الجمعة، 1 أبريل 2011

حصاد وهم الشعور الزائف بالقوة


بلغة الأرقام: حقيقة الملايين المناصرة التي خدعت الرئيس وجعلته ينقلب على اتفاقية خلاصه الأخير


المصدر أونلاين-خاص-عبدالحكيم هلال
لم تمر فقط سوى ثلاثة أشهر ونصف تقريباً، على آخر خطأ سياسي فادح ارتكبه الرئيس، ليرتكب خطأ آخر أشد فداحة، مكرراً الطريقة ذاتها في مشهد ربما اختلفت زواياه إلا أن حيثياته تشابهت إلى حد كبير، ومن المرجح أن تكون نتائجه هنا أكثر كلفة من سابقه.

ما أفضت إليه الأحداث أواخر الأسبوع الماضي ومطلع هذا الأسبوع (الجمعة - الأحد) من انقلاب رئاسي على اتفاقات اليومين السابقين ليوم الجمعة، تذكرنا بتلك الأحداث وطريقة الانقلاب ذاتها التي تعامل بها الرئيس مع المعارضة أواخر العام المنصرم (شهر ديسمبر). والثابت أن كلا الخطأين اتخذا أثناء شعور زائف بالقوة والقدرة.

جاء الخطأ الأول تحت وطأة الشعور بزخم قوة السيطرة على مجريات خليجي عشرين. لقد عاد الرئيس من عدن إلى صنعاء ليعلن الانقلاب على اتفاقية الحوار مع أحزاب المعارضة، فعمد مع حزبه على تمرير مشروع تعديلات قانون الانتخابات (8 ديسمبر) الماضي، وصادق عليه في 12 ديسمبر. ولم يكتف بذلك، بل وبعد أيام قليلة من ذلك، أعلنت قيادات في حزبه –بكل استهتار- عن إدراج مشروع تعديلات دستورية إلى جدول مجلس النواب تتضمن إزالة المادة التي تحدد فترة الرئاسة بدورتين، بما يعني منحه الحكم مدى الحياة.

وأثناء مخاضات ثورتي تونس ومصر، بدأ الرجل بمحاولات خجولة بهدف تصحيح الخطأ، لكن الوقت كان قد تأخر، مع سقوط النظامين الشقيقين البائدين. وهو حتى الآن ما زال يجني حصاداً مراً جراء ذلك التهور الناتج عن الشعور بالعظمة والزهو والقدرة على عمل كل ما يحلو له القيام به كرئيس باسط على كل مفاصل السلطات بل والحياة اليمنية برمتها منذ 33 عاماً.

لكن الرجل لم يتعظ؛ فكان مشهد حشود يوم الزينة (الجمعة الماضية) أكثر إغراءً من سابقه، من جهة العامل النفسي الخادع. وتحت وطأة زخم الشعور بالقوة والعظمة والزهو، قرر ثانية أن يتخذ المسار ذاته بالانقلاب على ما اتفق بشأنه خلال يومي الأربعاء والخميس. وبدلاً من أن يعلن – السبت – تنازله عن السلطة وتسليمها لنائبه أو لنائب آخر اشترط تسميته هو، عمد إلى إعلان تشبثه بالسلطة أكثر، والأحد جمع ما تبقى له من لجنة حزبه الدائمة، ليعيد الحديث عن إكمال فترته الرئاسية حتى 2013.

سراب خادع.. حشد الجمعة بلغة الأرقام 
أكثر من أي شخص آخر، يدرك الرئيس ومن حوله من مستشاريه ومعاونيه ومن لف لفهم، أن يوم الجمعة لم يكن أكثر من سراب خادع. لكنهم مع ذلك، ظلوا يسوقون له باعتباره انتصارا واستفتاءً بالقوة والبقاء.

لنترك جانباً حقيقة أن أي رئيس يمكنه أن يجمع الكثير بل الكثير جداً من الأنصار، بإنهاك خزينة الدولة ودفع مبالغ كبيرة (قيل أن الفرد الواحد من داخل العاصمة نال 50 ألف ريال، والقادم من الخارج زيد له 20 ألفاً، لحضور ساعات قليلة). لنترك ذلك، جانباً، ودعونا هنا نستخدم لغة العقل والأرقام ولنتحدث عن أمور أخرى، لنكشف حقيقتين هامتين؛ تتعلق الأولى بكشف مغالطات القوة العددية، والأخرى تدخل في السياق ذاته ولكن بالمقارنة مع المحيط الإقليمي ونجاح ثورتي تونس ومصر.

تحوي الحقيقة الأولى تفصيلاً لعدة حقائق مرافقة. ولنبدأ بالحديث عن مغالطات تحديد العدد. لم تخجل قيادات في حزب الرئيس، بل الرئيس نفسه، من الحديث عن حضور ثلاثة ملايين، إلى ميدان السبعين، وعشرة ملايين في عموم محافظات الجمهورية..!

- وبلغة الأرقام لا يمكن أن يسع ميدان السبعين والمساحات التي تجاوره، حشداً جماهيرياً لأكثر من نصف مليون وهذا عدد مبالغ فيه ويتجاوز الواقع بكثير. ولكن ماذا لو أهملنا إعمال عقولنا لحظة متجاوزين ذلك لنقول (مليون) شخص. والآن دعونا نعقد هذه المقارنة المفترضة. لقد اكتظ ميدان الثورة بصنعاء بساحته ومدرجاته– قبل أسابيع - بمناصرين للرئيس زعم أنهم بلغوا 50 ألفاً. وإذا افترضنا جدلاً أن مساحتي الميدانين غير متساويتين، كأن نفترض مثلاً أن ميدان السبعين أكبر بخمسة أضعاف، فإن ذلك لن يسمح بوجود أكثر من ربع مليون (250 ألفاً) فقط. أما إن تركنا عقلنا جانباً مرة أخرى، وتحدثنا عن مساحة تزيد عن عشرة أضعاف – وهذا مبالغ فيه كثيراَ - فإن العدد سيصل بالكاد إلى نصف مليون (أي: 500 ألف) فقط. ومع ذلك دعونا نقول (مليون)..! تم تجميعهم من كافة محافظات الجمهورية. مع ملاحظة أن أحد قيادات الحزب الحاكم قبل عام تقريباً اعتبر أن ميداناً آخر هو ميدان الظرافي، وسط العاصمة، لا تتجاوز قدرته الاستيعابية 5 آلاف شخص فقط، رداً على احتشاد أنصار المشترك هناك آنذاك. وهنا سأترك لكم حرية الخيال لاختيار ما تريدون من مضاعفات لمساحة الظرافي، قياساً بميدان السبعين، والحصول على آخر رقم يمكنكم بلوغه عبر العمليات الرياضية البسيطة..!

وماذا بشأن الملايين العشرة؟
وزعموا (الرئيس وحزبه) أيضاً أن ساحات الجمهورية ضمت عشرة ملايين مناصر بالتوازي ظهر الجمعة الماضية. وهنا سنورد لكم إحصاءات حيوية أخرى حول اليمن مستندة على تقارير إحصائية رسمية.

وإليكم هذه الحقائق الرقمية وفقا لآخر تعداد سكاني (2004):
- الإجمالي العام للسكان الذين تم عدهم في ليلة الإسناد الزمني للتعداد بلغ (21) مليوناً، و(161) ألفاً، و(385) نسمة. منهم (19) مليوناً، و(685) ألفاً، و(161) نسمة سكاناً مقيمين. وبلغ عدد المتغيبين خارج البلاد (المهاجرين) مليوناً و(700) ألف نسمة.

- نسبة عدد الذكور منهم يصل (55.99%) أي (10) ملايين، و(016) ألفاً، و(137) نسمة. فيما بلغت نسبة الإناث (49.01%)، أي بعدد (9 ) ملايين، و(648) ألفاً، و(208) نسمة.

والآن ( ونحن في 2011) لنقل أن عدد السكان ارتفع إلى (23) مليوناً، وهو رقم تقديري منتشر بشكل واسع، على اعتبار أن معدل النمو السكاني ثبت مؤخراً عند 3 %. وعليه، فإن العشرة ملايين، الذين لم يخجل الرئيس ولا قيادة حزبه من القول به، سيعني أن أنصار الرئيس يقتربون من نصف عدد السكان تقريباً. وهذا أمر لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يستقيم مع الحقيقة والواقع المؤكد أن (50%) من عدد السكان هم دون سن الـ15 سنة، وأن (48%) فقط فوق 18سنة. بمعنى أن 11 مليوناً ونيف تقريباً من إجمالي عدد السكان هم أطفال (دون سن 15). وبترك هذه الفئة جانباً فإنه لن يتبقى سوى النصف، وهذا النصف لا يعقل - وفق أي تصور كان - أن يكونوا جميعهم تحت قبضة الرئيس وحزبه..! ليستولوا عليهم هكذا دون حياء من أحد..!

وأكثر من ذلك، تفيد الإحصائيات أيضاً أن نسبة الإناث هي الأخرى تقترب من نصف عدد السكان (49.01%)، فيما لم يشهد ميدان السبعين أكثر من (5%) من مجموع الحاضرين، بما يعني أيضاً تخفيض نسبة النصف المتبقي (11) مليوناً ونيف، تخفيضهم إلى النصف. أي (5) ملايين ونيف تقريباً. ونعيد الاستنتاج مرة أخرى لنؤكد أن هذا النصف أيضاً لا يمكن بأي حال من الأحوال سرقته لحساب الحزب الحاكم..! لأن ذلك سيعني أن شباب الثورة وأحزاب المعارضة في الساحات = صفر.

ومن الانتخابات يزداد الوضوح
تكشف سجلات اللجنة العليا للانتخابات أن إجمالي عدد المقيدين في كشوفات الناخبين في آخر انتخابات (2006) يبلغ (9) ملايين، و(247) ألفا و(390) ناخبا وناخبة. عدد الذكور منهم يصل إلى (5) ملايين و(446) ألفا و(28) ناخباً، بينما وصل عدد الإناث المسجلات إلى (3) ملايين و(9) آلاف و(577) ناخبة.

ومن إجمالي العدد، حصل الرئيس في انتخابات 2006 الرئاسية على (4) ملايين، و(149) ألفاً، و(673) صوتاً. أي على نسبة (68.9%) من النسبة الفعلية من إجمالي المشاركين الفعليين. وهذا العدد بالطبع يشمل نسبة التجاوزات والتزوير التي تحدثت عنها التقارير الدولية التي رافقت العملية الانتخابية. كما يشمل عدد من توفوا خلال الأعوام الخمسة ونيف الماضية.

وإذا اعتبرنا أن عدد من بلغوا سن الانتخاب خلال الفترة من 2006 حتى اليوم ازدادوا مليوناً أو حتى مليوناً ونصف على أعلى تقدير، وتجاوزاً للكرم الطبيعي فلنضم جميع هؤلاء أيضاً لحساب الرئيس، ومع ذلك فإن أعلى نسبة تقديرية لن تتجاوز الملايين الخمسة والنصف في جميع أنحاء الجمهورية. وبافتراض غير منطقي بالطبع أن جميعهم خرجوا لمناصرة الرئيس، فمن أين جاءت الملايين العشرة المتشدق بها..؟؟ هكذا بدون خجل أو استحياء أمام العالم..!

ثم كيف يمكن هكذا بجرة لسان أن يتحدث بهذا الزيف، فيما هناك ملايين الشباب المنادين برحيله في محافظات الجمهورية، تم تسويتهم بالصفر. كان يكفيه فقط أن ينظر إلى تلك الأعداد الضخمة الرافضة لبقائه في أربع محافظات فقط هي: الأمانة، تعز، إب، الحديدة. وهي أكبر أربع محافظات في عدد السكان في الجمهورية..!

وحتى لا يواصل النظر إلى السراب ليتشبث بالسلطة، عليه فقط أن يسمح لهذه الحشود في المحافظات الأربع أن تحتشد في ميدان السبعين إن كان يمتلك الجرأة لإدراك الحقيقة المؤلمة. وأزيد من هذا فهو وأتباعه ينسون حقيقة أخرى أن مئات الآلاف من أبناء الجيش الذين رشحوه في الانتخابات الأخيرة لم يعودوا اليوم أتباعه بعد أن أعلنوا انضمامهم للثورة.

ومن الثورات العربية تأتيك حقيقة ناصعة
لم يمل أزلام الحزب الحاكم من الحديث عن عدم قبول لي الذراع الأغلبية من الأقلية. بل لنا أن نتصور أن سكرتير الرئيس الإعلامي – المعين في الوقت الضائع – تحدث أمام الملايين في قناة الجزيرة – قبل أسابيع – ومثله الكثير من الأغبياء، تحدثوا بهذا المنطق الغبي: أن هناك ثلاثة ملايين محتج في الشوارع لا يمثلون شيئا أمام ما تبقى من عدد السكان البالغين حوالي 18 مليوناً آخرين..! هكذا دون استحياء من العقل.

أقل ما يمكن توصيفه لمثل هذا الخطاب أنه جاهل وغبي. فالقياس كان يجب أن يتم على عدد المقيدين في جداول الناخبين. كونهم العنصر المجتمعي الحاسم للصراع السياسي، وليس بالحديث عن كافة العناصر السكانية التي تشمل (50%) من الأطفال – دون سن 15 سنة.

إن حديثاً كهذا يذكرنا تماماً بما كان أزلام مبارك يصرخون به على القنوات الفضائية قبل رحيله. وهو ما لم يحل دون سقوطه. وبالقياس علينا أن نذكر أن عدد سكان مصر يتجاوزن الـ (80) مليون نسمة، فيما لم يزد عدد من أسقطوا مبارك عن نسبة (10%) من إجمالي عدد السكان. أي حوالي (8) ملايين مواطن فقط، بحسب إحصائيات تحدثت عمن خرجوا في اليومين الأخيرين لسقوطه.

وفي تونس، تفيد المعلومات أن ما بين (25) ألفاً، و(30) ألف مواطن تقريباً، هم الجماهير الذين عجلوا بفرار زين العابدين بن علي.

وهذه حقيقة أخرى: 
على أن ما يزيد من تعزيز قوة ثورة الشباب اليمني عن غيرها، أن عشرات القادة العسكريين المهمين، ومعهم الآلاف من الضباط والصف والجنود، ومئات الدبلوماسيين، وعشرات الحزبيين التابعين للنظام، ناهيك عن زعماء أقوى القبائل اليمنية، مع مواطنيهم، كلهم أعلنوا تأييدهم للثورة على الملأ بشكل واضح وشجاع، وهو ما لم نشهده في كافة الثورات العربية الأخرى سواء تلك التي انتصرت أو تلك الأخرى التي انطلقت مؤخراً.

كل المؤشرات تقودنا باتجاه حقيقة واحدة لا يمكن أن تعيق بلوغها أو تحجبها حشود وهمية واجتماعات وبيانات وتصريحات ليست إلا محاولات بائسة لعكس معادلة التكون الأخير لمسار انتصار الثورة. وما على الرئيس بعد تفضيله مواصلة المواجهة بالوهم الخادع، إلا أن يحصد السراب، ويجني النهاية الكارثية التي كان باستطاعته تجنبها قبل الجمعة الماضية.

قال لي محلل سياسي: كل تلك الحشود الوهمية لا تعني شيئاً ولا يمكنها أن تغير مسار المعادلة التي تتجه بقوة نحو نهايتها الحتمية. فما علينا اليوم إلا أن ننظر في حقيقة واحدة هي: هل مازال الرئيس في الوقت الراهن يمتلك السلطة ذاتها التي تمكنه من تغيير قائد عسكري ما أعلن تأييده للثورة؟

الواقع أن الرئيس اليوم بات عاجزاً عن تنفيذ قراره بتغيير قائد معسكر الدفاع الجوي بالحديدة، والذي رفض أتباعه قرار التغيير ودافعوا عن بقائه بقوة. وهو ما حدث أيضاً مع قائد المنطقة الشرقية. 
-----------------
المادة نشرت في صحيفة المصدر وموقع المصدر أونلاين بتاريخ الثلاثاء 29 مارس 2011


الجمعة، 25 مارس 2011

لماذا لم يقل أوباما لصالح ارحل الآن؟


لماذا لم يقل أوباما لصالح ارحل الآن؟
عبد الحكيم هلال
حتى الآن، الواضح أنه ليس لدى إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما استعداد لفهم أبعاد ما يدور في اليمن من زاوية أخرى تكون أكثر واقعية، تتجاوز تلك الأبعاد القديمة المنظورة من زاوية "الحرب على الإرهاب" التي ورثتها عن سابقتها، ولم تزد أكثر من مواصلة بناء مواقفها عليها، متمسكة بالرئيس صالح "حليفا" هاما في تلك الحرب.
 
الأوضاع في اليمن، في الشهرين الأخيرين تحديدا، اتسمت بتصعيدات سياسية مفاجئة ومثيرة للاهتمام. واستلهم الشارع اليمني زخم الانتصارات الشعبية لثورتي تونس ومصر، لينتفض من أجل إسقاط نظام "صالح" الذي يحكم البلاد منذ 32 عاما، مع استشراء كبير للفساد والمحسوبية وتمكين الأسرة.
 
والجمعة (18 مارس/آذار) قتل 52 محتجا، بينما جرح قرابة 600 آخرين برصاص قناصة، فيما وصف بالمجزرة البشعة ضد المحتجين السلميين.
 
واتهم المحتجون وأحزاب المعارضة مباشرة الرئيس بارتكابها هو وأبناؤه وأبناء أخيه المسيطرون على قيادة مفاصل هامة في الجيش والأمن. وبهذه الأرقام ارتفع عدد الضحايا إلى 100 قتيل وقرابة 1500 جريح، سقطوا وأصيبوا منذ بداية الاحتجاجات.
 
مضت تلك التطورات، فيما كان الرئيس بين الحين والآخر يعرض مبادراته الواحدة تلو الأخرى، لكنها كانت تأتي متأخرة عن مطالب الشارع المتصاعدة. في وقت لم يأل فيه جهدا من مواصلة استخدام أوراقه الواحدة تلو الأخرى، بما فيها استخدام ورقة "الإرهاب".
 
ورغم تلك السخونة، لم تبارح أميركا شتاءها، مفضلة البقاء فيه لتفصل مواقفها على نحو لا يضر بحليفها.
 
بدأ ذلك مع أولى مبادرات صالح مطلع فبراير/شباط، حين رحبت بتصريحاته في عدم الترشح مجددا أو التمديد أو التوريث، ودعت المعارضة للتعامل معها بجدية.
 
وفي مطلع مارس/آذار قدم صالح مبادرة أخرى، تحدثت عن دستور جديد ونظام برلماني، وتقسيم اليمن إلى أقاليم، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ولكن مع مواصلته فترته الرئاسية حتى العام 2013، فكان الموقف الأميركي مشابها لسابقه عبر اتصال جون برينان مساعد الرئيس الأميركي المؤيد والداعي للحوار.
 
في الواقع، كان برينان يلح على المعارضة للقيام بشيء لم تعد قادرة على القيام به، فالمبادرة جاءت في الوقت الخطأ، وقبولها سيعرضها لخسارة قاعدتها بعد رفض المحتجين لها وارتفاع سقف مطالب الشارع.
 
فالواقع أن المبادرة جاءت بعد يومين من استخدام النظام العنف والرصاص الحي والقنابل السامة ضد المحتجين، وألحقها بمجزرة أخرى بعد يومين فقط من إطلاق المبادرة، ما أدى إلى مقتل تسعة أشخاص تقريبا وإصابة قرابة 200.
 
ومع تزايد العنف وأعداد القتلى والمصابين، لم تزد أميركا على موقفها السابق الداعي للحوار إلا عبارة وحيدة أضافها فيليب كراولي مساعد وزير الخارجية للشؤون العامة حين دعا إلى أن "يتوقف العنف فورا" (13 مارس/آذار). غير أن العنف لم يتوقف..! بل ازداد ضراوة عن السابق، بارتكاب مجزرة الجمعة (18 مارس/آذار) الأكثر دموية.
 
وفيما بدأ محيط "صالح" يتصدع أكثر بانسحاب واستقالة وزراء ونواب وقيادات في حزبه، والعديد من مشايخ القبائل والعلماء، معلنين تأييدهم لثورة الشباب السلمية، فإن موقف الإدارة الأميركية إزاء تلك الجريمة ليس فقط لم يتقدم بل بدا واضحا أنه اتسم بالتخلف عن آخر موقف صدر بخصوص العنف.
 
وأطلق مكتب الرئيس أوباما تصريحات لم تزد عن مواصلة الدعوة للحوار، سوى إدانته استخدام العنف، والدعوة لمحاسبة مرتكبي الجريمة، وهو ما عدّ تخلفا عن موقف كراولي بحيث لم يتم البناء على دعوته السابقة لإيقاف العنف فورا، مع أن نظام "صالح" ليس فقط تجاهل تلك الدعوة، بل استخدم العنف بشكل مفرط، إذ تجاوز فيه عدد قتلى الجمعة أعداد من قتلوا طيلة فترة الاحتجاجات، مع تأكيد الأطباء أن 90% من القتلى والمصابين (الجمعة) تعرضوا لطلق ناري مباشر في الرأس والرقبة والقلب والصدر، على عكس ما سبق من قتل وإصابات كان معظمها بفعل الغازات السامة والطعنات وبعض الرصاص الحي والمطاطي.
 
على تلك الشاكلة ظلت الأحداث تتصاعد تدريجيا فيما كان "صالح" يواصل تمسكه بالكرسي بكل أساليب الترغيب والترهيب والقتل، حتى بلغت الأوضاع منعطفا بالغ الخطورة، حيث أعلن قادة كبار في الجيش اليمني  تأييدهم لثورة الشباب يوم الأحد (20 مارس/آذار) وتعهدوا بحماية المحتجين السلميين.
 
وانفرط العقد بعد الإعلان المفاجئ للواء علي محسن صالح قائد المنطقة الشمالية الغربية -أهم وأقوى حلفاء صالح- المؤيد للثورة، لتتوالى بعده إعلانات التأييد، من قادة آخرين في الجيش والعديد من سفراء اليمن وأعضاء السلك الدبلوماسي في الخارج، إلى جانب أهم الزعماء والمشايخ القبليين، وقادة آخرين وأعضاء في حزبه، ووزراء وإداريين، ونخبة وإعلاميين، وما زالت تتوالى حتى اليوم.
 
كان الأمر أشبه بانهيار مفاجئ في لحظات لجدار طويل من الصمت، في حين ظل الموقف الأميركي مشوشا وغير قادر على استيعاب ما يحدث لنظام حليفه، مفضلا الانتظار والترقب إلا من بعض التسريبات التي تحدثت عن توقعات بسقوط النظام في الساعات القليلة المتبقية من يوم الأحد الماضي، إذ كان الأمر بالنسبة لها أقرب لما حدث في اليوم الأخير للحليفين السابقين: زين العابدين ومبارك.
 
ومع ذلك اختلف الموقف هنا كثيرا عن موقفها في الأيام الأخيرة للثورتين السابقتين، إذ لم يعقد الرئيس أوباما مؤتمرا صحفيا ليشدد بحزم على أن على الرئيس صالح أن يترك السلطة فورا.
 
لقد جاء مثل هذا الموقف من الحكومة الفرنسية، التي سارعت لقول ذات العبارة لتكون هي السباقة هذه المرة، غير أن ذلك لم يحدث حتى الآن، إذ استطاع صالح أن يحظى بأمل المواصلة ربما لأيام قليلة.
 
ويعزى ذلك للتحركات التي قام بها ليلة الأحد، ومكنته من تأخير عملية الانهيار لا إيقافها، وأجبر صالح وزير دفاعه -كما أوضح لاحقا حليفه السابق علي محسن- ليظهر عبر التلفزيون المحلي معلنا دعم ووقوف الجيش معه والدفاع عنه ضد ما وصف بالانقلاب، ما عد بمنزلة التهديد بإعلان الحرب، بينما انتشرت دبابات ابنه في الحرس الجمهوري لحماية القصر الرئاسي، واشتبكت قوات مؤيدة له مع أخرى حليفه لمحسن في حضرموت.
 
أثناء ذلك لم يترك "صالح" وسيلة أو محاولة للاستماتة والبقاء إلا وقام بها، وأرسل مستشاريه للتحاور مع قادة المعارضة والجيش، معلنا استعداده بقبول أي حل ممكن. حينها فقط أمكن للتوتر أن يهدأ أو بالأحرى أن يتأجل، لكنه لم ينته بعد، إذ أعلن لاحقا أن أحزاب المعارضة رفضت أي حل بعيد عن مطالب الشارع.
 
يتمسك "صالح" بأساليبه وخدعه وأي شيء آخر يعزز بقاءه مدة أطول، ونقل عن أحد مساعديه تأكيده استعداد الرئيس للرحيل ولكن ليس قبل أن يتأكد لمن سيسلم الكرسي. وهي خطوة أقنع فيها حليفته العظمى أن تخليه عن السلطة دون ذلك سيؤدي إلى حرب أهلية شرسة يستغلها تنظيم القاعدة لتعزيز حضوره.
 
والواقع أن صالح حين يقوم بكل ذلك الخداع، دون أي اعتبار للنتائج الكارثية التي قد تنجم عن تمسكه بالسلطة على هذا النحو، يستند أصلا على حقيقة أن إيمان إدارة أوباما به حليفا أفضل لم يتزعزع بعد، فهي مازالت تؤمن بأنه لا أحد أقدر على، ليس فقط مواصلة فتح الأرض اليمنية لها للقيام بعملياتها، بل لا أحد من الحلفاء وصل به الأمر أن فضل خداع شعبه على فضح ما قامت به طائراتها حين قتلت ما يقارب 50 مواطنا يمنيا بينهم أطفال ونساء في منطقة المعجلة، جنوب اليمني أواخر ديسمبر/كانون الأول 2009، حسبما أكدته وثائق ويكيليكس حين أطلق صالح عبارته المشهورة "استمروا بالضرب، ونحن سنستمر بالقول إن قواتنا هي التي ضربت".
 
وعلى المنوال نفسه من المرجح هنا القول إن تصعيد نظام صالح للأحداث بطريقة دموية وتنفيذه مجزرة الجمعة، بعد خمسة أيام فقط من الدعوة لإيقاف العنف فورا، يمكن ضمه هو الآخر أيضا في سياق التواطؤ الأميركي مع نظام حليفها الدموي.
 
وليس هذا فحسب، بل لم تأبه هذه الإدارة وتجاهلت تلك الأخبار التي أكدت استخدام اليمن لقنابل دخانية ضد المحتجين، كانت سلمتها له لمحاربة الإرهاب، في إطار المساعدات العسكرية لمحاربة تنظيم القاعدة.
 
إن هذا فقط هو ما يجعل كل بيانات وتصريحات الإدارة الأميركية تتجنب الحديث عن رحيله وتدعو إلى حل سلمي بالحوار، ومع أن معظم الخبراء الإستراتيجيين، ومعهم الباحثون الأميركيون، باتوا يدركون تماما اليوم، أن ورقة الإرهاب التي يستخدمها صالح هي أشبه بمغناطيس جاذب للمساعدات الخارجية، وبالأخص الأميركية إلا إدارة أوباما، يبدو أنها لم تستطع أن تتخلى عن إرث الإدارة السابقة، في اعتبار صالح "راقصها المثالي على رؤوس الثعابين".
 
على هذا الإيقاع واصل صالح دق طبول الحرب مع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، لقد ظل يقوم بذلك كلما لزم الأمر. وها هو حتى في أحلك الظروف التي يمر بها اليوم داخليا مازال يواصل الرقص على الإيقاع نفسه. فأخبار تنظيم القاعدة تبرز اليوم بقوة لتمتزج بالأحداث المتصاعدة في البلاد.
 
في الحقيقة تدرك أميركا أن الرجل يرتبط بعلاقات غير معلنة مع بعض قيادات تنظيم القاعدة، غير أنها تفضل الاستمرار في اللعبة حتى نهايتها طالما أنها تحقق المزيد من المكاسب. وهذا ما تؤكده البرقيات الدبلوماسية الصادرة عن ويكيليكس، فيما يتعلق بموقفه مع جمال البدوي الإرهابي المطلوب لدى وكالة الاستخبارات الأميركية، مهندس الهجوم على المدمرة الأميركية كول عام 2000. الذي رفض صالح تسليمه.
 
مع ذلك لا يمكن الزعم بأن صالح استطاع أن يواصل خداع القدرات الاستخبارية الأميركية على هذا النحو الساذج، بل يمكن عزو الأمر، كما أسلفنا، غلى تفضيلها مجاراته وإبقاءه بغية كسب المزيد من التنازلات.
 
على أن الحماقات التي يرتكبها صالح في الوقت الراهن، لمعركته الحديثة المختلفة بكل المقاييس مع شعبه، لا تقل عن تلك التي ترتكبها الإدارة الأميركية التي فضلت حليفا تؤكد كل المؤشرات أنه فقد توازنه ولم يعد يفصله عن السقوط سوى تلك المسافة الضئيلة المتبقية لإنجاز رقصته الأخيرة. الرقصة التي ما زال يواصل القيام بها على وقع المواقف والتصريحات الأميركية المتخلفة عن إيقاع الشارع.
 
في نهاية المطاف يجب التأكيد أن ما ستخسره إدارة أوباما بمواصلتها اللعبة على النحو السابق، سيفضي إلى نتائج كارثية تتجاوز احتمالية غير مؤكدة لما يمكن أن يطول اليمن من سوئها، إلى احتمالية مؤكدة لخسارة أميركا موقف وتأييد الشعب اليمني لمواصلة سياساتها في البلاد، إن لم يكن ما تقوم به في الوقت الحالي داعما ومقويا لحضور أكبر للإرهاب، من حيث إن دعم إرهاب صالح في قتل شعبه لن يكون أشد تأثيرا على النفس من قتل القاعدة للأجنبي أو لاستهداف مصالحه.
المصدر:الجزيرة

الخميس، 24 مارس 2011

هكذا عجل الديكتاتور بسقوطه


أريد لها أن تكون جمعة الكرامة بيد أن رصاص القناصة حولتها إلى مجزرة مأساوية وسالت دماء الشهداء الطاهرة فامتزجت بدموع مهابة التشييع المهيب


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
كان ظهر أمس الأول (الأحد: 20 مارس) يوماً حزيناً امتزجت فيه دموع الموجوعين بمهابة تشييع 35 شهيداً من بين 52 شاباً فقدوا أرواحهم الطاهرة برصاص قناصة محترفين. لقد باغت الأشرار من وراء جدر أنبل شباب اليمن عقب انتهائهم من صلاة جمعتهم السلمية الرابعة في ساحة التغيير.

( 18 مارس) تلك كانت جمعة الكرامة أو بحسب البعض: جمعة الإنذار. تحولت في لحظة قسوة بشرية إلى مأساة إنسانية. يوم يمني مختلف إذ خضبه السفاحون بالدم وذلك يوم ما كان لمدوني التاريخ أن يمروا عليه دون التوقف أمامه لتسطير أنكى عبارات الحزن والألم.

هكذا كان المشهد في ساحة التغيير بصنعاء. ما إن انتهى الخطيب الشاب من خطبته الجريئة (التي ما كان ليجرؤ له أن يسطرها في غير مدينة الحرية هذه) حتى بدأت الساحة من أقصاها إلى أقصاها تهتز بأصوات مئات الآلاف مرددين تسابيحهم خلف الميكرفون بصوت واحد: "حسبنا الله ونعم الوكيل" قرابة عشرين مرة لترتفع بعدها الأصوات مرددة على نسق واحد "الشعب يريد إسقاط النظام.. الشعب يريد إسقاط النظام"..

لحظات حتى ارتفعت أدخنة سوداء من ركن الساحة القصي للجهة الجنوبية المحاذية لجولة شارع الرقاص. بدأ المصلون يتحركون مصوبين أنظارهم صوب تلك الأدخنة فجاءهم صوت الميكرفون موضحاً أن لا تقلقوا فتلك ربما تصرفات بلطجية أحرقوا الإطارات قرب جولة الرقاص..

تواصلت الهتافات المتنوعة التي دأب الجميع هنا على ترديدها بشكل أشبه بورد يومي. دقائق مرت حتى ارتفعت صرخات الهلع الممتزجة بالرهبة مع صافرات الإسعاف في وقت كانت فيه أصوات الرصاص ترتفع تدريجياً من تلك الجهة. بداية ظهر مجموعة من الشباب يعملون على إزاحة المتجمعين من الخط الإسفلتي الضيق من أجل السماح بمرور مجموعة أخرى من الشباب بسرعة وهمة عالية وهم يحملون شاباً ممداً على بطانية بجسد معفر بالدماء. كانوا يتوجهون به إلى المستشفى الميداني.. بعدها مرت مجموعة أخرى بنفس الطريقة. توالت المشاهد المشابهة المشهد تلو الآخر، بدأ الناس ينزاحون إلى الأطراف متيحين الطريق لسيارات الإسعاف المسرعة في نفس الاتجاه.. بدأ القلق يسيطر على معظم الحاضرين مما يحدث في ذلك الطرف القصي من ساحة الاعتصام. مرت النصف ساعة الأولى على المنوال ذاته: مجاميع تحمل شباب مضرجين بدمائهم وسيارات إسعاف تتناوب ذهابا وإيابا. مرت الساعة الأولى لكن الحالة لم تهدأ بعد بل كانت الحركة تزداد تصاعداً.

الآن تواردت الأخبار لتؤكد إستشهاد عدد غير محدد من الشباب بعد أن حصدتها رصاص قناصة محترفين تستروا بجبنهم في أمكان عدة، كان القناصة يطلقون الرصاص بشراهة ودون رحمة صوب الرؤؤس والصدور والأعناق. لقد حصدوا حتى الآن قرابة عشرة شهداء وعشرات الجرحى.. من حين إلى آخر ومن دقيقة إلى أخرى كانت الأخبار الواردة تتحدث عن ارتفاع حصيلة القتلى. الآن تجاوز الرقم العشرة 14 شهيد وإن هي إلا لحظات حتى اقترب العدد من العشرين. ساعتان حتى الآن والعدد يرتفع بطريقة غير متوقعة بين قتلى وجرحى.

لقد بات من المؤكد الآن أن مجزرة بشعة يتم ارتكابها منذ ساعات ضد المعتصمين السلميين، نعم هي مذبحة تنفذ بلا هوادة.. العدد يرتفع ويرتفع بطريقة لا يمكن تصديقها..

الآن الساعة الثالثة وبضعة دقائق، تؤكد المعلومات أن عدد الشهداء يقترب من الثلاثين.. ومع دخول الظلام كان أربعون شاباً بعمر الزهور قد تحولوا إلى جثث هامدة، معظم الإصابات أكد الأطباء الميدانيون أن 90% منها كانت برصاص قناصة في الرأس على مقدمة الجبهة ومن الخلف في الصدر قرب القلب وفي الرقبة.. آخر الإحصاءات تقول بـ 52 شهيد بينما تجاوز عدد الجرحى المائتين. لم يعد هناك أدنى شك أن مذبحة بشعة دبرت في ليل وتم ارتكابها في وضح النهار.. لقد كان نهار جمعة دامياً وحزيناً بالفعل!

* * * * *
بعد الساعات الأولى من المجزرة أُعلن أن من مازال الإعلام الرسمي يطلق عليه وصف رئيس الجمهورية سيعقد مؤتمراً صحفياً بعد لحظات. ترى ما الذي سيسع مثله أن يقول في مثل هكذا لحظات أشد إيلاما وقسوة، لحظات أن كانت فيها بعض الأمهات وبعض أسر الضحايا يتلقون فجائعهم بفقدان من يحبون!؟

هاهو الآن يظهر أمام عدسات الكاميرات الفضائية.. وماذا؟ ما الذي يتفوه به هذا الرجل؟ أغلب الظن أنه خرج لتوه من أسوار قصره متخماً بوجبة دسمة وبالتأكيد طبق لحوم مزقتها أنيابه في الوقت الذي كانت فيه أنياب القناصة تنهش لحم وتمزق جماجم شباب بعمر الزهور. شباب خرجوا بصدورهم العارية حاملين رؤوسهم المزهرة على أكتافهم لا يطالبونه سوى بالتوقف عن كل شيء يمس حياتهم ويهين كرامتهم. كل شيء جمعوه ورتبوه بكلمات موجزة مفادها: لأكثر من 30 سنة وأنت تقف على رؤوسنا نسمع كل ما تقول دون أن يكون لنا حق أن نقول شيئاً على ما قلت. أما اليوم فقد آن أوان أن تسمعنا أنت جيداً. عليك أن تقبل هذه الحقيقة: لم نعد نرغب بك في مكانك أنت وأبنائك وأسرتك. هذا يكفي. نعم لقد سئمنا من كل شيء ولم يعد بقاؤك ممكناً بعد الآن!

شباب خرجوا بصدورهم العارية، صدور حملت رؤوسهم العالية لكن 52 منهم منذ الجمعة لم يعد قادراً على تحريك رأسه بعد الآن. ألا ترى أن الرصاص قد اخترق صدورهم دون رحمة؟ هشم رؤوسهم بانتقام شره وغير عادل؟ لم يكونوا يحملون شيئاً في أيديهم! أنت تعرف ذلك جيداً كما تعرف أنهم فقط كانوا يطالبونك بشيء كفله العقد الاجتماعي بينك وبينهم. الدستور الذي عبثت به لسنوات هو نفسه من أدركوا اليوم أنه –ومنذ قرابة 20 عاماً أو يزيد- يضمن لهم رفع ورؤوسهم عالياً والخروج بها إلى الشارع لقول ما يشاءون طالما أنهم لا يقدمون على جرم وهو هو الدستور ذاته من أكد لهم أن أحداً لا يمكنه بأي حال أن يصادر رؤوسهم من أجسادهم حتى أنت بجبروتك سيد القصر المتضعضع يا من ومذ خلقوا لم يعرفوا أحداً سواك يخطب فيهم باسم القائد الأوحد ليقول ما يشاء وكيفما يشاء ولا يتم إلا ما يشاء!

لقد كان ذلك كله يحدث في السابق دون اعتراض. نعم دون أن ينبتوا ببنت شفه. لكنه بات عليك أن تدرك اليوم أنه كان قبل أن يحركوا رؤوسهم (أه.. حينما كانوا قادرين على تحريكها قبل تهشيمها عصر جمعة إنذارك) قبل أن يحركوها صوب الدستور الذي مسخت قدسيته وعثت فيه دون رادع، ليكتشفوا أن ما زال فيه بعض ما يجعلهم يقولون لك دون وجل: "لقد آن أوان رحيلك.. ألا فلترحل".

من حقنا أن نمارس حقنا الدستوري وبالطبع من حقك أن تغضب. لكن هذا لا يمكنه أبداً أن يجعل منك فرعوناً تستخف بنا لطاعتك! حتى إنك لا تخجل أن تتفوه بهذا الذي تفوهت به الآن وقبل لحظات أمام عدسات الفضاء، أمام العالم؟ أما تتورع أن تسمعك أمهات الشهداء وأطفالهم؟ إنهم يرونك تحرك يدك اليسرى أمام الكاميرا، أمام الكثير من العدسات، وتتفوه بأشياء لا يتفوه بها إلا شخص.. من غير المعقول ولا يمكنهم أن يصدقوا أنه الشخص ذاته الذي سمحوا له أن يحكمهم بل يتحكم بمصائرهم طوال هذه المدة!

هل يمكن حتى أن تقبل بذلك الصغيرة "نها" أو أختها "مها" أم أحد من إخوانهن: "مصعب وصهيب"؟ أنت ودون ريب لا تعرف من هم هؤلاء حتى؟ ها أنا أعلمك أنهم أبناء الشهيد جمال أحمد عبدالعليم الشرعبي. ومثلهم الكثير من أطفال وأمهات 52 شهيد. هل يمكنهم جميعاً قبول أن تقول لهم بدم بارد: لست أنا القاتل وأن جنودك –بل هم جنود الشعب لو أنك حقاً تحترم دستور الشعب– أنهم لم يكونوا موجودين ساعة أن انفجرت جمجمة أبيهم؟ ابنهم؟ بل كيف جرؤت أمام دموعهم السخيمة وأمام صرخات الأرامل المختنقة، كيف جرؤت أن تقرر النتيجة هكذا على هذا النحو: لست أنا بل شعبي هو من يقتل بعضه بعضا! وتضيف دون أن يطرف لك جفن: لقد أزعج هؤلاء أولئك فغضب هؤلاء ليقتلوا أولئك!!

الشيء الذي يفهمه أطفال الشهداء بشكل لا لبس فيه أن أباهم ما تركوهم إلا لمهمة جليلة تتعلق بمستقبلهم مستقبل عائلتهم الصغيرة. بل إنهم مع أنهم مازالوا صغاراً باتوا يدركون أن الشعب ومنذ شهر هب وأبوهم يطالبونك بالتوقف عن هدم مستقبلهم. ربما خرجوا مع أبيهم ذات يوم مشمس إلى ساحة التغيير. رأوا قبضته في الهواء وسمعوا صوته يختلط بصوت أقرانه أنهم ما عادوا يرغبون بك حكماً لهم. لكن ما الفائدة بالنسبة لصغير العمر فها هو أبوهم ما عاد قادراً –بعد الآن- على العودة إليهم في المساء حاملاً مطالبهم الفرائحية البسيطة ولكنها –لو كنت تدرك– هي هي أحلامهم الكبيرة.

بعد هذا فهل يمكن أن تمر عليهم تراهاتك العوجاء تلك هكذا ببساطة؟
أقل ما يمكن للطفلة "نها" أن تقوم به هو أن تسأل أمها بكل براءة: كيف يمكن أن يهشم أصدقاء أبي رأسه وقد خرج من أجلنا؟ أين كانت الشرطة ليمنعوهم؟ وتقف الأرملة المفجوعة بقلبها الموجوع تخنقها غصة كبيرة كصخرة نبتت في حلقها فجأة هكذا من العدم وهي تستعيد الأحداث محاولة أن تصدق ما حدث وترن في عمق ذاكرتها المضطربة تلك العبارات التي ألقيتها في مؤتمرك الصحفي بل في زينتك دون شعورك بالإثم خلف عدسات تركت الحقيقة وزحفت إليك ذاعنة لتنقل للعالم شيء آخر: الناس القاطنون قرب المعتصمين أو المحتجين انزعجوا فحدثت مناوشات فأطلق المحتجون النار من أسلحتهم فحدث ما حدث!!

يا للسخرية!! قلت ذلك فيما كان الناس ما زالوا يجمعون أجزاء جماجم شهدائهم المتناثرة، قلتها بينما كانوا يمسحون دماء مازالت طرية من على صدورهم ورقابهم. إن ما يزيد من حجم الصخرة القابعة في حناجر الأرامل والثكالى بل حناجر أسر 52 شهيد أهرقت دماؤهم هو أنك بعد أن حكمت عليهم مسبقاً بالإدانة عدت وقررت كعادتك المقيتة لتقول إنك شكلت لجنة تحقيق!! فعلت الأمر ذاته قبل أسابيع حين اتهمت من قتلوا من أبناء عدن بأنهم مخربون مجرمون قتله ثم أمرت بعدها بتشكيل لجنة تحقيق! هذا ما تقوم به وهذا ما يحدث معنا منذ سنوات.
ها أنت بتلك البساطة أقدمت بما قلت لتزيح عنك الإثم الملتصق بك ونسبت الجريمة للذئب كما فعل إخوة يوسف فما أشبهنا اليوم بيعقوب العارف بكل شيء فلا أحد يمكنه أن يزيح عنا تلك الصخرة المتكلسة في حلوقنا (على مدى سنوات طويلة سكت يعقوب عن جريمة أبنائه التي ارتكبوها في يوسف لكنه لم ينس يوما يوسف وتلك سنة الله فمثل يعقوب نحن لا يمكن لأحدنا أن ينسي من يحب لمجرد فرية ساذجة). فهل تعتقد أن لجنتك التي شكلتها وأسمعتها حكمك البات: أن الشعب قتل بعضه بعضاَ. مع أنه ما قتل إلا 52 شاباً كانوا جميعهم ممن يرفضون بقائك!! بل ومن الحماقة أكثر أنك زدت واستشهدت بذئبك حين قلت إن لدى وزير الداخلية تقريراً يؤكد حكمك المسبق!!

وهل يمكننا أن نغفل عن تصريحات ابن أخيك يحيى أركان حرب الأمن المركزي فهو قبل أيام قليلة من تلك المجزرة ظهر على قناة الجزيرة مخفياً عينيه بنظارة سوداء ليقول لنا ذلك المعنى ذاته الذي هرفت به أنت قبل قليل. قال العقيد ذو الحظوة: إن التضرر الذي يعاني منه سكان حي ساحة الجامعة جعلهم يشكلون لجاناً شعبية للدفاع عن أنفسهم!! اعتقد الناس حينها أن المتحدث أشبه بقائد عصابة وليس قائداً عسكرياً سميته أنت هبة منك كواحد من أفراد أسرتك. ومع سبق الإصرار اعترف بالجريمة ونسي أن يتمثل مسئوليته العسكرية كقائد معني قبل أي شخص آخر بالحفاظ على سلامة وأمن الشعب!

على النائب العام إن كان يعتقد أنه قادر على مواصلة التحقيق في القضية حتى نهايتها دون أن يخضع للضغوطات التي ظل طوال عمره المهني يخضع لها، عليه أن يضم تلك الاعترافات المسبقة إلى ملف القضية ويعتبرها جزء لا يتجزأ منها. أمام النائب العام مسئولية تاريخية يستطيع من خلالها أن يغير تلك الصورة التي سعى النظام أن يرسمها عنه على أنه مجرد تابع شخصية ضعيفة وغير قادر على عمل شيء.

* * * * *
أيها المخلوع قسراً أبعد هذا مازلت تعتقد –إن كان في العقل بقية– أنك بتلك التراهات الحمقاء ستقنع حتى أبله؟ إذن فقد أصابتك اللطخة وأفقدتك توازنك قبل أن تصيب رصاصات الغدر جماجم وصدور ماقتيك. إذ مازلت لا تتورع عن مواصلة دق مسامير نعشك بيديك؟ أما قال –حتى- تسعة من سفرائك في أوروبا إن حجة كتلك التي سقتها غير مقبولة أخلاقياً أمام العالم وأنك بمثلها وضعتهم في موقف لا يحسدون عليه إذ من الصعب عليهم الدفاع عن تلك التفسيرات!؟ أما ساحت أسوارك التي بنيتها من الشمع وتناثر محيطك الأقرب؟ أما بلغتك الحقيقة بعد وقد غادرك دفعة واحدة أقرب الناس إليك؟ مئات القادة الأفذاذ، آلاف الجنود، مئات الساسة، عشرات الدبلوماسيين، ما بقي من نخبة مثقفة والشرفاء من أعضاء حزبك، والكثير الكثير ممن كنت تعدهم عمالك الخلص ولا يمكن لهم أن يهجروا حضنك؟ أما أدركت بعد أنهم عجزوا أن يواصلوا استساغة عبارات ساذجة من ذلك القبيل؟ لقد صبروا كثيراً، كانوا يبتلعون كل شيء دون أن يقدروا على هضمه حتى بلغت الدماء حلقومهم فاختنقوا..

أبعد هذا الوضوح كله وما زلت تؤمن أنك قادر على مواصلة الجلوس على كرسي من نار دون أن تمسك ألسنتها؟ وأنك مازلت قادراً على مواصلة الرقص على رؤوس ثعابينك بالطريقة ذاتها دون أن تطالك سمومها القاتلة؟
ما الذي حملك على أن توغل في الدماء؟ ها أنت.. ما كان من شيء أقضى عليك من هذا الإيغال وتلك الترهات اللاحقة لتبرير المجزرة. كانوا 52 شاباً بعمر الزهور، كانت لديهم أحلامهم لكنهم ما إن أدركوا مؤخراً أن أحلامهم تلك ما كان لها أن تتزحزح وتمضي خطوة واحدة إلى الأمام قبل أن تنزاح أنت من طريقهم، وصادف أن ذلك لم يكن سوى حلم شعب بأكمله فقرروا العمل على إنجاز حلم الجميع بشرف وشجاعة.

أما أوصل لك مستشاروك صورة متحركة لشجاعة شاب وقف بصدره أمام مدرعتك التي ما قدرت أن تزحزحه وفضل قائدها أن يتزحزح بها إلى الخلف. يمكنك إن شئت أن تتصفح مواقع الصحف العالمية وصفحات الفيس بوك لتقوم بالمهمة بنفسك. فربما ما عاد مستشاروك يقومون بواجبهم على النحو الذي يجب. أغلب الظن أنهم باتوا مشغولين بأنفسهم وكيف يمكنهم أن يتخلصوا من ورطتهم؟

هؤلاء الشباب منذ انطلقوا قدم منهم قرابة 100 شاب أرواحهم خالصة في سبيل تحقق حلم الجميع. هذا رقم كبير بيد أن لا أحقر منه بالنسبة لرجل تخلى عن كونه بطل الشعب ليمارس دور بطل الأسرة المنتقم المالك لأسباب القدرات الخارقة. رجل راقه أن يبحث عن حلمه الشخصي على حساب أحلام الملايين من شعبه. حلم أسرة واحدة فقط لا يتعدى قوامها العشرات. غير أنه وقد بلغه مؤخراً أن حلمه ذاك الذي ظل لأكثر من ثلاثين عاماً ينتظر تحقيقه بدأ ينهار أمام عينيه وبفعل من؟ إنهم ليسوا سوى مجرد شباب تمردوا على قدراته الخارقة غير أنه وقد بلغه ذلك، ما كان ليتصور ولو للحظة أن يغفر لهم ويترك لهم وضع أنفسهم موضع المتحد لقوته الضاربة لعظمته لسلطته المطلقة التي عجز عن منازعته عليها من هم أقوى وأشد عتيا..!

جمعة حزينة كانت جمعة الكرامة. لكنها جمعة كان لها ما بعدها يمثابة نقطة التحول الكبير التي ما كان لها أن تكونه لولا قدر الله الذي أراده أن يأتي عبر دماء الشهداء.

الجمعة فاضت أرواح الشهداء إلى بارئها غير أن بشاعة الجريمة ظلت خالدة لتحكي فصولا بالغة من الحقيقة التي عجزت عن إيجازها آلاف الصفحات والرسومات والهتافات المتواصلة. والأحد شيعت الأجساد بموكب جنائزي مهيب فبدأت معها قوائم العرش بالتساقط الواحدة تلو الأخرى وبالأمس بات الحلم أشبه بالإنجاز وما تبقى سوى تصور النهاية المحتمة.

* * * * *
فعلياً لقد انتهى كل شيء. حتى وإن تمسك الطاغوت بكبريائه الباهت، حتى وإن واصل جلوسه على كرسي عرش لم يتبق له منه سوى ركيزة وحيدة حتى وإن واصل استخدام ما دأب عليه من أساليب مجرم يجيد صناعة المأساي بتصرفات ساذجة هوجاء ولكن المتسمة بالقسوة والحقد والانتقام ضد شعبه فذلك كله لا نفع منه سوى أن يعمل على إفقاده ما تبقى من أمل في الخروج الآمن، أما الخروج المشرف فقد فقده سابقاً بجدارة وبات الحديث عنه في حكم الماضي.

ربما كأي ديكتاتور بات يقترب من الغرغرة سيفضل هدم المعبد على الجميع غير أن أقصى ما يمكن أن يناله مثله هو أن يرفع من حصيلة مجازره إلى أكثر من 100 ربما 1000 وقد يكون أكثر من ذلك بيد أن الحقيقة التي ما كانت لتغيب عن عقل طاغية غاشم ويتمتع بقليل من الرشد هي أن الأرواح التي تحصد يواري أجسادها الثرى لكن دماءها تتحول إلى ماء الله الذي يروي به جذور الثورة.

خلال شهر من الثورة انتقلت أرواح 45 شهيداً إلى بارئها بشكل تدريجي تصاعدي وحين ازدادت القسوة حصد يوم واحد فقط أرواح 52 شهيداً. غير أن النتيجة أتت على عكس ما أراده وخطط له الأشرار. ولقد اختزلت الثورة مسافات شاسعة وبات النصر قاب قوسين أو أدنى. فهنا تبرز حقيقة الحقائق في وجه الطاغية لتقول له: لا قبل لك بشباب يتسابقون إلى الموت ويحبونه أكثر من حبك وتشبثك بكرسي السلطة.

معادلة أثبتتها الأحداث وتبقى النتيجة منوطة بأحد مسارين كلاهما يحقق الخاتمة ذاتها. فإما أن يفهم الديكتاتور صيغة تلك المعادلة فيستسلم لنتيجتها طواعية وهذا ما ينزع إليه المستبدون ممن لديهم قدر من الذكاء والفطنة تمكنهم من تقليل الخسائر.

وإما وهذا هو المسار الحتمي الآخر أن يطغى كبريائهم القاتل على عقولهم –وهؤلاء من النوع المفتقد للفطنة والذكاء إذ يؤمنون بقوة الجهاز العضلي (القوة) على حساب الجهاز العصبي (الذكاء) فيواصلون العنف الذي بدءوه، يرمون بأنفسهم لخوض مغامرة مؤسسة على خيار وحيد لما يمكن أن يجود به المجهول. وهؤلاء يقودون حياتهم مع حياة من وقفوا إلى جوارهم إلى الهلاك المحتم، إلى نهاية أكثر قسوة تتناسب بشكل طردي مع القسوة التي تستخدم ضد المناوئين. أي كلما كانت الأحداث والسلوكيات التي يقدم عليها الطاغية أكثر عنفاً وقسوة فإن الخاتمة ستكون هي الأخرى أشد قسوة وأكثر عنفاً وكارثية.

الأحد، 20 مارس 2011

آن أوان خلاصنا من العبودية




المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
"هناك دائماً الفقراء يمكننا منح المال لنصفهم في سبيل أن يقتلوا النصف الآخر منهم".. النتيجة غالباً ما تكون بحدوث تصفية جماعية.

العبارة المقوسة أعلاه وردت في أحد الأفلام الأمريكية التي تحكي فصولاً من عهود العنصرية والأرستقراطية المقيتة وما شابها من ظلم واستبداد عاشتها أمريكا أثناء مراحل تخلقها الأولى. وردت العبارة من فم أحد المسئولين الأغنياء في ولاية نيويورك بينما كان منهمكاً بلعبة تشبه لعبة "البلياردو" في الوقت الذي يرد فيه على أحد أقرانه بلا مبالاة بعد أن أعرب له عن قلقه من ثورة العنف التي بدأ بها الوافدون الدخلاء من أوروبا وبتحديد أكبر مجموعة كبيرة من الإيرلندين الذين انفجر صبرهم في نهاية الأمر بصورة عنيفة وبدءوا بتكسير شركات وأملاك الأغنياء واستهدافهم مجموعة منهم في منازلهم ومكاتبهم الرسمية.

إن كلمة الفقراء الواردة في العبارة قد لا نبدو أننا نضيف الكثير إذ نلفت عناية القارئ حتى غير الحصيف أنها في الوقت الراهن تقابل المعنى ذاته اليوم ولكن بشكل أكثر تطوراً يتسع ليشمل كل مواطن ينتمي إلى الطبقة المحكومة المتلقية للأوامر من ذوي المكانة والحظوة بل وحتى المسئولين أصحاب المقامات العليا في الدولة. هذه الشريحة المحكومة المستقبلة، غالباً ما تبدأ حدودها من عند مواطني الطبقة المتوسطة حتى ما دونها. ويكون الأمر أكثر نموذجية في الدول التي تكسو وجهها بقناع النظم الديمقراطية الحديثة كحاجة مفروضة فيما يظل بقية جسدها ذي الطبيعة الأصلية الاستبدادية بادياً للعيان.

هنا مثلاً في اليمن يمكننا أن نسقط الأمر بصورة أكثر وضوحاً على من يطلق عليهم "البلطجية" الذين يؤدون دور الجزء المتلقي للمال في سبيل التخلص من الجزء الآخر الذي يثور ضد الظلم والاستبداد. أما الصورة المخفية فتتمثل بأولئك الذين يساندون الديكتاتور تحت اعتبارات قد تختلف من شخص إلى آخر أو من مجموعة إلى أخرى، كاعتبار أن هناك مصلحة ما من بقائه أو ربما قد يتعلق الأمر بتعصب ربما يتجسد بالحزبية أو العصبوية المناطقية أو حتى -في أحايين أخرى- لدواعي الخوف والقلق من المجهول.

منتصف القرن السادس عشر كان هناك شاب فرنسي اسمه إتيين دي لابواسييه (1530م – 1562). كان ينتمي لعائلة ميسورة، ذكياً ومتعلماً حظى بفرصة لم يكن ليحظى بها إلا المحظوظون آنذاك بمواصلة دراسته الجامعية في القانون. وفي العام 1557 عمل قاضياً في البرلمان. بيد أنه شهد الظلم الملكي والارستقراطي الذي عاشته فرنسا حينئذ. فلجأ تحت جناح الظلام إلى كتابة مشاعره الثورية التي لم يكن ليستطيع الإفصاح عنها.

صاغ الفتى الكثير من المقالات والأشعار بيد أن أروع ما كتب في الاستعباد ربما حتى يومنا هذا جاء علي يديه تحت اسم "مقالة في العبودية المختارة". لم ينشرها وسلمها مع بقية أعماله لأحد أصدقائه الخلص. مات فنشرت بعض أعماله غير أن رائعته الفلسفية والسياسية والاجتماعية لم تنشر إلا بعد قرابة قرنيين من وفاته.

وحتى اليوم عد هذا النص من أهم ما يشتغل عليه المهتمون بالفلسفة السياسية والاجتماع كون الكثير من مضامينها لا تزال واقعاً تعيشه بعض الدول حتى يومنا هذا. إنها تفصل آلية الاستعباد والاستبداد: أسبابه أنواعه وسبل الخلاص منه. بل ترتكز فكرته الأساس للإجابة على السؤال: كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد؟ وما هي مآلات الاستبداد وعواقبه على الشعوب والطغاة؟

ولعل من المناسب هنا -ونحن نعيش في يمننا الجبيب مرحلة التحول الحقيقي- في طريق الخلاص من الاستبداد السياسي الجاثم على صدورنا منذ قرابة قرن كامل شمل فترات الحكم الأمامي وما تلاه من بعد الثورة وحتى اليوم إلا من مذاقات "حلوة" لكنها بسيطة لم يتسن لليمنيين التلذذ بها سوى لسنوات، أو بالأحرى أشهر معدودات، لا تكاد تبلغ مقامات الذكر إلا فقط للتحسر على انقضائها سريعاً.

• أنواع الطغاة ثلاثة 
يفصل لابواسيه في رائعته الحكام الطغاة إلى ثلاثة أصناف: "البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب الشعب، والبعض الآخر بقوة السلاح، والبعض الثالث بالوراثة المحصورة في سلالتهم". وحين بدأ بالتفاصيل بدأ بالنوعين الأخيرين بشكل موجز بينما جعل ما يهمنا اليوم في المرتبة الأخيرة ليشبعه بالكثير من التفاصيل. لفطنته الشديدة كان يدرك أن هذا النوع هو الأكثر سوء من غيره، ليس بالمقارنة مع سابقيه إذ أنه هنا يعتبره الأهون، ولكن لكون الطاغية هنا سيمثل انقلابا على الحقيقة التعاقدية بينه وبين شعبه. وحتى ينجح في ذلك فسيتوجب عليه استخدام وسائل أكثر ذكاء من سابقيه.

يقول "فأما من أنبنى حقهم على الحرب فنعلم جيداً أنهم يسلكون كما نقول في أرض محتلة. وأما من ولدوا ملوكاً فهم عادة لا يفضلون قط لأنهم وقد ولدوا وأطعموا على صدر الطغيان يمتصون جبلة الطاغية وهم رضاع وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى تركة من العبيد ويتصرفون في شؤون المملكة كما يتصرفون في ميراثهم كل بحسب استعداده الغالب نحو البخل أو البذخ".

وأما ما نبحث عنه فجاء على النحو التالي: "أما من ولاه الشعب مقاليد الدولة فينبغي فيما يبدو أن يكون احتماله أهون. ولقد يكون الأمر كذلك على ما اعتقد لولا أنه ما إن يرى نفسه يرتقي مكاناً يعلو به الجميع وما إن يستغويه هذا الشيء الغريب المسمى بالعظمة حتى يعقد النية على ألا ينزاح من مكانه قط. وما أن يتلقف هؤلاء هذه الفكرة حتى نشهد شيئاً عجباً: نشهد إلى أي مدى يبزون سائر الطغاة في جميع أبواب الرذائل بل في قسوتهم دون أن يروا سبيلاً إلى تثبيت دعائم الاستبداد الجديد سوى مضاعفة الاستعباد وطرد فكرة الحرية عن أذهان رعاياهم حتى يعفو عليها النسيان رغم قرب حضورها في ذاكرتهم".

ولكأنها قصتنا اليوم بكافة تفاصيلها. ها نحن بعد أكثر من 30 عاماً ظل الرجل الذي كان يحلم بأسبوع واحد فقط في السلطة يسوسنا، ينقلنا خلال ست فترات انتخابية من فترة إلى أخرى، بينما هو يمارس الخديعة بطرق شتى. لازال حتى قبل أيام وهو يكرر على مسامعنا العبارات ذاتها: "السلطة مغرم وليست مغنم" "حكم اليمن يشبه الرقص على رؤؤس الثعابين" "السلطة سئمناها" "أنا لست مع بقاء الحكام إلى ما لانهاية"..الخ من العبارات التي قد تتبدل كلمة هنا أو هناك بيد أنها تحمل المعنى ذاته.

بل إن أزمتنا الحالية بكل تجلياتها وتفرعاتها ليس لها من تفسير أكثر منطقية سوى ما جاء به لابواسيه قبل ثلاث مائة وخمسين عاماً: ".. ما إن يرى نفسه يرتقي مكاناً يعلو به الجميع وما إن يستغويه هذا الشيء الغريب المسمى بالعظمة حتى يعقد النية على ألا ينزاح من مكانه قط"!

وعند كلمة الحق فقط يرى لابواسيه بعضاً من الاختلاف بين الطغاة إلا أنه في الواقع لا يرى "اختياراً بينهم لأن الطرق التي يستولون بها على زمام الحكم لا يكاد يختلف: فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله، والغزاة كأنه فريستهم، والوارثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكاً طبيعياً".

لكن: ما الذي يبقي على قوة الطاغية؟
إذن بشتى الطرق يعمل الطغاة على مضاعفة الاستعباد وطرد فكرة الحرية عن أذهان رعاياهم حتى يعفو عليها النسيان. هذا شأن الطغاة ولكن ما هو شأن الشعوب المستعبدة؟ هل تتجرع تلك الفكرة بفعل فوة الطاغية أم بفعل يديها؟ لماذا ينصاع الناس طواعية للاستعباد؟

للإجابة الشافية لدى لابواسيه أسباب كثيرة لشرحها في هذا الجانب. بيد أنه يركز كثيراً على بعضها كإرجاعه السبب الأول إلى العادة. بالنسبة لجيل الآباء فإن ما درج الإنسان عليه وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي. أما بالنسبة للأجيال الجديدة فالمناخ الذي يولدون فيه هو من يجعلهم يعتادون على ما وجدوا عليه آبائهم. فهم في نظره "يولدون رقيقاً وينشأون كذلك". لا يمكن لأحد أن يولد عبداً كما قد يفهم البعض خطأًً. فلابواسيه جاء بهذه النتيجة بعد شرح مفصل تحدث فيه حول فطرة الحرية وعشقها عند كل مولود يولد إلا أن المناخ الذي يصطدمون به والقائم على استكانة آبائهم للطاغية هو الذي يجعلهم يقبلون طواعية بالاسترقاق إذ يعتقدون أن الحياة يجب أن تسير على هذا النحو. وعليه فالقصد هنا أن الناس يولدون في مناخ استعبادي حيث تنتقل فيه العبودية التي نشأ عليها آباؤهم إليهم منذ ولادتهم.

ذلك مع أنه في موضع لاحق ينقلب على هذه الفكرة تحت انجذاب واضح لمبدأ الحرية والبحث عنها وبلوغها يوماً مهما كانت قوة الطاغية وهو ما سنتطرق إليه في سياق لاحق.
وأما السبب الآخر للقبول بالاستعباد فهو: "أن الناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء".. وفي هذا يقدم مجموعة أساليب درج عليها الطغاة لتحويل شعوبهم إلى هذا النوع من البشر لعل أهمها الإلهاء المتعمد بالملذات وكذا تجنب كل ما يمكنهم بلوغه من العلم والثقافة وتقريب المثقفين عبر إشباع غرائزهم الإنسانية بالمنصب والمال ويدخل بضمن هذا التخويف وغيره..الخ من الوسائل التي يستخدمها الطغاة في كل زمان ومكان.

وهؤلاء من يعمل على استدامة الطاغية.
بعد إسهاب شديد يتحول لابواسيه إلى الحديث المشبع بالغرابة والاستفسار حول بقاء واستدامة واقع غير سوي. فمن يقوم بهذا الدور؟ هنا سيتوجب علينا الاقتراب أكثر باتجاه المعنى الذي افتتحنا به هذه المقالة. يعتقد لابواسيه أنه لا "جموع الخيالة ولا فرق المشاة ولا قوة الأسلحة تحمي الطغاة". ومع أنه يجزم أن الأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى إلا أنه لا يتردد أن يلقي علينا بما يعتقد أنه "الحق عينه: (هم دوماً أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية، في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ إليهم أذن الطاغية يتقربون منه أو يقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلان ملذاته وقواد شهواته ومقاسميه فيما نَهَبَ. هؤلاء يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع لا بشروره وحدها بل بشروره وشرورهم. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إمَّا حكم الأقاليم وإما التصرف في الأموال ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم وليطيحوا هم بهم متى شاءوا تاركين إياهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاءً إلا في ظلهم، ولا بعداً عن طائلة القوانين وعقوباتها إلا عن طريقهم. ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك)!

يا له من بيان ساحر لواقعنا الذي لا يمكن إلا أن يكون هو ما تحدث عنه الفيلسوف الشاب قبل أربعمائة وخمسين ألف سنة!
هؤلاء هم أنفسهم اليوم من يقودون البلطجية. وهم من يصورون للطاغية قوته ويصوغون له تفاصيل ما يجب أن يقوم به. إنهم في واقع الأمر يخافون على مصالحهم لا عليه، مصالحهم التي يتكسبونها جاهاً ومسئولية وأموال عبره ومن وراء ظهره. هو يعرف ما يريدون وما يقومون به ومؤمناٍ أنهم بحاجة إليه لمواصلة تحقيق مصالحهم عبره يمنحهم كل ما ينشدون بل ويتغاضى عما يصنعون ورائه.

يواصل لابواسيه: "إن من أراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة وسعَهُ أن يرى لا ستة آلاف ولا مائة ألف بل أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل مثل جوبيتر إذ يجعله هوميروس يتفاخر بأنه لو شد سلسلته لجذب إليه الآلهة جميعاً. من هنا جاء تضخم مجلس الشيوخ في عهد يوليوس وجاء خلق المناصب الجديدة وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه، كل هذا يقيناً لا من أجل إصلاح العدالة بل أولاً وأخيراً من أجل أن تزيد سواعد الطاغية. خلاصة القول إذاً هي أن الطغاة تُجنى من ورائهم حظوات وتجنى مغانم ومكاسب، فإذا من ربحوا من الطغيان أو هكذا هُيَءَ إليهم يعدلون في النهاية من يؤثرون الحرية. فكما يقول الأطباء إن جسدنا لا يفسد جزء منه إلا إن انجذبت أمزجته إلى هذا الجزء الفاسد دون غيره، كذلك ما إن يعلن ملك عن استبداده بالحكم إلا التف حوله كل أسقاط الدولة وحثالتها، وما أعني بذلك حشد صغار اللصوص والموصومين الذين لا يملكون لبلد نفعاً ولا ضراً، بل أولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد يلتفون حوله ويعضدونه لينالوا نصيبهم من الغنيمة وليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير".

إنهم في يومنا يتوزعون بين الحزب والحكومة بوزاراتها ومختلف أجهزتها في المناصب القيادية في السلطة المحلية، في وسائل الإعلام، في مشيخة المنطقة أو المديرية، في قيادة الجيش، في وسائل التعليم، في الجامعات، في المدارس، في الاقتصاد، في توزيع المشاريع، في اللجان، وفي كل مكان في إطار السلطات الثلاث التي يستفرد بتوجيه دفتها الطاغية وحاشيته المستخلصة ومن يليهم! ولهذا يصبح الفساد أمراً حتمياً وتتسيد مجموعة على ثروات ومقدرات الوطن على حساب بقية أفراد الشعب.
ولكن هل يستديم الحال إلى ما لا نهاية؟

وللمزيد يقول في سياق متواصل من التوضيح عن سواعد الطاغية هؤلاء المستعبدين أساساً ومآلهم النهائي: "لكنهم يريدون العبودية ليجنوا من ورائها الأملاك: كما لو كان في مستطاعهم أن يغنموا شيئاً بينا هم لا يستطيعون أن يقولوا إنهم يملكون أنفسهم. يودون لو حازوا الأشياء، لو كأن للحيازة متسع في ظل الطاغية ويتناسون أنهم هم الذين أعطوه القوة على أن يسلب الجميع كل شيء دون أن يترك لأحد شيئاً يمكن القول إنه له.إنهم يرون أنه ما من شيء يعرض الناس لقسوته مثل الخير، وأنه لا جريمة نحوه تستحق الموت في نظره كحيازة ما يستقل به المرء عنه. إنهم يرون أنه لا يحب إلا الثروات ولا يكسر إلا الأثرياء. وهم مع هذا يسعون إليه سعيهم إلى الجزار كي يمثلوا بين يديه ملأى مكتنزين ولكي يستثيروا جشعه. هؤلاء المقربون قد كان أولى بهم ألا يتذكروا من غنموا من الطغاة كثيراً بل أولئك الذين بعد أن كدسوا المغانم بعض الوقت خسروا المغانم والحياة جميعاً، كان أولى بهم أن يتعظوا لا بالكثرة التي أثرت بل بالقلة التي استطاعت الاحتفاظ بما كسبت". ثم ينتقل لإشباعنا بقصص التاريخ التي لا تحيد أبداً عن تلك النتيجة.

مهما يكن الأمر فتلك الحقيقة الأخرى التي تغنينا بها صفحات التاريخ منذ الأزل وحتى اليوم حقيقة خالدة خلود الحياة تأتي لتنبأنا بالأمل المؤسس على الحكمة الشهيرة أنه: من المحال استدامة الحال.
وبصياغة لابواسيه: "ولكن الحقيقة هي أن السنين لا تجعل أبداً من الغبن حقاً وإنما تزيد الإساءة استفحالا، آجلاً أو عاجلاً يظهر أفراد ولدوا على استعداد أحسن يشعرون بوطأة الغل ولا يتمالكون عن هزه هزاً ولا يرضون أنفسهم أبداً على التبعية والخضوع".

إذن هو جيل شباب الثورة
تبدو تلك الحقيقة اليوم ناصعة البياض إذ تتمثل بظهور هؤلاء الشباب الذين ولدوا على استعداد أحسن شاعرين بوطأة الغل وهاهم اليوم يهزونه هزاً ولا يرضون أنفسهم أبداً على التبعية والخضوع. إنهم مهما حاول الطاغية خداعهم وثنيهم بل حتى قتلهم تستقر حناجرهم بصوت واحد: الشعب يريد إسقاط النظام.
ليس ثمة من الوسائل والأساليب والبلطجة والتهديد بالأمن والجيش بالتخويف بالعنف بل حتى بالقضاء على الامبراطورية برمتها.. كل ذلك يبدو في نظرهم من العهد القديم.

ومجدداً يعود لابواسيه حاملاً مشعل الأمل ليقول: "إن من المستيقن أن الطاغية لا يلقى الحب أبداً ولا هو يعرف الحب. فالصداقة اسم قدسي وجوهر طاهر، إنها لا تعرف لها محلاً إلا بين الأفاضل، ولا تؤخذ إلا بالتقدير المتبادل وليس بإغداق النعم. فالصديق إنما يأمن إلى الصديق لما يعرفه من استقامته، ضمانته هي استقامته وصدق طويته وثباته. فلا مكان للصداقة حيث القسوة وحيث الخيانة حيث الجور. فالأشرار إذا اجتمعوا تآمروا ولم يتزاملوا، لا حب يسود بينهم، وإنما الخشية، فما هم بأصدقاء بل هم متواطئون".

ولعل من المناسب أن نختتم هذه المقالة بما اختتمه الفيلسوف الشاب على أمل أن تحمل في طياتها العضة والعبرة والنصيحة لأولئك الذين مازالوا يشتغلون مع الطغاة سواء بإرادة منهم أم خشية أم حتى بجهل.
يقول لابواسيه: "فالذي يقع هو أن الشعب لا يتهم الطاغية أبداً بما يقاسيه وإنما ينسبه طواعية إلى من سيطروا عليه: هؤلاء تعرف أسماءهم الشعوبُ والأممُ ويعرفها العالم قاطبة حتى الفلاحون والأجراء يعرفونها ويصبون عليهم ألف قذيعة وألف شتيمة وألف سبة، كل أدعيتهم وأمانيهم تتجه ضدهم، كل ما يلحق بهم من البلايا والأوبئة والمجاعات يقع فيه اللوم عليهم، فإن تظاهروا أحياناً بتبجيلهم سبوهم معاً في قلوبهم ونفروا منهم كما لا ينفرون من الوحوش الكاسرة. هذا هو الشرف وهذا هو المجد اللذان ينالون جزاء على ما صنعوه تجاه الناس الذين لو ملك كل منهم جزءاً من أجسادهم لما شقا ولا رأى فيه نصف عزاء عن شقائه فإن أدركهم الموت لم يتوان من يجيء بعدهم عن أن يظهر بينهم ألف قلم يسود بمداده أسماء آكلي الشعوب هؤلاء ويمزق سمعتهم في ألف كتاب وحتى عظامهم ذاتها إذا جاز هذا التعبير يمرغها الوحل عقاباً لهم بعد مماتهم على فساد حياتهم.

وأخيراً يختتم بالقول: "لنتعلم إذاً. لنتعلم مرة أن نسلك سلوكاً حسناً. لنرفع أعيننا إلى السماء بدعوة من كرامتنا أو من محبة الفضيلة ذاتها، أو إذا أردنا الكلام عن علم فيقيناً بدعوة من محبة الله القادر على كل شيء وتبجيله ولهو الشاهد الذي لا يغفل عن أفعالنا والقاضي العادل في أخطائنا. أما فيما يتعلق بي فإني لأرى ولست بالمخدوع ما دام لا شيء أبعد عن الله وهو الغفور الرحيم من الطغيان أنه يدخر في الدار الأخرى للطغاة وشركائهم عقاباً من نوع خاص".