الأربعاء، 22 يونيو 2011

ما يمكن أن يكون خلاصاً من الانهيار الكبير


ثمة عواقب غير سارة في المشهد السياسي جلبتها تعرجات السياسة الصماء لكنها أيضا قد تجلب الانعتاق في لحظة ما يكون قد بلغ منا اليأس مبلغه


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال

حقاً لقد أنجزت الثورة اليمنية الكثير من مقاصدها، ولم تتبق سوى الخاتمة. ولكثير ما أعجزت الخاتمة، ليس أفضل وأبدع المؤلفين والكتاب والأدباء والمخرجين فحسب، بل دهاه وعباقرة السياسة أيضا.


وإذا كانت الخاتمة عند غير الساسة قد تعني في الغالب نهاية الشيء، فإنها عند هؤلاء قد تعني العكس تماما. إذ ليس ثمة نهاية أبداً للفعل السياسي، بل هناك نهاية لمرحلة ما، لتبدأ مرحلة أخرى. وإذن فالخاتمة هنا تعني في واقع الأمر: البداية الحقيقية للتحول من مرحلة الحدث أو الفعل السياسي (وهو هنا الفعل الثوري) إلى مرحلة ما بعده، والتي غالباً ما يتم تشبيهها بـ: مرحلة جني الثمار. فإما أن يكون الحصاد حلواً وإما أن يكون مراً. وكلا النتيجتان تعتمدان على ما سار عليه الفعل تخطيطاً وتنظيماً، بل ومراعاة لعوامل الزمان والمكان وملامسة الاحتياجات الطبيعية.


والآن، لقد أنجزت الثورة الكثير، فيما ما زلنا جميعاً نترقب الخاتمة. وعليه سيبدو التريث والتأني للتفكير بخاتمة مناسبة للفعل السياسي موجباً عند الساسة أكثر من غيرهم لتأكيد تحقق الأهداف وتثبيت إنجازات المرحلة السابقة (المخاض الثوري). على أن الأمر هنا سيكون متلازماً بالضرورة مع الحرص على توجيه خط الثورة ووضع اللمسات الأولى لمعالم المرحلة القادمة. إنها معالم الدولة الحديثة التي ثار من أجلها الشعب وقدم أغلى ما لديه في سبيلها.

الانفجار الذي رحّل صالح، حمل معه شظايا عدة 
لخمسة أشهر خلت هتفنا في وجهه: ارحل. لكنه رفض أن يسمعنا، ولم يلب نداء أصحاب الأرض الأصليين، وملاك السلطة الحقيقيين، بل صرخ في وجههم: لن أرحل. أرحل إلى أين..! أرحلوا أنتم..!


اعتبر كل شيء في هذا البلد –التي كانت توصف بأنها سعيدة- ملكه وأسرته، وكل ما دونهم مجرد عملاء ومتآمرين. وطوال الـ33 سنة التي سمحنا له بالبقاء فيها حاكماً علينا، جوعنا ليتسنى له أن يستولي على ثرواتنا، ويا لتعاستنا حين أفلح بأن يشتري بالقليل من أموالنا بعضاً منا. ومع أنه لم يقم بأكثر من إعادة بعض ما نهب لبعض من الشعب، إلا أنه نجح في الإبقاء على أولئك لمواصلة حمل صورته تحت حرارة الشمس كمقدس لا يمكن التفكير بإسقاطه إلى الأرض. ولو أنهم أدركوا أن لم يكن بينهم وبين أن يستعيدوا كامل حقهم سوى أن يصبروا أياماً قليلة لفعلوا..


أيام قليلة تفصلنا حتى يكتمل نصف عام على انطلاق الثورة. وحقاً، لقد أنجزنا الكثير، لكن الخاتمة، التي ما زلنا بانتظارها، تضعنا أمام مفترق طرق عدة. احترنا جميعا، ومن حولنا العالم، إذ تهنا وعجزنا أيها نسلك..!


بطريقة مفاجئة، لم تكن في حسباننا، رحل من كان يرفض الرحيل. لكن ذلك الانفجار المجهول الذي أجبره على الرحيل، عوضاً عن أن يفتح لنا الطريق، فتح أمامنا مفترق طرق عدة: فإلى الواجهة قذف الانفجار بالنجل الأكبر للرئيس -والذي كان أبوه تعهد أنه لن يورثه- ليرثنا عنوة، ويبسط (يسكن) بجسده وجيشه على "بيضة" السلطة خوفاً على ضياع تركة أبيه. فإما عودته، وإما أخذ ما يعتبره حقه في التركة. وثمة شظية أخرى رمت بنائب الرئيس -الذي يفترض أن يخلفه دستورياً– في إحداثيات أخرى ومتغير جديد. ولكن يا للحسرة، ما زال يفضل مواصلة القيام بدور "الكمبارس" بعد أن ألفه وأستحوذ عليه.


وفي الطرف المقابل، مست الشظايا جسد أحزاب المعارضة، التي يبدو أنها لا ترى من السياسة ما هو أبعد من قاعدة "السلامة"، والإبقاء على "شعرة معاوية" -تحت رهبة الخوف من أن تركها أشبه بنزع صاعق القنبلة- لتواصل القيام بدور الـ"بيج براذر" أو بالأحرى "المهتاما غاندي" وإن بنسخة عصرية محدثة.


وباتجاه هذا الطرف الآخر أيضاً، ثمة شظايا مباغتة طالت ائتلافات شباب الثورة. وإذا بهم -في الوقت الذي كانوا اعتقدوا فيه أن الانفجار فتح باباً واسعاً أمامهم، وليس ثمة ما يمنعهم من دخوله سوى أن يرغبوا بذلك- يواجهون ستاراً وحاجزاً خفياً يحول بينهم وبين تحقيق تلك الرغبة.


وفي الوسط، ثمة شظايا خلقت بقع سوداء أمام المجتمع الدولي، ورسمت هالة ضبابية على موقف دول الخليج. وإذ اعتقد الوسطاء الغربيون أن الحل لإنقاذ مصالحهم، من بين يد الحليف المتقلب، بات اليوم أقرب إليهم من أي وقت مضى، إذا بكل تلك المياه الضحلة (مواقف الأطراف السياسية الداخلية، لاسيما جيش الورثة) تصعد من قعر البركة الراكدة لتشوش عليهم الرؤية، وتعيق تحركاتهم.

أحجار الرئيس التي رمى بها في الطريق
إذن، تكشف لنا تعرجات البيئة السياسية أن ما يمكن أن نراه أفقاً جديداً للحل، يمكن أن يكون سراباً في لحظة ما. وفي اليمن العصي على الفهم أصلا، قد يبدو ذلك أكثر شبهاً بثقب كوني أسود يبتلع كل ما حوله. حتى ليكاد للمتابع الجزم على هذا النحو: أن الأمر في اليمن سيان. وليس ثمة ما يمكن اعتباره أفقاً جديداً، سواءً كان محور المشكلة اليمنية موجوداً في الداخل، أم رمت به الأقدار –بدون إشعار- خارج الحدود لينام في غرفة العناية المركزة، طالما ظلت تلك الأحجار الكثيرة والكبيرة، التي ظل يرمي بها في الطريق على مدى ثلاثة عقود ونيف، تقوم بالمهمة التي رميت لأجلها.


إنها أحجار سائلة في نظر الخصوم، لكنها "كريمة" تعمل عمل السحر في نظره وأتباعه. وتلك ترتيبات وإجراءات مسبقة حرص على التخطيط لها ليس فقط ليبسط نفوذه على الحياة العامة والسياسية ماداً رجليه دون أن يبالي، بل لمثل هذا اليوم الأسود أيضا.


وتلك الأحجار على شاكلة: إسناد قيادة الجيش والأمن العام والسري للأسرة، بناء حزب خاص يعتمد أساسا على رئيسه، ويجب أن يكون عاجزاً لأن يتحول إلى حزب حقيقي بدونه. نائب بحركة محدودة جداً، يتوجب عليه أن يألف وتسيطر عليه فكرة كونه نائبا ضعيفاً منعدم التأثير على الأحداث، زائد على الحياة السياسية، وأكثر ما يمكن عمله عند تعرضه للضغوط: الانكفاء والتهديد بمغادرة العاصمة. ودستور بمعاني فضفاضة تمنحه قدرة التلاعب بتفسير نصوصه بالطريقة التي تناسبه حينما يرغب هو بذلك. حليف دولي يمسك بيده فزاعات إرهاب يمنحها الحياة متى ما أراد لينزعها متى شاء..الخ


ووسط ذلك كله كان لابد أن ترمى مجموعة أخرى من الأحجار وتوضع في طريق أهم مؤسستين مركزيتين مؤثرتين في أي دولة: المؤسسة التمثيلية (مجلس النواب والمجالس المحلية)، والمؤسسة الحزبية (الأحزاب السياسية). لإضعافها وجعلها في الهامش حتى يتسنى السيطرة على الحياة العامة بكافة تفاصيلها دون أن يتعرض الزعيم أو سدنة النظام القائم لأي اعتراض يتسم بالقوة يكون من شأنه عرقلة رغباته وأحلامه.


وفيما تعتبر المؤسسة العسكرية هي المؤسسة المركزية الثالثة ضمن المؤسسات المهمة والمؤثرة في أي دولة. فقد تم تشويه هذه المؤسسة، بتقوية الأجزاء الخاصة والتابعة في ولائها للرئيس نفسه عبر تعيين أبنائه وأبناء أخيه وأشقائه على رأس أهمها ليعمل بعد ذلك على تعزيز القوة الضاربة لتلك الأجزاء فقط على حساب إضعاف بقية الأجزاء التي في الجيش بداية، وتاليا على حساب تهميش وإضعاف بقية المؤسستين المركزيتين الأخيرتين.


الأمر الذي، وبحسب رالف م. غولدمان، مؤلف كتاب "من الحرب إلى سياسة الأحزاب..التحول الحرج إلى السيطرة المدنية"، يبقي على فرص نشوب حرب أهلية قائماً بأكثر توقعية. إذ أنه ولكي تتخلص أي دولة من الحروب الأهلية، كان يفترض أن توضع المؤسسة العسكرية في المرتبة رقم (3) من حيث ترتيب الأهمية والتركيز ومنحها القوة التأثيرية.


حيث يقول المؤلف أنه وفي مرحلة معينة من مراحل العملية التطويرية، تعبر هذه المؤسسات الثلاث بنجاح ما أسماها بـ: مرحلة "تحول حرجة" في علاقتها بعضها ببعض. ونتيجة لذلك "يعاد تنظيم تأثير هذه المؤسسات الثلاث. فالمؤسسة العسكرية تحتل تبعا لذلك مرتبة ثانوية بعد أن كانت تحتل المرتبة العليا، أما نظام الأحزاب فإنه يحتل المرتبة العليا بعد أن كان يحتل مرتبة ثانوية. وهكذا تتحقق سيادة المجتمع المدني على المؤسسة العسكرية".

في السياسة.. ثمة أمل في الأفق البعيد
لكن، ومع ذلك كله، فتعرجات السياسة أيضاً وتقلباتها، تلك التي تضرب بيدنا في السراب كلما اعتقدنا أننا أقرب من الخاتمة المرجوة، هي نفسها تلك التعرجات والتقلبات يمكنها أن تمنحنا أملاً ببلوغ الخاتمة التي نسعى إليها. وربما يكون ذلك في اللحظة ذاتها التي نعتقد فيها أن ما نراه في الأفق ليس سوى سراب.


ما يتعين علينا فقط، أنه وإلى جانب ضرورة توخي الحذر عند المنعطفات الكبيرة، علينا أيضاً أن لا ننساق مع المثاليات الزائدة، في الوقت الذي لا ننشغل فيه بالضجيج والصراخ المرتفع عن التركيز الفعال واستلهام الحكمة، التي وحتى يتسنى لنا بلوغها سيتعين علينا الإمعان في تتبع منتهى الأفق البعيد، فهناك قد نجد ما يمكن أن نبني عليه حياة جديدة لأمل جديد بعد أن كاد ينتكس ويذوي في لحظة يأس داخل أرواحنا المرهقة عطفا على استبداد وسواس قهري زرعته آلة إعلامية تمارس التضليل في أرض خصبة تضج برأي عام يتسم بالغوغائية القاتلة.


بكل سهولة يمكننا أن ننظر إلى النصف الأعلى من الكأس لنقلب المعادلة ضداً على ما سبق ونحول الشظايا الجارحة إلى بلسم والأحجار التي تسود طريقنا إلى لآلئ مضيئة تنير لنا الطريق.


بدون تفاصيل، هكذا علينا بداية أن ننظر إلى الأمور بشكل إيجابي:
- الجيش الذي يتسنمه أفراد الأسرة، تقوده عقول شابة، ضحلة الخبرة، ولم تختبر في الملمات والدروب العصية. ما سيعني أنها قد تحبك خاتمتها بكلتا يديها.


- أجزاء الجيش الأخرى، تلك التي همشت في السابق، تشكل محور توازن رعب بخبرتها وقدراتها التخطيطية العسكرية، ما سيجعلها أقدر على إفشال أي توجه عنف يمكن أن تبدأه القوة الأسرية المتضعضعة أساساً بسبب غياب الجزء الأهم من جسدها، وهو الرأس.


- النائب الذي حددت مهامه وأضعفت شخصيته بعمد، إن لم ينتهز فرصة استعادة شخصيته المشوهة أمام الشعب، فإن تصرفات الأولاد الهوجاء المتزايدة، من شأنها أن تجبره على أحد أمرين. إما أن يتخلص من عقدته في لحظة ما يبلغ فيها نقطة "التحول الحرج" لاسيما إن وجد دعما شعبيا وسنداً دولياً. وإما أن يرديه المارد الذي يسيطر على أعماقه، للتخلي وترك مهامه. وهنا ستعمل تلك الصفات التي غرست فيه عنوة عمل الضد حين يترك مهامه مغادراً إلى مسقط رأسه.


- الحزب الحاكم الضعيف الذي تعمد إبقاءه ضعيفاً، هو الآخر، سينعكس ضعفه ليعمل كسلاح مضاد، بالعجز عن اتخاذ ذلك القرار الأنسب الذي يفترض أن يجعله حريصاً على عدم انهياره كلياً، والتفكير بالإبقاء على نفسه حزباً مؤثراً في المرحلة القادمة الجديدة والحتمية.


- إلى جانب ذلك كله، فثمة عامل آخر مهم، هو: تحركات المجتمع الدولي الحريص على نقل السلطة بشكل سلمي وسريع. حتى وإن كان ذلك نابعاً بالأساس من حرصه على ألا تتضرر مصالحه في حال نشوب حرب أهلية.


- وبالنسبة لأحزاب المعارضة، فمن المهم النظر إلى أن تخوفاتها من سحب صاعق القنبلة، هو بالأساس لمصلحة بلوغ تلك التحولات بطريقة أقل كلقة.


- وبالمثل، فرهبة شباب الثورة جراء ضعف خبرتهم وحيلتهم السياسية، وخشيتهم من الانتقال إلى الخطوة التالية لعدم قدرتهم – ربما - على التنبؤ بعواقب ما سيقدمون عليه (تشكيل المجلس الانتقالي)، هو الآخر يصب في مصلحة بلوغ التحول المطلوب دون عواقب قد تؤخر الإنجاز.


وفي المجمل: علينا أن نؤمن أن أحد تلك التوقعات إن لم يكن مجموعة منها في إطار تكاملي، ستعمل عملها عاجلاً أم آجلاً. خصوصاً أن البلد يتجه بشكل جلي ومخيف نحو الانهيار الكلي. سياسياًً، اقتصادياً، اجتماعياً.. ما يعني أن التحول سيكون حتمياً في أي لحظة.


على أن طبيعة هذا التحول وشكله المستقبلي من الصعب التنبؤ به. وهو كما قد يتكهن البعض أنه لن يكون في نهاية المطاف إلا لمصلحة البلد، إلا أن تكهنات أخرى تعتقد أنه قد يكون توجهاً فوضوياً، لن يستطيع أحد السيطرة عليه، ما لم تقف جميع الأطراف المؤثرة على قدر من المسئولية من خلال عقد صفقة سياسية، لا يخسر فيها أحد.


صفقة تكسب فيها الثورة بتحقيق أهم أهدافها وفقاً لأولوياتها الأكثر أهمية مع التنازل عن بعض المثاليات بالتمسك بحديث "الشرعية الثورية" كمقدس. في الوقت الذي يمكن أن يحصل فيه الآخرون على ما يمكن أن يسمى في الصفقات التجارية بـ "تجنب الخسارة الكلية".


وهنا علينا أن نختتم بهذه العبارات الذهبية التي تخاطب طرفي النزاع بحقائق أكد عليها غولدمان، مؤلف الكتاب –سابق الذكر:


"وكما سيؤكد لنا تاريخ أي شعب من الشعوب، فإنه ليس من السهل إيجاد قواعد يتوصل بموجبها إلى قرارات يجمع عليها الشعب. إن قواعد اتخاذ القرار الأولية توضع عادة في مكانها المناسب في ظروف نشوء الحرب أو الثورة أو اندلاع التمرد، حيث تكون النخب منقسمة فيما بينها انقساما حادا، وحيث يبلغ الشك بخصوص دوافع كل طرف من الأطراف أعلى درجاته. وتتسبب ظروف الانقسام هذه في الانكفاء المتكرر إلى الحرب وتكتيكات العنف الأخرى. ولنلاحظ كم من الثورات "أكلت أبناءها" وكم من الإمبراطوريات تحللت بسبب فشل قادتها في تحديثها لتواكب عصرها بحيث تستطيع قواعد اتخاذ القرار الجماعي تلبية طموحات الأجيال الجديدة، أو تحقيق آمال الشعوب التي هزمت حديثا".


ويضيف "إن العنف يفرخ العنف. والمؤسسات السياسية القوية والفعالة هي وحدها التي تبدو قادرة على لجم مثل هذه النزاعات واستبدالها بإجراءات تقود إلى الثقة ونبذ العنف والتكامل السياسي. إن لدى بعض المؤسسات السياسية قدرة كبيرة أكثر من غيرها، على وضع حدود لنزاع النخب العنيف، وتقليص حجم الشكوك والأخطار، وما تتسبب به النزاعات التي تحدث من خسارات". 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق