قدم وائل غنيم نموذجاً استثنائيا، حين رفض اعتباره بطلاً، فيما يبدو النموذج اليمني خالياً إلا من قيادات تضخّم نفسها وتسعى لفرض وصايتها على الآخرين
المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
جاءت تصريحات وائل تلك عقب الإفراج عنه بعد 12 يوماً من اختطافه ليلاً، وإخفائه قسراً كونه أول من دعا إلى الثورة عبر مجموعته في الفيس بوك التي أطلق عليها: مجموعة "كلنا خالد سعيد".
وكان غنيم استقبل في اليوم التالي لخروجه من السجن استقبال الأبطال في ميدان التحرير، وحينها قال للمتظاهرين الذين صفقوا له بحرارة "لست بطلا، بل أنتم الأبطال، فأنتم الذين بقيتم هنا في الميدان".
وبعد خروجه من السجن، ظهر على قناة دريم المصرية قائلاً "إن أجندتنا الوحيدة هي حب مصر". رداً على من يقول إن لديهم أجندات خارجية. ولدى ذكر الشهداء الذين سقطوا خلال المواجهات وعرض صورهم انهار وائل غنيم وأجهش بالبكاء مما أثار مشاعر ملايين العرب والمصريين. واعتذر من أمهات الشهداء قائلاً وهو يبكي: "أريد أن أقول لكل أم ولكل أب فقد ابنه.. أنا آسف لكن هذه ليست غلطتنا.. والله العظيم ليست غلطتنا.. هذه غلطة كل واحد كان ماسكاً بالسلطة ومتشبثاً بها... عايز أمشي". وانسحب من البرنامج..".
وكتب موقع مصراوي على شبكة الإنترنت بعد ساعتين من ظهور غنيم على شاشات التلفزيون: "دموع غنيم حركت الملايين حتى إنها قلبت موقف البعض السياسي حيث تحولوا من موقف المؤيد للبقاء (بقاء مبارك) إلى موقف المعارض".
(2)
ربما يتوجب علينا هنا أن نركز على قضية في غاية الأهمية، لوحظ أن وائل غنيم كان يشدد عليها كثيراً، إذ يصر على عدم نسب البطولة إليه، مع وضوح حجم الفعل الذي قام به. وكان عوضاً عن ذلك، يفضل الحديث عن الأبطال الحقيقيين الموجودين في الشارع. وجاء في تصريحاته أيضاً، لدى خروجه من السجن: ".. أريد أن أقول أيضاً أرجوكم لا تجعلوا مني بطلاً أنا مجرد شخص كان نائماً اثني عشر يوماً والأبطال الحقيقيون هم الموجودون في الشارع وأتمنى أن تلقوا الضوء عليهم. أنا الحمد لله بخير وإن شاء الله سنغيّر بلدنا، وكلنا بيد واحدة لتنظيف بلدنا". وعلى الرغم من تواضعه ذاك، فقد تم اختياره ناطقاً باسم شباب الثورة، دون أن يكون مغرماً بهذا الأمر أو باحثاً عنه.
ولبساطته في الحديث وقربه من قلوب المستمعين، استطاع وائل غنيم أن يتجاوز الكثير من مناضلي مصر الكبار ونخبهم السياسية، دون أن يكون له رغبة للقيام بذلك، دون أن يرسم أو يخطط ليكون القائد الملهم، والصانع الأول للثورة، دون أن يتهم الآخرين بمحاولة السطو على الثورة، لم يكن في أجندته سوى طموح ورغبة واحدة، هي: أن يكون الجميع يداً واحدة لتنظيف أم الدنيا من الديكتاتور، حتى ينعم الشعب المصري بمستقبل أفضل.
وفي مارس 2011 تم اختياره لنيل جائزة كيندي للشجاعة. كما اختارته مجلة التايم ليكون في قائمة أكثر 100 شخصية تأثيراً حول العالم. وغنيم هو مدير التسويق في "جوجل" الشرق الأوسط، وحاصل على شهادة البكالوريوس في هندسة الحاسبات من جامعة القاهرة، والماجستير في إدارة الأعمال من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة. على أنه في نفس الوقت يحمل أفكاراً تقدمية، إصلاحية، وحداثية، يؤمن بالحوار منهجاً لحل القضايا على قاعدة احترام الرأي الآخر، كون الاختلاف "سنة الله في الكون". وفي إحدى مقالاته كتب: "..ولعل تطرف الفكر من الأمور التي يستحيل التخلص منها، وذلك لأن سنة الله في الكون الاختلاف، ولأن اختلاف الثقافات والبيئات والتربية يؤدي لاختلاف الحكم على الأمور وبناء القناعات". ويواصل ".. بل لكل وجهة نظر نسمعها وللجميع الحق في اختيار القناعة التي يريد السير عليها. وقديما قال الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ .. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
(3)
إن تلك المساحة السابقة التي خصصناها للحديث عن ملهم الشباب المصري لثورتهم الملقب بـ"قائد ثورة الشباب"، مع ما قد يرى البعض أنها إسهاب في تمجيد الشخوص، لا الفعل نفسه، فيما يفترض تمجيد مفاهيم الفعل الثوري، ولاسيما أثناء فترة تواصل مساره، ومن ثم يأتي لاحقاً الحديث عن الشخوص. إلا أنني أردت أن تكون تلك المساحة مقدمة، مستقاة من ثورة تم إنجازها بنجاح وكفاءة لتلهم ثورة مازالت في طور التكوين وتتجه نحو تحقيق الإنجاز المنتظر، وهدفي من ذلك محاولة لتجاوز مشكلة بالغة الأهمية، لوحظ مؤخراً تسارعها الدراماتيكي، إذ بسطت سيطرتها على عقول وأفكار مجاميع ينتمون إلى شباب ثورتنا اليمنية العظيمة.
الفكرة العامة تدور حول تفاصيل الصراع القائم على نيل شرف القيادة، ونسب فعل الثورة لفئة دون أخرى، في الوقت الذي تفرز فيه الساحات الملايينية حالات مرضية مستعصية، أفضت إلى إرهاصات بدأت فيها بوادر لانعدام الثقة بالبروز على السطح، عبر التشكيكات المتبادلة التي وصلت حد الاتهام، بل الشتم، وصولاً إلى ما يشبه البدء بمحاولات مستميتة للتمترس الفكري والعصبوي بهدف إقصاء الآخر، والتقليل من شأن الفعل الثوري الذي يقوم به، في الوقت الذي يبجل فيه فعله ويجعل من نفسه محور ارتكاز الثورة.
وتلك أمور يرى البعض أن التغاضي عنها أدعى من كشفها حرصاً على سلامة ونزاهة منجز الفعل الثوري العظيم. غير أن التغاضي عن كشف أعراض المرض البدائية من شأنه حتماً أن يزيد من استفحال السوء، وعندئذ لن تجدي حيل الأطباء نفعاً في مداواته.
(4)
بداية، دعونا، هنا، لا ننسى أن نحيّي قيادات الفعل الثوري، سوى أولئك الذين اختيروا من غيرهم أم أولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الثورة ومتحدثين باسمها، ربما شعوراً منهم بأنهم آباء مؤسسون وأمهات حاضنات لها، يمنعون/ يمنعن أي "دخيل" من الاقتراب منها، ولا يتورعون عن وصفهم بـ"لصوص" الثورة.
وبعد تلك التحية، لا غرو أن ننتقل إلى توجيه اللوم لبعض تلك التصرفات المتخلفة من جهة البعض، وفقاً لسلوكيات طوباوية، تشخصن القضايا، ولاشعورياً ترتكب الجرم الذي تصرخ عالياً ضده وتطالب بإزالته، ذلك حين تتعامل مع الثورة كملكية خاصة. وللتوضيح أكثر، فإن ذلك بالطبع لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن ينتقص من حجم الجهود التي بذلت من قبل البعض على مدى الأشهر الثلاثة الماضية.
إن مسألة اللوم والعتب، بطبيعة الحال، ربما تبدو أمراً مستهجناً وغير لائق، خلال مراحل تخلق الثورة، غير أن النظر إليها يجب أن يكون من منظور "الفعل الثوري" لكونه أحوج ما يكون للتقويم والتوجيه. وإن هذا الدور يلزم وجوباً ثورياً على كل ذي قدرة ممن ينضوون في إطار الثورة، سواء أولئك الذين يقطنون الخيام الثورية، أم غيرهم من القادة السياسيين الذين يبيتون في الغرف المغلقة للتخطيط والتوجيه وتقويم المسار، أم أولئك الذين يقبعون إلى جوار أجهزة الكمبيوتر يتوخون تعزيز ودعم التوجه العام، ينشرون أخبار الثورة وثوارها، ويتحملون عبء المعركة الإعلامية التي تعد الأقوى والأكثر تأثيراً في طريق الثورات السلمية.
على أن الملاحظ أن هذا التكامل البنائي الهام، الذي يتضح توافره شكلاً، لا مضموناً، فإنه ولكي يؤتي أكله مازالت تعوزه أنساق وأطر عملية التنسيق والتنظيم، من خلال قيادة موحدة. وهذا بالفعل ما بدا أنه أشبه بالمستحيل عكساً على اختلافات الرؤى والتوجهات حول بعض التفاصيل الدقيقة.
(5)
إن منظومة الثورة تتكون من نظرية ثورية، وجماهير ثورية تتبناها، وقيادة ثورية تخطط وتوجه. ونحن هنا، إذ توافر لدينا الجزءان الأولان، ربما بكامل مقوماتهما، إلا أن ما يتضح حتى الآن أن الجزء الثالث ما زال بحاجة إلى مزيد من الجهد لصنع قيادات أكثر قدرة ومسؤولية.
على أنه، وإذ كان ولابد أن تتقدم تلك المجاميع رواحل قيادية ثورية بهدف تنظيم وتوجيه الفعل الثوري، وقيادته إلى بر الأمان، مع أقل الخسائر، فإن تلك الحماسة التي تشع من وجوههم لن تكون كافية لوحدها ما لم تترافق مع نضج فكري، بداية، يتبعها قدر من التجربة والممارسة، وهي قطعاً تختلف عن تجربة قيادة المنظمات والمنتديات السياسية وحلقات النقاش الحقوقية والأنشطة الاجتماعية.
وفي أتون القيادة الثورية المطلوبة، يمكننا الحديث، أيضاً، عن عدم كفاية التباهي بأفضلية "قصب السبق" في انطلاق الفعل الثوري، كشهادة لنيل شرف قيادة الملايين والتحدث بأسمائهم، طالما غاب عنها النضج الثوري المتسم بالقدرة على التعامل مع كافة السياقات المؤثرة والأحداث والمستجدات بما فيها القدرة على تجاوز الخلافات الإيديولوجية، السياسية، التنظيمية، والتنسيقية، إلى جانب القدرة على العمل الجماعي والحرص على استخدام الآليات العملية لصناعة واتخاذ القرار.
وفي السياق، ذاته يصبح مثقفو النخبة الاجتماعية المنضووون في إطار الفعل الثوري مجرد "حاطبي ليل" عديمي جدوى، بل وربما معيقين لمسار التوجه الثوري الجماهيري، ما لم يتحلون بقيم الجماعة الثورية، وما لم يتخلون عن أحادية الأيديولوجية منتقلين إلى تحالف ما وراء الإيديولوجيات لقيادة الجماهير بمشاربهم ومستوياتهم المتنوعة والمختلفة.
وإذا كانت الثورة عبارة عن "حدث يغير مسار التاريخ"، بحسب لينين في "المجلدات"، والذي على ضوء ذلك يرى أن "ما قبل الثورة يختلف عما بعدها"، فمن باب أولى أنها حدث يبدأ أولاً بتغيير مسار الأنفس قبل الآفاق. وفقاً للمبدأ الإسلامي المشمول بقوله تعالى «إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم» صدق الله العظيم.
(6)
وفي حالة ثورتنا، فإن بعض تلك القيادات الشبابية التي بلغت سلم الهرم القيادي، لوحظ – وللأسف الشديد - تمترسها وراء فكرة "قصب السبق"، وحجم التأثير الجماهيري لتجعل من نفسها وصية على الساحات بل وملايين الجماهير التي تقطن في منازلها، ثم تهرع كلما وجه إليها نداء النصرة. فتلك أمور تتحول إلى معيقات ثورية، ما لم تكن تلك القيادات (المفترضة) قادرة على تجاوز عصبياتها، سواء الأيديولوجية، أم السياسية، أم حتى عصبويتها النفسية الطوباوية، بلوغاً إلى مرحلة القدرة على التنازل عما يفترض أنها أمور بحاجة للتنازل من أجل الحفاظ على مسار النسق الثوري موحداً، ويبقى الطرف المتنازل هو الطرف الأشجع والأكثر حداثة وعقلانية، وثورية ووطنية، والأقدر على تذليل متطلبات النصر. إن ذلك سيكون بحاجة بداية إلى استيعاب فكرة أن الثورة "حدث يغير مسار التاريخ" وما قبلها يجب أن يختلف عما بعده، وأن التغيير يبدأ أولاً بتغيير ما بالأنفس قبل الآفاق، كما سبق و أشرنا.
ذلك أن الخلافات اللاحقة التي طالت مفهوم الثورة القيمي كثورة جماهيرية شاملة، يمتلك فيها جميع من في الساحات الثورية، حق تشكيل تكتلاتهم دون وصاية فيها لأحد على أحد، ولا قيادة فيها لطرف على آخر، كشفت عن عمق تغول جذرية أحادية، في وقت أعتقد فيه أن الصراعات الأيديولوجية القديمة تحولت إلى ماض بتوحدها على قاعدة سياسية استثنائية تجمع بين ما هو مشترك في النظرية لتعزز القوة العددية في إطار تكاملي متسق هدفه التوحد في مواجهة نظام عائلي استبدادي رهن استمراريته على سياسة التفرق والتشرذم والاختلافات الإيديولوجية والعصبوية المناطقية والقبلية.
إن للثورة الجماهيرية مفهومها الأشمل الذي يتجاوز كل الأحاديات والجزئيات البسيطة المختلف حولها، تلك التي يمكن تجاوزها والتخلي عنها دون أن ينقص ذلك من شأن المتنازل شيئاً. وهي بكونها جماهيرية شعبوية تختلف عن تلك الأحادية التي يقوم بها طرف لوحده. وهو مفهوم تذوب فيه الخلافات الجزئية البسيطة، وبحيث يصبح التبجح بالحديث حول قضايا جزئية على شاكلة: من سبق في النزول إلى الشارع أولاً، أو من نصب أول خيمة، أو من يمتلك القدرة على حفظ الأمن، أو من يمتلك زمام التنظيم ومسك الميكرفون أو الإصرار على فتح أغاني أيوب أو الأناشيد الثورية أو الخلاف حول تسمية الجمعة القادمة، أو حول مسار المظاهرة القادمة أو توحيد أساليب الرد على هجوم النظام وافتراءاته وشتائمه...الخ، يصبح الحديث عن كل ذلك تبجحاً لا معنى له أمام توحد الجميع حول هدف واحد، هو"الشعب يريد إسقاط النظام"، وفق نظرية ثورية واحدة تعتبر الثورة أسلوباً لتغيير المجتمع تغيراً جذرياً في جميع نواحي الحياة.
(7)
وعكس الحالة المصرية الفريدة، ففي حالة الثورة اليمنية، يتجلى غياب ذلك النضج الفكري بظهور من يتحدث باسم الثورة، كزعيم ملهم، متحدثاً عن نفسه بإجلال وتضخم يجعل من قدسية وعظمة المعاني الثورية شيئاً استثنائيا لا قيمة لها إلا حينما يلحقها بإنجازاته.
وفي الحالة اليمنية، أيضاً، وللأسف الشديد ظهر آخرون جعلوا من أنفسهم أوصياء على الثورة، يتحدثون عن أهدافها وتوجهاتها عبر الانتقاص من غيرهم. حملوا وراء ظهورهم إرثاً تاريخياً مشبعاً بالحقد، وهاهم اليوم يستغلون حالة الفوضى الثورية ليجدوها أنسب ما يكون للانتقام. حتى صغار الأحلام تحولوا إلى ظواهر صوتية، ينجرون كالأنعام كلما فرقع المندسون حدثاً، تجدهم يرفعون أصواتهم عالياً دون تمحيص أو ترشيح لما هو حق لهم مقابل ما هو حق لغيرهم..
وفي ساحة الفعل الثوري تجد البعض ممن يسعون إلى تحويل من حولهم إلى أهداف لفرض قناعاتهم في إحداث التحول الحداثي بكل تفاصيله، وهو ما عجز عن القيام به على مدى سنوات سابقة، إلا أنك تجده هنا يحاول إنجازه بضربة واحدة، مستغلاً حالة الفوضى. ومع ذلك فإنهم، وفي الوقت ذاته، يرمون غيرهم ممن يمتلكون قناعات مخالفة لهم بتهم التخلف ومحاولات الاستحواذ على فعل الثورة، معتقدين أنها مساحة تندرج في إطار ملكيتهم الخاصة.
فيما أن الحداثة في معناها الجوهري تعني العقلانية وقبول الرأي الآخر، والتمسك بالحوار، على قاعدة أن لاحق لأحد بفرض الوصاية على أحد، أو إجبار أحد على القيام بفعل ما يتعارض مع مبادئه وقيمه، أياً كانت تقليدية أم تقدمية وحداثية. وإذ يبقى الحوار والإقناع بالحسنى هو الفعل المؤثر في تغيير قناعة هذا أو ذاك، تبقى الساحة للجميع بكافة تفاصيلها دون فرض لون بعينه وإلغاء بقية الألوان أو طلائها بالسواد.
ولنا في الحالة المصرية، مثال آخر. فحينما كانت الثورة في بدايتها، حيث كان ما يزال التخوف قائماً حول إمكانية وأدها كونها ظلت منحصرة فقط على فئة الشباب، حاول المفكر الماركسي عمر الغزاوي العمل على توجيه مسار الثورة بالحديث عن مفهومها، من المنطلق الماركسي - اللينيني الذي يؤمن به، ولتحقيق إنجازها قال: "إن مدخل الثورة يختلف حسب البنية التي يعيش فيها أفراد المجتمع من مستوى وعي ومعيشة، والحريات السياسية والمشاكل الاجتماعية وكذلك بحسب البنية الخارجية والمتمثلة في العلاقات الخارجية مع مكونات المجتمع الدولي، وفي الحالة المصرية فالثورة محصورة في أفراد الشباب، وعليهم بحسب اعتقادي اللجوء إلى مؤسسة قائمة مؤثرة معارضة للنظام في عملية تغيير النظام الدكتاتوري السائد كمؤسسة الجيش كما حدث في حركة الضباط الأحرار أثناء ثورة 1952 أو عن طريق استيعاب وتحريك الشارع واستيعاب الضباط الشباب في الجيش". كما جاء في إحدى مقالاته بتاريخ 3/2/2011، أي بعد أسبوع من انطلاق شعلة الثورة المصرية في 25 فبراير، وقبل 9 أيام من تحقق الإنجاز.
أما هنا، فبعض الأوصياء يتركون عقولهم خارج المعنى الثوري، متمسكين بأحقادهم حين يتحدثون عن خطأ تأييد الفرقة الأولى مدرع وقائدها للثورة السلمية. وهو أمر يتعارض مع فكرة الحداثة التي من أول مبادئها العقلانية والتفكير المنطقي، ذلك مع أنهم يصمون أنفسهم بأنهم حداثيون.
وما لم يكن تصوره ممكناً أن نتحدث اليوم بنفس المنطق الذي كنا نتحدث فيه عن مطالبنا في التخلص من سلوكيات النظام القائم، لنقول: إن ثورتنا بحاجة إلى عقول وطنية راسخة تقدم مصلحة الجميع على المصلحة الشخصية. وما لم فعلينا أن نتبرأ من أولئك الذين يحاولون فرض وصايتهم على الثورة بطريقة جانحة تخدم الطرف الذي ضحّى في سبيل خلاصنا منه أكثر من 150 شهيداً، وجرح الآلاف لإنجاز الهدف ذاته.
حين سئل المهندس المصري الشاب وائل غنيم (30 عاما) عن دوره البطولي في الثورة، رد بتواضع جم "أنا لست بطلا، أنا كنت وراء حاسوبي فقط، أنا مناضل الكيبورد، الأبطال هم الذين نزلوا واستشهدوا في شوارع مصر". وهو الذي لقب وعرف بـ "قائد ثورة الشباب"، لدوره الكبير في اندلاعها.
جاءت تصريحات وائل تلك عقب الإفراج عنه بعد 12 يوماً من اختطافه ليلاً، وإخفائه قسراً كونه أول من دعا إلى الثورة عبر مجموعته في الفيس بوك التي أطلق عليها: مجموعة "كلنا خالد سعيد".
وكان غنيم استقبل في اليوم التالي لخروجه من السجن استقبال الأبطال في ميدان التحرير، وحينها قال للمتظاهرين الذين صفقوا له بحرارة "لست بطلا، بل أنتم الأبطال، فأنتم الذين بقيتم هنا في الميدان".
وبعد خروجه من السجن، ظهر على قناة دريم المصرية قائلاً "إن أجندتنا الوحيدة هي حب مصر". رداً على من يقول إن لديهم أجندات خارجية. ولدى ذكر الشهداء الذين سقطوا خلال المواجهات وعرض صورهم انهار وائل غنيم وأجهش بالبكاء مما أثار مشاعر ملايين العرب والمصريين. واعتذر من أمهات الشهداء قائلاً وهو يبكي: "أريد أن أقول لكل أم ولكل أب فقد ابنه.. أنا آسف لكن هذه ليست غلطتنا.. والله العظيم ليست غلطتنا.. هذه غلطة كل واحد كان ماسكاً بالسلطة ومتشبثاً بها... عايز أمشي". وانسحب من البرنامج..".
وكتب موقع مصراوي على شبكة الإنترنت بعد ساعتين من ظهور غنيم على شاشات التلفزيون: "دموع غنيم حركت الملايين حتى إنها قلبت موقف البعض السياسي حيث تحولوا من موقف المؤيد للبقاء (بقاء مبارك) إلى موقف المعارض".
(2)
ربما يتوجب علينا هنا أن نركز على قضية في غاية الأهمية، لوحظ أن وائل غنيم كان يشدد عليها كثيراً، إذ يصر على عدم نسب البطولة إليه، مع وضوح حجم الفعل الذي قام به. وكان عوضاً عن ذلك، يفضل الحديث عن الأبطال الحقيقيين الموجودين في الشارع. وجاء في تصريحاته أيضاً، لدى خروجه من السجن: ".. أريد أن أقول أيضاً أرجوكم لا تجعلوا مني بطلاً أنا مجرد شخص كان نائماً اثني عشر يوماً والأبطال الحقيقيون هم الموجودون في الشارع وأتمنى أن تلقوا الضوء عليهم. أنا الحمد لله بخير وإن شاء الله سنغيّر بلدنا، وكلنا بيد واحدة لتنظيف بلدنا". وعلى الرغم من تواضعه ذاك، فقد تم اختياره ناطقاً باسم شباب الثورة، دون أن يكون مغرماً بهذا الأمر أو باحثاً عنه.
ولبساطته في الحديث وقربه من قلوب المستمعين، استطاع وائل غنيم أن يتجاوز الكثير من مناضلي مصر الكبار ونخبهم السياسية، دون أن يكون له رغبة للقيام بذلك، دون أن يرسم أو يخطط ليكون القائد الملهم، والصانع الأول للثورة، دون أن يتهم الآخرين بمحاولة السطو على الثورة، لم يكن في أجندته سوى طموح ورغبة واحدة، هي: أن يكون الجميع يداً واحدة لتنظيف أم الدنيا من الديكتاتور، حتى ينعم الشعب المصري بمستقبل أفضل.
وفي مارس 2011 تم اختياره لنيل جائزة كيندي للشجاعة. كما اختارته مجلة التايم ليكون في قائمة أكثر 100 شخصية تأثيراً حول العالم. وغنيم هو مدير التسويق في "جوجل" الشرق الأوسط، وحاصل على شهادة البكالوريوس في هندسة الحاسبات من جامعة القاهرة، والماجستير في إدارة الأعمال من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة. على أنه في نفس الوقت يحمل أفكاراً تقدمية، إصلاحية، وحداثية، يؤمن بالحوار منهجاً لحل القضايا على قاعدة احترام الرأي الآخر، كون الاختلاف "سنة الله في الكون". وفي إحدى مقالاته كتب: "..ولعل تطرف الفكر من الأمور التي يستحيل التخلص منها، وذلك لأن سنة الله في الكون الاختلاف، ولأن اختلاف الثقافات والبيئات والتربية يؤدي لاختلاف الحكم على الأمور وبناء القناعات". ويواصل ".. بل لكل وجهة نظر نسمعها وللجميع الحق في اختيار القناعة التي يريد السير عليها. وقديما قال الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ .. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
(3)
إن تلك المساحة السابقة التي خصصناها للحديث عن ملهم الشباب المصري لثورتهم الملقب بـ"قائد ثورة الشباب"، مع ما قد يرى البعض أنها إسهاب في تمجيد الشخوص، لا الفعل نفسه، فيما يفترض تمجيد مفاهيم الفعل الثوري، ولاسيما أثناء فترة تواصل مساره، ومن ثم يأتي لاحقاً الحديث عن الشخوص. إلا أنني أردت أن تكون تلك المساحة مقدمة، مستقاة من ثورة تم إنجازها بنجاح وكفاءة لتلهم ثورة مازالت في طور التكوين وتتجه نحو تحقيق الإنجاز المنتظر، وهدفي من ذلك محاولة لتجاوز مشكلة بالغة الأهمية، لوحظ مؤخراً تسارعها الدراماتيكي، إذ بسطت سيطرتها على عقول وأفكار مجاميع ينتمون إلى شباب ثورتنا اليمنية العظيمة.
الفكرة العامة تدور حول تفاصيل الصراع القائم على نيل شرف القيادة، ونسب فعل الثورة لفئة دون أخرى، في الوقت الذي تفرز فيه الساحات الملايينية حالات مرضية مستعصية، أفضت إلى إرهاصات بدأت فيها بوادر لانعدام الثقة بالبروز على السطح، عبر التشكيكات المتبادلة التي وصلت حد الاتهام، بل الشتم، وصولاً إلى ما يشبه البدء بمحاولات مستميتة للتمترس الفكري والعصبوي بهدف إقصاء الآخر، والتقليل من شأن الفعل الثوري الذي يقوم به، في الوقت الذي يبجل فيه فعله ويجعل من نفسه محور ارتكاز الثورة.
وتلك أمور يرى البعض أن التغاضي عنها أدعى من كشفها حرصاً على سلامة ونزاهة منجز الفعل الثوري العظيم. غير أن التغاضي عن كشف أعراض المرض البدائية من شأنه حتماً أن يزيد من استفحال السوء، وعندئذ لن تجدي حيل الأطباء نفعاً في مداواته.
(4)
بداية، دعونا، هنا، لا ننسى أن نحيّي قيادات الفعل الثوري، سوى أولئك الذين اختيروا من غيرهم أم أولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الثورة ومتحدثين باسمها، ربما شعوراً منهم بأنهم آباء مؤسسون وأمهات حاضنات لها، يمنعون/ يمنعن أي "دخيل" من الاقتراب منها، ولا يتورعون عن وصفهم بـ"لصوص" الثورة.
وبعد تلك التحية، لا غرو أن ننتقل إلى توجيه اللوم لبعض تلك التصرفات المتخلفة من جهة البعض، وفقاً لسلوكيات طوباوية، تشخصن القضايا، ولاشعورياً ترتكب الجرم الذي تصرخ عالياً ضده وتطالب بإزالته، ذلك حين تتعامل مع الثورة كملكية خاصة. وللتوضيح أكثر، فإن ذلك بالطبع لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن ينتقص من حجم الجهود التي بذلت من قبل البعض على مدى الأشهر الثلاثة الماضية.
إن مسألة اللوم والعتب، بطبيعة الحال، ربما تبدو أمراً مستهجناً وغير لائق، خلال مراحل تخلق الثورة، غير أن النظر إليها يجب أن يكون من منظور "الفعل الثوري" لكونه أحوج ما يكون للتقويم والتوجيه. وإن هذا الدور يلزم وجوباً ثورياً على كل ذي قدرة ممن ينضوون في إطار الثورة، سواء أولئك الذين يقطنون الخيام الثورية، أم غيرهم من القادة السياسيين الذين يبيتون في الغرف المغلقة للتخطيط والتوجيه وتقويم المسار، أم أولئك الذين يقبعون إلى جوار أجهزة الكمبيوتر يتوخون تعزيز ودعم التوجه العام، ينشرون أخبار الثورة وثوارها، ويتحملون عبء المعركة الإعلامية التي تعد الأقوى والأكثر تأثيراً في طريق الثورات السلمية.
على أن الملاحظ أن هذا التكامل البنائي الهام، الذي يتضح توافره شكلاً، لا مضموناً، فإنه ولكي يؤتي أكله مازالت تعوزه أنساق وأطر عملية التنسيق والتنظيم، من خلال قيادة موحدة. وهذا بالفعل ما بدا أنه أشبه بالمستحيل عكساً على اختلافات الرؤى والتوجهات حول بعض التفاصيل الدقيقة.
(5)
إن منظومة الثورة تتكون من نظرية ثورية، وجماهير ثورية تتبناها، وقيادة ثورية تخطط وتوجه. ونحن هنا، إذ توافر لدينا الجزءان الأولان، ربما بكامل مقوماتهما، إلا أن ما يتضح حتى الآن أن الجزء الثالث ما زال بحاجة إلى مزيد من الجهد لصنع قيادات أكثر قدرة ومسؤولية.
على أنه، وإذ كان ولابد أن تتقدم تلك المجاميع رواحل قيادية ثورية بهدف تنظيم وتوجيه الفعل الثوري، وقيادته إلى بر الأمان، مع أقل الخسائر، فإن تلك الحماسة التي تشع من وجوههم لن تكون كافية لوحدها ما لم تترافق مع نضج فكري، بداية، يتبعها قدر من التجربة والممارسة، وهي قطعاً تختلف عن تجربة قيادة المنظمات والمنتديات السياسية وحلقات النقاش الحقوقية والأنشطة الاجتماعية.
وفي أتون القيادة الثورية المطلوبة، يمكننا الحديث، أيضاً، عن عدم كفاية التباهي بأفضلية "قصب السبق" في انطلاق الفعل الثوري، كشهادة لنيل شرف قيادة الملايين والتحدث بأسمائهم، طالما غاب عنها النضج الثوري المتسم بالقدرة على التعامل مع كافة السياقات المؤثرة والأحداث والمستجدات بما فيها القدرة على تجاوز الخلافات الإيديولوجية، السياسية، التنظيمية، والتنسيقية، إلى جانب القدرة على العمل الجماعي والحرص على استخدام الآليات العملية لصناعة واتخاذ القرار.
وفي السياق، ذاته يصبح مثقفو النخبة الاجتماعية المنضووون في إطار الفعل الثوري مجرد "حاطبي ليل" عديمي جدوى، بل وربما معيقين لمسار التوجه الثوري الجماهيري، ما لم يتحلون بقيم الجماعة الثورية، وما لم يتخلون عن أحادية الأيديولوجية منتقلين إلى تحالف ما وراء الإيديولوجيات لقيادة الجماهير بمشاربهم ومستوياتهم المتنوعة والمختلفة.
وإذا كانت الثورة عبارة عن "حدث يغير مسار التاريخ"، بحسب لينين في "المجلدات"، والذي على ضوء ذلك يرى أن "ما قبل الثورة يختلف عما بعدها"، فمن باب أولى أنها حدث يبدأ أولاً بتغيير مسار الأنفس قبل الآفاق. وفقاً للمبدأ الإسلامي المشمول بقوله تعالى «إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم» صدق الله العظيم.
(6)
وفي حالة ثورتنا، فإن بعض تلك القيادات الشبابية التي بلغت سلم الهرم القيادي، لوحظ – وللأسف الشديد - تمترسها وراء فكرة "قصب السبق"، وحجم التأثير الجماهيري لتجعل من نفسها وصية على الساحات بل وملايين الجماهير التي تقطن في منازلها، ثم تهرع كلما وجه إليها نداء النصرة. فتلك أمور تتحول إلى معيقات ثورية، ما لم تكن تلك القيادات (المفترضة) قادرة على تجاوز عصبياتها، سواء الأيديولوجية، أم السياسية، أم حتى عصبويتها النفسية الطوباوية، بلوغاً إلى مرحلة القدرة على التنازل عما يفترض أنها أمور بحاجة للتنازل من أجل الحفاظ على مسار النسق الثوري موحداً، ويبقى الطرف المتنازل هو الطرف الأشجع والأكثر حداثة وعقلانية، وثورية ووطنية، والأقدر على تذليل متطلبات النصر. إن ذلك سيكون بحاجة بداية إلى استيعاب فكرة أن الثورة "حدث يغير مسار التاريخ" وما قبلها يجب أن يختلف عما بعده، وأن التغيير يبدأ أولاً بتغيير ما بالأنفس قبل الآفاق، كما سبق و أشرنا.
ذلك أن الخلافات اللاحقة التي طالت مفهوم الثورة القيمي كثورة جماهيرية شاملة، يمتلك فيها جميع من في الساحات الثورية، حق تشكيل تكتلاتهم دون وصاية فيها لأحد على أحد، ولا قيادة فيها لطرف على آخر، كشفت عن عمق تغول جذرية أحادية، في وقت أعتقد فيه أن الصراعات الأيديولوجية القديمة تحولت إلى ماض بتوحدها على قاعدة سياسية استثنائية تجمع بين ما هو مشترك في النظرية لتعزز القوة العددية في إطار تكاملي متسق هدفه التوحد في مواجهة نظام عائلي استبدادي رهن استمراريته على سياسة التفرق والتشرذم والاختلافات الإيديولوجية والعصبوية المناطقية والقبلية.
إن للثورة الجماهيرية مفهومها الأشمل الذي يتجاوز كل الأحاديات والجزئيات البسيطة المختلف حولها، تلك التي يمكن تجاوزها والتخلي عنها دون أن ينقص ذلك من شأن المتنازل شيئاً. وهي بكونها جماهيرية شعبوية تختلف عن تلك الأحادية التي يقوم بها طرف لوحده. وهو مفهوم تذوب فيه الخلافات الجزئية البسيطة، وبحيث يصبح التبجح بالحديث حول قضايا جزئية على شاكلة: من سبق في النزول إلى الشارع أولاً، أو من نصب أول خيمة، أو من يمتلك القدرة على حفظ الأمن، أو من يمتلك زمام التنظيم ومسك الميكرفون أو الإصرار على فتح أغاني أيوب أو الأناشيد الثورية أو الخلاف حول تسمية الجمعة القادمة، أو حول مسار المظاهرة القادمة أو توحيد أساليب الرد على هجوم النظام وافتراءاته وشتائمه...الخ، يصبح الحديث عن كل ذلك تبجحاً لا معنى له أمام توحد الجميع حول هدف واحد، هو"الشعب يريد إسقاط النظام"، وفق نظرية ثورية واحدة تعتبر الثورة أسلوباً لتغيير المجتمع تغيراً جذرياً في جميع نواحي الحياة.
(7)
وعكس الحالة المصرية الفريدة، ففي حالة الثورة اليمنية، يتجلى غياب ذلك النضج الفكري بظهور من يتحدث باسم الثورة، كزعيم ملهم، متحدثاً عن نفسه بإجلال وتضخم يجعل من قدسية وعظمة المعاني الثورية شيئاً استثنائيا لا قيمة لها إلا حينما يلحقها بإنجازاته.
وفي الحالة اليمنية، أيضاً، وللأسف الشديد ظهر آخرون جعلوا من أنفسهم أوصياء على الثورة، يتحدثون عن أهدافها وتوجهاتها عبر الانتقاص من غيرهم. حملوا وراء ظهورهم إرثاً تاريخياً مشبعاً بالحقد، وهاهم اليوم يستغلون حالة الفوضى الثورية ليجدوها أنسب ما يكون للانتقام. حتى صغار الأحلام تحولوا إلى ظواهر صوتية، ينجرون كالأنعام كلما فرقع المندسون حدثاً، تجدهم يرفعون أصواتهم عالياً دون تمحيص أو ترشيح لما هو حق لهم مقابل ما هو حق لغيرهم..
وفي ساحة الفعل الثوري تجد البعض ممن يسعون إلى تحويل من حولهم إلى أهداف لفرض قناعاتهم في إحداث التحول الحداثي بكل تفاصيله، وهو ما عجز عن القيام به على مدى سنوات سابقة، إلا أنك تجده هنا يحاول إنجازه بضربة واحدة، مستغلاً حالة الفوضى. ومع ذلك فإنهم، وفي الوقت ذاته، يرمون غيرهم ممن يمتلكون قناعات مخالفة لهم بتهم التخلف ومحاولات الاستحواذ على فعل الثورة، معتقدين أنها مساحة تندرج في إطار ملكيتهم الخاصة.
فيما أن الحداثة في معناها الجوهري تعني العقلانية وقبول الرأي الآخر، والتمسك بالحوار، على قاعدة أن لاحق لأحد بفرض الوصاية على أحد، أو إجبار أحد على القيام بفعل ما يتعارض مع مبادئه وقيمه، أياً كانت تقليدية أم تقدمية وحداثية. وإذ يبقى الحوار والإقناع بالحسنى هو الفعل المؤثر في تغيير قناعة هذا أو ذاك، تبقى الساحة للجميع بكافة تفاصيلها دون فرض لون بعينه وإلغاء بقية الألوان أو طلائها بالسواد.
ولنا في الحالة المصرية، مثال آخر. فحينما كانت الثورة في بدايتها، حيث كان ما يزال التخوف قائماً حول إمكانية وأدها كونها ظلت منحصرة فقط على فئة الشباب، حاول المفكر الماركسي عمر الغزاوي العمل على توجيه مسار الثورة بالحديث عن مفهومها، من المنطلق الماركسي - اللينيني الذي يؤمن به، ولتحقيق إنجازها قال: "إن مدخل الثورة يختلف حسب البنية التي يعيش فيها أفراد المجتمع من مستوى وعي ومعيشة، والحريات السياسية والمشاكل الاجتماعية وكذلك بحسب البنية الخارجية والمتمثلة في العلاقات الخارجية مع مكونات المجتمع الدولي، وفي الحالة المصرية فالثورة محصورة في أفراد الشباب، وعليهم بحسب اعتقادي اللجوء إلى مؤسسة قائمة مؤثرة معارضة للنظام في عملية تغيير النظام الدكتاتوري السائد كمؤسسة الجيش كما حدث في حركة الضباط الأحرار أثناء ثورة 1952 أو عن طريق استيعاب وتحريك الشارع واستيعاب الضباط الشباب في الجيش". كما جاء في إحدى مقالاته بتاريخ 3/2/2011، أي بعد أسبوع من انطلاق شعلة الثورة المصرية في 25 فبراير، وقبل 9 أيام من تحقق الإنجاز.
أما هنا، فبعض الأوصياء يتركون عقولهم خارج المعنى الثوري، متمسكين بأحقادهم حين يتحدثون عن خطأ تأييد الفرقة الأولى مدرع وقائدها للثورة السلمية. وهو أمر يتعارض مع فكرة الحداثة التي من أول مبادئها العقلانية والتفكير المنطقي، ذلك مع أنهم يصمون أنفسهم بأنهم حداثيون.
وما لم يكن تصوره ممكناً أن نتحدث اليوم بنفس المنطق الذي كنا نتحدث فيه عن مطالبنا في التخلص من سلوكيات النظام القائم، لنقول: إن ثورتنا بحاجة إلى عقول وطنية راسخة تقدم مصلحة الجميع على المصلحة الشخصية. وما لم فعلينا أن نتبرأ من أولئك الذين يحاولون فرض وصايتهم على الثورة بطريقة جانحة تخدم الطرف الذي ضحّى في سبيل خلاصنا منه أكثر من 150 شهيداً، وجرح الآلاف لإنجاز الهدف ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق