الآن أصبحت منبعاً للإخوان المسلمين.."..!!

ويعتقد الرجل ذلك، كون "الاخوان عندهم اعتقاد منذ أيام حسن البنا كما ورد في بعض الاحاديث لا ندري مدى صحتها "إذا هاجت الفتن عليكم باليمن" لذا فالإخوان الآن يهربون الى اليمن..!! طبقا لما ورد في نص المقابلة.

حينها لم يكن الرجل، قد راودته فكرة الربط مع "العمليات الإرهابية". فهي فكرة من المرجح أنها باتت أكثر قبولا اليوم، بعد ربطها من قبل سلطات الانقلاب العسكرية بمصر، بعدوهم الأقوى. 

ومن المهم هنا، الإشارة أيضا، إلى أن تصريحات صالح تلك، الواردة في مقابلة (24 أغسطس)، جاءت بعد أقل من أسبوع على استقباله سفير جمهورية مصر العربية "اشرف عقل"، في 19 أغسطس.

ربما من المهم أيضا الإشارة إلى أن هذا اللقاء، أعقبه بيومين – 21 أغسطس – لقاء آخر جمع بين السفير المصري ويحي محمد عبد الله صالح، الذي لم يعد له اية صفة رسمية بعد إقالته من قيادة الأمن الخاص (الأمن المركزي سابقا).

ووفقا للخبر المنشور عن اللقاء، نُسب ليحي صالح قوله "نحن جميعاً مع إرادة الشعب المصري التي فرضها بثورة 30 يونيو، ونقف في خندق واحد ضد الإرهاب التي تمارسه الجماعات الاخوانية"، لافتاً إلى أن "استهداف هذه الجماعات الارهابية للمؤسستين العسكرية والأمنية هو مؤامرة صهيونية منظمة ينفذها الأخوان بهدف تدمير القوة العربية وتفكيك دولها"..!!

بل، حتى تتضح الصورة أكثر، يمكن الإشارة هنا إلى أنه وقبل يوم واحد من عزل "السيسي" للرئيس "مرسي"، أعلن في 2 أغسطس عن لقاء جمع بين نجل صالح، احمد علي، سفيرنا الجديد في الإمارات مع عبدالله بن زايد وزير الخارجية الامارتي، الذي يشاع أنه أحد أبرز مهندسي الانقلاب في مصر.  وذلك وسط تردد معلومات عن اجتماعات خارجية وداخلية تدرس نقل التجربة المصرية إلى اليمن.

تخبط ما قبل الانقلاب
قد تبدو تلك الاستدلالات السابقة، كافية إلى حد ما لاستخلاص النتيجة النهائية المستهدف منها الوصول إلى تأكيد: أن الاتهامات الجديدة الأخيرة للرئيس السابق، ضد الإصلاح، ليست سوى محاولة طارئة لاستغلال الموجة المضادة الأخيرة، في طريق تعزيز الكراهية للإخوان - الإصلاح في اليمن – كهدف مرحلي تتبعه مخططات لاحقة من المرجح أنها قد أعدت سلفا.

إلا أن ما يرفع من نسبة تعزيز تلك الاستدلالات، سيمكن بلوغه بالعودة أكثر إلى الوراء، إلى ما قبل انقلاب 30 يوليو/3 أغسطس، في مصر.

ففي مقابلة له مع قناة "روسيا اليوم"، أوآخر مارس الماضي، سُئل "صالح" عن تنظيم القاعدة، واستمراره في الحفاظ على قوته، والأسباب التي تجعله يجد في اليمن ملاذا آمنا؟

وإذ لم تكن فكرة ربط الإصلاح بالجماعات ألإرهابية أنذاك، قد طرأت، فإن صالح لم يجد أمامه سوى "الحراك الجنوبي" ليرمي بالتهمة عليه..!!  رد قائلا: "شوف الأسباب متعددة. أولاً ما يسمى بالحراك الجنوبي هو جاب مادة خصبة للقاعدة.. لو سلمنا الحراك الجنوبي كانت الدولة قد سيطرت على القاعدة".

كما أكد أيضا، أن الحراك الجنوبي كان هو الحامي والمسهل للقاعدة "فالدولة في حيرة مع الحراك ومع القاعدة". وأكثر من ذلك، حين سأله المذيع: كيف يعني تتم عملية التسهيل هذه؟ أجاب: "يعني في خلط.. القاعدة في الشارع هذا والحراك في الشارع الثاني الدولة محتارة والسلطة المحلية محتارة معهم".

القنــاة: هل هذا نتيجة الفوضى في اليمن؟
صالح: زيادة الفوضى ما تقدر أجهزة الدولة تدخل في عنف معهم مع الحراك، لأنه بيقول هو حراك سلمي خلاص سلمي.. والقاعدة تستغل الحراك السلمي هذا ما يسمى بالحراك السلمي وتقوم بالتفجيرات والاغتيالات والاعتداء على المنشآت يعني عمل تخريبي بحت.

وفي مكان أخر في سياق المقابلة ذاتها أيضا أتهم علي سالم البيض "الذي يستعين بإيران في اليمن لزعزعة امن واستقرار اليمن"

أضف إلى ذلك، أيضا، أن الرجل وطوال فترة حكمه الـ33، لم يوجه يوما تهمته إلى الإصلاح كحزب إرهابي أو يدعم الإرهاب. مع أن كافة أجهزة الدولة العسكرية والأمنية والإستخباراتية، والحكومية، ورجال القبائل المدعومة ماليا منه..، مع أن كل ذلك كان تحت يده وتصرفه، إلا أنه  لم يستطع، ليس فقط أن يثبت، بل أن يوجه حتى أي تهمة إلى "الإصلاح" فيما يتعلق بالإرهاب..!! بعكس ما يحدث اليوم، بعد خروجه من السلطة وإقالة أبنائه وأشقائه وأبناء أشقائه ومقربيه من الدرجة الأولى والثانية..الخ
-
ثانيا: صالح هو الأوفر حظا بتهمة الارتباط بالقاعدة
إذا كن�'ا، من خلال المحور السابق، قد حاولنا بلوغ حقيقة ما وراء مسوغات اتهام الرئيس السابق للإصلاح بالإرهاب، لاسيما في مثل هذه المرحلة. فإننا هنا سننتقل إلى إثبات العكس تماما، بكون صالح هو المتهم الرئيسي ألأول أكثر من غيره – فيما لو افترضنا أن هناك متهمين آخرين.

في إحدى البرقيات السرية التي بعثتها السفارة الأمريكية بصنعاء إلى وزارة الخارجية الأمريكية، وسربها موقع ويكيليكس، حاول صالح، في أحد اللقاءات الخاصة مع السفير الأمريكي السابق "ستيفن سيتش"، أن يصف حزب الإصلاح بأنه حزب إسلامي متشدد، مستشهدا بخطابات متشددين في الإصلاح ضد الضربات الجوية الأمريكية في اليمن. إلا أن السفير لم يعر ذلك أدنى انتباه سوى أن قدم في برقيته ملاحظة بين قوسين تفيد أن الإصلاح معروف عنه بأنه "حزب إسلامي معتدل".

وعلى ذكر وثائق "ويكيليكس"، التي ترجمت صحيفة "المصدر" بعضها ونشرتها في حينه (بعد تسربها مباشرة في أواخر 2009)، فإنه يمكننا، من خلال الاستدلال ببعض مضامينها، تأكيد مسألة التشكيك بنوايا الرئيس السابق في الحرب ضد الإرهاب.

إذ أن عددا غير قليل من تلك البرقيات، كانت تؤكد – فيما بعضها فضلت التلميح فقط – على عدم وجود رغبة حقيقية لدى الرئيس السابق في مكافحة الإرهاب، متمثلا بتنظيم القاعدة في اليمن، كون ذلك يمكنه من مواصلة ابتزاز الإدارة الأمريكية بالحصول على المزيد من الأموال بحجة استمرار محاربة القاعدة.

أضف إلى ذلك، أيضا أن بعض المحللين الغربيين المشهورين ذهبوا إلى القول بأهداف أخرى، أكثرها سياسية، تكمن وراء رغبة صالح في إبقاء هذا الملف مفتوحا بشكل دائم.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، سنكتفي – في هذا السياق الأخير- بإيراد عبارة واحدة فقط، وردت في تقرير مطول للكاتب "جيرمي سكايل" نشر في 30 مارس 2011 في مجلة (ذا ناشيونال) الأمريكية تحت عنوان "لعبة الولايات المتحدة الخطرة في اليمن".

كتب سكايل: "إن صالح نظر إلى تنظيم القاعدة كحليف مناسب لبعض الوقت، يمكنه أن يستغله لحمايته من التهديدات المحدقة التي تهدد سلطته، بما في ذلك الحراك السلمي في الجنوب و الحوثيين في محافظة صعدة الشمالية".

وبالتوقف عند تاريخ نشر هذا التقرير، سنكتشف أن مثل هذا الوصف كتب بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الثورة الشعبية الشبابية السلمية ضد صالح ونظامه، بل ومباشرة بعد الأيام الأولى التي تلت استيلاء "أنصار الشريعة"، الذي اعلن لاحقا أنه أحدى أجنحة تنظيم القاعدة، على مساحات شاسعة في محافظة أبين، وإعلانها "إمارة إسلامية". 

وثائق ويكيليكس تؤكد
وبالعودة سريعا إلى بعض ما ورد في وثائق ويكيليكس، يمكن الاستشهاد ببعض المضامين التي تعزز فكرة استخدام الرئيس السابق لمسألة الحرب على الإرهاب كـ"نعامة" تدر عليه بيضا من ذهب.

في سلسلة من الوثائق تحدثت عن ثلاثة لقاءات تمت مع صالح في العام الماضي (2009) لمناقشة الوضع الامني في البلاد، وصف فيها الأخير حالة اليمن بأنها على حافة الانهيار. "وحذر من انه في حالة عدم مساعدة امريكا اليمن فسيتحول الى صومال جديد"

وتطابقت برقيات متعددة، على تأكيد المسؤولين الأمريكيين أن صالح يناور من أجل الحصول على المزيد من أموال الإدارة الأمريكية.

وتظهر عبارات كثيرة، وردت في برقيات مختلفة، أن صالح كان يرغب في مواصلة محاربة الارهاب ولكن حسب شروطه هو. وترى 'نيويورك تايمز' أن الوثائق لا تغير كثيرا في صورة صالح المعروفة لكن التفاصيل تمنح صورة اقرب عن تلك المشوشة وبالأسود والأبيض. فصالح حسب الصحيفة لم يعد يطلب كما فعل مع جيمس بيكر عام 1990 مساعدة اليمن بنصف مليون طن من القمح لإطعام شعبه بل أموال وأسلحة ثقيلة.

وبعبارات أكثر وضوحا، تتهم واحدة من تلك البرقيات الأمريكية المسربة (كتبت في 29 يوليو من العام 2009) نظام صالح بتساهله مع تنظيم القاعدة. جاء في نهاية تعليق البرقية: "..وإن الإرادة السياسية الضعيفة للبلد المضيف في مكافحة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من شأنه أن يزود العناصر المتطرفة ببيئة عمل سهلة للغاية..".

وفي برقية أخرى، رفعت عام 2009، نقل السفير الأمريكي السابق سيش، عن مسؤول عسكري قوله "إن 80 بالمئة من المعلومات (الإستخباراتية) لا تصل الى القيادة الميدانية". ومع هذه البرقية أشارت إلى أن نظام صالح طالما أبدى رغبة في مواصلته التعاون مع الإدارة الأمريكية في محاربة الإرهاب، إلا أن المسؤول الامريكي لم يخف شكوكه من استعداد اليمن لمواجهة القاعدة، مشيرا الى ان "الادارة ستظل ترى تأكيدا من اليمن لمواجهة القاعدة ولكن الادارة ستنتظر مزاوجة القول بالفعل".

برقية أخرى صادرة بتاريخ 3/12/2010م، أشار فيها كاتبها إلى أن صالح يشعر بضغوط تجعله يسعى إلى تعزيز تقوية قاعدته السياسية المحلية من خلال عرض إمكانية إتباع أسلوب أكثر نعومة تجاه الفئات الدنيا من تنظيم القاعدة.

ولفتت هذه البرقية السرية إلى القول: "ويعرف عن صالح قدرته على التفاوض مع الخصوم المحليين بما في ذلك تنظيم القاعدة. فقد تفاوض لعدة سنوات مع المتطرفين الإسلاميين في اليمن الذين تم استغلالهم ورشوتهم ومداهنتهم لتحقيق مكاسب سياسية خاصة".

وقيادات جنوبية تؤكد ايضا
 ثمة الكثير من البرقيات السرية تبدي مخاوف الإدارة الأمريكية من تعامل نظام صالح المتساهل – والمتقلب - مع قضية كبيرة بهذا الحجم. إلا أننا هنا – ونظرا للإطالة – سنكتفي بما سبق، على أن نختتم بالإحالة إلى ما ورد من تصريحات مهمة لقيادات جنوبية، نقلتها السفارة الأمريكية بصنعاء، في برقية سرية رفعتها بتاريخ 28-10-2009، على ضوء تواصلها مع تلك القيادات. وهي تؤكد – بشكل جلي - استخدام نظام صالح للقاعدة كورقة سياسية.    

وهنا ننقل لكم – بالنص - ما ورد في الفقرة الخامسة من البرقية:
 أعضاء الحراك الجنوبي والمتعاطفين معه يزعمون، وذلك من خلال العمليات الأمنية التي تنفذ في معاقل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في مأرب والجوف ومن خلال محادثات سرية مع قيادات القاعدة في جزيرة العرب، بأن الحكومة اليمنية تدفع القاعدة في جزيرة العرب باتجاه المحافظات الجنوبية، وذلك بحسب زعمهم لإضعاف الأمن ، بواسطة رسم العلاقة بين القاعدة في جزيرة العرب والحراك الجنوبي، لإقناع المجتمع الدولي بأن ابناء الجنوب ينزعون إلى العنف. وفي 26 أكتوبر قال الرئيس صالح للسفير إنه، وبسبب أن الولايات المتحدة تصرفت بشكل بطيء للغاية بخصوص التعاون الذي تم إقتراحة لمكافحة الإرهاب، فإن عناصر القاعدة في جزيرة العرب يتحركون بشكل جماعي للخروج من مأرب والجوف و"هم حاليا يتجمعون في أبين". ومن جهة أخرى، اتهمت الحكومة اليمنية الحراك الجنوبي بالتحريض على العنف وأشار مرارا إلى علاقات الفضلي المتطرفة كدليل على الأهداف المشينة للحراك. وفي 12 أكتوبر، تحدث رئيس الحزب الاشتراكي اليمني بعدن علي منصر مع الملحق السياسي بالسفارة، وقال له إن "القاعدة في جزيرة العرب مازالت الى حد كبير أداة بيد الحكومة. إنهم يخططون لاستخدامها في الوقت المناسب، كما يفعلون دائما. وأنا على يقين كامل بنسبة 100% من أن الحكومة تدعم هذه الجماعات الجهادية لمجابهة الحراك". وعلى الرغم من الإيمان الراسخ بأن حكومة الرئيس صالح تتعاون تعاونا وثيقا مع القاعدة على نطاق واسع، إلا أن الأدلة ما تزال شحيحة.

وفي 12 أكتوبر قدم ناصر للملحق السياسي بالسفارة وثائق تعود إلى أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009 والتي تظهر 32 "جهاديا معروفا" يزعم أنهم يسعون للحصول على عفو رئاسي عن أنشطتهم المتطرفة مقابل ما يقدمونه من أفضال للحكومة؛ ويزعم أن الوثائق أيضا تثبت بأن كل الأراضي التي منحت في عدن جاءت بناء على أوامر من نائب الرئيس منصور. (ملاحظة: وعلى قائمة أسماء المستفيدين من الأراضي يتصدر اسم سامي ديان عضو القاعدة في جزيرة العرب من محافظة أبين. وديان يظهر أيضا على قائمة أعضاء القاعدة المعروفين الذين نشرتهم الحكومة على صحيفة الثورة في 26 أكتوبر. 
-------------------------------------
نشرت المادة أولا في يومية المصدر المستقلة بتاريخ 31 أكتوبر 2013

الخميس، 3 أكتوبر 2013

«كُش» رئيس



    الرئيس هادي، قدرتك على قيادة البلاد باتت على المحك. وسيتوجب عليك إعادة النظر في ترتيب أولوياتك.

    هل كان من المهم - مثلا- أن تعقد يوم الاثنين الماضي إجتماعا مع رئاسة مؤتمر الحوار؟

    إن لم أكن مخطئا، فهذه هي المرة الثالثة تقريبا التي تجتمع فيها مع هذه الهيئة في أقل من أسبوعين..!!

    ما الذي يمكن أن يفضي إليه إجتماع مثل هذا، فيما يتعلق باتخاذ إجراءات أكثر حزما وفاعلية للتقليل من سيل الدماء المهدرة في الشوارع لضباط الجيش والأمن.

    أتعلم؟ لقد ارتفعت مؤخرا وتيرة اغتيالاتهم عبر الدراجات النارية بشكل شبه يومي، في ظل عجز صارخ لأجهزة الدولة المعنية، ليس في منعهم من تنفيذ عملياتهم فحسب، بل حتى في معرفة الجناة لاحقا..!!

    يحدث ذلك منذ عامين. وخلال الأسبوعين الأخيرين زادت بشكل سافر. ومن غير الممكن التصديق أن كافة أجهزة الدولة العسكرية والأمنية والإستخباراتية عاجزة حتى الآن من عمل شيء حيال ذلك..!

    هذا أمر يبعث على القلق والإحباط في آن.

    هل وصلتك مؤخرا معلومات إستخباراتية، أو حتى تقريرا أمنيا، يطلعك أن منفذي عمليات "الذئب المنفرد"، (لمعلوماتك هذا الاسم أطلقه الأرهابيون على عمليات الاغتيالات بدم بارد وأريحية تامة عبر الدراجات النارية)، هل تعلم أن منفذوها باتو مؤخرا يسيطرون على الوضع: يتحركون بكل حرية، وينجحون يوميا من أغتيال ضباط كبار في ﺻﻨﻌﺎء، عدن، حضرموت، لحج، مارب، أبين، البيضاء، ومحافظات كثيرة أخرى. وكانوا في تعز قبل يوم واحد من اجتماعك الأخير برئاسة الحوار..؟

    وعلى سبيل الإضافة، وربما التنويه، فقط: هل تعلم أيضا أن الكهرباء منقطعة منذ أكثر من أسبوع على ٩٥ ٪ تقريبا من مناطق الجمهورية..؟

    بالمناسبة، إن كان لم يردك هذا، أيضا، علي أن أطلعك: أنه في الوقت الذي كنت مجتمعا فيه برئاسة الحوار صباح الإثنين الماضي، كان مسلحون، تقول حكومتك أنهم ينتمون للقاعدة، يذبحون مجموعة من الجنود ويأسرون ما لا يقل عن عشرة ضباط كبار وعشرات الجنود، بعد تمكنهم بسهولة من إقتحام قيادة المنطقة العسكرية بمكلا حضرموت. وتقول الخلاصة أنهم نجحوا تماما في السيطرة على مقر القيادة..!

    لا أريد أن أكدر عليك هدوءك، لكن معظم من جمعني بهم مقيل ذلك اليوم، أعتبروا العملية، مهما كانت ملابساتها، عيبا وعارا كبيرا. ليس على قيادة المنطقة والجيش برمته، بل عليك أنت رئيس هذه البلاد والقائد الأعلى للقوات المسلحة. ذلك إنها تكشف تساهلا وضعفا وقيادة مترهلة لا تصلح أن تواصل حكم البلاد بعد هذه الإهانة..!

    قالوا ذلك، بينما كنت أنا في دور المدافع عنك. هكذا وكلت نفسي بدون مقابل. أعترف أني لم أحقق اي تقدم. لذلك أعتذر منك لأني فشلت، وأعتذر لي، كوني نصبت نفسي في قضية فاشلة.  

    وفي الليلة التي سبقت هذه العملية كان رواد الفيس بوك يسخرون من قيادتك للبلاد. على خلفية تمكن مسلحين من اغتيال ضابط في تعز. وإليك جزء يسير جدا من السلسلة: لقد حدث ذلك بعد يوم واحد فقط من اغتيال قائد كتيبة في حضرموت، والذي جاء بدوره بعد يوم واحد ايضا من تمزيق جسد ضابط بعتق- شبوة، بعبوة ناسفة، واختطاف آخر بعدن، والذي جاء هو الآخر بعد يوم واحد فقط من اغتيال ضابط كبير بصنعاء..الخ

    لن أواصل سرد مسلسل النزيف اليومي المرعب هذا، لأن السلسلة تطول ولن تتوقف عند يوم محدد..!!

    وفي الحقيقة تذكرت أني لست معنيا بذلك أكثر منك.

    والواقع أني– من وراء كل ذلك - أردت أن أقول لك: أنني في تلك الليلة، التي سبقت اجتماعك الأخير برئاسة مؤتمر الحوار، كنت أفكر: أنه بات من المحتم عليك أن تعقد اجتماعا على درجة بالغة من الأهمية. لا أدري كيف ومع من؟ لكني أفترضت أنه لا يجب أن يكون أقل من الإجتماع مع اللجنة العسكرية العليا واللجنة الأمنية العليا، وقيادات الإستخبارات العسكرية العليا، ومستشاريك ومساعديك العسكريين..، الخ، لمناقشة التدهور الأمني المريع، والتدابير اللازمة لمواجهة كل ذلك القتل المجاني..

     خلت أن الأمر يحتم عليك أن تشدد عليهم بكل قوة: إما أن يمارسوا عملهم بجدية ويتخذوا إجراءات أمنية حازمة إزاء منفذي تلك العمليات، التي أستنزفت وتستنزف خيرة ضباط قواتنا المسلحة والأمن..، وإما أن تهددهم بالإقالة واستبدالهم بأفضل منهم؛ مع تحذير شديد اللهجة، أن من يثبت تقاعسه أو تهاونه أو تورطه سيحال حتما للمحاكمة.  

    دون أن تنسى - بالطبع - التعريج على ضرورة الضرب بيد من حديد ضد أولئك المخربين الذين أحالوا حياتنا منذ أكثر من أسبوع الى جحيم مظلم..!!

    يجب أن يكون ذلك بشكل جدي، بعيدا عن الخطابات التي تشبعنا منها، دون أن تغني عن خوف أو تسمن من جوع.

    أقسم لك، أني توقعت أن تقوم بذلك، كأقل ما يمكن أن يقوم به رئيس دولة في مثل هذا الظرف المتفلت.

    حتى أنه لم يتسن لي أن أغمض عينا، قبل أن أنتهي - مع طلوع الشمس- من حبك نهاية درامية مناسبة لتوقعاتي المثالية، أو بالأرجح حلم اليقظة هذا، بتخيل ردود الفعل الشعبية المرحبة، الداعمة والمناصرة والمادحة لما قمت به..!! أو ما تخيلت أنا ما كان يتوجب أن تقوم به.

    في النهاية، لقد أفسدت توقعاتي الوطنية تلك، وأحلتها إلى سذاجات ما بعد القات.

    وإذن – بدلا عن ذلك - ما الذي أفضى إليه اجتماعك الأخير مع هيئة رئاسة مؤتمر الحوار؟

    ربما كان أمر كهذا كبير بالنسبة لك، ويسيطر كليا على تفكيرك وأولوياتك.

     لكن بالنسبة لي كمواطن، لست معنيا - على الأقل في هذه اللحظة المقلقة، المظلمة - بما يمكن أن يخرج به مثل هذا الاجتماع السياسي، المتكرر والردئ، من قرارات، أجزم سلفا أنها لا تلامس حياتي اليومية في هذا اللحظة الراهنة..!!

    نعم، هذا ما عنيته: نتائج تلامس ما نعانيه الآن، أي في هذه الأثناء، قبل أن ينطفى جهاز التلفون بعد أربع دقائق وأتوقف عن الكتابة، لأني لن أجد تيارا كهربائيا لإعادة شحنة، إلا بعد مرور ست ساعات في أحسن الأحوال..! ثم إنه لن يعود سوى لساعة واحدة فقط..!

    وبالطبع أيضا، قصدت أن يكون ذلك الآن، في هذه الأثناء، قبل أن تنطفئ روح ضاط آخر بطلقة "ذئب منفرد": أخاله يسخر مني ومنك ومن كل مواطن، بعد كل عملية ينجح في تنفيذها بسهولة، ثم..وبكل بساطة يلوذ بالفرار بدراجته النارية، وهو ينشد أجزاء من مقطوعة حماسية من تلك الأناشيد التي تخصهم. 

    الرئيس هادي، يبدوا أننا سنكفر بمؤتمر الحوار قبل أن نلمس حسناته، في حال ظلت أولوياتك لا تلامس مخاوفنا قبل أحلامنا.. اليوم قبل الغد..!!

    ولقد قلت لك أن قدرتك على قيادة البلاد باتت على المحك. وأنه سيتوجب عليك إعادة النظر في ترتيب أولوياتك.
    ------------------
    نشر المقال في يومية "المصدر"، وأعيد نشرها على موقع الصحيفة "المصدر أونلاين" بتاريخ 2 أكتوبر 2013

    رابط المقال :

    السبت، 21 سبتمبر 2013

    الحوار اليمني معلق بالقضية الجنوبية


     
    الوقت يضيق والحلول تتعقد
    الجنوب.. عودة إلى المربع الأول
    مستقبل اليمن معلق بالجنوب

    بعد عامين ونصف من الثورة الشبابية الشعبية، ما زال القلق يساور معظم اليمنيين من مستقبل ما زال غامضا، لمّا تتضح معالمه كاملة بعد.

    يأتي ذلك في الوقت الذي تقف فيه البلاد اليوم على عتبات المشهد قبل الأخير من العملية السياسية المؤسسة على نقل السلطة بموجب المبادرة الخليجية المتوافق عليها من مختلف الأطراف الرئيسية في البلد كحل سياسي سلمي آلت إليه ثورة فبراير/شباط الشعبية 2011.

    الوقت يضيق والحلول تتعقد
    بعد التوقيع على المبادرة الخليجية أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2011، دخل اليمن مرحلة انتقالية على مرحلتين، استمرت الأولى ثلاثة أشهر وانتهت بتسليم الرئيس السابق للسلطة في انتخابات رئاسية توافقية أواخر فبراير/شباط 2012.

    بعدها مباشرة بدأت المرحلة الثانية لمدة عامين، ويفترض أن تنتهي في فبراير/شباط 2014 بإجراء انتخابات عامة ورئاسية وفقا لدستور جديد.
    مع نهاية الشهر الجاري يفترض أن يكون مؤتمر الحوار الوطني الشامل قد انتهى من حلحلة كافة القضايا والملفات المعقدة والشائكة، وتكللت نتائجه بصياغة عقد توافقي جديد (دستور)
    ومع نهاية سبتمبر/أيلول الجاري يفترض أن يكون مؤتمر الحوار الوطني الشامل (الذي بدأت أعماله منتصف مارس/آذار الماضي وحددت فترته بستة أشهر) قد انتهى من حلحلة كافة القضايا والملفات المعقدة والشائكة، وتكللت نتائجه بصياغة عقد توافقي جديد (دستور) يحدد شكل وملامح الدولة اليمنية القادمة، وعلى ضوئه سينتقل اليمنيون مع الأشهر الأولى من العام القادم إلى المرحلة الأخيرة من الفترة الانتقالية بالاستفتاء الشعبي على الدستور وخوض الانتخابات.

    غير أن الأمور على ما يتضح لا تسير وفق الطريقة المنشودة، فما يتعلق بأكثر القضايا الرئيسية تعقيدا، لا يبدو -حتى هذه اللحظة الحرجة على الأقل- أن ثمة ضوءا حقيقيا يلوح في الأفق لحلحلتها، عدا مزيج من أشعة باهتة ما فتئت بين الحين والآخر تحاول بصعوبة اختراق ضباب كثيف من التعقيدات الممتدة من الماضي، المتحولة إلى ما يشبه "ثقوبا سوداء" أضفت قلقا على حاضر مشوش، تعكَرت معه رؤية ما سيكون عليه المستقبل المنشود بعد بضعة أشهر.

    وبقراءة سريعة للمؤشرات العملية اليوم، يبدو أن مؤتمر الحوار الذي كان ينظر إليه على أنه بمثابة القلب من العملية السياسية، قد ينتهي قبل التوصل إلى حلول نهائية علمية وعملية مضمونة لأكثر القضايا الرئيسية حساسية وأهمية، على رأسها "القضية الجنوبية" التي بات من الواضح أنها لا تزداد تعقيدا فحسب، بل وتجر معها قضايا رئيسية أخرى مثل "شكل الدولة" المناسب، وبالتالي صياغة الدستور القادم.

    الجنوب.. عودة إلى المربع الأول
    حتى الآن لم يتقرر بعد "شكل الدولة" القادمة، هل هي اتحادية (فدرالية) أم "لا مركزية" أم دولة "بسيطة لا مركزية" أم "حكم محلي واسع الصلاحيات".

    ومع أن الرؤى المقدمة من المكونات والأطياف السياسية الرئيسية المشاركة في الحوار اتجهت في معظمها إلى شكل "الدولة الاتحادية الفدرالية"، مع تباينات بسيطة -بين بعضها- في عدد الأقاليم وهيكليتها والصلاحيات الكلية للدولة الاتحادية والجزئية للأقاليم وتوزيع الثروة، فإن ممثلي الحراك الجنوبي في الحوار رفضوا تحديد رؤيتهم بهذا الشأن حتى الآن، واكتفوا بعبارة "تتحدد بحسب مخرجات فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار وبالاستناد إلى مبدأ حق تقرير المصير لشعب الجنوب".

    وبينما طالب منتمون لمحافظات جنوبية -مشاركون في الحوار- بدولة اتحادية من "إقليمين: شمالي وجنوبي" كحل، دعا مشاركون آخرون -جنوبيون أيضا- إلى ترك الأمر للشعب الجنوبي ليقرر هو شكل الدولة القادمة عبر "استفتاء شعبي" تطرح فيه خيارات متعددة.

    وحين لاحظ قادة ممثلي الحراك الجنوبي في مؤتمر الحوار أن التوجه العام في المؤتمر يتجه نحو دولة "اتحادية فدرالية" من عدة أقاليم، قرروا تعليق مشاركتهم عقب إجازة عيد الفطر الماضي، مشترطين لعودتهم شروطا نظر إليها على أنها "تعجيزية".

    وخلاصة تلك الشروط أنها تتيح لهم "تقرير المصير" وتنتهي إلى فصل الجنوب عن شماله، لكن وبعد ضغوط دولية وحوارات تدخل فيها وسطاء خارجيون على رأسهم المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن جمال بنعمر، قبلوا بالعودة وفق صفقة لم يظهر منها على السطح سوى تشكيل لجنة مصغرة من فريق القضية الجنوبية مكونة من 16 عضوا بالمناصفة بين ممثلين شماليين وجنوبيين.
    حين لاحظ قادة ممثلي الحراك الجنوبي في مؤتمر الحوار أن التوجه العام في المؤتمر يتجه نحو دولة اتحادية فدرالية من عدة أقاليم، قرروا تعليق مشاركتهم مشترطين لعودتهم شروطا نُظر إليها على أنها تعجيزية
    وفسر الأمر على أنه استجابة -وإن كانت أخف بكثير- لشرطهم بضرورة "الندية في الحوار بين الشمال والجنوب"، كما أن اجتماعات هذه اللجنة المصغرة تعقد بحضور الممثل الأممي جمال بنعمر، مما يعني أيضا أنها استجابة مخففة أيضا لشرط الإشراف الدولي على الحوار الندي.

    كان من الواضح أن أعضاء لجنة "8+8" المعنية بإيجاد حلول نهائية وضمانات للقضية الجنوبية في ظرف زمني حدد بأسبوع واحد فقط (لمسابقة الموعد النهائي لمؤتمر الحوار المفترض إنهاء مهامه قبل نهاية الشهر الجاري)، سيخوضون مهمة معقدة وعصية.

    فممثلو الحراك يتمسكون في الحوار بضرورة أن تخرج اللجنة بحلول نهائية وضمانات تستجيب لمطالب الشعب الجنوبي في تقرير مصيره، في مقابل الطرف الآخر (المكونات السياسية الممثلة للشمال) الذي يسعى لحلول عقلانية تتزامن مع تنفيذ المزيد من الإجراءات الإصلاحية الناجعة على الأرض ولكن في طريق تعزيز الحفاظ على الوحدة مستقبلا.

    كان الخبر الجيد أن اللجنة اتفقت بدايةً على "مشروع مسودة" للمخرجات المطلوبة، وللتوضيح أكثر، توزعت المسودة على أربعة أبواب: أولها "معالجة مظالم الماضي في الجنوب"، والثاني "المبادئ الدستورية العامة للدولة الاتحادية" وصياغة العقد الاجتماعي الجديد، وخصص الباب الثالث "لهيكلة الدولة الاتحادية". أما الباب الرابع فيتعرض "لمهام وترتيبات المرحلة الانتقالية وآلية تنفيذها".

    لم يمض من الوقت الكثير حتى جاء "الخبر السيئ" بعد ثلاثة أيام فقط، إذ سرعان ما طفت الخلافات المتوقعة أثناء الخوض في التفاصيل العميقة حول ذلك كله.

    يشدد ممثلو الحراك في لجنة الحوار المصغرة على دولة "اتحادية" ثنائية من إقليمين فقط (شمالي وجنوبي) خلال فترة انتقالية (تحدد مدتها لاحقا بالتوافق) تنتهي إلى استفتاء شعبي جنوبي لتقرير مصيره (النموذج السوداني ولكن بالمقلوب، أي الانتقال هنا بطريقة عكسية من الوحدة الاندماجية إلى وحدة اتحادية بين دولتين تنتهي إلى تقرير المصير).

    بالنسبة لممثلي المكونات السياسية الأخرى في اللجنة، من الواضح أنهم يتمسكون بدولة اتحادية من عدة أقاليم، لكن وبحسب بعض المؤشرات الأولية يمكن في حال الرفض والتعنت والإصرار، القبول بفترة انتقالية تنتهي إلى تحديد شكل الدولة الفدرالية (من عدة أقاليم أم حتى من إقليمين).
    مستقبل اليمن معلق بالجنوب
    حدث ذلك فجأة، وفي وقت حرج بالفعل، بينما لم تنته فرق أخرى في الحوار من صياغة تقاريرها الختامية حتى الآن، لا سيما تلك التي تتعلق نتائجها بمصير القضية الجنوبية، كفريق "بناء الدولة" بشكل خاص، الأمر الذي يفرض عليها انتظار الحسم النهائي في لجنة "8+8".

    على هذا الإيقاع التحولي المتسارع، تتوالى الأحداث تباعا، في الوقت الذي تتدفق فيه تأكيدات وتشديدات مسؤولي الحوار اليمنيين والمشرفين الخارجيين أن "الحوار سينتهي في موعده المحدد"، أي بالكثير قبل نهاية الشهر الجاري.. هذا على الأرجح ما يفهم من تصريحاتهم تلك.

    ذلك أننا ما زلنا أيضا ننتظر إعلان رئيس الجمهورية لأسماء اللجنة المكلفة بصياغة الدستور الجديد، حيث يفترض أن يخرج المؤتمر بتحديد أسس ومواصفات وقوام لجنة الصياغة هذه بشكل نهائي.

    كما يفترض بعدها أن يعلن الرئيس الأسماء لتستمر اللجنة في عملها فترة ثلاثة أشهر، تنتهي خلالها من إعداد مسودة لمشروع الدستور الجديد الذي سيعرض أولا على رئيس الجمهورية للموافقة أو التعديل، وبعدها يعرض على الشعب للاستفتاء، ثم بموجبه تخاض الانتخابات العامة والرئاسية.

    وفي خضم ذلك كله، تجد الشائعات طريقها إلى الصحافة التي تنقلها إلى الجمهور بشكل متواصل، من أحاديث عن اتفاقات وصفقات سرية عليا تسعى للتمديد للرئيس فترة إضافية تتفاوت بين ستة أشهر إلى سنتين إلى خمس سنوات.
    في خضم ذلك كله، تجد الشائعات طريقها إلى الصحافة التي تنقلها إلى الجمهور بشكل متواصل، من أحاديث عن اتفاقات وصفقات سرية عليا تسعى للتمديد للرئيس فترة إضافية تتفاوت بين ستة أشهر إلى سنتين إلى خمس سنوات
    وبعضها يجد في الحديث الحالي عن "فترة انتقالية ضرورية" تأكيدا لمعلوماته، بينما يكيّفها البعض الآخر على أنها ستكون صفقة "تمديد" توافقي شرعي تتم عبر الانتخابات التي يفترض أن تجرى في وقتها المحدد، أي فبراير/شباط 2014، وهي الانتخابات التي سيدخل اليمن بعدها في فترة انتقالية تستمر لخمس سنوات هي الفترة التي يتم النقاش حول تفاصيلها حاليا في إطار لجنة "8+8" المكلفة بمخرجات القضية الجنوبية.

    كما تتحدث شائعات أخرى عن تحويل أعضاء مؤتمر الحوار إلى "هيئة تأسيسية" تواصل أعمالها خلال الفترة القادمة -إما بالنيابة عن مجلسي (النواب والشورى) أو إلى جوارهما- حتى الانتخابات القادمة، بحيث يكون ذلك جزءا من "الصفقة".

    على أن هناك من يعتقد باستحالة حدوث ذلك، من حيث إن الإصرار الحالي (المحلي والدولي) على إنهاء مؤتمر الحوار يأتي بسبب انتهاء الدعم المالي الخارجي وعدم وجود دعم آخر لمواصلة مثل هذه المهمة في إطار مؤتمر الحوار، وبالتالي من الأولى أن ينسحب ذلك على أية إطارات أخرى مشابهة "كالهيئة التأسيسية".

    غير أن هناك من يفضل الحديث أكثر عن إمكانية الاتفاق على زيادة توسيع عضوية لجنة صياغة الدستور المنتظرة، بحيث تستوعب كافة المكونات السياسية المشاركة في الحوار ليس بممثل واحد أو اثنين، ولكن ربما بأكثر من ذلك، حرصا على التنوع والمشاركة في إثراء النقاشات، خصوصا أن هناك شخصيات لديها القدرة والإمكانية والكفاءة قد لا يتم استيعابها من جهة قياداتها إذا اقتصرت المشاركة على ممثل واحد من كل مكون، وبحيث تكون هذه اللجنة هي البديل الأفضل لصياغة مستقبل اليمن على ضوء مخرجات مؤتمر الحوار.

    على أن كل ما سبق سيظل مرتبطا بشكل مباشر بما ستنتهي إليه لجنة القضية الجنوبية المصغرة، اللجنة التي ستظل الأنظار شاخصة نحوها أياما أخرى، وربما أسابيع أو أشهرا، من يدري وقد انقلب السحر على الساحر!

    إلى مثل هذه نبه المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن جمال بنعمر بقوله مؤخرا "إن هذه المرحلة بالغة الدقة والأهمية بالنسبة إلى وثيقة المخرجات النهائية لمؤتمر الحوار الوطني، نظرا لما ستحمله من توافق وتوجه مستقبلي لمعالجة القضية الجنوبية".
    المصدر:الجزيرة
    - ---------------------------------------
    نشرت المادة بتاريخ 21 سبتمبر 2013 

    الثلاثاء، 10 سبتمبر 2013

    ممثل الدبلوماسية الأمريكية الأقوى يغادر اليمن


    - تنتهي فترة عمله هذا الشهر ومعلومات تفيد بتعيين سفير واشنطن في الكويت بديلاً- مارس مهامه قبل أشهر من إندلاع الثورة الشعبية ليواجه تحديا صعبا في مواجهة تداعياتها - جاء اليمن في ذروة نشاط "القاعدة" العابر للحدود اليمنية..وقبل أيام من مغادرته قال أن التنظيم أصبح أضعف بكثير مما كان عليه قبل عامين


    السفير الامريكي جيرالد فايرستاين

    علم «المصدر أونلاين» أن السفير الأمريكي الحالي لدى صنعاء جيرالد إم. فايرستاين سيغادر إلى العاصمة الأمريكية واشنطن بعد انتهاء فترة عمله هذا الشهر كسفير لبلاده في اليمن.
     وبحسب مصادر دبلوماسية يمنية، تحدثت لـ«المصدر أونلاين»، فإن المعلومات الأولية التي يتم تداولها حاليا تفيد بأن واشنطن ستعين السفير «ماثيو تولر» السفير الحالي للولايات المتحدة الأمريكية لدى دولة الكويت، ولم يتم التأكد من دقة هذه المعلومة من مصادر دبلوماسية أمريكية، فيما ذهبت شائعات غير مؤكّدة للحديث عن تعيين السفيرة الأمريكية في بيروت كسفيرة في صنعاء.
     يأتي ذلك بخلاف ما كان يتداول من معلومات، قبل أكثر من شهر، من أن الإدارة الأمريكية تدرس تمديد فترة عمله عاماً آخر، نظراً لمَ عُرف عنه من نشاط دبلوماسي ملموس خلال الفترة الماضية ولاحتياج صنعاء وواشنطن لهذا النشاط الدؤوب خلال هذه المرحلة الانتقالية الحرجة التي تمر بها اليمن، التي تعد واحدة من الشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط في الحرب على تنظيم القاعدة.
     وعُيِّن فايرستاين -الذي شغل خلال الأعوام من 2006 إلى 2008 منصب نائب مساعد المنسق والنائب الرئيسي لمساعد المنسق لبرامج شؤون مكافحة الإرهاب في واشنطن- سفيراً للولايات المتحدة في صنعاء في 17 سبتمبر 2010. وبعد أسبوع من تعيينه بدأ بمزاولة عمله في مقر السفارة بصنعاء في 23 من الشهر تقريباً. وتحدد الخارجية الأمريكية ثلاث سنوات فقط كفترة زمنية لمزاولة سفرائها، ونوابهم، لأعمالهم في البلدان التي يتم تعيينهم فيها، بخلاف بقية أعضاء البعثة الدبلوماسية الآخرين الذين تحدد فترة عملهم بسنتين فقط.
     وبعد خمسة أشهر تقريباً من تعيينه سفيراً في صنعاء، انطلقت الثورة الشعبية الشبابية السلمية في اليمن (فبراير 2011)، ليواجه السفير الأمريكي الجديد امتحاناً صعباً. حيث كان يتوجب عليه أن يقوم بدور هام وحساس من خلال المواءمة بين أمرين جوهريين؛ الأول: كيفية الحفاظ على مصالح بلاده الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية في منطقة استراتيجية تمثل مكمناً حديثاً ومناسباً لتكاثر ألد أعداء واشنطن (متمثلاً في تنظيم القاعدة)، إلى جانب أنها تمثل عمقاً استراتيجياً، أمنيا واقتصاديا، لأهم حلفاء واشنطن الاقتصاديين في دول الخليج (وبشكل خاص: المملكة العربية السعودية).
     أما الأمر الآخر، الذي كان يتوجّب عليه مواجهته بطريقة مناسبة، هو: كيفية النجاح في تلك المهمة الحساسة في ظل ثورة شعبية عارمة تسعى لإسقاط أحد حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، في الوقت الذي كان يتوجّب عليه أن يحافظ ويعكس القيم الأمريكية في الديمقراطية وحقوق والإنسان وتشجيع ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها إزاء أنظمة مستبدة.
     • السفير والثورة الشعبية
    ولعلّه كان من الملاحظ أن موقف السفير الأمريكي، في بداية الثورة، كان مشوشاً وضبابياً إلى حد كبير، الأمر الذي انعكس بدوره على موقف إدارته بواشنطن، حيث كان السفير – كإدارته بالطبع - مازال يحاول الحفاظ على حليفه في رأس النظام اليمني، وقادة الجيش التابعين له، الذين خسرت واشنطن على تأهيلهم وتدريبهم الكثير من الجهد والدعم المالي في إطار حربها على «الإرهاب» في اليمن. حينها خاض السفير الكثير من الوساطات المتكررة لتهدئة الأجواء الساخنة المهددة بسقوط النظام كلياً، أو ربما: انهياره بطريقة مدوية من شأنها أن تؤدي إلى انهيار كلي للمنظومة الأمنية والعسكرية والإدارية التي ظلت أمريكا توليها اهتماماً ورعاية خاصة طوال العقد الماضي من التعاون الأمني بين الحليفين.
     إلا أن السياسية الأمريكية، في نهاية الأمر، رضخت أمام الأمر الواقع، وشكلت جريمة «جمعة الكرامة»، 18 مارس 2011، على ما يبدو نقطة التحول الرئيسية. فبعد إعلانات الانشقاقات العسكرية، والاستقالات الإدارية والدبلوماسية والسياسية التي تواصلت على مدى أسابيع عقب تلك المجزرة البشعة، وصل الدبلوماسي الأمريكي، مع إدارته إلى قناعة بضرورة تخفيف الخسائر الكلية المتوقّعة من سقوط النظام الحليف. دخلت واشنطن بقوة على خط الوساطات الإقليمية والدولية القاضية بضرورة نقل السلطة بطريقة سلمية سلسة.
     ولاحقاً، أصبحت واشنطن متمثلة بسفيرها بصنعاء صاحبة الدور الرئيسي الأقوى في إقناع، أو بالأحرى «إرضاخ» كافة الأطراف السياسية للمُضي في توقيع وتنفيذ مبادرة الحل السياسي الخليجية، المتضمنة رحيل الرئيس السابق علي عبدالله صالح من السلطة وتسليمها لنائبه عبدربه منصور هادي، الذي أصبح بفضل تلك المبادرة رئيساً شرعياً للبلاد في انتخابات (فبراير 2012)، حينها كانت واشنطن، بفضل سفيرها، قد ضمنت حليفاً جديداً لها عوضاً عن السابق وفي المكان ذاته.
     وتباعاً، تحول السفير الأمريكي في صنعاء إلى عدو لحليفه السابق وأتباعه ومواليه. جاء ذلك بعد أن أطلق تصريحات مثيرة تعرّضت بالنقد للحليف السابق (صالح). واعتبر فيها أن الحزب الذي أصر (صالح) على البقاء على رأس قيادته «أصبح اليوم من الماضي»، داعياً أتباعه إلى عدم الانحصار في الماضي والتفكير أكثر بالمستقبل الذي خطه الشعب اليمني، فيما لو أرادوا أن يظلوا مشاركين في صناعة هذا المستقبل.
     توالت تصريحات السفير الناقدة للنظام السابق المتعرضة لسلوكياته السياسية المدمّرة أو التي تحاول إفشال المرحلة الانتقالية (الجديدة في البلاد). ومقابل ذلك، تعرّض السفير لهجمات شديدة من قادة وإعلام النظام السابق، ليتحول إلى ندٍ وخصم قوي بالنسبة لهم، في الوقت الذي تحول فيه إلى حليف أقوى لرأس النظام الجديد، وحليف متعاون مع أطراف التوافق الوطنية التي أثبتت رغبتها في السير بالبلاد إلى بر الأمان بمساعدة واشنطن وحلفائها الدوليين من رعاة المبادرة الخليجية. وعليه فقد شكلت واشنطن القوة الأكثر تأثيراً ومحور التهديد الأكبر ضد الساعين لإفشال المبادرة الخليجية. وكان من أهم الخطوات التي اتخذتها خلال الفترة الماضية أن أصدرت – بشكل انفرادي - قرارات إجرائية عقابية، تتعلق بحجز الممتلكات والأصول المالية في الولايات المتحدة، ضد كل من يتورّط أو تثبت مشاركته في زعزعة أمن واستقرار اليمن.
     وعلى ما يتضح، نجح السفير الأمريكي، في نهاية الأمر، في قلب معادلة الحكم في البلاد، ربما خسر حليفاً وحلفاء سابقين - كانت قد انتهت فترة صلاحيتهم – إلا أنه تمكن بحنكة من الاحتفاظ دائما بالحليف الرئيسي الأكبر الجديد والأهم في البلاد. وجاءت تصريحاته الأخيرة، في مؤتمره الصحفي قبل أسابيع، لتصب في هذا السياق، حين عزز موقف الرئيس عبدربه منصور هادي بتأكيده أن اتفاقية التعاون لمكافحة «الإرهاب»، التي أبرمتها اليمن مع بلاده، كانت في عهد الرئيس السابق في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، منوهاً إلى أن تصريحات الرئيس هادي في هذا الجانب كانت دقيقة. جاء ذلك على ما يبدو ليحسم الجدل الخلافي الذي دار بين الرئيسين السابق والحالي بشأن تبادل الاتهامات بالسماح للطائرات الأمريكية بدون طيار بانتهاك السيادة اليمنية.
     • مكافحة «الإرهاب»
    من المهم أن نبدأ الإشارة هنا إلى أن تعيين السفير فايرستاين سفيراً في صنعاء جاء في ذروة القوة التهديدية والعملية لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
     فبعد أن أعلن التنظيم دمج فرعيه في السعودية واليمن تحت اسم جديد (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب)، مطلع العام 2009، ليتخذ من اليمن مقراً له، شهد العالم محاولات خطيرة لعمليات عابرة للحدود. مع أن معظمها – أو أخطرها – تم كشفها باكراً قبل أن تحقق أهدافها، إلا أنها، بالنسبة للخبراء في شؤون الإرهاب، اعتبرت تحولاً كبيراً في استراتيجية التنظيم الجديد في اليمن، حيث أنبأت تلك العمليات عن مهام جديدة وجسيمة لفرع التنظيم في اليمن على مستوى العالم، وليس على مستوى اليمن فقط.
     بدأت تلك العمليات العابرة للحدود، في 27 أغسطس 2009، بمحاولة اغتيال الأمير محمد بن نائف، المسؤول السعودي الأول عن ملف مكافحة الإرهاب في المملكة، تلتها في 25 ديسمبر 2009 العملية الفاشلة التي حاول تنفيذها الطالب النيجيري عمر الفاروق بتفجير طائرة متجهة إلى ديترويت الأمريكية، حيث كشفت التحقيقات أن الطالب النيجيري كان قادماً من اليمن بعد أن التقى الشيخ الأمريكي من أصول يمنية، أنور العولقي، ولا حقاً تبنى تنظيم القاعدة العملية.
     عقب تلك العملية المثيرة، التي حظيت بتغطية إعلامية عالمية كبيرة، قررت واشنطن تحويل سفيرها لدى إسلام أباد، جيرالد إم. فايرستاين، للعمل في صنعاء (خدم فايرستاين في باكستان خلال الفترة: 2008- 2010). كان الرجل قد أصبح يمتلك خبرة دبلوماسية، واستخباراتية، مناسبة في سلك مكافحة «الإرهاب»، حيث إنه، وقبل عمله في إسلام آباد، تولى في واشنطن (خلال الفترة: 2006- 2008) منصب نائب مساعد المنسق والنائب الرئيسي لمساعد المنسق لبرامج شؤون مكافحة «الإرهاب».
     وبعد شهر ونيف من تعيينه، نجحت الاستخبارات في اكتشاف طردين مفخخين داخل طائرة شحن في لندن، في 29 أكتوبر 2010. كانت الطائرة قادمة من اليمن ومتجهة إلى شيكاغو في أمريكيا.
     غير أن الولايات المتحدة الأمريكية، وخلال الأعوام الثلاثة التي عمل فيها السفير فايرستاين في اليمن، نجحت في إضعاف تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، بعد أن تمكّنت، أكثر من أي وقت مضى، من قصقصة أجنحته القيادية الكبرى، على رأسهم: الشيخ أنور العولقي، الذي قتل مع رفيقه الباكستاني، ذي الجنسية الأمريكية، سمير خان، وأربعة قادة آخرين، بينهم أبو محسن الماربي، بغارة أمريكية نُفذت أواخر سبتمبر من العام 2011 في مارب؛ كما نجحت في اغتيال القيادي فهد القصع المطلوب رقم «2» على قائمة المطلوبين الإرهابيين لدى أمريكا في اليمن، ومؤخراً القيادي السعودي سعيد الشهري نائب زعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
    ونتيجة تلك النجاحات، أعلن تنظيم القاعدة، أوآخر العام 2012، تخصيص جائزة  تصل إلى 3 كيلو جرامات (ما يعادل 3 ألاف جرام) من الذهب لمن يأتي برأس السفير الأمريكي فايرستاين. 
     مرت تسعة أشهر تقريبا على ذلك الإعلان المثير، وبعد أيام  قليلة سيغادر المطلوب الأول للقاعدة في اليمن إلى مستقره في واشنطن، مطمئنا أنه نجح في مهمته الكبرى: «أن تنظيم القاعدة في اليمن أصبح أضعف كثيراً ممّا كان عليه قبل عامين»، من حيث إضعاف قدراته على تنفيذ عمليات نوعية عابرة للحدود، أو تستهدف المصالح الغربية في اليمن. كما أكد في مؤتمره الصحفي الأخير. 
    --------------------------------------
    نشرت المادة ضمن ملف خاص في يومية "المصدر" بتاريخ الثلاثاء 10 سبتمبر 2013، وأعيد نشرها على موقع "المصدر أونلاين" في اليوم ذاته


    الأحد، 1 سبتمبر 2013

    أيها الساسة: أنتم مصاب الثورة.. وكارثتنا الكبرى

    لقد قمنا بالثورة، وكانت سلمية كما أردنا، لا كما أرادوها هم. أتذكرون ذلك، حين رفع لنا أحرار العالم قبعات التحية والإكبار؟

    لم نكن دعاة عنف واقتتال، كنا فقط نبحث عن حياة مناسبة في وطن يصلح للعيش؛ عن كرامة مُنحناها من الخالق فاستأسد المخلوق لسلبها منا وخصّها نفسه وأبناءه ومقربيه وثلة تافهة من العبيد تحولوا تحت حظوة الحاكم إلى نسخ كربونية مصغّرة منه، جلادين، نهابة وقاطعي أرزاق ما تبقى من الشعب، استحوذوا على الثروة لهم ولأبنائهم ولأتباعهم، مستأثرين بحياة الراحة والنعيم على حساب الجمع الأكبر من الشعب! ذلك باختصار كل ما حدث.

    لكن، دعونا من سرد تلك التفاصيل المؤلمة، إذ في النهاية ثرنا على كل تلك التفاهات: ثار المجلودون، المسحوقون، المستعبدون، المقهورون، ..الخ كل مسميات المظلومية على كل مرادفات الظلم والاستبداد.. لقد كانت ثورة بكل مقاييس العلم والعالم الحديث..

    لكن، ما الذي حدث بعد ذلك؟ وما هذا الذي ما زال يحدث حتى الآن؟
    أنتم أيها الساسة، نعم ها أنتم كالعادة من يتصدر باسمنا كل شيء،  فلماذا أنتم دائماً؟

    في السابق، تصدرتم باسم الشعب لتتحولوا عنه وتحكموه بالحديد والنار، تسلبون وتنهبون؛ تستحوذون على كل شيء دون غيركم، وتستأثرون بكل شيء منعاً لغيركم!
    وها أنتم أيضاً أيها الساسة للمرة الألف.

    يا من عارضتم لسنوات طويلة نظام الظلم بالتماهي والتكييف والاستلاب والخنوع؛ ها أنتم اليوم من أوكلتم أنفسكم لتفصلوا لنا حياتنا بالطريقة التي تتلاءم مع رغباتكم أنتم، لا مع احتياجاتنا نحن في الحياة!

    نعم أنتم أيها الساسة الأشاوس: ما زلنا نكتشف تباعاً أنكم صدمتنا المؤلمة؛ بل أنتم كارثتنا الكبرى!
    لماذا أنتم من له أن يسيطر على الحياة، ويصيغ تفاصيلنا البائسة؟ حين تحكمون وحين تعارضون، بل وحين تلتحقون بالثورات الشعبية، لماذا علينا أن نظل دائماً تحت رحمتكم؟

     في الماضي، أجبرتكم مصالحكم واتخذتم عنا قرار الوحدة، ثم أنتم بعد ذلك من نكث وخضتم باسمنا حروب التحرير والتوحد، في جنوب الوطن وشماله، بل وفي كل جهاته الأربع!

    منكم من بقى هنا لتزداد أسهمه وبسطته في الثروة والجسم، ومنكم من فر بعيداً ليجد حظوته بانتظاره؛ فهناك أيضاً خارج الحدود لا يترك الساسة نظراءهم بدون مأوى باذخ، ومأكل شهي ونفقات باهظة!

    في الواقع، حين تفرون بعيداً عن الوطن تُعرضون كـ"صيد ثمين" في سوق نخاسة؛ إنكم تزدادون سعراً هناك، ولا فرق في أي حضن ترتمون، المهم أنكم تظلون كما أنتم "حفاري قبور"؛ تتصدرون حياتنا كزعماء، تابوهات للعرض، تنتفخون أكثر مما أنتم عليه، تتضخمون ومعكم يتضخم ثأركم وانتقامكم.

    أنتم، دوماً لا تفقدون حظوتكم، تظلون على الدوام مؤثرين في حياتنا، سواءً كنتم حكاماً علينا أم معارضين معنا، أو حتى فارين ولاجئين سياسيين.. فهناك دائماً من يعتني بكم في الداخل كنتم أم في الخارج، أكنتم فوق الأرض، أم تحت الأرض.

    نحن فقط من يتألم، على السواء: نتألم في ظل الأنظمة المستبدة والسالبة لحرياتنا، ونتألم في زمن الثورات الحالمة: حتى حين يتصدّر شركاؤنا في النضال واجهة صياغة تلك الحياة التي حلمنا بها، وضحينا لأجل بلوغها، ما زلنا نتألم.

    أيها الساسة، قراصنة الأوطان، المتوكلون على حياة الشعوب: ها أنتم في زمن الثورة، ما زلتم أيضا ًفي الواجهة، على ظهرها صعدتم، وباسمها نصبتم أنفسكم وكلاء على المستقبل، تأبون إلا أن تمتطوا ظهر المتعبين، وتدوسوا على أحلامنا البسيطة بأقدامكم المسمّنة من عُقد الماضي البغيض.

    ألم تكن ثورة؟
    لمَ إذن ما زلنا نبحث عن مثل تلك الكرامة التي ضنّ بها المستبدون الأولون على شعوبهم؟

    أين هي تلك الحياة الآمنة التي حلمنا بها لمغادرة خوفنا على حياتنا ومستقبل أولادنا؟ لم يتغير شيء حتى الآن، وربما زادت الأمور سوءاً.

    تسكنون الفلل الفارهة، ويحظى أبناؤكم بجامعات عريقة في الخارج، فيما نحن مازلنا نسهر ونصحو على القلق ذاته، بل وأكثر منه: كيف سنغطي الإيجار مع نفقات دراسة محترمة لفلذات أكبادنا؟ متى سنتركهم يمضون إلى مدارسهم، فيما نكون نحن في وظائفنا آمنين مطمئنين عليهم من أهوال وهواجس ما يمكن أن يحدث لهم في طريق ذهابهم وإيابهم؟

    ما زالت الأخبار لم تغادر حوادث الفساد والنهب المُشاع لأموال وأراضي وثروات وممتلكات الدولة والشعب، ما زال الشيخ هو الأقوى، والسيّد هو الأعلى، وما زال المستأثرون العمالقة على الشركات والمحتكرون للأعمال المثرية يتزايدون بشكل مخيف، فيما الشباب الحالمون تزداد بهم الشوارع، تقذف بهم إلى أرصفتها أو إلى الجريمة أو الانتحار..

    وأنتم أنتم لم تتغيّر أولوياتكم؛ تنزعون أكثر إلى إضاعة أوقاتكم بالتخطيط والتفكير في مواجهة بعضكم بعضاً: كيف يمكنكم أن تتفادوا الأحجار من طريقكم أنتم، ورميها في طريق خصومكم أنتم..
    ألم تصلكم الثورة؟

    لمَ إذن لم تخلعوا عنكم أثوابكم المهترئة القديمة؛ عُقدكم الموروثة والمدمّرة، تعصبكم لخلفياتكم؟ لمَ لم تخلعوا كل ذلك، وتلبسوا ثوب الوطن الجديد، الذي صممته لكم الثورة؟

    نعم، نحن نؤمن أن ما قمنا بها وضحينا لأجلها كانت ثورة، ولم يخالجنا أدنى شعور يشكك بأنها لم تكن كذلك.

    أنتم، فقط، أيها الساسة، من كان صدمتنا وكارثتنا الكبرى!

    منذ أن ركبتم ظهرها، قصمتم ظهرنا. أتذكرون حين عقدتم صفقتكم السياسية مع القتلة، المجرمين، نهابي الوطن الفاسدين. أبقيتموهم لتبقوا أنتم في الواجهة كفرسان منتصرين في الحرب.. هكذا يتعامل الساسة فيما بينهم: نصر وهزيمة، تارة أنتم وأخرى أنتم أيضاً.. بالأمس أعداء، واليوم أصدقاء..

    وكما أن الساسة الكبار هم الأوفر حظاً للاستقطاب والعمالة، فإن الوطن والشعوب هي آخر ما يمكن أن يكون في أجندة السياسي، تسبقه المصالح الخاصة، الموجهات الحزبية، التعصبات المناطقية، الصراعات المذهبية والتمترسات الفئوية...الخ.

     هل تلامس الثورات قلوب الساسة، أم أنها تظل دائماً على السطح؟
    حسناً: حين تتابع مسار ما بعد الثورات، وتكتشف أن تصرّفات الساسة المتحكمين بمسارها، يتعاملون بدوغماجية مع الحاضر والمستقبل، اعلم أن الثورات لا تستقر إلا في قلوب العامة الحالمين بإحداث تغيير في مستقبل حياتهم المسلوبة.

    ذلك أن الساسة، سواءً كانوا في السلطة أم في المعارضة، من المؤكّد أن الثورات لا تحدث فارقاً جوهرياً كبيراً في حياتهم الخاصة، إلا أن يكون ذلك نحو تحسين شروط حياة الرفاهية تلك التي يعيشونها.. هذا ما حدث لا أكثر..

    هل ما زال أمامنا أن نحلم مجدداً بثورة تكون أكثر شمولاً، تخلع الوجوه القديمة الكالحة، وتصدر إلى الواجهة وجوهاً غضة، تقدّس الحلم، تشع نضارةً وتنضح بالوطنية؟

    ربما لا، فأنتم أفسدتم حتى فطرة أتباعكم، لوّثتم نقاء هذا الجيل الغضّ، وربما الذي بعده، حين حقنتموه بأفيون إرثكم التصارعي المقيت..
     يا الله لم يعد أمامنا ملجأ سواك!
    ---------------------------------------------------------------
    نشرت في يومية المصدر بتاريخ 1 سبتمبر 2013