الأحد، 15 مايو 2011

الأشقاء في الخليج.. أتركوا "حاوي" الثعابين حتى لا يطالكم "سمه"


عبد الحكيم هلالa.hakeem72@gmail.com
الذي ظن - من أشقائنا الخليجين - أن "علي صالح" كان جاداً في مفاوضاته معهم على تسليم السلطة، بطريقة سلمية وآمنة، فربما يتوجب عليه من الآن التخلي عن التعامل مع شخص مثله بطريقة ساذجة تسودها "حسن النوايا".

وإذا لم تكن تقلبات ومناورات "صالح" السمجة، الأخيرة، كافية لفرض تغييرات هامة وجوهرية على موقف صناع القرار الخليجيين – من أصحاب النوايا الحسنة كما نعتقد – باتجاه إجباره على نقل السلطة بطرق سلمية وآمنة، عبر الانتقال إلى استخدام وسائل ضغط أخرى غير المفاوضات، فليس ثمة من بد لأن ندعوهم للتوقف فوراً عن مواصلة التورط في شئوننا الداخلية بطريقة تمنح "الديكتاتور" وقتاً إضافياً للعبث والتلاعب من أجل تنفيذ مخططاته الإجرامية، الدموية للقضاء على ثورتنا الشعبية بطبيعتها السلمية.

وما لم يتم اتخاذ مواقف جدية صارمة، ضده، أو – كأضعف الأيمان - التوقف عن منحه الشرعية ومزيد من الوقت للقتل وسفك المزيد من دماء الشعب اليمني الزكية، فسيتورط أشقائنا في متاعب جمة بتعاملهم مع "مخادع"، يتلون كل دقيقة كـ"الحرباء". ولعل ما يأتي في مقدمة تلك المتاعب، ربما، مواصلة استخدامهم كغطاء لارتكاب تلك الجرائم التي سارع إلى استئنافها، وبات ينفذها كل يوم وبوتيرة عالية أكثر من قبل، سيما بعد أن ضمن توريط أشقائنا الخليجيين بمنحه غطاءاً شرعياً وضمانات مسبقة تعفيه من العقاب والملاحقة القضائية.

نعم، استجاب الأشقاء لنداءات "صالح" بالتدخل تحت ذريعة إنقاذ البلاد من الغرق في بركة من الدماء، وهو المبرر الذي ما فتئ يخوف به الأشقاء للتدخل من أجل إنقاذ المنطقة من الفوضى التي ستفيض حتماً متجاوزة الحدود لتطال كل جار، بل والإقليم بأكمله. غير أن الحقيقة الواضحة اليوم أنه استغفل الجميع على حين غرة لإنقاذه هو، حين رمى بهم إلى واجهة الأحداث، وأستخدمهم كـ"قشة" إنقاذ بعد أن كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. وهاهو اليوم وبعد أن قضى وطره لم يتورع عن التعامل معهم كأوراق قصدير لامعة أمام العالم، بعد أن أستخدمهم كعصا غليظة لشق المعارضة وإبعادها عن مطالب الشارع، بهدف إضعافها.

إكراماً للأشقاء أرخت المعارضة اليمنية عضلاتها حين وافقت الدخول في مفاوضات كانوا في السابق يصرون بشدة على عدم التورط في خوضها مع نظام فاقد للشرعية حرصاً منهم تجنب أن يعمل ذلك على منحه شرعية مستمدة من التفاوض. لكنهم حين قبلوا بذلك اليوم، كانوا - ربما – يحرصون على عدم عكس مواقف سلبية متشددة أمام أشقائهم الخليجيين، في الوقت الذي أنهم كانوا يدركون فيه تماماً أنهم بذلك يضعون أنفسهم في مواجهة مصيرية خاسرة أمام قواعدهم وشباب الثورة الرافضين للحوار، مدركين أن القبول سيعني ضمنياً بداية في تحويل "الثورة" إلى " أزمة". وهو ما قد يأتي على ثورتهم الشعبية السلمية التي تنادوا فيها لإسقاط نظام فاشل، واستبداله بآخر راشد، بعد أن فقد كل مقومات بقائه.

مهما كانت تجربة الأشقاء الطويلة مع رجل، يفخر بوصف نفسه بأنه"راقص ثعابين"، فلن تكسبهم تلك التجربة القدرة على التعامل بنجاح مع أساليب المكر والخديعة التي يتمتع بها هذا "الحاوي". وهاهو بعد 33 سنة كبيسة، أدرك الشعب اليمني أن الأسلوب الوحيد للتعامل مع شخص مثله، لن يكون إلا عبر ثورة شعبية سلمية. ومن الضروري جداً أن يدرك الأشقاء أن النسبة الأعظم من هذا الشعب، حين خرجت إلى الشارع، كانت تدرك تماماً أنها لم تخرج للتنزه، بل سيتعرضون للقتل والقمع والسحل والاعتقالات من رئيس خبروه تماماً، لا شيء يسكن رأسه أكثر من الحفاظ على السلطة مهما كان الثمن. ولو أنهم كانوا يؤمنون بذرة واحدة من أن التحاور أو التفاوض معه سيؤتي ثماره لما ترددوا عن ذلك لحظة.

على أشقائنا اليوم أن يتعلموا درساً جديداً، أن لا يخشوا تهديدات صالح التي تقلقهم بجر اليمن إلى حرب أهلية تفيض نيرانها إليهم. بل عليهم أن يعولوا على جيل الشباب الثأئر في إنجاز مهمتهم بأقل التكاليف بصدورهم العارية. ما عاد أحد يجهل منهم كم أن قوتهم السلمية أقوى بأضعاف كثيرة من قوة العنف التي باتوا يدركون تماماً أن صالح يسعى لجرهم إليها ليجد طريق خلاصه.

وحتى يتحقق ذلك، فسيتوجب على أشقائنا أن لا يخذلوهم، وأن يبدءوا على الفور بتحويل غطائهم المساند لصالح إلى غطاء إقليمي دولي لمساندتهم في إنجاز مهمتهم النبيلة بسرعة. ذلك أن استمرارية الثورة بطبيعتها "السلمية" منوط بهذا الدعم الإقليمي والدولي، ما لم فقد ينجح صالح في جر البلاد إلى العنف. وما مناورته الأخيرة في التعامل المتناقض واللا محترم مع جهود الأشقاء في إطار المبادرة الخليجية إلا أحد تلك الأساليب التي يستخدمها للقيام بذلك.

أيها الأشقاء، ابدؤوا الآن، ولتكن البداية بإعلانكم استنفاد جهودكم الدبلوماسية في إقناع "صالح" بتسليم السلطة بطريقة آمنة. ثم لتكن الخطوة المرافقة إعلان مجموعة توصيات للمجتمع الدولي، أهمها –في الوقت الراهن– شيئان: إيقاف المساعدات المالية عن نظام صالح، والثانية تجميد أمواله وأفراد أسرته وكل مسئول تورط معه في القتل وسفك الدماء.

بذلك، لن تتمكنوا من الحفاظ على أمنكم فحسب، بل ستقدمون معروفاً للشعب اليمني لن يسعه إلا أن يرده لكم بمثله.

المصدر أونلاين

الأربعاء، 11 مايو 2011

المبادرات الخليجية لإنقاذ اليمن







عبد الحكيم هلال




قدمت دول الخليج نفسها كمنقذ مفترض لليمن. وعلى مدى شهر ونيف من المحاولة بدا وكأنها تواجه مسارات معقدة أكثر من اللازم. وحتى الآن عقد مجلسها قرابة ستة لقاءات استثنائية لوزراء خارجيتها، أفضت إلى أربع مبادرات، ظلت تتطور تباعاً، حتى بلغت صيغتها الأخيرة، التي ما زالت هي الأخرى مثار جدل وتجاذب مواقف ثلاثة أطراف يمنية هي: النظام الحاكم، والمعارضة، وشباب الثورة السلمية.
مبررات التدخل الخليجي
بعد ما يقارب الشهرين على البدايات الأولى لانطلاق الثورة السلمية في اليمن، المنادية بإسقاط نظام الرئيس علي عبد الله صالح، بدأت دول مجلس التعاون الخليجي -وبشكل جماعي– باتخاذ قرار حاسم بالانتقال من دور المراقب السلبي للأوضاع اليمنية المتصاعدة إلى التدخل المباشر وممارسة دورها المفترض في إنقاذ البلاد والنأي بها من الدخول في حرب أهلية وشيكة.
"
قرار التدخل الخليجي في الشأن اليمني جاء متأخراً، مع أن مبرراته الجيوسياسية ظلت متوفرة منذ البداية، لعل أبرزها الموقع الإستراتيجي الهام والمؤثر على تلك الدول والمنطقة
"
قرار التدخل هذا، يعتقد البعض بأنه جاء متأخرا، مع أن مبرراته الجيوسياسية ظلت متوفرة منذ البداية، لعل أبرزها الموقع الإستراتيجي الهام والمؤثر على تلك الدول والمنطقة.
غير أن البعض يعزو تأخره إلى التخوف من رفض وتجريم فكرة التدخل المباشر في الشأن الداخلي لدولة أخرى. ولذلك كان من الواضح أن هذا التدخل جاء بعد أن كسر الرئيس "صالح" حاجز الخوف هذا حين طلب من الملك السعودي التدخل لإنقاذ اليمن من "حرب أهلية مدمرة من شأنها أن تهدد المملكة والمنطقة برمتها". هذا ما كشف عنه في وقت لاحق.
بالنسبة للعاهل السعودي عبد الله لجأ هو الآخر إلى فكرة إشراك مجلس التعاون في الحل. وربما ترافق ذلك مع اعتقاد شبه مؤكد بوجود توجه خارجي (أميركي أوروبي) لتحميل المملكة ومعها دول الخليج ملف الأحداث الأخيرة في اليمن.
مسار المبادرات الأربع
في الثالث من أبريل/نيسان الماضي عقد المجلس الوزاري لدول الخليج دورته الاستثنائية الحادية والثلاثين، التي خصصت لإجراء اتصالات مع الحكومة والمعارضة اليمنية لعرض المبادرة الخليجية (الأولى).
وفي 7 أبريل/نيسان كشف رئيس الوزراء القطري خلال مؤتمر صحفي عقد على هامش زيارته إلى واشنطن "أن دول الخليج تأمل في إبرام اتفاق مع الرئيس صالح كي يتنحى". أثارت تلك التصريحات حفيظة السلطة. وفي اليوم التالي (الجمعة) هاجم "صالح" قطر وتصريحات رئيس وزرائها.
كانت تلك المبادرة مكونة من بندين فقط. البند الأول: "أن يعلن الرئيس علي عبد الله صالح التنحي عن السلطة وتسليم صلاحياته إلى نائبه". والبند الثاني: "تشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة المعارضة".
أعلن صالح رفضه لها، متذرعا بتصريحات المسؤول القطري، لتدخل المبادرة مشرحة التعديل. يوم الأحد 10 أبريل/نيسان عقد وزراء خارجية مجلس التعاون اجتماعا استثنائيا لتدارس الأمر. أفضى الاجتماع إلى ما عرف لاحقاً بـ"المبادرة الثانية". حولت المبادرة الجديدة البند الأول إلى النص التالي "يعلن رئيس الجمهورية اليمنية نقل صلاحياته إلى نائبه".
في 17 أبريل/نيسان سافرت المعارضة إلى الرياض لمناقشة الأمر مع المجلس الوزاري الخليجي. وبعد الانتهاء، خرجت المعارضة لتعلن تمسكها بمبادرة الثالث من أبريل/نيسان الداعية لـ"تنحي" صالح عن الرئاسة بشكل صريح. وفي 19 أبريل/نيسان عقد المجلس الوزاري لقاءً مع وفد السلطة في أبو ظبي. صدر بيان رسمي يعلن مواصلة المجلس جهوده. ومن اللقاءين صاغ المجلس مبادرته الجديدة.
وفي 21 أبريل/نيسان وصل الأمين العام للمجلس عبد اللطيف الزياني إلى صنعاء لتسليم السلطة والمعارضة نص المبادرة الجديدة (ما عرفت بالمبادرة الثالثة) تضمنت تعديلات كثيرة شملت الخطوات التنفيذية التي أصبحت 10 بنود، بدلاً من بندين في المبادرة السابقة. ومن البنود الجوهرية التي أضيفت: "تسليم السلطة إلى النائب بعد 30 يوماً من التوقيع عليها"، في حين ألزم البند الثاني الحكومة المشكلة برئاسة المعارضة بـ"توفير الأجواء المناسبة لتحقيق الوفاق الوطني وإزالة عناصر التوتر سياسيا وأمنيا". ومنح البند الثالث "الحصانة ضد الملاحقة القانونية والقضائية للرئيس ومن عملوا معه خلال فترة حكمه".
وحين بدأت تصريحات المعارضة تكشف عن توجه رافض لها، أعلنت السلطة موافقتها وسلمت ردها رسميا في 23 أبريل/نيسان. في حين تركزت مخاوف المعارضة على تفسير البند الثاني: ".. إزالة عناصر التوتر سياسيا وأمنيا".
وحين تلقت طمأنة خليجية بعدم دخول الاعتصامات الميدانية ضمن هذا البند، أعلنت موافقتها بشكل رسمي، لكنها اشترطت أن تشكل الحكومة من الحزب الحاكم فقط، بذريعة "عدم قبولها العمل تحت قيادة الرئيس صالح". ولاحقاً في 25 أبريل/نيسان أعلنت قبولها الكلي بمبرر: "أن مسؤولين خليجيين وممثلي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قدموا توضيحات وضمانات".
"
قبل أربعة أيام من التوقيع على المبادرة الخليجية, افتعل الرئيس صالح أزمة مع دولة قطر حين اتهمها بالضلوع في "مؤامرة" وتمويل "الفوضى" في اليمن
"
بعد الموافقة، كان الاتفاق على التوقيع النهائي في الرياض بتاريخ الثاني من مايو/آيار الحالي. لكن، وقبل أربعة أيام من الموعد، افتعل الرئيس أزمة جديدة مع دولة قطر حين اتهمها في مقابلة مع تلفزيون "روسيا اليوم" في 28 أبريل/نيسان بالضلوع في "مؤامرة" وتمويل "الفوضى" في كل الدول العربية ومن بينها اليمن، التي قال إن أموالا قطرية تتدفق إليها لتمويل القتل والفوضى. وهدد بالتحفظ عن التوقيع –المقرر في الرياض- إذا حضر ممثلو قطر.
واليوم التالي (الجمعة) تحدث في خطبته الأسبوعية –كعادته- أمام حشد من أنصاره عن "عدم تسليم السلطة إلا وفقاً للشرعية الدستورية"، وأن يتم الالتزام بالمبادرة "كمنظومة متكاملة دون تجزيء". والسبت كررت قيادات في حزبه الأمر ذاته، ولكن بتفاصيل أكثر، أهمها "أن الرئيس لن يوقع على المبادرة بصفته رئيسا للجمهورية، وإنما كرئيس للحزب الحاكم". وهو ما يتعارض مع المبادرة التي تشترط توقيعه شخصيا.
كما تضمنت تفاصيل أخرى تحدثت عن ضرورة إزالة عناصر التوتر التي اعتبر "المعتصمون" أهمها، إلى جانب القوات العسكرية المنشقة عن الجيش، والمتمردين وقطاع الطرق والانفصاليين.. إلخ.
ومع أن المعارضة اعتبرت ذلك رفضاً صريحاً وتصعيداً جديداً، رافضة أي تعديلات إضافية، وشككت بوجود نوايا انقلابية لدى الرئيس لإصراره على عدم التوقيع بصفته الرئاسية.. فإن المبادرة عدلت لتتواكب مع هذا الشرط حين غيرت صفة توقيع الرئيس من طرف رئيسي إلى راع للاتفاق.
مواقف المعارضة والسلطة
بالجملة، يتضح أن المبادرات الخليجية الأربع السابقة تغيرت على مدى شهر ونيف لتتكيف مع رغبات الرئيس على النحو المختصر التالي: من "تنحي" صريح إلى "تسليم صلاحيات"، إلى "البقاء في السلطة شهراً" وفرض "ضمانات لتجنب الملاحقة القانونية"، وأخيراً: اعتباره "راعياً" وليس طرفا.
"
العامل المشترك في المبادرات الثلاث الأولى أن الرئيس كان يعلن قبوله مبدئيا ثم يلحقه بالرفض، في حين ظلت المعارضة تراوح بين الرفض الأولي لكل تغيير يشملها، ومن ثم القبول النهائي
"
العامل المشترك في المبادرات الثلاث الأولى أن الرئيس كان يعلن قبوله مبدئياً ثم يلحقه بالرفض، في حين ظلت المعارضة تراوح بين الرفض الأولي لكل تغيير يشملها، ومن ثم القبول النهائي بعد حصولها على ضمانات وطمأنة خليجية وخارجية. غير أن المبادرة الأخيرة (الرابعة) تبدو مثيرة للشك أكثر من غيرها بالنسبة للمعارضة. وهي حتى الآن ما زالت تتدارس عواقبها مع الأطراف الخليجية.
ومع ذلك، فليس من المستبعد القول إنها في نهاية المطاف ستوافق كما ظل ديدنها في السابق. وستبرر الأمر بحصولها على "ضمانات وتطمينات وتفسيرات خليجية وخارجية مناسبة". هذا الاستنتاج يمكن استخلاصه من تغيرات مواقفها خلال مسار المفاوضات.
فهي في الثانية أبدت إصراراً على تمسكها "بالمبادرة الأولى– 3 أبريل/نيسان"، ثم وافقت، لتقول في الثالثة إنها متمسكة بـ"الثانية– 10 أبريل/نيسان"، وهي اليوم تقول إنها متمسكة بـ"الثالثة".
قد تبدو تصريحات بعض قياداتها حاسمة هذه المرة، بدعوة دول الخليج والمجتمع الدولي إلى ممارسة المزيد من الضغط على نظام صالح، للقبول بتوقيع المبادرة بصيغتها الثالثة، كونها بحدسها تشعر بوجود خدعة ما وفقاً لتقلبات وألعاب "صالح" التي مكنته من حكم اليمن على مدى الـ33 عاماً الماضية. ناهيك عن أن المنطق المجرد هنا من وراء رفض صالح التوقيع بصفته الرئاسية، يفرض مبدأ التشكيك بقوة. كأنه يتوخى إتاحة مجال لانقلاب قادم ومناورة جديدة.
وبشكل منطقي أيضاَ يمكن التأكيد أن رجلا نقض ثلاث مبادرات الواحدة تلو الأخرى، خلال شهر واحد، دون أي مبرر منطقي، فستكون احتمالية حدوث انقلاب بذريعة التأويل وليّ النصوص التي يصر اليوم على تغييرها بتلك الطريقة المكشوفة، هي الأقرب إلى الحقيقة.
في الواقع، بالنسبة لتغيرات مواقف المعارضة على ذلك النحو، يمكن تفسيرها على أنها عمل سياسي بحت، فرضته دبلوماسية مبنية على احتمالين، الأول: أنها قبلت الدخول في المفاوضات منذ بدايتها مع علمها المسبق أن العملية أشبه بمن "يحرث في بحر"، وذلك حرصاً منها على تمثل دبلوماسية مرنة مع دول الخليج والمجتمع الدولي توخياً لعدم مواجهتها لرغبات تلك الأطراف الهامة والمؤثرة.
"
موافقة المعارضة اليمنية على المبادرات الخليجية كان بهدف كسب تعاطف الأطراف الإقليمية والخارجية مع مطالبها, وكذلك كسب ثقتها في تعاملاتها المستقبلية
"
الاحتمال الآخر، وهو بالمناسبة يأتي كنتيجة للسابق، يتعلق بإيصال دول الخليج والمجتمع الدولي المهتم إلى الحقيقة التي يعتقد أنهم يدركونها لكنهم –ربما- يتغاضون عنها لسبب ما، وهي: أن هذا النظام لا يمكن الوثوق به. ومن كلا الأمرين سيمكنها (المعارضة) من جني أهداف دبلوماسية كبرى: قصيرة، وطويلة الأجل.
أما القصيرة فتتمثل في كسب تعاطف تلك الأطراف الإقليمية والخارجية مع مطالب الشعب ودعمها في تحقيق هدفها الأكبر بـ"إسقاط النظام"، بعد أن تكون كافة السبل والمحاولات قد أفضت إلى تلك النتيجة الجوهرية.
وأما الأخرى (الطويلة الأجل) فتتمثل في كسب ثقة تلك الأطراف في ما يتعلق بتعاملاتها المستقبلية ودعم بناء اليمن الجديد وما يترتب عليها من سياسات اقتصادية وتعايشية بعد سقوط النظام الحالي.
المبادرة ومزاج الشارع
من الواضح أن بلوغ النتيجة الثانية (الطويلة الأجل) مرتبطة بتحقيق الأولى (إسقاط النظام). وعليه فمن المهم القول إن اتخاذ قرار "إسقاط النظام الحالي"، بالنسبة للمجتمعين الإقليمي والدولي، لن يكون بتلك السهولة التي تتوقعها المعارضة.
فقرار مثل هذا يندرج في إطار القرارات الإستراتيجية التي تتطلب نظرة عميقة شاملة لطبيعة ومكونات وأهداف من سيحكمون اليمن بعد "صالح". إلى جانب دراسة مستفيضة لأبعاد أخرى ترتبط بمستقبل أنظمة دول الخليج والمنطقة. ولا يستبعد تأثير التباينات بين مواقف دول الخليج البينية على النتيجة.
وعليه كان من السهولة ملاحظة تلك المرونة الكبيرة –وغير المنطقية- التي اتبعتها دول المجلس –أو بالأحرى المؤثرة منها- لمواكبة رغبات ومطالب رئيس النظام الحالي، حتى بلغت المبادرة الأخيرة.
لكن، ومع ذلك، لا يمكن مواصلة إغفال مزاج الشارع اليمني لوقت أطول من اللازم، مضافاً إليه تقلبات وانتهاكات نظام صالح. هذا يعني لزومية التخطيط لمستقبل ما بعد صالح باعتباره أمراً حتمياً سواء التزم حرفياً ببنود المبادرة أم لم يلتزم.
شباب الثورة اليمنية بكافة تكتلاتهم وائتلافاتهم المناهزة للمائة في مختلف محافظات الجمهورية، يجمعون على رفض أي مبادرة لا تلبي تطلعات ثورتهم بتنحي "صالح" ونظامه، الفوري ومحاكمتهم على جرائمهم.

إنهم يعتبرون تلك المبادرات محاولات لتحويل "ثورتهم" إلى "أزمة"، وهو أمر غير مقبول. ويدعون دول الخليج للتوقف عن إنقاذ نظام متساقط. ويزداد الأمر كلما واصل "صالح" ونظامه ارتكاب مجازر جديدة، فتراهم يحذرون –في بعض بياناتهم- دول الخليج والمعارضة من إمكانية اعتبارهم "شركاء في الجرائم التي يرتكبها النظام" لا سيما بعد ظهور مسألة الضمانات القانونية التي تجنبه الملاحقة.
"
يعتقد البعض أن أحد أهداف الرئيس المرافقة للمبادرات الخليجية وتعديلاتها هو شق صفوف المعارضة، وضربها بالشارع
"

كما طالبهم البعض بالتوقف عن أي مبادرات "يترتب عليها استعداء للشعب اليمني".
يعتقد البعض أن أحد أهداف الرئيس المرافقة للمبادرات الخليجية وتعديلاتها هو شق صفوف المعارضة، وضرب المعارضة بالشارع، وصولاً إلى إفقادها الثقة وإضعافها، كخطوة أولية. كما أن ذلك من شأنه أن يحدث خلافاً في الساحات نفسها بين الموجودين فيها من أنصار المعارضة الحزبيين والمؤيدين لها، وبين المستقلين الرافضين للمبادرات الخليجية.
وبينما لا يزال الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي يعلن تمسكه بالمبادرة الأخيرة للحل، والحديث عن قرب التوصل إلى موافقة على التوقيع خلال الأيام القادمة، يبدو المشهد الميداني مختلفاً ويسير نحو التصعيد أكثر من أي وقت مضى. وبعد الرفض الرئاسي الأخير، بدأت تظهر بقوة أصوات تنادي بضرورة الحسم والزحف إلى دار الرئاسة، مقابل حديث آخر عن استعدادات وتجهيزات من قبل النظام لتفجير الوضع.
المصدر:الجزيرة

الخميس، 5 مايو 2011

لهذا أقيل النائب العام


عندما اتجه صوب إدانته مباشرة اضطر الرئيس لإزاحته من الطريق ليتجنب الملاحقات القضائية مستقبلاً


المصدر أونلاين-خاص-عبدالحكيم هلال
الخميس الماضي (28 ابريل) أصدر الرئيس علي عبدالله صالح قراراً جمهورياً رقم 17 لسنة 2011 بتعيين الدكتور علي أحمد ناصر الأعوش نائباً عاماً للجمهورية بدلاً عن الدكتور عبدالله العلفي. على المنظمات الحقوقية الدولية أن تعرف لماذا حدث ذلك؟ إذ سيتوجب عليها ضم هذا الفعل كقرينة إثبات لتورط صالح في ارتكاب جرائم القتل.

المنطق الظاهري، يقول إن الظروف الحساسة والصعبة التي يمر بها النظام في الوقت الراهن، لا تؤهل الرئيس صالح الذي يتصاعد صوت الشارع اليمني بإقالته ومحاكمته من اتخاذ قرارات ذات طبيعة تأثير ارتدادية على نظامه المتداعي. بيد أن ذلك حدث بالفعل. وما قد يمثل ارتدادا سلبياً هنا هو أن ذلك القرار جاء بعد أيام قليلة من تشديد الدكتور العلفي على مطالب قانونية بالقبض على شخصيات أمنية كبيرة ثبت تورطها في قضايا قتل راح ضحيتها عشرات المحتجين وآلاف الجرحى.

قد لا يكون بمستغرب أنه وفي بلادنا أكثر من غيرها، هكذا بكل سهولة يمكن للرئيس أو لمسئول كبير ارتكاب الفضاعات، ثم يتلوها بتصرف غريب وشاذ ليغدو السير وفق المنطق مجرد شيء تافه طالما أنه يهدد مصالح وتكتيكات استراتيجية. وما كان غير متوقع في عرف مجتمع السياسة، يصبح أمراً ممكناً، بل وضرورياً في عرف الاستبداد لتجاوز حتمية ما هو أسوأ إلى الأقل سوء أو ما يفترض أنه كذلك.

في واحد من التفسيرات السوسيولوجية، يمكننا النظر إلى ما حدث على هذا النحو: إن أي نظام استبدادي -بدأ بالتهاوي– حينما يتعرض للمزيد من الضربات (الضغظ)، يزداد ترنحاً (فقدان المزيد من التوازن)، حينها تصبح ردود الفعل اللحظية هي المتاح الوحيد. وإذاك يغدو التفكير بالتعامل مع الأحداث بقرارات تراعي أبسط أخلاقيات المجتمع الدنيا، منطقاً عدمياً، والتريث لتوخي مسألة الارتدادات السلبية، عبثاً غير مجد.

الواضح أن هذا يحدث، مع أن الرئيس ومرشديه يدركون أكثر من غيرهم، أن قراراً مثل هذا - في ظرف وتوقيت كهذا- تنعدم فيه فرص الحديث عن فرضيات مثالية على شاكلة: عدم تحميل الأمر أكثر من كونه مجرد قرار يصدر عن رئيس مازال قادراً على الإقالة والتعيين! فالرئيس، وجميعنا –سواء نحن المنادين برحيله ومحاكمته، أم أولئك المتمصلحين حوله– نؤمن أن منطق مثالي كهذا كان يمكن قبوله في ظروف سابقة ترجع إلى ما قبل الأشهر الـ3 الأخيرة.

وإلى جانب أن الجميع يدرك أن النائب المقال يحمل ملفاً جنائياً خطيراً، فإن تحولات جوهرية اتسمت بها مواقفه الأخيرة، من شأنها أن تثير الرعب في قلب النظام. ذلك أن النائب العام المقال بدا مؤخراً –وبشكل مفاجئ– أكثر حرصاً على المضي بجدية لاستكمال التحقيق في قضايا القتل والاعتداءات التي تعرض، ومازال يتعرض لها شباب الثورة اليمنية المنادين بإسقاط هذا النظام الأسري القمعي البوليسي الجاثم على صدور اليمنيين منذ 33 عام.

الإقالة.. إثبات الجرم لا انتفائه
ما سبق، قد يبدو كافياً لجلاء الأمر، وتحسس مسوغات ودواعي تلك الإقالة المثيرة للجدل دون الحاجة لمزيد من التوضيح. ومع ذلك، دعوني، كعادتي المملة للكثيرين، مواصلة تقديم المزيد من التفاصيل التي يقال إن الشيطان يكمن فيها. وسأتناول هنا –محاولاً الإيجاز قدر استطاعتي– بعض الجزئيات التي تتعلق بالنائب العام ومواقفه الأخيرة، تعزيزاً لتلك الحقيقة الواحدة لا سواها: إدانة رأس النظام والمتورطين من حوله.

إلى حد ما، ومن زاوية ضيقة، يمكن اعتبار الإقالة قراراً يتسم بالشجاعة. غير أنه –من زاوية أخرى– يظهر كقرار يعوزه الذكاء، لما يعكسه من مؤشرات تؤكد –بما لا يدع مجالاً لحسن الظن- أن نتائج التحقيقات كانت تتجه حتماً صوب الحقيقة المفترضة.

مع أن الدكتور العلفي عرف تمتعه بأخلاق رفيعة، إلا أنه بالمقابل –مثله مثل الكثير من المسئولين الحكوميين في كنف نظام استبدادي دموي- ظل مجبراً على العمل بوفاء كبير كخادم لرأس النظام، لا كشخص قوي يتمتع بصلاحيات قانونية كبيرة. فعمد إلى تفضيل وتقديم مصالح النظام على حساب المصلحة العامة للوطن والمواطنين بشكل امتهن فيه حكم القانون. وبين سلوكه الشخصي وسلوكه العام تكونت شخصية إنفصامية كان غالباً ما يمضي توقيعه على مسودات الشكاوى بأوامر توجيهية للجهات المعنية، فيما أنه يدرك النتيجة بلا جدواها مع عدم اتخاذه الإجراءات اللاحقة لفرضها، حتى بلغ به الأمر أن حاز بجدارة على وصف نائب عام "طيب"، لكنه عديم الشخصية.

وبمثل ذلك استطاع أن يحافظ على موقعه كنائب عام لسنوات طويلة. وطالما ظل محافظاً على ولائه الشخصي، ولم تند عنه انحرافات كبيرة كتلك التي تجعله –مثلاً- ينحاز لمهنته الشريفة بما يعرض النظام ومصالحه للمخاطر، فقد ظلت حاجة الرئيس لإقالته غير ماسة. وقياساً على ذلك، يمكن الجزم اليوم أن قرار الإقالة ما اتخذ إلا بعد أن لُمس في ولاء الرجل تغيراً واضحاً، على ذلك النحو الجالب معه للمخاطر. سيما في ظل ظروف حساسة وصعبة، تجعل من الرئيس أحوج ما يكون لأدنى مسئول بهدف الحفاظ على ما تبقى له من مناصرين ومؤيدين بعد أن توالت عليه الاستقالات الكبيرة محدثة تشققات هائلة طالت جدار نظامه، بفعل ما أحدثته الثورة الشعبية المنادية بإسقاطه ومحاكمته.

وإذ يمكن -في عرف النظام- تشبيه تحولات النائب العام السابق، بحدوث تمرد، فهي بالنسبة للرجل ربما تندرج في إطار محاولة –قد تكون متأخرة، نعم، لكنها مهمة- لتصحيح مسار خاطئ، واستعادة سمعة مفقودة. وأياً يكن الأمر، فالنتيجة النهائية تبرز تلك التغيرات وربما أخرى غيرها لم تعلم بعد أمام الرئيس لتبدو ملحة أكثر لتسريع إعفائه من مهامه. ذلك حتى إن كان هذا القرار، في واقع الحال، ينطوي على إثبات واضح من شأنه أن يعزز ثبوت الجريمة لا انتفائها.

تحولات النائب العام 
في البدء، ومع فتح النائب العام ملفات قضايا القتل الجماعي التي اتهمت الأجهزة الأمنية بارتكابها ضد المحتجين، كان البعض يؤمن بما لديهم من خلفيات بحقيقة واحدة: أن الرجل، وكعادته سيُستخدم من قبل النظام كخادم لا كمسئول مهم. وبالتالي فتمييع تلك القضايا وإغلاق ملفاتها في أحسن الأحوال، سيكون والنتيجة الحتمية. ذلك إن لم يحرفها عن مسارها الحقيقي ويفصلها لتتواءم مع رغبات النظام بجعل الضحية هي المتهم مع إعفاء الجلاد. وهذا هو بالفعل ما ظل الرئيس يكرره في خطاباته –عقب كل جريمة– بتحميله تلك الجرائم على شباب الثورة، ما كان يفهم سلفاً على أنه توجيه موجب لمسار القضية.

غير أن حقائق أخرى بدأت تتكشف تباعاً كانت تسير بعكس تلك التصورات السابقة. كانت البداية في 24 فبراير حين أصدر مكتب النائب العام بلاغاً صحفياً "بشأن حماية المشاركين في الاعتصامات والمسيرات السلمية". وجهت النيابة "رؤساء ووكلاء النيابات العامة في عدد من المحافظات بمضاعفة جهودهم في سبيل تجسيد أحكام النصوص القانونية التي تكفل حماية حقوق وحريات الأفراد وذلك من خلال سرعة التحقيق قي الشكاوى والبلاغات التي ترد إليهم عما يقع من أفعال معاقب عليها قانوناً تقع على المشاركين في المسيرات والاعتصامات السلمية مهما كانت اتجاهاتها السياسية".

وفي البلاغ ذاته، أهاب مكتب النائب العام بوزير الداخلية ومدراء أمن المحافظات وجميع منتسبي وزارة الداخلية التزام التعليمات العليا بشأن حماية جميع الموطنين المشاركين في الاعتصامات والمسيرات السلمية. وقال إن النيابة العامة لن تتوانى "عن القيام بواجباتها في التحقيق بالشكاوى والبلاغات التي تقدم إليها عن الأفعال التي تشكل جرائم جنائية".

إلى هنا، قد يرى العارفون أن لا جديد. فمثل هذا يعد إجراء روتينيا مللنا سماعه، إذ يتكرر دائماً على نحو مسف. إذن فتلك لم تكن البداية الحقيقة الواضحة.

مجزرة الكرامة.. التحول يتعزز أكثر
المحامي والقانوني المعروف محمد ناجي علاو –منسق منظمة هود الحقوقية– بدا متأكداً جداً بأن إقالة الدكتور العلفي من منصبه كنائب عام جاء بسبب مواقفه الأخيرة، والتي بدأت بشكل واضح وجلي مع تبنيه الجاد لملفات القتل التي طالت المتظاهرين سلمياً، إلى جانب إصداره تصريحات وبلاغات صحفية مرافقة شكلت إزعاجاً غير متوقعاً للنظام. يعتقد علاو.

وفي اتصال تلفوني معه، بعد ساعات من صدور قرار تعيين النائب العام الجديد، امتدح علاو الدكتور العلفي الذي قال إنه "فتح ملفات جادة في قضايا قتل المتظاهرين سلمياً في المحافظات التي طالتها الاعتداءات، وتولى بنفسه على رأس جهاز يتبع مكتبه الفني التحقيق في قضية مجزرة "جمعة الكرامة" التي حصدت أكبر عدد من الشهداء". ذهب علاو في معرض تفسيره لقرار الإقالة.

في الواقع، بدأ التحول يتكشف بشكل أكبر مع تولي النيابة العامة التحقيق في الجريمة الجسيمة رقم (88) لسنة 2011م، الخاصة بمقتل المحتجين السلميين في ساحة التغيير بصنعاء (جمعة الكرامة 18 مارس)، وهي المجزرة التي راح ضحيتها 53 شهيداً ومئات الجرحى.

في 22 مارس قام النائب العام بنفسه بنزول ميداني إلى ساحة التغيير لمتابعة القضية والاستماع إلى الجرحى والشهود. لكن الصحافة لم تتورع عن نسج خبر انضمامه إلى "ثورة الشباب السلمية"، الأمر الذي اضطره اليوم التالي للنفي عبر وكالة الأنباء اليمنية الرسمية "سبأ".

لكنه في واقع الحال استغل الأمر ليضمن تصريحاته توضيحاً رآه مهما، حين أكد بأن "النائب العام قاض مستقل ولا ينتمي إلى أي تيار سياسي، والسلطة القضائية سلطة مستقلة وفقا للدستور وأن النائب العام نائب عن المجتمع بكل أطيافه السياسية". تلك التصريحات –بحسب علاو- أزعجت النظام، لتضمنها إشارات واضحة بالمنحى الذي ستعمل وفقه النيابة العامة خلال المرحلة القادمة. وقال علاو: "لا شك أن كلمة نائب عام للشعب وليس للنظام تغضب رأس السلطة، بل وكل أعضاء السلطة الموظفين لديه.

بما يعني ضمناً أن مرحلة العمل كخادم للنظام يتوجب أن تنتهي هنا، لتبدأ مرحلة العمل الجدي كـ"نائب عن المجتمع بكل أطيافه السياسية". ولقد فهم رأس النظام الرسالة بالطريقة التي أراد لها النائب العام أن تُفهم، لكنه حاول التغاضي. وربما شعر أنه مازال يمتلك القدرة على تصحيح الخطأ الوارد في تلك التصريحات وفقاً للطريقة التي دأب على استخدامها في الماضي.

لكن النائب العام –السابق– بدا أنه قرر ذلك بالفعل، ليواصل -بعد زمن طويل من الرضوخ الإجباري- السير في طريق شائك لاستعادة ما فقد من مكانته المحترمة في المجتمع. ولاحقاً، عقب التصويت المشبوه لمجلس النواب على إقرار حالة الطوارئ في البلاد، نسبت قناة "الجزيرة" في 2 ابريل للنائب العام قوله إن "إعلان حالة الطوارئ في البلاد غير قانوني ولا معنى له". ما وجه ضربة موجعة للنظام من قبل جهة قانونية معتبرة، لتضعه في موقف لا يحسد عليه بعد أن كان النظام جند الكثير من إمكانياته المادية والعملية والإعلامية لإقرار وتسويغ حالة الطوارئ تلك.

حقائق مازالت تتكشف وتهديد بالاستقالة
مضت النيابة في تحقيقاتها، في قضية "جمعة الكرامة" لتتكشف لها حقائق هامة، ومتهمين جدد فارين من العدالة، كانت النيابة وجهت بملاحقتهم، بيد أن التجاوب كان منعدماً. وفي 11 ابريل، وجه النائب العام رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال طالبه فيها بـ"سرعة القبض على المتهمين الذين ارتكبوا جريمة القتل والشروع في القتل لعدد كبير من المعتصمين" والذي سبق أن وجهت النيابة العامة بملاحقتهم والقبض عليهم للتحقيق معهم وتقديمهم للعدالة لينالوا جزاء ما ارتكبوه من جريمة نكراء في حق المعتصمين -بحسب الرسالة التي تضمنت طلبا من رئيس الحكومة "توجيه أجهزة الأمن بالتحري والكشف عن هويات أفراد العصابات الملثمة التي اشتركت في هذه الجريمة". واختتمت الرسالة بهذا التهديد القوي: "وفي حالة لم يتحقق ذلك فإن النائب العام سيقدم استقالته من منصبه".

كان الأمر أشبه بقنبلة. ومن وراء الكواليس قيل إن الحكومة حاولت التعامل مع الأمر بطريقة هادئة تجنب التصعيد في محاولة منها لإيقاف تداعياته الخطيرة عند هذا المستوى حين وجهت الجهات المعنية بالتجاوب مع النيابة العامة. لكن الأمر لم يتجاوز الأوامر مع تقديم بضعة مطلوبين صغار، لتجنب الاقتراب من الأسماك الكبيرة. فيما كانت جهات شبحية غير ظاهرة حاولت وضع الرجل في مواقف محرجة منذ توليه ملف القتل. ونشرت أجهزة الإعلام الرسمية تصريحات على لسان الرجل تضمنت توجيه اتهامات مباشرة للمعتصمين في ساحة التغيير بالوقوف وراء ما حدث من قتل للمعتصمين. غير أن الرجل اتصل بالساحة نافياً تلك التصريحات.

وأثناء مواصلة النيابة تحقيقاتها مع بعض المقبوض عليهم، تكشف لها المزيد من الحقائق الخطيرة. وعليه وبحسب بلاغ صحفي صدر بتاريخ 19 أبريل وتضمن تصريحات لمصدر مسئول في النيابة العامة، فإن النيابة أمرت "بالقبض على تسعة عشر متهما فارين من وجه العدالة كشفت التحقيقات ضلوعهم في جرائم القتل التي حدثت. كما تم تكليف الأجهزة الأمنية وأجهزة البحث والتحري بالكشف عن المتهمين المجهولين المساهمين في الجريمة والقبض عليهم وإحالتهم مع محاضر جمع الاستدلالات إلى النيابة العامـة" .وأضاف المصدر: "ولازال يتكشف للنيابة من خلال التحقيقات ضلوع متهمين جدد وظهور أدلة أخرى تعزز ما هو متوفر لدى النيابة". ومرة أخرى طالب البلاغ الأجهزة الأمنية "سرعة القبض على المتهمين المطلوبين الذين أمرت النيابة بالقبض عليهم الفارين من وجه العدالة"، كما وجددت مطالبتها بـ "سرعة الكشف عن هوية المتهمين المجهولين باعتبارهم متهمين أساسيين يجب القبض عليهم لكي يتسنى للنيابة العامة التصرف في القضية بإحالة جميع الجناة إلى المحكمة المختصة لينالوا عقابهم جزاء لما ارتكبوه من جريمة بشعة في حق المجني عليهم".

إيقاف قسري وإقالة خوفاً من التقدم أكثر
في الواقع، جاء البلاغ الصحفي قبل أسبوع فقط من قرار الإقالة وتعيين نائب جديد الخميس الماضي. وبين البلاغ والإقالة حملت الكواليس أسراراً شتى. قيل إن الرئيس أوقف النائب العام عن أعماله في مواصلة التحقيق، بل أشيع أنه وضع تحت الإقامة الجبرية في منزله، بهدف إيقافه عند مستوى تلك المعلومات التي بلغها دون تجاوز حدودها إلى أولئك الذين سماهم البلاغ بذوي "الهويات المجهولة" الذين طالبت النيابة بسرعة الكشف عنهم باعتبارهم "متهمين أساسيين يجب القبض عليهم". حتى أعلنت الإقالة بشكل رسمي بتعيين خلفه، الخميس الماضي.

بالنسبة لـ"علاو" أضفت عليه مواقف النيابة تلك "بإجراءاتها القوية والحاسمة في قضية قتل المعتصمين" شعوراً آخر يتسم بالأمل، وقال "لقد شعرنا لأول مرة بأن النيابة جادة" وأنها "حين وجهت رسائل قوية جداً بدأنا نشعر فعلاً بالاستقلالية إلى حد كبير من خلال جدية التحقيق في هذه القضايا".

ويكشف علاو –جازماً- ما توارى وراء تلك الكواليس، قائلاً "كانت النيابة قد بدأت بالفعل بالتحقيق مع قادة الأجهزة الأمنية (الأمن المركزي، والجهات الأخرى المتهمة)، الأمر الذي شعرت معه السلطة بخوف وقلق بالغين كون التحقيقات اتسمت بالجدية فعلا، وأن الأمر إذا ما ترك له أن يسير على ذلك النحو، فإنه حتماً سيصل إلى رأس النظام باعتباره المسئول الأول سياسياً وجنائياً عن كافة قضايا القتل والإصابات والاختطافات والإخفاءات القسرية التي حصلت في طول اليمن وعرضه"، لافتاً إلى أن ذلك كون رئيس الجمهورية "هو المسئول عن تصرفات وأفعال هذه القوات والجرائم التي ترتكبها أجهزته".

مصير مبارك كابوس مقلق
لقد بات من المؤكد أن الرئيس كان حريصاً بطريقة لا يعيبها أن تكون مكشوفة، توخي مستقبل لا تنغصه الملاحقات القضائية، بتنظيف كل ما يرتبط بهذا الملف نهائياً. وقد يكون من المهم النظر إلى ما حدث –لاحقاً- للرئيس المصري المخلوع وأبنائه من إحالة النائب العام المصري لهم إلى المحاكمة ووضعهم في السجن والمصير الحتمي الذي ينتظرهم، بمثابة كابوس فضيع ينتصب أمام عيني "صالح" ويقض مضجعه. كان المشهد ليس مهيناً فحسب، بل قاسياً ومخيفاً ومن شأنه أن يجعل كل شبيه معرض لنفس المصير أن يحرص ويتوخى الحذر ويضرب أخماساً في أسداس لتجنب الوقوع في المآل ذاته.

بالنسبة لصالح فقد أجهد نفسه كثيراً في هذا الجانب وأصر على أن تمنحه المبادرة الخليجية الأخيرة ضمانات تجنبه محاكمة لاحقة بعد رحيله. بل ولمزيد من الحرص اشترط ضرورة أن يأتي ذلك عبر إصدار تشريعي ينبثق عن اجتماع مشترك لمجلسي النواب والشورى قبل يوم واحد من رحيله.

غير أن ذلك لم يكن كافياً وفرض عليه الخوف القابع في أعماقه من حتمية الإدانة والملاحقة، أن قرر إقالة النائب العام، كضمانة إضافية، سيما بعد أن شعر مؤخراً بوجود تغيرات مقلقة وغير مطمئنة في مواقف هذا الأخير، على نحو ما سبق الإشارة إليه.

إن الخطورة تتمثل أكثر بكون المتهمين الرئيسيين في تلك القضايا يتجاوزن ما يسمى بـ"البلطجية" التابعين للنظام، إلى الحرس الجمهوري، الحرس الخاص، الأمن المركزي، الأمن القومي، وهي المؤسسات التي يقف على رأسها جميعاً أبناء الرئيس وأبناء أخيه.

ومن وجهة نظر قانونية فإن "الجرائم التي ارتكبت ليست جرائم جنائية، أو تجاوزات فردية من قبل قادة الأمن والحرس الجمهوري والخاص، بل هي جرائم موجهة تقع تحت مسئولية المسئول الأول عن هذه الأجهزة وهو رئيس الجمهورية". يقول علاو.


الأحد، 1 مايو 2011

الوجه القبيح لساحات الفعل الثوري


قدم وائل غنيم نموذجاً استثنائيا، حين رفض اعتباره بطلاً، فيما يبدو النموذج اليمني خالياً إلا من قيادات تضخّم نفسها وتسعى لفرض وصايتها على الآخرين


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
حين سئل المهندس المصري الشاب وائل غنيم (30 عاما) عن دوره البطولي في الثورة، رد بتواضع جم "أنا لست بطلا، أنا كنت وراء حاسوبي فقط، أنا مناضل الكيبورد، الأبطال هم الذين نزلوا واستشهدوا في شوارع مصر". وهو الذي لقب وعرف بـ "قائد ثورة الشباب"، لدوره الكبير في اندلاعها.

جاءت تصريحات وائل تلك عقب الإفراج عنه بعد 12 يوماً من اختطافه ليلاً، وإخفائه قسراً كونه أول من دعا إلى الثورة عبر مجموعته في الفيس بوك التي أطلق عليها: مجموعة "كلنا خالد سعيد".
وكان غنيم استقبل في اليوم التالي لخروجه من السجن استقبال الأبطال في ميدان التحرير، وحينها قال للمتظاهرين الذين صفقوا له بحرارة "لست بطلا، بل أنتم الأبطال، فأنتم الذين بقيتم هنا في الميدان".

وبعد خروجه من السجن، ظهر على قناة دريم المصرية قائلاً "إن أجندتنا الوحيدة هي حب مصر". رداً على من يقول إن لديهم أجندات خارجية. ولدى ذكر الشهداء الذين سقطوا خلال المواجهات وعرض صورهم انهار وائل غنيم وأجهش بالبكاء مما أثار مشاعر ملايين العرب والمصريين. واعتذر من أمهات الشهداء قائلاً وهو يبكي: "أريد أن أقول لكل أم ولكل أب فقد ابنه.. أنا آسف لكن هذه ليست غلطتنا.. والله العظيم ليست غلطتنا.. هذه غلطة كل واحد كان ماسكاً بالسلطة ومتشبثاً بها... عايز أمشي". وانسحب من البرنامج..".

وكتب موقع مصراوي على شبكة الإنترنت بعد ساعتين من ظهور غنيم على شاشات التلفزيون: "دموع غنيم حركت الملايين حتى إنها قلبت موقف البعض السياسي حيث تحولوا من موقف المؤيد للبقاء (بقاء مبارك) إلى موقف المعارض".

(2)
ربما يتوجب علينا هنا أن نركز على قضية في غاية الأهمية، لوحظ أن وائل غنيم كان يشدد عليها كثيراً، إذ يصر على عدم نسب البطولة إليه، مع وضوح حجم الفعل الذي قام به. وكان عوضاً عن ذلك، يفضل الحديث عن الأبطال الحقيقيين الموجودين في الشارع. وجاء في تصريحاته أيضاً، لدى خروجه من السجن: ".. أريد أن أقول أيضاً أرجوكم لا تجعلوا مني بطلاً أنا مجرد شخص كان نائماً اثني عشر يوماً والأبطال الحقيقيون هم الموجودون في الشارع وأتمنى أن تلقوا الضوء عليهم. أنا الحمد لله بخير وإن شاء الله سنغيّر بلدنا، وكلنا بيد واحدة لتنظيف بلدنا". وعلى الرغم من تواضعه ذاك، فقد تم اختياره ناطقاً باسم شباب الثورة، دون أن يكون مغرماً بهذا الأمر أو باحثاً عنه.

ولبساطته في الحديث وقربه من قلوب المستمعين، استطاع وائل غنيم أن يتجاوز الكثير من مناضلي مصر الكبار ونخبهم السياسية، دون أن يكون له رغبة للقيام بذلك، دون أن يرسم أو يخطط ليكون القائد الملهم، والصانع الأول للثورة، دون أن يتهم الآخرين بمحاولة السطو على الثورة، لم يكن في أجندته سوى طموح ورغبة واحدة، هي: أن يكون الجميع يداً واحدة لتنظيف أم الدنيا من الديكتاتور، حتى ينعم الشعب المصري بمستقبل أفضل.

وفي مارس 2011 تم اختياره لنيل جائزة كيندي للشجاعة. كما اختارته مجلة التايم ليكون في قائمة أكثر 100 شخصية تأثيراً حول العالم. وغنيم هو مدير التسويق في "جوجل" الشرق الأوسط، وحاصل على شهادة البكالوريوس في هندسة الحاسبات من جامعة القاهرة، والماجستير في إدارة الأعمال من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة. على أنه في نفس الوقت يحمل أفكاراً تقدمية، إصلاحية، وحداثية، يؤمن بالحوار منهجاً لحل القضايا على قاعدة احترام الرأي الآخر، كون الاختلاف "سنة الله في الكون". وفي إحدى مقالاته كتب: "..ولعل تطرف الفكر من الأمور التي يستحيل التخلص منها، وذلك لأن سنة الله في الكون الاختلاف، ولأن اختلاف الثقافات والبيئات والتربية يؤدي لاختلاف الحكم على الأمور وبناء القناعات". ويواصل ".. بل لكل وجهة نظر نسمعها وللجميع الحق في اختيار القناعة التي يريد السير عليها. وقديما قال الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ .. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".

(3)
إن تلك المساحة السابقة التي خصصناها للحديث عن ملهم الشباب المصري لثورتهم الملقب بـ"قائد ثورة الشباب"، مع ما قد يرى البعض أنها إسهاب في تمجيد الشخوص، لا الفعل نفسه، فيما يفترض تمجيد مفاهيم الفعل الثوري، ولاسيما أثناء فترة تواصل مساره، ومن ثم يأتي لاحقاً الحديث عن الشخوص. إلا أنني أردت أن تكون تلك المساحة مقدمة، مستقاة من ثورة تم إنجازها بنجاح وكفاءة لتلهم ثورة مازالت في طور التكوين وتتجه نحو تحقيق الإنجاز المنتظر، وهدفي من ذلك محاولة لتجاوز مشكلة بالغة الأهمية، لوحظ مؤخراً تسارعها الدراماتيكي، إذ بسطت سيطرتها على عقول وأفكار مجاميع ينتمون إلى شباب ثورتنا اليمنية العظيمة.

الفكرة العامة تدور حول تفاصيل الصراع القائم على نيل شرف القيادة، ونسب فعل الثورة لفئة دون أخرى، في الوقت الذي تفرز فيه الساحات الملايينية حالات مرضية مستعصية، أفضت إلى إرهاصات بدأت فيها بوادر لانعدام الثقة بالبروز على السطح، عبر التشكيكات المتبادلة التي وصلت حد الاتهام، بل الشتم، وصولاً إلى ما يشبه البدء بمحاولات مستميتة للتمترس الفكري والعصبوي بهدف إقصاء الآخر، والتقليل من شأن الفعل الثوري الذي يقوم به، في الوقت الذي يبجل فيه فعله ويجعل من نفسه محور ارتكاز الثورة.

وتلك أمور يرى البعض أن التغاضي عنها أدعى من كشفها حرصاً على سلامة ونزاهة منجز الفعل الثوري العظيم. غير أن التغاضي عن كشف أعراض المرض البدائية من شأنه حتماً أن يزيد من استفحال السوء، وعندئذ لن تجدي حيل الأطباء نفعاً في مداواته.

(4)
بداية، دعونا، هنا، لا ننسى أن نحيّي قيادات الفعل الثوري، سوى أولئك الذين اختيروا من غيرهم أم أولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الثورة ومتحدثين باسمها، ربما شعوراً منهم بأنهم آباء مؤسسون وأمهات حاضنات لها، يمنعون/ يمنعن أي "دخيل" من الاقتراب منها، ولا يتورعون عن وصفهم بـ"لصوص" الثورة.

وبعد تلك التحية، لا غرو أن ننتقل إلى توجيه اللوم لبعض تلك التصرفات المتخلفة من جهة البعض، وفقاً لسلوكيات طوباوية، تشخصن القضايا، ولاشعورياً ترتكب الجرم الذي تصرخ عالياً ضده وتطالب بإزالته، ذلك حين تتعامل مع الثورة كملكية خاصة. وللتوضيح أكثر، فإن ذلك بالطبع لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن ينتقص من حجم الجهود التي بذلت من قبل البعض على مدى الأشهر الثلاثة الماضية.

إن مسألة اللوم والعتب، بطبيعة الحال، ربما تبدو أمراً مستهجناً وغير لائق، خلال مراحل تخلق الثورة، غير أن النظر إليها يجب أن يكون من منظور "الفعل الثوري" لكونه أحوج ما يكون للتقويم والتوجيه. وإن هذا الدور يلزم وجوباً ثورياً على كل ذي قدرة ممن ينضوون في إطار الثورة، سواء أولئك الذين يقطنون الخيام الثورية، أم غيرهم من القادة السياسيين الذين يبيتون في الغرف المغلقة للتخطيط والتوجيه وتقويم المسار، أم أولئك الذين يقبعون إلى جوار أجهزة الكمبيوتر يتوخون تعزيز ودعم التوجه العام، ينشرون أخبار الثورة وثوارها، ويتحملون عبء المعركة الإعلامية التي تعد الأقوى والأكثر تأثيراً في طريق الثورات السلمية.

على أن الملاحظ أن هذا التكامل البنائي الهام، الذي يتضح توافره شكلاً، لا مضموناً، فإنه ولكي يؤتي أكله مازالت تعوزه أنساق وأطر عملية التنسيق والتنظيم، من خلال قيادة موحدة. وهذا بالفعل ما بدا أنه أشبه بالمستحيل عكساً على اختلافات الرؤى والتوجهات حول بعض التفاصيل الدقيقة.

(5)
إن منظومة الثورة تتكون من نظرية ثورية، وجماهير ثورية تتبناها، وقيادة ثورية تخطط وتوجه. ونحن هنا، إذ توافر لدينا الجزءان الأولان، ربما بكامل مقوماتهما، إلا أن ما يتضح حتى الآن أن الجزء الثالث ما زال بحاجة إلى مزيد من الجهد لصنع قيادات أكثر قدرة ومسؤولية.

على أنه، وإذ كان ولابد أن تتقدم تلك المجاميع رواحل قيادية ثورية بهدف تنظيم وتوجيه الفعل الثوري، وقيادته إلى بر الأمان، مع أقل الخسائر، فإن تلك الحماسة التي تشع من وجوههم لن تكون كافية لوحدها ما لم تترافق مع نضج فكري، بداية، يتبعها قدر من التجربة والممارسة، وهي قطعاً تختلف عن تجربة قيادة المنظمات والمنتديات السياسية وحلقات النقاش الحقوقية والأنشطة الاجتماعية.

وفي أتون القيادة الثورية المطلوبة، يمكننا الحديث، أيضاً، عن عدم كفاية التباهي بأفضلية "قصب السبق" في انطلاق الفعل الثوري، كشهادة لنيل شرف قيادة الملايين والتحدث بأسمائهم، طالما غاب عنها النضج الثوري المتسم بالقدرة على التعامل مع كافة السياقات المؤثرة والأحداث والمستجدات بما فيها القدرة على تجاوز الخلافات الإيديولوجية، السياسية، التنظيمية، والتنسيقية، إلى جانب القدرة على العمل الجماعي والحرص على استخدام الآليات العملية لصناعة واتخاذ القرار.

وفي السياق، ذاته يصبح مثقفو النخبة الاجتماعية المنضووون في إطار الفعل الثوري مجرد "حاطبي ليل" عديمي جدوى، بل وربما معيقين لمسار التوجه الثوري الجماهيري، ما لم يتحلون بقيم الجماعة الثورية، وما لم يتخلون عن أحادية الأيديولوجية منتقلين إلى تحالف ما وراء الإيديولوجيات لقيادة الجماهير بمشاربهم ومستوياتهم المتنوعة والمختلفة.

وإذا كانت الثورة عبارة عن "حدث يغير مسار التاريخ"، بحسب لينين في "المجلدات"، والذي على ضوء ذلك يرى أن "ما قبل الثورة يختلف عما بعدها"، فمن باب أولى أنها حدث يبدأ أولاً بتغيير مسار الأنفس قبل الآفاق. وفقاً للمبدأ الإسلامي المشمول بقوله تعالى «إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم» صدق الله العظيم.

(6)
وفي حالة ثورتنا، فإن بعض تلك القيادات الشبابية التي بلغت سلم الهرم القيادي، لوحظ – وللأسف الشديد - تمترسها وراء فكرة "قصب السبق"، وحجم التأثير الجماهيري لتجعل من نفسها وصية على الساحات بل وملايين الجماهير التي تقطن في منازلها، ثم تهرع كلما وجه إليها نداء النصرة. فتلك أمور تتحول إلى معيقات ثورية، ما لم تكن تلك القيادات (المفترضة) قادرة على تجاوز عصبياتها، سواء الأيديولوجية، أم السياسية، أم حتى عصبويتها النفسية الطوباوية، بلوغاً إلى مرحلة القدرة على التنازل عما يفترض أنها أمور بحاجة للتنازل من أجل الحفاظ على مسار النسق الثوري موحداً، ويبقى الطرف المتنازل هو الطرف الأشجع والأكثر حداثة وعقلانية، وثورية ووطنية، والأقدر على تذليل متطلبات النصر. إن ذلك سيكون بحاجة بداية إلى استيعاب فكرة أن الثورة "حدث يغير مسار التاريخ" وما قبلها يجب أن يختلف عما بعده، وأن التغيير يبدأ أولاً بتغيير ما بالأنفس قبل الآفاق، كما سبق و أشرنا.

ذلك أن الخلافات اللاحقة التي طالت مفهوم الثورة القيمي كثورة جماهيرية شاملة، يمتلك فيها جميع من في الساحات الثورية، حق تشكيل تكتلاتهم دون وصاية فيها لأحد على أحد، ولا قيادة فيها لطرف على آخر، كشفت عن عمق تغول جذرية أحادية، في وقت أعتقد فيه أن الصراعات الأيديولوجية القديمة تحولت إلى ماض بتوحدها على قاعدة سياسية استثنائية تجمع بين ما هو مشترك في النظرية لتعزز القوة العددية في إطار تكاملي متسق هدفه التوحد في مواجهة نظام عائلي استبدادي رهن استمراريته على سياسة التفرق والتشرذم والاختلافات الإيديولوجية والعصبوية المناطقية والقبلية.

إن للثورة الجماهيرية مفهومها الأشمل الذي يتجاوز كل الأحاديات والجزئيات البسيطة المختلف حولها، تلك التي يمكن تجاوزها والتخلي عنها دون أن ينقص ذلك من شأن المتنازل شيئاً. وهي بكونها جماهيرية شعبوية تختلف عن تلك الأحادية التي يقوم بها طرف لوحده. وهو مفهوم تذوب فيه الخلافات الجزئية البسيطة، وبحيث يصبح التبجح بالحديث حول قضايا جزئية على شاكلة: من سبق في النزول إلى الشارع أولاً، أو من نصب أول خيمة، أو من يمتلك القدرة على حفظ الأمن، أو من يمتلك زمام التنظيم ومسك الميكرفون أو الإصرار على فتح أغاني أيوب أو الأناشيد الثورية أو الخلاف حول تسمية الجمعة القادمة، أو حول مسار المظاهرة القادمة أو توحيد أساليب الرد على هجوم النظام وافتراءاته وشتائمه...الخ، يصبح الحديث عن كل ذلك تبجحاً لا معنى له أمام توحد الجميع حول هدف واحد، هو"الشعب يريد إسقاط النظام"، وفق نظرية ثورية واحدة تعتبر الثورة أسلوباً لتغيير المجتمع تغيراً جذرياً في جميع نواحي الحياة.

(7)
وعكس الحالة المصرية الفريدة، ففي حالة الثورة اليمنية، يتجلى غياب ذلك النضج الفكري بظهور من يتحدث باسم الثورة، كزعيم ملهم، متحدثاً عن نفسه بإجلال وتضخم يجعل من قدسية وعظمة المعاني الثورية شيئاً استثنائيا لا قيمة لها إلا حينما يلحقها بإنجازاته.

وفي الحالة اليمنية، أيضاً، وللأسف الشديد ظهر آخرون جعلوا من أنفسهم أوصياء على الثورة، يتحدثون عن أهدافها وتوجهاتها عبر الانتقاص من غيرهم. حملوا وراء ظهورهم إرثاً تاريخياً مشبعاً بالحقد، وهاهم اليوم يستغلون حالة الفوضى الثورية ليجدوها أنسب ما يكون للانتقام. حتى صغار الأحلام تحولوا إلى ظواهر صوتية، ينجرون كالأنعام كلما فرقع المندسون حدثاً، تجدهم يرفعون أصواتهم عالياً دون تمحيص أو ترشيح لما هو حق لهم مقابل ما هو حق لغيرهم..

وفي ساحة الفعل الثوري تجد البعض ممن يسعون إلى تحويل من حولهم إلى أهداف لفرض قناعاتهم في إحداث التحول الحداثي بكل تفاصيله، وهو ما عجز عن القيام به على مدى سنوات سابقة، إلا أنك تجده هنا يحاول إنجازه بضربة واحدة، مستغلاً حالة الفوضى. ومع ذلك فإنهم، وفي الوقت ذاته، يرمون غيرهم ممن يمتلكون قناعات مخالفة لهم بتهم التخلف ومحاولات الاستحواذ على فعل الثورة، معتقدين أنها مساحة تندرج في إطار ملكيتهم الخاصة.

فيما أن الحداثة في معناها الجوهري تعني العقلانية وقبول الرأي الآخر، والتمسك بالحوار، على قاعدة أن لاحق لأحد بفرض الوصاية على أحد، أو إجبار أحد على القيام بفعل ما يتعارض مع مبادئه وقيمه، أياً كانت تقليدية أم تقدمية وحداثية. وإذ يبقى الحوار والإقناع بالحسنى هو الفعل المؤثر في تغيير قناعة هذا أو ذاك، تبقى الساحة للجميع بكافة تفاصيلها دون فرض لون بعينه وإلغاء بقية الألوان أو طلائها بالسواد.

ولنا في الحالة المصرية، مثال آخر. فحينما كانت الثورة في بدايتها، حيث كان ما يزال التخوف قائماً حول إمكانية وأدها كونها ظلت منحصرة فقط على فئة الشباب، حاول المفكر الماركسي عمر الغزاوي العمل على توجيه مسار الثورة بالحديث عن مفهومها، من المنطلق الماركسي - اللينيني الذي يؤمن به، ولتحقيق إنجازها قال: "إن مدخل الثورة يختلف حسب البنية التي يعيش فيها أفراد المجتمع من مستوى وعي ومعيشة، والحريات السياسية والمشاكل الاجتماعية وكذلك بحسب البنية الخارجية والمتمثلة في العلاقات الخارجية مع مكونات المجتمع الدولي، وفي الحالة المصرية فالثورة محصورة في أفراد الشباب، وعليهم بحسب اعتقادي اللجوء إلى مؤسسة قائمة مؤثرة معارضة للنظام في عملية تغيير النظام الدكتاتوري السائد كمؤسسة الجيش كما حدث في حركة الضباط الأحرار أثناء ثورة 1952 أو عن طريق استيعاب وتحريك الشارع واستيعاب الضباط الشباب في الجيش". كما جاء في إحدى مقالاته بتاريخ 3/2/2011، أي بعد أسبوع من انطلاق شعلة الثورة المصرية في 25 فبراير، وقبل 9 أيام من تحقق الإنجاز.

أما هنا، فبعض الأوصياء يتركون عقولهم خارج المعنى الثوري، متمسكين بأحقادهم حين يتحدثون عن خطأ تأييد الفرقة الأولى مدرع وقائدها للثورة السلمية. وهو أمر يتعارض مع فكرة الحداثة التي من أول مبادئها العقلانية والتفكير المنطقي، ذلك مع أنهم يصمون أنفسهم بأنهم حداثيون.

وما لم يكن تصوره ممكناً أن نتحدث اليوم بنفس المنطق الذي كنا نتحدث فيه عن مطالبنا في التخلص من سلوكيات النظام القائم، لنقول: إن ثورتنا بحاجة إلى عقول وطنية راسخة تقدم مصلحة الجميع على المصلحة الشخصية. وما لم فعلينا أن نتبرأ من أولئك الذين يحاولون فرض وصايتهم على الثورة بطريقة جانحة تخدم الطرف الذي ضحّى في سبيل خلاصنا منه أكثر من 150 شهيداً، وجرح الآلاف لإنجاز الهدف ذاته.