الجمعة، 15 أبريل 2011

تحولات الجنرال


طالب اللواء علي محسن بدولة مدنية ويقول إن أخطاء النظام قادت اليمن إلى الدمار.. لكن صورة الرئيس مازالت على حائط مكتبه، فماذا يعني ذلك؟


المصدر أونلاين-خاص-عبدالحكيم هلال
(1)
من هذا المكان المرتفع يمكنك أن تسمع مكبرات الصوت وهي تصدح بتراتيل شباب الثورة قادمة من ساحة التغيير، هناك في الأسفل جوار الجامعة الجديدة..

ومن هنا أيضاً، كان صوت الجنرال قد صدح متجاوباً مع صوت الشعب، لتتلقفه ساحات التغيير والحرية في مختلف أنحاء البلاد باحتفاء كبير، قبل أن يستقر في شاشات الفضائيات العالمية باعتباره الحدث المؤثر في مسارات ثورة الشباب السلمية.

داخل أسوار هذا الحصن العتيد، يكتفي الجميع هنا بكلمة "القائد" لتعرف أنهم يتحدثون عن اللواء علي محسن صالح، رجل الجيش الأقوى في البلاد. أما خارج تلك الأسوار، فحين يتحدث الجميع عن "الفرقة" بشكل مفرد، فليس ثمة من يذهب تفكيره بعيداً عن "الفرقة الأولى مدرع" التي يقودها الجنرال.

في غرفة متوسطة في الطابق الثاني داخل مبنى يتوسط المعسكر، جلس القائد على مكتبه المتواضع (مقارنة بالمكانة التي يتمتع بها). بلحظات سريعة جداً، قلب مجموعة من الأوراق الخاصة، فيما كانت صورة الرئيس صالح ما تزال ترقبه من على الحائط الواقع خلفه. التفت إلى مجموعة الصحفيين أمامه، ابتسم ورحب بهم ليبدأ معهم النقاش.

لقرابة نصف ساعة كان النقاش قد تطرق إلى: طبيعة الأحداث، مبررات إعلانه تأييد مطالب الشباب المنادين بإسقاط النظام، موقفه من المبادرات، إلى جانب قضايا أخرى تتعلق بمحاولة الاغتيال الأخيرة التي تعرض لها وملابساتها، وإلى أين ستتجه الأوضاع..

(2)
بعكس الأسبوعين الأخيرين، ظل الجنرال على مدى أكثر من 33 عاماً، يعيش في حساسية مفرطة من الإعلام، فظل بعيداً عن عدسات التصوير، فيما لم تجد أقلام الصحفيين الكثير مما تكتبه حوله، سوى بعض الأحداث التي كانت فرقته تخوضها باسم الجيش اليمني. ليس ثمة الكثير من المعلومات حول الجيش اليمني، والمعلومة الوحيدة المتوفرة لا تتجاوز فرقة الجنرال.

في حرب صيف 1994، والجولات الست من الحرب في صعدة، كان علي محسن وفرقته هي المعلومة الأكثر شيوعاً. ومثلها في محاولة انقلاب الناصريين المحبطة عقب صعود صالح، وحروب الجبهة في المناطق الوسطى. ولذلك، كان من الطبيعي – ربما – أنه وعقب إعلانه الانضمام إلى صف ثورة الشباب، أن برزت أصوات – وإن كانت خفتت سريعاً قبل أن تأخذ مداها بالارتفاع – تتحدث عن تاريخه العسكري، وتطالبه بالاعتذار للشعب.

والجمعة الماضية، وأثناء رده على سؤال أحد الصحفيين حول ما إذا كان وعده بترك منصبه بعد سقوط النظام وانتهاء الأزمة، ما يزال قائماً، قال "بالتأكيد" مستدركاً "سأعتذر للشعب وأرحل". قالها وهو يرفع كفه الأيمن بموازاة رأسه بحركة عسكرية تعني "تعظيم سلام".

في 21 مارس الماضي، جاء إعلانه بتأييد مطالب الشعب، والذي حمل أثراً بالغاً في تدمير جدران المعبد الرئاسي الذي ظل الجنرال وفياً له خلال العقود الثلاثة الماضية. حينها كان هذا بمثابة إعلان بتهاوي جدران نظام صالح العائلي مباشرة مع انهيار دعاماته الأساسية.

ومع ذلك، ففي هذه الأثناء، تباينت الآراء بين أولئك الذين طالهم جزء من تاريخ الجنرال ليفيضوا بالشكوى، وبين من رحبوا بموقفه، وهم هؤلاء الذين ظلوا بمنأى عن ذلك التاريخ. وفيما يبدو كان هذا الصوت الأخير أكثر قوة من غيره. على الأقل حتى الآن. على أن السخرية هنا، أن إعلام النظام المتضرر تبنى حملة التذكير منقلباً على من كان يدافع عنه بحماسة بالغة، حتى ما قبل تحوله، وكان يصفه بـ"المناضل الكبير، والقامة الوطنية العملاقة..!!"، ليتقمص في هذه الأثناء دور الشيطان مستحثاً عواطف من كان يشتمهم، ومحولاً لعناته على صديق الأمس، عدو اليوم..!

(3)
لم يعد ذلك مجدياً البتة. ففي الوقت الراهن، يتحدث الجنرال مع الصحفيين بلغة أخرى، وهيئة مختلفة. لغة غير تلك التي بلغتهم من ورائه، وهيئة غير تلك التي رسموها في مخيلتهم عنه. فالرجل القوي، الذي ما كانوا ليصلوا إليه من قبل، هاهو اليوم يتحدث معهم وجها لوجه، والشخصية الأولى في الجيش، من وضعوا في أذهانهم أنه سيبدو عابساً، هاهو يبتسم لهم بين الحين والآخر، ويطلق المزحات لتلطيف الجو..

هاهو، من عاش معظم عقوده السبعة، خلف جدران المعسكرات، وميادين المعارك، بين المجنزرات والصواريخ والكلاشنكوف، يتحدث اليوم بحماسة عن "الدولة المدنية الحديثة" منتقدا حكم العسكر..!

وبالنسبة للرئيس، يقول إنه تحول إلى دولة بشخصه. كل شيء بيده وتحت أمره، وهو صاحب القرار في كل الأمور، صغيرها وكبيرها.

هل يؤكد هذا أن الثورة تسير فعلاً في طريقها الصحيح، حين استطاعت تغيير القناعات الراسخة في أذهان أشخاص اعتبروا أنهم جزءاً أساسياً من النظام؟. بلغ الاعتقاد لدى الكثيرين أن علي محسن صالح، هو أخ غير شقيق لعلي عبد الله صالح..

ولكن ماذا بشأن صورة حليفه السابق، تلك التي ما زالت معلقة أعلى الحائط خلف مكتبه؟

دعوه يرد على ما بدا أنه أمر غير طبيعي بعد هذا كله. بالنسبة له فهذا يعني"أننا لم نقم بانقلاب كما تم إشاعته حينما أعلنا تأييد ودعم مطالب الشباب" جاء الرد. واستدرك "ولذلك هي مازالت هنا، لكنها لن تكون كذلك بعد انتهاء الوضع الراهن بإعلان الرحيل بإذن الله".

يوم أن أعلن الرجل الثاني في البلاد، والأول في الجيش، تأييده لخيارات ومطالب الشعب، انفرط عقد قوة الرئيس الضاربة. وخلال الساعات السبع الأولى لم يتسن لهذا الأخير القيام بشيء، كان هول الصدمة مفاجئاً وقاصماً. ومع المساء بدأ باستيعاب الحدث، فجاء رد فعله الأول بظهور وزير دفاعه على شاشة التلفزيون الرسمي، متحدثاً عن انقلاب على ما أسماها بالشرعية، ومذكراً بقسم الجيش في الدفاع عنها.

بالنسبة للجنرال، لم يطل الأمر لأكثر من بضع ساعات قليلة، حتى ظهر هو الآخر على شاشة إحدى الفضائيات العربية (كان هذا هو الظهور الإعلامي الثاني للجنرال على شاشات الفضائيات، وفي يوم واحد) ليتحدث عن ضغوطات مارسها الرئيس على وزيره لتمثيل هذا الدور. وحينما بدا الأمر أشبه بإعلان حرب، طمأن الجنرال الناس بالتأكيد "أن عهد الانقلابات العسكرية ولى" وزاد أكد أنه لم يكن أبداً من محبي السلطة، وأنه لو كان يريدها لكان قد تسنى له ذلك في السابق حين كانت الفرصة متاحة له أكثر من غيره.

ولذلك، حين اتصل به الرئيس ليلة ذلك اليوم، أكد له الجنرال أن ما حدث ليس انقلابا، وأن صورته التي ما تزال في مكتبه شاهد حي على عدم دقة تلك الاتهامات.

مثل هذا الأمر، لا يمكن لرئيس مثل صالح استيعابه إطلاقاً. فهو وإن لم يكن انقلابا بمعناه العسكري كون الجنرال ما زال يعتبره رئيساً حتى اليوم (حتى وإن كان بنظره قد فقد شرعيته عملياً "بمجرد اصطفاف الشعب في كافة محافظات الجمهورية مع رغبة مشتركة ضد بقائه، وأيضاً لتورطه في قتل شعبه")، إلا أنه – من زاوية أخرى – يعد انقلابا بكل المقاييس، وذلك فقط بالنسبة للرئيس. فهو لا يمكن إلا أن يكون انقلاب شاملاً لفكرة دولة الرئيس الخاصة. انقلابا في الذهنية العسكرية على معاني التبعية العمياء، ورفض للقبضة الحديدية والتحكم والبسط والسيطرة على كل قرارات ومفاصل الدولة.

فالجنرال، الذي ظل ذراعاً أيمن للرئيس، وآلته الحامية من الانقلابات والحروب والاضطرابات العسكرية والسياسية، هاهو اليوم يعلن صراحة أنه سئم من كل هذا، وها قد آن أوآن أن يقرر، ليس فقط التخلي عن حمايته فحسب، بل وأيضاً بتحويل تلك الحماية لمن يطالبونه اليوم بالتوقف فوراً عن أن يواصل البسط على موقع الرجل الأول في البلاد، بأن يرحل ويتحول إلى لاشيء. وفي هذا التحول، ليس ثمة ما يمكن توصيفه أكثر من كونه انقلابا حقيقياً.

ليس هناك من بد من القول أن للجنرال تاريخا طويلا مع الرئيس صالح موغلاً بالعنف والقسوة المفرطة، غير أنه، وعلى الصعيد الشخصي الخاص، بعيداً عن صالح، يحمل تاريخا آخر ملئ بالنبل، الرحمة، الكرم، القيادة والإدارة، الوفاء بالعهود، وحل النزاعات. يتمتع القائد بعلاقات شخصية حسنة مع القبائل والأشخاص والشخصيات الوطنية، ودول الجوار، وأيضاً مع فريقه من ضباط وصف وجنود في المنطقة التي أوكل بها والفرقة التي يقودها.

(4)
حين تتعدى البوابة الغربية، وتلج معسكر القيادة التابعة له، تستقبلك لوحة صغيرة كتب عليها "أهلاً بك في عرين الأسود". وحين كان يتحدث معنا من وراء مكتبه داخل بزته العسكرية المارينزية، لا أدري لم ارتسم وجهه في مخيلتي بهيئة أسد. غير أنه وبعد لحظات من الحديث، أجريت تعديلات طفيفة على تلك الصورة ليبدو وكأنه الأسد الأكبر. الأسد الأب، أو ربما الجد. تلك التغضنات والتجاعيد البادية على وجه، وذلك الصوت الجهوري، ولكن الممتزج برعشة صغيرة بين الحين والآخر، لم تلغ من ذهني تلك الصورة المرتسمة نهائياً، لكنها أضفت عليها تحسينات لتجعل منه أسدا طاعناً في السن.

مع ذلك، فهو ما يزال الأسد الأقوى، أسد لم يفقد قوته وشجاعته بعد. فمن بين تلك التجاعيد والتقاسيم وعلامات الشيب، يمكنك ببساطة أن تلمح تلك المواصفات. وعلى الأرض تنعكس أكثر، بتجرؤه الوقوف ضد رغبات الرجل الأول في الدولة، وإعلانه أمام العالم – وبكل شجاعة – عن انتهاء عهد خدماته له، وانحيازه لخدمة الثورة.

وبعد المجزرة البشعة التي ارتكبت ضد المعتصمين السلميين في ساحة التغيير بصنعاء، في جمعة الكرامة (18 مارس) وراح ضحيتها (53) شهيداً، والآف الجرحى، حضر الجنرال الاجتماع الذي عقده الرئيس – في نفس اليوم، تقريباً - مع اللجنة الأمنية العليا، مجلس الدفاع الوطني، مجلس الوزراء، اللجنة العامة لحزبه، ولجنة إدارة الأزمات. وأثناء الاجتماع رمى الجنرال بكلماته الشجاعة إلى وسط الطاولة. تضمنت ما معناه: أن الجميع يعرف أن من ارتكبوا تلك المجزرة يتبعون قوات الحرس الجمهوري، القوات الخاصة، الأمن المركزي، ومواطنون بلباس مدني يتبعون الأمن القومي، والحزب الحاكم. وزاد: إن هذا الأمر واضح، ولا يمكن التستر عليه، ويجب الاعتراف به ومعالجته بالطريقة الصحيحة.. الخ

حينها حلق الطير فوق رؤوس القوم، ولم ينبت أحدهم ببنت شفه. لم يجرؤ أحد على الكلام. وبعدها بيومين فعل فعلته التي فعلها، وزلزلت عرش الطاغية، بإعلانه الانحياز للمحتجين وحمايتهم. وبعد يومين، أو ثلاثة – ربما – ظهر الرئيس في مقابلة على قناة العربية، وفيها قال بغرور: أنا رئيس جمهورية، واللواء علي محسن ضابط عندي، مثله مثل أي ضابط، وأستطيع عزله بقرار مني.

لم يتأخر الرد كثيراً، وفي صباح اليوم التالي، كان مندوبه الخاص قد وصل باكراً إلى ساحة الاعتصام، جوار الجامعة، ليبلغهم تحيات القائد، ويتحدث باسمه. وفيما بدا أنه رد قوي على تصريحات الرئيس تلك، قال الرجل، إن القائد يريد أن يذكر الجميع بأنه هو من أتى بالرئيس صالح إلى كرسي الرئاسة من المفرق. وكان يقصد "مفرق المخا" بتعز، حيث كان الرئيس يقبع هناك في معسكر خالد بن الوليد بموقع قائد لواء تعز العسكري. ولم ينس أن يذكر أيضاً بأن القائد علي محسن، هو من حمى وأنقذ الرئيس لثلاث مرات.

(5)
كان واضحاً أن الأسد العجوز، لم يكن قد فقد قوته بعد، ومازال زئيره المرعب يرتفع بقوة. ولذلك – ربما - جاءت تلك المحاولة الأخيرة والفاشلة لاغتياله. وظهيرة الثلاثاء (5 أبريل) نجا الجنرال من محاولة اغتيال جوار بوابة الفرقة.

ولأن الأحداث والاضطرابات الأخيرة، فرضت عليه عقد صداقه مع الإعلام، تخلى عن حساسيته من عدسات التصوير، ظهر ليلتها، وللمرة الثالثة خلال أيام، ليكشف تفاصيل تلك المحاولة، التي اتهم فيها الرئيس مباشرة بتدبيرها في الرئاسة منذ أسبوع.

وعلى الرغم من أنه كان يتحدث عن مكيدة مدبرة للتخلص منه، إلا أن الجنرال ظهر على شاشة الجزيرة مطلقاً ابتسامه عريضة، ربما أراد من خلالها أن يوجه رسالة تؤكد ثقة كبيرة بالنفس، وقد تحمل عبارة مفادها "عفواً، حاول مرة أخرى".

في الواقع، لم تكن تلك المحاولة هي الأولى، وربما أنها لن تكون الأخيرة. وكان مندوبه أكد للمعتصمين، بالقول: "هذا ليس ببعيد على السلطة فقد سبق وأن حاولت اغتيال اللواء علي محسن عدة مرات كان آخرها ما كشفته وثائق ويكيليكس حول إعطاء الأمن القومي في اليمن إحداثيات خاطئة للطيران السعودي لقصف مقر اللواء علي محسن في صعدة أثناء الحرب الأخيرة هناك".

الفارق الجوهري، أن تلك المحاولات السابقة، كان يتم التعامل معها من تحت الطاولة، ولم تكن تعلن على الملأ، كما حدث اليوم، مع توجيه الاتهامات بشكل مباشر لرئاسة الجمهورية.

تتطابق المعلومات لتؤكد أن القائد كان على رأس الجنرالات الذين نصبوا صالح رئيساً للبلاد في 1978. وكما تزعم بعض التسريبات، حظي الرجل بإبرام صفقة ثنائية خاصة مع صالح، بالشراكة والوفاء، وأنه أستطاع من خلالها أن يكتسب نفوذاً كبيراً في المؤسسة العسكرية، وضمان السيولة المالية التي تمكنه من تأسيس وإدارة القلعة التي يتحصن بها اليوم.

غير أن حلم الرئيس بالتوريث، شرخ تلك العلاقة، وتدرج بها نحو نهايتها تلك. وظل القائد – وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة تقريباً - يتعرض لمحاولات أخرى هدفها القضاء على قوته ونفوذه الواسع في الجيش، وكان كل ذلك يجرى بعيداً عن ضوء الشمس، لكنه لم يكن ليعدم منفذاً للخروج وإن بصورة اتسمت بالخفوت.

حينها، بدأت الخلافات بين الشريكين تدب، حول بعض القضايا الرئيسية، لعل أبرزها "تصرفات الأولاد" الصبيانية. وبحسب مقربين، لم يكن هناك شخص باستطاعته أن يدخل مع الرئيس في نقاشات حادة، سوى اللواء علي محسن. وإن كان ذلك يتم في غرف مغلقة غالباً.

بالنسبة للجنرال، فأسباب إعلانه تأييد ثورة الشباب، يتعلق بسوء تصرفات الرئيس الأخيرة مع القضايا السياسية والوطنية. لقد تحول الرئيس ليكون هو الرجل الأوحد، القادر على كل شيء، وما دونه لا يساوون شيء. وتحت الشعور بغرور القوة، أراد أن يكون هو الدولة، والدولة هو. ذلك ما يمكن استخلاصه، من حديث طويل تطرق لسلسلة من المبررات تعلقت معظمها بالأخطاء الكبيرة لتعاملات الرئيس وتصرفاته مع قضايا الوطن، والحوار مع المعارضة. فصل الجنرال تدرج سياقات الحوار مع المعارضة. "كان الرئيس دائماً ما يطرح المبادرات ويوقع عليها، ثم سريعاً ما يتنصل عنها، وكأنها لم تكن، هكذا دون أن يأبه للعواقب المترتبة عنها". قال. وأضاف "كنت حاضراً جل تلك الاتفاقات، وكنت في كل مرة أرصد الطرف الذي ينقضها" حتى وصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم. فاليوم لم يعد هناك شرعية للسلطة القائمة، في ظل خروج بعض المحافظات عن سيطرة الدولة، بما فيها صنعاء. يؤكد. ويستدرك: "الآن هناك فوضى، لا توجد دولة، في الماضي كان الرئيس صمام أمان، أما اليوم فإنه مصدر خطر على اليمن وأمنه ووحدته". حتى حدثت مجزرة الجامعة تلك "التي يندى لها الجبين، ولا يمكن أن يرضى عنها كل صاحب قلب، أو يمني وطني شريف".

قرر الجنرال، بكل شجاعة، أن يخوض معركة علنية وشفافة أمام الجميع، للدفاع عن الطرف الأضعف في المعادلة، الذي عوضاً عن ذلك، قال إنه يمتلك مطالب مشروعة ودستورية. بعدها، كان ما كان..

(6)
حينها، حتى هو نفسه لم يسلم من الخديعة ونقض العهود. وهنا يستشهد بما حدث أثناء اتفاقه مع الرئيس. فعقب إعلانه تأييد الثورة، اتصل به صالح، طالباً حل الأزمة، وحين قال له ما هو الحل بنظرك؟ اشترط عليه أن يستقيل معه، فوافق على الفور، وطلب منه يميناً فأقسم الرئيس. اتفقا على اللقاء في اليوم التالي في منزل النائب، وقعا الاتفاقية وتسلم كل طرف نسخة منها حتى السفير الأمريكي الذي اشترط الرئيس حضوره كشاهد، تسلم هو الآخر نسخته. بعدها يقول "من باب المزاح، قلت له لدي شرط واحد، فقال لي ما هو؟ فقلت له: أن تتكفل بمصاريفي، فأنا ليس لدي أموال في البنوك الخارجية، فوافق". واليوم التالي، رفض الاتفاق واعتبره كأن لم يكن.

اليوم، يحرص الجنرال أن تتوافق توجهاته حرفياً، مع تلك المطالب، التي انحاز إليها: "البلد اليوم بحاجة إلى حكم مدني، لا عسكري" قال. وأردف "نحن بحاجة إلى دولة يسودها العدل والمساواة والفصل بين السلطات".

ولقد بات يتحدث عن الجيوش باعتبارها جزء من الشعب وحامية للأمة، لا لحماية الأشخاص، والأفراد. فالأمة باقية، والأشخاص زائلون. هكذا يتحدث اليوم عن الماضي باعتباره خطأ فادحا، أفضى بالبلد إلى الدمار. فحكم الحزب الواحد كان خطأ كبيراً، يواصل، والممارسات التي قام بها النظام أدت إلى تكدس السلطة في يد حفنة عمدت إلى إقصاء الآخرين، ليس من مشاركتهم في صناعة القرار ومستقبل البلد، بل وإقصائهم من وظائفهم. إن معظم الناس فقراء، وهم بحاجة إلى وظائف لتسيير أمور حياتهم ورعاية أسرهم، لكن النظام أفسد ودمر البلاد واستفرد بالثروات. كان الجنرال ينساب في حديثه حول هذه المعاني بطريقة أخرى، غير معهودة، ولم تسمع منه قبل اليوم.. لكنه أدرك سريعاً أنها تحمل معنى اليمن القادم، اليمن الذي واجه شباب الثورة من أجله، رصاصات السلطة وزبانيتها بصدور عارية..

حتى هذه "بصدور عارية" وضعها الجنرال في سياق حديثه عن الطريقة التي سيتم فيها مواجهة مخططات النظام، لاسيما السيناريو الذي يقول باحتمالية اقتحام الفرقة. قال "لن ننجر إلى قتل إخواننا، بل سنواجههم مثل الشباب، بصدور عارية".

وكان ذلك في سياق طمأنته الجميع أنه "لن تكون هناك حرب أهلية. وبإذن الله سنعمل على حل الأزمة سلمياً. لا قلق من الحرب الأهلية".

لكن، مع ذلك كله، يرى الجنرال –وهذا يبدو مخالفاً للسياق– بضرورة أن يحظى الرئيس، بعد هذه السنوات، بخروج مشرف، ومن الأفضل أن يخرج "وسط تصفيق الناس واحترامهم". وهو الأمر الذي –في نظره- مازال ممكناً "فالوقت لم يفت بعد".

وربما، يكشف هذا أنه، ويوم الاثنين الفائت، أعلن تأييده للمبادرة الخليجية الأخيرة بتعديلاتها المثيرة للجدل. المبادرة التي رفضها الشباب جملة وتفصيلا، ورفضتها المعارضة الاثنين الفائت بعد تعديلاتها الجديدة بتغير النص إلى نقل صلاحياته لنائبه، بعد أن كانت السابقة تشير صراحة إلى التنحي، كما أن هذه الأخيرة منحت الرئيس وأسرته ضمانات من المحاكمة والملاحقة، وهو ما يتعدى القدرة المتاحة للمعارضة.

هذا ما يجعلنا نضع جميع تحولات الجنرال، المستمدة والمدفوعة من الثورة الشعبية المتسقة معها، في كفة، مقابل البدء بتحوله الأخير، من خلال موقفه المعلن يوم الاثنين الفائت، في الكفة الأخرى. ربما يختل الميزان في اتجاه غير مستحب للجنرال. عليه أن يفكر أكثر بالأمر، فليس ثمة من يعرف تقلبات الرئيس ومؤامراته أكثر منه.

تتسارع الأحداث، ويسجل التاريخ تحولاتها، بيد أن تحولات الجنرال تظل هي الأكثر إثارة بعد تحولات الثورة الشبابية، لكنها تظل مرهونة بالمدى الذي تستمر فيه متوافقة ومنسجمة مع أهداف ومبادئ الثورة الشعبية الجديدة.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق