الخميس، 5 مايو 2011

لهذا أقيل النائب العام


عندما اتجه صوب إدانته مباشرة اضطر الرئيس لإزاحته من الطريق ليتجنب الملاحقات القضائية مستقبلاً


المصدر أونلاين-خاص-عبدالحكيم هلال
الخميس الماضي (28 ابريل) أصدر الرئيس علي عبدالله صالح قراراً جمهورياً رقم 17 لسنة 2011 بتعيين الدكتور علي أحمد ناصر الأعوش نائباً عاماً للجمهورية بدلاً عن الدكتور عبدالله العلفي. على المنظمات الحقوقية الدولية أن تعرف لماذا حدث ذلك؟ إذ سيتوجب عليها ضم هذا الفعل كقرينة إثبات لتورط صالح في ارتكاب جرائم القتل.

المنطق الظاهري، يقول إن الظروف الحساسة والصعبة التي يمر بها النظام في الوقت الراهن، لا تؤهل الرئيس صالح الذي يتصاعد صوت الشارع اليمني بإقالته ومحاكمته من اتخاذ قرارات ذات طبيعة تأثير ارتدادية على نظامه المتداعي. بيد أن ذلك حدث بالفعل. وما قد يمثل ارتدادا سلبياً هنا هو أن ذلك القرار جاء بعد أيام قليلة من تشديد الدكتور العلفي على مطالب قانونية بالقبض على شخصيات أمنية كبيرة ثبت تورطها في قضايا قتل راح ضحيتها عشرات المحتجين وآلاف الجرحى.

قد لا يكون بمستغرب أنه وفي بلادنا أكثر من غيرها، هكذا بكل سهولة يمكن للرئيس أو لمسئول كبير ارتكاب الفضاعات، ثم يتلوها بتصرف غريب وشاذ ليغدو السير وفق المنطق مجرد شيء تافه طالما أنه يهدد مصالح وتكتيكات استراتيجية. وما كان غير متوقع في عرف مجتمع السياسة، يصبح أمراً ممكناً، بل وضرورياً في عرف الاستبداد لتجاوز حتمية ما هو أسوأ إلى الأقل سوء أو ما يفترض أنه كذلك.

في واحد من التفسيرات السوسيولوجية، يمكننا النظر إلى ما حدث على هذا النحو: إن أي نظام استبدادي -بدأ بالتهاوي– حينما يتعرض للمزيد من الضربات (الضغظ)، يزداد ترنحاً (فقدان المزيد من التوازن)، حينها تصبح ردود الفعل اللحظية هي المتاح الوحيد. وإذاك يغدو التفكير بالتعامل مع الأحداث بقرارات تراعي أبسط أخلاقيات المجتمع الدنيا، منطقاً عدمياً، والتريث لتوخي مسألة الارتدادات السلبية، عبثاً غير مجد.

الواضح أن هذا يحدث، مع أن الرئيس ومرشديه يدركون أكثر من غيرهم، أن قراراً مثل هذا - في ظرف وتوقيت كهذا- تنعدم فيه فرص الحديث عن فرضيات مثالية على شاكلة: عدم تحميل الأمر أكثر من كونه مجرد قرار يصدر عن رئيس مازال قادراً على الإقالة والتعيين! فالرئيس، وجميعنا –سواء نحن المنادين برحيله ومحاكمته، أم أولئك المتمصلحين حوله– نؤمن أن منطق مثالي كهذا كان يمكن قبوله في ظروف سابقة ترجع إلى ما قبل الأشهر الـ3 الأخيرة.

وإلى جانب أن الجميع يدرك أن النائب المقال يحمل ملفاً جنائياً خطيراً، فإن تحولات جوهرية اتسمت بها مواقفه الأخيرة، من شأنها أن تثير الرعب في قلب النظام. ذلك أن النائب العام المقال بدا مؤخراً –وبشكل مفاجئ– أكثر حرصاً على المضي بجدية لاستكمال التحقيق في قضايا القتل والاعتداءات التي تعرض، ومازال يتعرض لها شباب الثورة اليمنية المنادين بإسقاط هذا النظام الأسري القمعي البوليسي الجاثم على صدور اليمنيين منذ 33 عام.

الإقالة.. إثبات الجرم لا انتفائه
ما سبق، قد يبدو كافياً لجلاء الأمر، وتحسس مسوغات ودواعي تلك الإقالة المثيرة للجدل دون الحاجة لمزيد من التوضيح. ومع ذلك، دعوني، كعادتي المملة للكثيرين، مواصلة تقديم المزيد من التفاصيل التي يقال إن الشيطان يكمن فيها. وسأتناول هنا –محاولاً الإيجاز قدر استطاعتي– بعض الجزئيات التي تتعلق بالنائب العام ومواقفه الأخيرة، تعزيزاً لتلك الحقيقة الواحدة لا سواها: إدانة رأس النظام والمتورطين من حوله.

إلى حد ما، ومن زاوية ضيقة، يمكن اعتبار الإقالة قراراً يتسم بالشجاعة. غير أنه –من زاوية أخرى– يظهر كقرار يعوزه الذكاء، لما يعكسه من مؤشرات تؤكد –بما لا يدع مجالاً لحسن الظن- أن نتائج التحقيقات كانت تتجه حتماً صوب الحقيقة المفترضة.

مع أن الدكتور العلفي عرف تمتعه بأخلاق رفيعة، إلا أنه بالمقابل –مثله مثل الكثير من المسئولين الحكوميين في كنف نظام استبدادي دموي- ظل مجبراً على العمل بوفاء كبير كخادم لرأس النظام، لا كشخص قوي يتمتع بصلاحيات قانونية كبيرة. فعمد إلى تفضيل وتقديم مصالح النظام على حساب المصلحة العامة للوطن والمواطنين بشكل امتهن فيه حكم القانون. وبين سلوكه الشخصي وسلوكه العام تكونت شخصية إنفصامية كان غالباً ما يمضي توقيعه على مسودات الشكاوى بأوامر توجيهية للجهات المعنية، فيما أنه يدرك النتيجة بلا جدواها مع عدم اتخاذه الإجراءات اللاحقة لفرضها، حتى بلغ به الأمر أن حاز بجدارة على وصف نائب عام "طيب"، لكنه عديم الشخصية.

وبمثل ذلك استطاع أن يحافظ على موقعه كنائب عام لسنوات طويلة. وطالما ظل محافظاً على ولائه الشخصي، ولم تند عنه انحرافات كبيرة كتلك التي تجعله –مثلاً- ينحاز لمهنته الشريفة بما يعرض النظام ومصالحه للمخاطر، فقد ظلت حاجة الرئيس لإقالته غير ماسة. وقياساً على ذلك، يمكن الجزم اليوم أن قرار الإقالة ما اتخذ إلا بعد أن لُمس في ولاء الرجل تغيراً واضحاً، على ذلك النحو الجالب معه للمخاطر. سيما في ظل ظروف حساسة وصعبة، تجعل من الرئيس أحوج ما يكون لأدنى مسئول بهدف الحفاظ على ما تبقى له من مناصرين ومؤيدين بعد أن توالت عليه الاستقالات الكبيرة محدثة تشققات هائلة طالت جدار نظامه، بفعل ما أحدثته الثورة الشعبية المنادية بإسقاطه ومحاكمته.

وإذ يمكن -في عرف النظام- تشبيه تحولات النائب العام السابق، بحدوث تمرد، فهي بالنسبة للرجل ربما تندرج في إطار محاولة –قد تكون متأخرة، نعم، لكنها مهمة- لتصحيح مسار خاطئ، واستعادة سمعة مفقودة. وأياً يكن الأمر، فالنتيجة النهائية تبرز تلك التغيرات وربما أخرى غيرها لم تعلم بعد أمام الرئيس لتبدو ملحة أكثر لتسريع إعفائه من مهامه. ذلك حتى إن كان هذا القرار، في واقع الحال، ينطوي على إثبات واضح من شأنه أن يعزز ثبوت الجريمة لا انتفائها.

تحولات النائب العام 
في البدء، ومع فتح النائب العام ملفات قضايا القتل الجماعي التي اتهمت الأجهزة الأمنية بارتكابها ضد المحتجين، كان البعض يؤمن بما لديهم من خلفيات بحقيقة واحدة: أن الرجل، وكعادته سيُستخدم من قبل النظام كخادم لا كمسئول مهم. وبالتالي فتمييع تلك القضايا وإغلاق ملفاتها في أحسن الأحوال، سيكون والنتيجة الحتمية. ذلك إن لم يحرفها عن مسارها الحقيقي ويفصلها لتتواءم مع رغبات النظام بجعل الضحية هي المتهم مع إعفاء الجلاد. وهذا هو بالفعل ما ظل الرئيس يكرره في خطاباته –عقب كل جريمة– بتحميله تلك الجرائم على شباب الثورة، ما كان يفهم سلفاً على أنه توجيه موجب لمسار القضية.

غير أن حقائق أخرى بدأت تتكشف تباعاً كانت تسير بعكس تلك التصورات السابقة. كانت البداية في 24 فبراير حين أصدر مكتب النائب العام بلاغاً صحفياً "بشأن حماية المشاركين في الاعتصامات والمسيرات السلمية". وجهت النيابة "رؤساء ووكلاء النيابات العامة في عدد من المحافظات بمضاعفة جهودهم في سبيل تجسيد أحكام النصوص القانونية التي تكفل حماية حقوق وحريات الأفراد وذلك من خلال سرعة التحقيق قي الشكاوى والبلاغات التي ترد إليهم عما يقع من أفعال معاقب عليها قانوناً تقع على المشاركين في المسيرات والاعتصامات السلمية مهما كانت اتجاهاتها السياسية".

وفي البلاغ ذاته، أهاب مكتب النائب العام بوزير الداخلية ومدراء أمن المحافظات وجميع منتسبي وزارة الداخلية التزام التعليمات العليا بشأن حماية جميع الموطنين المشاركين في الاعتصامات والمسيرات السلمية. وقال إن النيابة العامة لن تتوانى "عن القيام بواجباتها في التحقيق بالشكاوى والبلاغات التي تقدم إليها عن الأفعال التي تشكل جرائم جنائية".

إلى هنا، قد يرى العارفون أن لا جديد. فمثل هذا يعد إجراء روتينيا مللنا سماعه، إذ يتكرر دائماً على نحو مسف. إذن فتلك لم تكن البداية الحقيقة الواضحة.

مجزرة الكرامة.. التحول يتعزز أكثر
المحامي والقانوني المعروف محمد ناجي علاو –منسق منظمة هود الحقوقية– بدا متأكداً جداً بأن إقالة الدكتور العلفي من منصبه كنائب عام جاء بسبب مواقفه الأخيرة، والتي بدأت بشكل واضح وجلي مع تبنيه الجاد لملفات القتل التي طالت المتظاهرين سلمياً، إلى جانب إصداره تصريحات وبلاغات صحفية مرافقة شكلت إزعاجاً غير متوقعاً للنظام. يعتقد علاو.

وفي اتصال تلفوني معه، بعد ساعات من صدور قرار تعيين النائب العام الجديد، امتدح علاو الدكتور العلفي الذي قال إنه "فتح ملفات جادة في قضايا قتل المتظاهرين سلمياً في المحافظات التي طالتها الاعتداءات، وتولى بنفسه على رأس جهاز يتبع مكتبه الفني التحقيق في قضية مجزرة "جمعة الكرامة" التي حصدت أكبر عدد من الشهداء". ذهب علاو في معرض تفسيره لقرار الإقالة.

في الواقع، بدأ التحول يتكشف بشكل أكبر مع تولي النيابة العامة التحقيق في الجريمة الجسيمة رقم (88) لسنة 2011م، الخاصة بمقتل المحتجين السلميين في ساحة التغيير بصنعاء (جمعة الكرامة 18 مارس)، وهي المجزرة التي راح ضحيتها 53 شهيداً ومئات الجرحى.

في 22 مارس قام النائب العام بنفسه بنزول ميداني إلى ساحة التغيير لمتابعة القضية والاستماع إلى الجرحى والشهود. لكن الصحافة لم تتورع عن نسج خبر انضمامه إلى "ثورة الشباب السلمية"، الأمر الذي اضطره اليوم التالي للنفي عبر وكالة الأنباء اليمنية الرسمية "سبأ".

لكنه في واقع الحال استغل الأمر ليضمن تصريحاته توضيحاً رآه مهما، حين أكد بأن "النائب العام قاض مستقل ولا ينتمي إلى أي تيار سياسي، والسلطة القضائية سلطة مستقلة وفقا للدستور وأن النائب العام نائب عن المجتمع بكل أطيافه السياسية". تلك التصريحات –بحسب علاو- أزعجت النظام، لتضمنها إشارات واضحة بالمنحى الذي ستعمل وفقه النيابة العامة خلال المرحلة القادمة. وقال علاو: "لا شك أن كلمة نائب عام للشعب وليس للنظام تغضب رأس السلطة، بل وكل أعضاء السلطة الموظفين لديه.

بما يعني ضمناً أن مرحلة العمل كخادم للنظام يتوجب أن تنتهي هنا، لتبدأ مرحلة العمل الجدي كـ"نائب عن المجتمع بكل أطيافه السياسية". ولقد فهم رأس النظام الرسالة بالطريقة التي أراد لها النائب العام أن تُفهم، لكنه حاول التغاضي. وربما شعر أنه مازال يمتلك القدرة على تصحيح الخطأ الوارد في تلك التصريحات وفقاً للطريقة التي دأب على استخدامها في الماضي.

لكن النائب العام –السابق– بدا أنه قرر ذلك بالفعل، ليواصل -بعد زمن طويل من الرضوخ الإجباري- السير في طريق شائك لاستعادة ما فقد من مكانته المحترمة في المجتمع. ولاحقاً، عقب التصويت المشبوه لمجلس النواب على إقرار حالة الطوارئ في البلاد، نسبت قناة "الجزيرة" في 2 ابريل للنائب العام قوله إن "إعلان حالة الطوارئ في البلاد غير قانوني ولا معنى له". ما وجه ضربة موجعة للنظام من قبل جهة قانونية معتبرة، لتضعه في موقف لا يحسد عليه بعد أن كان النظام جند الكثير من إمكانياته المادية والعملية والإعلامية لإقرار وتسويغ حالة الطوارئ تلك.

حقائق مازالت تتكشف وتهديد بالاستقالة
مضت النيابة في تحقيقاتها، في قضية "جمعة الكرامة" لتتكشف لها حقائق هامة، ومتهمين جدد فارين من العدالة، كانت النيابة وجهت بملاحقتهم، بيد أن التجاوب كان منعدماً. وفي 11 ابريل، وجه النائب العام رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال طالبه فيها بـ"سرعة القبض على المتهمين الذين ارتكبوا جريمة القتل والشروع في القتل لعدد كبير من المعتصمين" والذي سبق أن وجهت النيابة العامة بملاحقتهم والقبض عليهم للتحقيق معهم وتقديمهم للعدالة لينالوا جزاء ما ارتكبوه من جريمة نكراء في حق المعتصمين -بحسب الرسالة التي تضمنت طلبا من رئيس الحكومة "توجيه أجهزة الأمن بالتحري والكشف عن هويات أفراد العصابات الملثمة التي اشتركت في هذه الجريمة". واختتمت الرسالة بهذا التهديد القوي: "وفي حالة لم يتحقق ذلك فإن النائب العام سيقدم استقالته من منصبه".

كان الأمر أشبه بقنبلة. ومن وراء الكواليس قيل إن الحكومة حاولت التعامل مع الأمر بطريقة هادئة تجنب التصعيد في محاولة منها لإيقاف تداعياته الخطيرة عند هذا المستوى حين وجهت الجهات المعنية بالتجاوب مع النيابة العامة. لكن الأمر لم يتجاوز الأوامر مع تقديم بضعة مطلوبين صغار، لتجنب الاقتراب من الأسماك الكبيرة. فيما كانت جهات شبحية غير ظاهرة حاولت وضع الرجل في مواقف محرجة منذ توليه ملف القتل. ونشرت أجهزة الإعلام الرسمية تصريحات على لسان الرجل تضمنت توجيه اتهامات مباشرة للمعتصمين في ساحة التغيير بالوقوف وراء ما حدث من قتل للمعتصمين. غير أن الرجل اتصل بالساحة نافياً تلك التصريحات.

وأثناء مواصلة النيابة تحقيقاتها مع بعض المقبوض عليهم، تكشف لها المزيد من الحقائق الخطيرة. وعليه وبحسب بلاغ صحفي صدر بتاريخ 19 أبريل وتضمن تصريحات لمصدر مسئول في النيابة العامة، فإن النيابة أمرت "بالقبض على تسعة عشر متهما فارين من وجه العدالة كشفت التحقيقات ضلوعهم في جرائم القتل التي حدثت. كما تم تكليف الأجهزة الأمنية وأجهزة البحث والتحري بالكشف عن المتهمين المجهولين المساهمين في الجريمة والقبض عليهم وإحالتهم مع محاضر جمع الاستدلالات إلى النيابة العامـة" .وأضاف المصدر: "ولازال يتكشف للنيابة من خلال التحقيقات ضلوع متهمين جدد وظهور أدلة أخرى تعزز ما هو متوفر لدى النيابة". ومرة أخرى طالب البلاغ الأجهزة الأمنية "سرعة القبض على المتهمين المطلوبين الذين أمرت النيابة بالقبض عليهم الفارين من وجه العدالة"، كما وجددت مطالبتها بـ "سرعة الكشف عن هوية المتهمين المجهولين باعتبارهم متهمين أساسيين يجب القبض عليهم لكي يتسنى للنيابة العامة التصرف في القضية بإحالة جميع الجناة إلى المحكمة المختصة لينالوا عقابهم جزاء لما ارتكبوه من جريمة بشعة في حق المجني عليهم".

إيقاف قسري وإقالة خوفاً من التقدم أكثر
في الواقع، جاء البلاغ الصحفي قبل أسبوع فقط من قرار الإقالة وتعيين نائب جديد الخميس الماضي. وبين البلاغ والإقالة حملت الكواليس أسراراً شتى. قيل إن الرئيس أوقف النائب العام عن أعماله في مواصلة التحقيق، بل أشيع أنه وضع تحت الإقامة الجبرية في منزله، بهدف إيقافه عند مستوى تلك المعلومات التي بلغها دون تجاوز حدودها إلى أولئك الذين سماهم البلاغ بذوي "الهويات المجهولة" الذين طالبت النيابة بسرعة الكشف عنهم باعتبارهم "متهمين أساسيين يجب القبض عليهم". حتى أعلنت الإقالة بشكل رسمي بتعيين خلفه، الخميس الماضي.

بالنسبة لـ"علاو" أضفت عليه مواقف النيابة تلك "بإجراءاتها القوية والحاسمة في قضية قتل المعتصمين" شعوراً آخر يتسم بالأمل، وقال "لقد شعرنا لأول مرة بأن النيابة جادة" وأنها "حين وجهت رسائل قوية جداً بدأنا نشعر فعلاً بالاستقلالية إلى حد كبير من خلال جدية التحقيق في هذه القضايا".

ويكشف علاو –جازماً- ما توارى وراء تلك الكواليس، قائلاً "كانت النيابة قد بدأت بالفعل بالتحقيق مع قادة الأجهزة الأمنية (الأمن المركزي، والجهات الأخرى المتهمة)، الأمر الذي شعرت معه السلطة بخوف وقلق بالغين كون التحقيقات اتسمت بالجدية فعلا، وأن الأمر إذا ما ترك له أن يسير على ذلك النحو، فإنه حتماً سيصل إلى رأس النظام باعتباره المسئول الأول سياسياً وجنائياً عن كافة قضايا القتل والإصابات والاختطافات والإخفاءات القسرية التي حصلت في طول اليمن وعرضه"، لافتاً إلى أن ذلك كون رئيس الجمهورية "هو المسئول عن تصرفات وأفعال هذه القوات والجرائم التي ترتكبها أجهزته".

مصير مبارك كابوس مقلق
لقد بات من المؤكد أن الرئيس كان حريصاً بطريقة لا يعيبها أن تكون مكشوفة، توخي مستقبل لا تنغصه الملاحقات القضائية، بتنظيف كل ما يرتبط بهذا الملف نهائياً. وقد يكون من المهم النظر إلى ما حدث –لاحقاً- للرئيس المصري المخلوع وأبنائه من إحالة النائب العام المصري لهم إلى المحاكمة ووضعهم في السجن والمصير الحتمي الذي ينتظرهم، بمثابة كابوس فضيع ينتصب أمام عيني "صالح" ويقض مضجعه. كان المشهد ليس مهيناً فحسب، بل قاسياً ومخيفاً ومن شأنه أن يجعل كل شبيه معرض لنفس المصير أن يحرص ويتوخى الحذر ويضرب أخماساً في أسداس لتجنب الوقوع في المآل ذاته.

بالنسبة لصالح فقد أجهد نفسه كثيراً في هذا الجانب وأصر على أن تمنحه المبادرة الخليجية الأخيرة ضمانات تجنبه محاكمة لاحقة بعد رحيله. بل ولمزيد من الحرص اشترط ضرورة أن يأتي ذلك عبر إصدار تشريعي ينبثق عن اجتماع مشترك لمجلسي النواب والشورى قبل يوم واحد من رحيله.

غير أن ذلك لم يكن كافياً وفرض عليه الخوف القابع في أعماقه من حتمية الإدانة والملاحقة، أن قرر إقالة النائب العام، كضمانة إضافية، سيما بعد أن شعر مؤخراً بوجود تغيرات مقلقة وغير مطمئنة في مواقف هذا الأخير، على نحو ما سبق الإشارة إليه.

إن الخطورة تتمثل أكثر بكون المتهمين الرئيسيين في تلك القضايا يتجاوزن ما يسمى بـ"البلطجية" التابعين للنظام، إلى الحرس الجمهوري، الحرس الخاص، الأمن المركزي، الأمن القومي، وهي المؤسسات التي يقف على رأسها جميعاً أبناء الرئيس وأبناء أخيه.

ومن وجهة نظر قانونية فإن "الجرائم التي ارتكبت ليست جرائم جنائية، أو تجاوزات فردية من قبل قادة الأمن والحرس الجمهوري والخاص، بل هي جرائم موجهة تقع تحت مسئولية المسئول الأول عن هذه الأجهزة وهو رئيس الجمهورية". يقول علاو.


الأحد، 1 مايو 2011

الوجه القبيح لساحات الفعل الثوري


قدم وائل غنيم نموذجاً استثنائيا، حين رفض اعتباره بطلاً، فيما يبدو النموذج اليمني خالياً إلا من قيادات تضخّم نفسها وتسعى لفرض وصايتها على الآخرين


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
حين سئل المهندس المصري الشاب وائل غنيم (30 عاما) عن دوره البطولي في الثورة، رد بتواضع جم "أنا لست بطلا، أنا كنت وراء حاسوبي فقط، أنا مناضل الكيبورد، الأبطال هم الذين نزلوا واستشهدوا في شوارع مصر". وهو الذي لقب وعرف بـ "قائد ثورة الشباب"، لدوره الكبير في اندلاعها.

جاءت تصريحات وائل تلك عقب الإفراج عنه بعد 12 يوماً من اختطافه ليلاً، وإخفائه قسراً كونه أول من دعا إلى الثورة عبر مجموعته في الفيس بوك التي أطلق عليها: مجموعة "كلنا خالد سعيد".
وكان غنيم استقبل في اليوم التالي لخروجه من السجن استقبال الأبطال في ميدان التحرير، وحينها قال للمتظاهرين الذين صفقوا له بحرارة "لست بطلا، بل أنتم الأبطال، فأنتم الذين بقيتم هنا في الميدان".

وبعد خروجه من السجن، ظهر على قناة دريم المصرية قائلاً "إن أجندتنا الوحيدة هي حب مصر". رداً على من يقول إن لديهم أجندات خارجية. ولدى ذكر الشهداء الذين سقطوا خلال المواجهات وعرض صورهم انهار وائل غنيم وأجهش بالبكاء مما أثار مشاعر ملايين العرب والمصريين. واعتذر من أمهات الشهداء قائلاً وهو يبكي: "أريد أن أقول لكل أم ولكل أب فقد ابنه.. أنا آسف لكن هذه ليست غلطتنا.. والله العظيم ليست غلطتنا.. هذه غلطة كل واحد كان ماسكاً بالسلطة ومتشبثاً بها... عايز أمشي". وانسحب من البرنامج..".

وكتب موقع مصراوي على شبكة الإنترنت بعد ساعتين من ظهور غنيم على شاشات التلفزيون: "دموع غنيم حركت الملايين حتى إنها قلبت موقف البعض السياسي حيث تحولوا من موقف المؤيد للبقاء (بقاء مبارك) إلى موقف المعارض".

(2)
ربما يتوجب علينا هنا أن نركز على قضية في غاية الأهمية، لوحظ أن وائل غنيم كان يشدد عليها كثيراً، إذ يصر على عدم نسب البطولة إليه، مع وضوح حجم الفعل الذي قام به. وكان عوضاً عن ذلك، يفضل الحديث عن الأبطال الحقيقيين الموجودين في الشارع. وجاء في تصريحاته أيضاً، لدى خروجه من السجن: ".. أريد أن أقول أيضاً أرجوكم لا تجعلوا مني بطلاً أنا مجرد شخص كان نائماً اثني عشر يوماً والأبطال الحقيقيون هم الموجودون في الشارع وأتمنى أن تلقوا الضوء عليهم. أنا الحمد لله بخير وإن شاء الله سنغيّر بلدنا، وكلنا بيد واحدة لتنظيف بلدنا". وعلى الرغم من تواضعه ذاك، فقد تم اختياره ناطقاً باسم شباب الثورة، دون أن يكون مغرماً بهذا الأمر أو باحثاً عنه.

ولبساطته في الحديث وقربه من قلوب المستمعين، استطاع وائل غنيم أن يتجاوز الكثير من مناضلي مصر الكبار ونخبهم السياسية، دون أن يكون له رغبة للقيام بذلك، دون أن يرسم أو يخطط ليكون القائد الملهم، والصانع الأول للثورة، دون أن يتهم الآخرين بمحاولة السطو على الثورة، لم يكن في أجندته سوى طموح ورغبة واحدة، هي: أن يكون الجميع يداً واحدة لتنظيف أم الدنيا من الديكتاتور، حتى ينعم الشعب المصري بمستقبل أفضل.

وفي مارس 2011 تم اختياره لنيل جائزة كيندي للشجاعة. كما اختارته مجلة التايم ليكون في قائمة أكثر 100 شخصية تأثيراً حول العالم. وغنيم هو مدير التسويق في "جوجل" الشرق الأوسط، وحاصل على شهادة البكالوريوس في هندسة الحاسبات من جامعة القاهرة، والماجستير في إدارة الأعمال من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة. على أنه في نفس الوقت يحمل أفكاراً تقدمية، إصلاحية، وحداثية، يؤمن بالحوار منهجاً لحل القضايا على قاعدة احترام الرأي الآخر، كون الاختلاف "سنة الله في الكون". وفي إحدى مقالاته كتب: "..ولعل تطرف الفكر من الأمور التي يستحيل التخلص منها، وذلك لأن سنة الله في الكون الاختلاف، ولأن اختلاف الثقافات والبيئات والتربية يؤدي لاختلاف الحكم على الأمور وبناء القناعات". ويواصل ".. بل لكل وجهة نظر نسمعها وللجميع الحق في اختيار القناعة التي يريد السير عليها. وقديما قال الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ .. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".

(3)
إن تلك المساحة السابقة التي خصصناها للحديث عن ملهم الشباب المصري لثورتهم الملقب بـ"قائد ثورة الشباب"، مع ما قد يرى البعض أنها إسهاب في تمجيد الشخوص، لا الفعل نفسه، فيما يفترض تمجيد مفاهيم الفعل الثوري، ولاسيما أثناء فترة تواصل مساره، ومن ثم يأتي لاحقاً الحديث عن الشخوص. إلا أنني أردت أن تكون تلك المساحة مقدمة، مستقاة من ثورة تم إنجازها بنجاح وكفاءة لتلهم ثورة مازالت في طور التكوين وتتجه نحو تحقيق الإنجاز المنتظر، وهدفي من ذلك محاولة لتجاوز مشكلة بالغة الأهمية، لوحظ مؤخراً تسارعها الدراماتيكي، إذ بسطت سيطرتها على عقول وأفكار مجاميع ينتمون إلى شباب ثورتنا اليمنية العظيمة.

الفكرة العامة تدور حول تفاصيل الصراع القائم على نيل شرف القيادة، ونسب فعل الثورة لفئة دون أخرى، في الوقت الذي تفرز فيه الساحات الملايينية حالات مرضية مستعصية، أفضت إلى إرهاصات بدأت فيها بوادر لانعدام الثقة بالبروز على السطح، عبر التشكيكات المتبادلة التي وصلت حد الاتهام، بل الشتم، وصولاً إلى ما يشبه البدء بمحاولات مستميتة للتمترس الفكري والعصبوي بهدف إقصاء الآخر، والتقليل من شأن الفعل الثوري الذي يقوم به، في الوقت الذي يبجل فيه فعله ويجعل من نفسه محور ارتكاز الثورة.

وتلك أمور يرى البعض أن التغاضي عنها أدعى من كشفها حرصاً على سلامة ونزاهة منجز الفعل الثوري العظيم. غير أن التغاضي عن كشف أعراض المرض البدائية من شأنه حتماً أن يزيد من استفحال السوء، وعندئذ لن تجدي حيل الأطباء نفعاً في مداواته.

(4)
بداية، دعونا، هنا، لا ننسى أن نحيّي قيادات الفعل الثوري، سوى أولئك الذين اختيروا من غيرهم أم أولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الثورة ومتحدثين باسمها، ربما شعوراً منهم بأنهم آباء مؤسسون وأمهات حاضنات لها، يمنعون/ يمنعن أي "دخيل" من الاقتراب منها، ولا يتورعون عن وصفهم بـ"لصوص" الثورة.

وبعد تلك التحية، لا غرو أن ننتقل إلى توجيه اللوم لبعض تلك التصرفات المتخلفة من جهة البعض، وفقاً لسلوكيات طوباوية، تشخصن القضايا، ولاشعورياً ترتكب الجرم الذي تصرخ عالياً ضده وتطالب بإزالته، ذلك حين تتعامل مع الثورة كملكية خاصة. وللتوضيح أكثر، فإن ذلك بالطبع لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن ينتقص من حجم الجهود التي بذلت من قبل البعض على مدى الأشهر الثلاثة الماضية.

إن مسألة اللوم والعتب، بطبيعة الحال، ربما تبدو أمراً مستهجناً وغير لائق، خلال مراحل تخلق الثورة، غير أن النظر إليها يجب أن يكون من منظور "الفعل الثوري" لكونه أحوج ما يكون للتقويم والتوجيه. وإن هذا الدور يلزم وجوباً ثورياً على كل ذي قدرة ممن ينضوون في إطار الثورة، سواء أولئك الذين يقطنون الخيام الثورية، أم غيرهم من القادة السياسيين الذين يبيتون في الغرف المغلقة للتخطيط والتوجيه وتقويم المسار، أم أولئك الذين يقبعون إلى جوار أجهزة الكمبيوتر يتوخون تعزيز ودعم التوجه العام، ينشرون أخبار الثورة وثوارها، ويتحملون عبء المعركة الإعلامية التي تعد الأقوى والأكثر تأثيراً في طريق الثورات السلمية.

على أن الملاحظ أن هذا التكامل البنائي الهام، الذي يتضح توافره شكلاً، لا مضموناً، فإنه ولكي يؤتي أكله مازالت تعوزه أنساق وأطر عملية التنسيق والتنظيم، من خلال قيادة موحدة. وهذا بالفعل ما بدا أنه أشبه بالمستحيل عكساً على اختلافات الرؤى والتوجهات حول بعض التفاصيل الدقيقة.

(5)
إن منظومة الثورة تتكون من نظرية ثورية، وجماهير ثورية تتبناها، وقيادة ثورية تخطط وتوجه. ونحن هنا، إذ توافر لدينا الجزءان الأولان، ربما بكامل مقوماتهما، إلا أن ما يتضح حتى الآن أن الجزء الثالث ما زال بحاجة إلى مزيد من الجهد لصنع قيادات أكثر قدرة ومسؤولية.

على أنه، وإذ كان ولابد أن تتقدم تلك المجاميع رواحل قيادية ثورية بهدف تنظيم وتوجيه الفعل الثوري، وقيادته إلى بر الأمان، مع أقل الخسائر، فإن تلك الحماسة التي تشع من وجوههم لن تكون كافية لوحدها ما لم تترافق مع نضج فكري، بداية، يتبعها قدر من التجربة والممارسة، وهي قطعاً تختلف عن تجربة قيادة المنظمات والمنتديات السياسية وحلقات النقاش الحقوقية والأنشطة الاجتماعية.

وفي أتون القيادة الثورية المطلوبة، يمكننا الحديث، أيضاً، عن عدم كفاية التباهي بأفضلية "قصب السبق" في انطلاق الفعل الثوري، كشهادة لنيل شرف قيادة الملايين والتحدث بأسمائهم، طالما غاب عنها النضج الثوري المتسم بالقدرة على التعامل مع كافة السياقات المؤثرة والأحداث والمستجدات بما فيها القدرة على تجاوز الخلافات الإيديولوجية، السياسية، التنظيمية، والتنسيقية، إلى جانب القدرة على العمل الجماعي والحرص على استخدام الآليات العملية لصناعة واتخاذ القرار.

وفي السياق، ذاته يصبح مثقفو النخبة الاجتماعية المنضووون في إطار الفعل الثوري مجرد "حاطبي ليل" عديمي جدوى، بل وربما معيقين لمسار التوجه الثوري الجماهيري، ما لم يتحلون بقيم الجماعة الثورية، وما لم يتخلون عن أحادية الأيديولوجية منتقلين إلى تحالف ما وراء الإيديولوجيات لقيادة الجماهير بمشاربهم ومستوياتهم المتنوعة والمختلفة.

وإذا كانت الثورة عبارة عن "حدث يغير مسار التاريخ"، بحسب لينين في "المجلدات"، والذي على ضوء ذلك يرى أن "ما قبل الثورة يختلف عما بعدها"، فمن باب أولى أنها حدث يبدأ أولاً بتغيير مسار الأنفس قبل الآفاق. وفقاً للمبدأ الإسلامي المشمول بقوله تعالى «إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم» صدق الله العظيم.

(6)
وفي حالة ثورتنا، فإن بعض تلك القيادات الشبابية التي بلغت سلم الهرم القيادي، لوحظ – وللأسف الشديد - تمترسها وراء فكرة "قصب السبق"، وحجم التأثير الجماهيري لتجعل من نفسها وصية على الساحات بل وملايين الجماهير التي تقطن في منازلها، ثم تهرع كلما وجه إليها نداء النصرة. فتلك أمور تتحول إلى معيقات ثورية، ما لم تكن تلك القيادات (المفترضة) قادرة على تجاوز عصبياتها، سواء الأيديولوجية، أم السياسية، أم حتى عصبويتها النفسية الطوباوية، بلوغاً إلى مرحلة القدرة على التنازل عما يفترض أنها أمور بحاجة للتنازل من أجل الحفاظ على مسار النسق الثوري موحداً، ويبقى الطرف المتنازل هو الطرف الأشجع والأكثر حداثة وعقلانية، وثورية ووطنية، والأقدر على تذليل متطلبات النصر. إن ذلك سيكون بحاجة بداية إلى استيعاب فكرة أن الثورة "حدث يغير مسار التاريخ" وما قبلها يجب أن يختلف عما بعده، وأن التغيير يبدأ أولاً بتغيير ما بالأنفس قبل الآفاق، كما سبق و أشرنا.

ذلك أن الخلافات اللاحقة التي طالت مفهوم الثورة القيمي كثورة جماهيرية شاملة، يمتلك فيها جميع من في الساحات الثورية، حق تشكيل تكتلاتهم دون وصاية فيها لأحد على أحد، ولا قيادة فيها لطرف على آخر، كشفت عن عمق تغول جذرية أحادية، في وقت أعتقد فيه أن الصراعات الأيديولوجية القديمة تحولت إلى ماض بتوحدها على قاعدة سياسية استثنائية تجمع بين ما هو مشترك في النظرية لتعزز القوة العددية في إطار تكاملي متسق هدفه التوحد في مواجهة نظام عائلي استبدادي رهن استمراريته على سياسة التفرق والتشرذم والاختلافات الإيديولوجية والعصبوية المناطقية والقبلية.

إن للثورة الجماهيرية مفهومها الأشمل الذي يتجاوز كل الأحاديات والجزئيات البسيطة المختلف حولها، تلك التي يمكن تجاوزها والتخلي عنها دون أن ينقص ذلك من شأن المتنازل شيئاً. وهي بكونها جماهيرية شعبوية تختلف عن تلك الأحادية التي يقوم بها طرف لوحده. وهو مفهوم تذوب فيه الخلافات الجزئية البسيطة، وبحيث يصبح التبجح بالحديث حول قضايا جزئية على شاكلة: من سبق في النزول إلى الشارع أولاً، أو من نصب أول خيمة، أو من يمتلك القدرة على حفظ الأمن، أو من يمتلك زمام التنظيم ومسك الميكرفون أو الإصرار على فتح أغاني أيوب أو الأناشيد الثورية أو الخلاف حول تسمية الجمعة القادمة، أو حول مسار المظاهرة القادمة أو توحيد أساليب الرد على هجوم النظام وافتراءاته وشتائمه...الخ، يصبح الحديث عن كل ذلك تبجحاً لا معنى له أمام توحد الجميع حول هدف واحد، هو"الشعب يريد إسقاط النظام"، وفق نظرية ثورية واحدة تعتبر الثورة أسلوباً لتغيير المجتمع تغيراً جذرياً في جميع نواحي الحياة.

(7)
وعكس الحالة المصرية الفريدة، ففي حالة الثورة اليمنية، يتجلى غياب ذلك النضج الفكري بظهور من يتحدث باسم الثورة، كزعيم ملهم، متحدثاً عن نفسه بإجلال وتضخم يجعل من قدسية وعظمة المعاني الثورية شيئاً استثنائيا لا قيمة لها إلا حينما يلحقها بإنجازاته.

وفي الحالة اليمنية، أيضاً، وللأسف الشديد ظهر آخرون جعلوا من أنفسهم أوصياء على الثورة، يتحدثون عن أهدافها وتوجهاتها عبر الانتقاص من غيرهم. حملوا وراء ظهورهم إرثاً تاريخياً مشبعاً بالحقد، وهاهم اليوم يستغلون حالة الفوضى الثورية ليجدوها أنسب ما يكون للانتقام. حتى صغار الأحلام تحولوا إلى ظواهر صوتية، ينجرون كالأنعام كلما فرقع المندسون حدثاً، تجدهم يرفعون أصواتهم عالياً دون تمحيص أو ترشيح لما هو حق لهم مقابل ما هو حق لغيرهم..

وفي ساحة الفعل الثوري تجد البعض ممن يسعون إلى تحويل من حولهم إلى أهداف لفرض قناعاتهم في إحداث التحول الحداثي بكل تفاصيله، وهو ما عجز عن القيام به على مدى سنوات سابقة، إلا أنك تجده هنا يحاول إنجازه بضربة واحدة، مستغلاً حالة الفوضى. ومع ذلك فإنهم، وفي الوقت ذاته، يرمون غيرهم ممن يمتلكون قناعات مخالفة لهم بتهم التخلف ومحاولات الاستحواذ على فعل الثورة، معتقدين أنها مساحة تندرج في إطار ملكيتهم الخاصة.

فيما أن الحداثة في معناها الجوهري تعني العقلانية وقبول الرأي الآخر، والتمسك بالحوار، على قاعدة أن لاحق لأحد بفرض الوصاية على أحد، أو إجبار أحد على القيام بفعل ما يتعارض مع مبادئه وقيمه، أياً كانت تقليدية أم تقدمية وحداثية. وإذ يبقى الحوار والإقناع بالحسنى هو الفعل المؤثر في تغيير قناعة هذا أو ذاك، تبقى الساحة للجميع بكافة تفاصيلها دون فرض لون بعينه وإلغاء بقية الألوان أو طلائها بالسواد.

ولنا في الحالة المصرية، مثال آخر. فحينما كانت الثورة في بدايتها، حيث كان ما يزال التخوف قائماً حول إمكانية وأدها كونها ظلت منحصرة فقط على فئة الشباب، حاول المفكر الماركسي عمر الغزاوي العمل على توجيه مسار الثورة بالحديث عن مفهومها، من المنطلق الماركسي - اللينيني الذي يؤمن به، ولتحقيق إنجازها قال: "إن مدخل الثورة يختلف حسب البنية التي يعيش فيها أفراد المجتمع من مستوى وعي ومعيشة، والحريات السياسية والمشاكل الاجتماعية وكذلك بحسب البنية الخارجية والمتمثلة في العلاقات الخارجية مع مكونات المجتمع الدولي، وفي الحالة المصرية فالثورة محصورة في أفراد الشباب، وعليهم بحسب اعتقادي اللجوء إلى مؤسسة قائمة مؤثرة معارضة للنظام في عملية تغيير النظام الدكتاتوري السائد كمؤسسة الجيش كما حدث في حركة الضباط الأحرار أثناء ثورة 1952 أو عن طريق استيعاب وتحريك الشارع واستيعاب الضباط الشباب في الجيش". كما جاء في إحدى مقالاته بتاريخ 3/2/2011، أي بعد أسبوع من انطلاق شعلة الثورة المصرية في 25 فبراير، وقبل 9 أيام من تحقق الإنجاز.

أما هنا، فبعض الأوصياء يتركون عقولهم خارج المعنى الثوري، متمسكين بأحقادهم حين يتحدثون عن خطأ تأييد الفرقة الأولى مدرع وقائدها للثورة السلمية. وهو أمر يتعارض مع فكرة الحداثة التي من أول مبادئها العقلانية والتفكير المنطقي، ذلك مع أنهم يصمون أنفسهم بأنهم حداثيون.

وما لم يكن تصوره ممكناً أن نتحدث اليوم بنفس المنطق الذي كنا نتحدث فيه عن مطالبنا في التخلص من سلوكيات النظام القائم، لنقول: إن ثورتنا بحاجة إلى عقول وطنية راسخة تقدم مصلحة الجميع على المصلحة الشخصية. وما لم فعلينا أن نتبرأ من أولئك الذين يحاولون فرض وصايتهم على الثورة بطريقة جانحة تخدم الطرف الذي ضحّى في سبيل خلاصنا منه أكثر من 150 شهيداً، وجرح الآلاف لإنجاز الهدف ذاته.
 

الجمعة، 15 أبريل 2011

تحولات الجنرال


طالب اللواء علي محسن بدولة مدنية ويقول إن أخطاء النظام قادت اليمن إلى الدمار.. لكن صورة الرئيس مازالت على حائط مكتبه، فماذا يعني ذلك؟


المصدر أونلاين-خاص-عبدالحكيم هلال
(1)
من هذا المكان المرتفع يمكنك أن تسمع مكبرات الصوت وهي تصدح بتراتيل شباب الثورة قادمة من ساحة التغيير، هناك في الأسفل جوار الجامعة الجديدة..

ومن هنا أيضاً، كان صوت الجنرال قد صدح متجاوباً مع صوت الشعب، لتتلقفه ساحات التغيير والحرية في مختلف أنحاء البلاد باحتفاء كبير، قبل أن يستقر في شاشات الفضائيات العالمية باعتباره الحدث المؤثر في مسارات ثورة الشباب السلمية.

داخل أسوار هذا الحصن العتيد، يكتفي الجميع هنا بكلمة "القائد" لتعرف أنهم يتحدثون عن اللواء علي محسن صالح، رجل الجيش الأقوى في البلاد. أما خارج تلك الأسوار، فحين يتحدث الجميع عن "الفرقة" بشكل مفرد، فليس ثمة من يذهب تفكيره بعيداً عن "الفرقة الأولى مدرع" التي يقودها الجنرال.

في غرفة متوسطة في الطابق الثاني داخل مبنى يتوسط المعسكر، جلس القائد على مكتبه المتواضع (مقارنة بالمكانة التي يتمتع بها). بلحظات سريعة جداً، قلب مجموعة من الأوراق الخاصة، فيما كانت صورة الرئيس صالح ما تزال ترقبه من على الحائط الواقع خلفه. التفت إلى مجموعة الصحفيين أمامه، ابتسم ورحب بهم ليبدأ معهم النقاش.

لقرابة نصف ساعة كان النقاش قد تطرق إلى: طبيعة الأحداث، مبررات إعلانه تأييد مطالب الشباب المنادين بإسقاط النظام، موقفه من المبادرات، إلى جانب قضايا أخرى تتعلق بمحاولة الاغتيال الأخيرة التي تعرض لها وملابساتها، وإلى أين ستتجه الأوضاع..

(2)
بعكس الأسبوعين الأخيرين، ظل الجنرال على مدى أكثر من 33 عاماً، يعيش في حساسية مفرطة من الإعلام، فظل بعيداً عن عدسات التصوير، فيما لم تجد أقلام الصحفيين الكثير مما تكتبه حوله، سوى بعض الأحداث التي كانت فرقته تخوضها باسم الجيش اليمني. ليس ثمة الكثير من المعلومات حول الجيش اليمني، والمعلومة الوحيدة المتوفرة لا تتجاوز فرقة الجنرال.

في حرب صيف 1994، والجولات الست من الحرب في صعدة، كان علي محسن وفرقته هي المعلومة الأكثر شيوعاً. ومثلها في محاولة انقلاب الناصريين المحبطة عقب صعود صالح، وحروب الجبهة في المناطق الوسطى. ولذلك، كان من الطبيعي – ربما – أنه وعقب إعلانه الانضمام إلى صف ثورة الشباب، أن برزت أصوات – وإن كانت خفتت سريعاً قبل أن تأخذ مداها بالارتفاع – تتحدث عن تاريخه العسكري، وتطالبه بالاعتذار للشعب.

والجمعة الماضية، وأثناء رده على سؤال أحد الصحفيين حول ما إذا كان وعده بترك منصبه بعد سقوط النظام وانتهاء الأزمة، ما يزال قائماً، قال "بالتأكيد" مستدركاً "سأعتذر للشعب وأرحل". قالها وهو يرفع كفه الأيمن بموازاة رأسه بحركة عسكرية تعني "تعظيم سلام".

في 21 مارس الماضي، جاء إعلانه بتأييد مطالب الشعب، والذي حمل أثراً بالغاً في تدمير جدران المعبد الرئاسي الذي ظل الجنرال وفياً له خلال العقود الثلاثة الماضية. حينها كان هذا بمثابة إعلان بتهاوي جدران نظام صالح العائلي مباشرة مع انهيار دعاماته الأساسية.

ومع ذلك، ففي هذه الأثناء، تباينت الآراء بين أولئك الذين طالهم جزء من تاريخ الجنرال ليفيضوا بالشكوى، وبين من رحبوا بموقفه، وهم هؤلاء الذين ظلوا بمنأى عن ذلك التاريخ. وفيما يبدو كان هذا الصوت الأخير أكثر قوة من غيره. على الأقل حتى الآن. على أن السخرية هنا، أن إعلام النظام المتضرر تبنى حملة التذكير منقلباً على من كان يدافع عنه بحماسة بالغة، حتى ما قبل تحوله، وكان يصفه بـ"المناضل الكبير، والقامة الوطنية العملاقة..!!"، ليتقمص في هذه الأثناء دور الشيطان مستحثاً عواطف من كان يشتمهم، ومحولاً لعناته على صديق الأمس، عدو اليوم..!

(3)
لم يعد ذلك مجدياً البتة. ففي الوقت الراهن، يتحدث الجنرال مع الصحفيين بلغة أخرى، وهيئة مختلفة. لغة غير تلك التي بلغتهم من ورائه، وهيئة غير تلك التي رسموها في مخيلتهم عنه. فالرجل القوي، الذي ما كانوا ليصلوا إليه من قبل، هاهو اليوم يتحدث معهم وجها لوجه، والشخصية الأولى في الجيش، من وضعوا في أذهانهم أنه سيبدو عابساً، هاهو يبتسم لهم بين الحين والآخر، ويطلق المزحات لتلطيف الجو..

هاهو، من عاش معظم عقوده السبعة، خلف جدران المعسكرات، وميادين المعارك، بين المجنزرات والصواريخ والكلاشنكوف، يتحدث اليوم بحماسة عن "الدولة المدنية الحديثة" منتقدا حكم العسكر..!

وبالنسبة للرئيس، يقول إنه تحول إلى دولة بشخصه. كل شيء بيده وتحت أمره، وهو صاحب القرار في كل الأمور، صغيرها وكبيرها.

هل يؤكد هذا أن الثورة تسير فعلاً في طريقها الصحيح، حين استطاعت تغيير القناعات الراسخة في أذهان أشخاص اعتبروا أنهم جزءاً أساسياً من النظام؟. بلغ الاعتقاد لدى الكثيرين أن علي محسن صالح، هو أخ غير شقيق لعلي عبد الله صالح..

ولكن ماذا بشأن صورة حليفه السابق، تلك التي ما زالت معلقة أعلى الحائط خلف مكتبه؟

دعوه يرد على ما بدا أنه أمر غير طبيعي بعد هذا كله. بالنسبة له فهذا يعني"أننا لم نقم بانقلاب كما تم إشاعته حينما أعلنا تأييد ودعم مطالب الشباب" جاء الرد. واستدرك "ولذلك هي مازالت هنا، لكنها لن تكون كذلك بعد انتهاء الوضع الراهن بإعلان الرحيل بإذن الله".

يوم أن أعلن الرجل الثاني في البلاد، والأول في الجيش، تأييده لخيارات ومطالب الشعب، انفرط عقد قوة الرئيس الضاربة. وخلال الساعات السبع الأولى لم يتسن لهذا الأخير القيام بشيء، كان هول الصدمة مفاجئاً وقاصماً. ومع المساء بدأ باستيعاب الحدث، فجاء رد فعله الأول بظهور وزير دفاعه على شاشة التلفزيون الرسمي، متحدثاً عن انقلاب على ما أسماها بالشرعية، ومذكراً بقسم الجيش في الدفاع عنها.

بالنسبة للجنرال، لم يطل الأمر لأكثر من بضع ساعات قليلة، حتى ظهر هو الآخر على شاشة إحدى الفضائيات العربية (كان هذا هو الظهور الإعلامي الثاني للجنرال على شاشات الفضائيات، وفي يوم واحد) ليتحدث عن ضغوطات مارسها الرئيس على وزيره لتمثيل هذا الدور. وحينما بدا الأمر أشبه بإعلان حرب، طمأن الجنرال الناس بالتأكيد "أن عهد الانقلابات العسكرية ولى" وزاد أكد أنه لم يكن أبداً من محبي السلطة، وأنه لو كان يريدها لكان قد تسنى له ذلك في السابق حين كانت الفرصة متاحة له أكثر من غيره.

ولذلك، حين اتصل به الرئيس ليلة ذلك اليوم، أكد له الجنرال أن ما حدث ليس انقلابا، وأن صورته التي ما تزال في مكتبه شاهد حي على عدم دقة تلك الاتهامات.

مثل هذا الأمر، لا يمكن لرئيس مثل صالح استيعابه إطلاقاً. فهو وإن لم يكن انقلابا بمعناه العسكري كون الجنرال ما زال يعتبره رئيساً حتى اليوم (حتى وإن كان بنظره قد فقد شرعيته عملياً "بمجرد اصطفاف الشعب في كافة محافظات الجمهورية مع رغبة مشتركة ضد بقائه، وأيضاً لتورطه في قتل شعبه")، إلا أنه – من زاوية أخرى – يعد انقلابا بكل المقاييس، وذلك فقط بالنسبة للرئيس. فهو لا يمكن إلا أن يكون انقلاب شاملاً لفكرة دولة الرئيس الخاصة. انقلابا في الذهنية العسكرية على معاني التبعية العمياء، ورفض للقبضة الحديدية والتحكم والبسط والسيطرة على كل قرارات ومفاصل الدولة.

فالجنرال، الذي ظل ذراعاً أيمن للرئيس، وآلته الحامية من الانقلابات والحروب والاضطرابات العسكرية والسياسية، هاهو اليوم يعلن صراحة أنه سئم من كل هذا، وها قد آن أوآن أن يقرر، ليس فقط التخلي عن حمايته فحسب، بل وأيضاً بتحويل تلك الحماية لمن يطالبونه اليوم بالتوقف فوراً عن أن يواصل البسط على موقع الرجل الأول في البلاد، بأن يرحل ويتحول إلى لاشيء. وفي هذا التحول، ليس ثمة ما يمكن توصيفه أكثر من كونه انقلابا حقيقياً.

ليس هناك من بد من القول أن للجنرال تاريخا طويلا مع الرئيس صالح موغلاً بالعنف والقسوة المفرطة، غير أنه، وعلى الصعيد الشخصي الخاص، بعيداً عن صالح، يحمل تاريخا آخر ملئ بالنبل، الرحمة، الكرم، القيادة والإدارة، الوفاء بالعهود، وحل النزاعات. يتمتع القائد بعلاقات شخصية حسنة مع القبائل والأشخاص والشخصيات الوطنية، ودول الجوار، وأيضاً مع فريقه من ضباط وصف وجنود في المنطقة التي أوكل بها والفرقة التي يقودها.

(4)
حين تتعدى البوابة الغربية، وتلج معسكر القيادة التابعة له، تستقبلك لوحة صغيرة كتب عليها "أهلاً بك في عرين الأسود". وحين كان يتحدث معنا من وراء مكتبه داخل بزته العسكرية المارينزية، لا أدري لم ارتسم وجهه في مخيلتي بهيئة أسد. غير أنه وبعد لحظات من الحديث، أجريت تعديلات طفيفة على تلك الصورة ليبدو وكأنه الأسد الأكبر. الأسد الأب، أو ربما الجد. تلك التغضنات والتجاعيد البادية على وجه، وذلك الصوت الجهوري، ولكن الممتزج برعشة صغيرة بين الحين والآخر، لم تلغ من ذهني تلك الصورة المرتسمة نهائياً، لكنها أضفت عليها تحسينات لتجعل منه أسدا طاعناً في السن.

مع ذلك، فهو ما يزال الأسد الأقوى، أسد لم يفقد قوته وشجاعته بعد. فمن بين تلك التجاعيد والتقاسيم وعلامات الشيب، يمكنك ببساطة أن تلمح تلك المواصفات. وعلى الأرض تنعكس أكثر، بتجرؤه الوقوف ضد رغبات الرجل الأول في الدولة، وإعلانه أمام العالم – وبكل شجاعة – عن انتهاء عهد خدماته له، وانحيازه لخدمة الثورة.

وبعد المجزرة البشعة التي ارتكبت ضد المعتصمين السلميين في ساحة التغيير بصنعاء، في جمعة الكرامة (18 مارس) وراح ضحيتها (53) شهيداً، والآف الجرحى، حضر الجنرال الاجتماع الذي عقده الرئيس – في نفس اليوم، تقريباً - مع اللجنة الأمنية العليا، مجلس الدفاع الوطني، مجلس الوزراء، اللجنة العامة لحزبه، ولجنة إدارة الأزمات. وأثناء الاجتماع رمى الجنرال بكلماته الشجاعة إلى وسط الطاولة. تضمنت ما معناه: أن الجميع يعرف أن من ارتكبوا تلك المجزرة يتبعون قوات الحرس الجمهوري، القوات الخاصة، الأمن المركزي، ومواطنون بلباس مدني يتبعون الأمن القومي، والحزب الحاكم. وزاد: إن هذا الأمر واضح، ولا يمكن التستر عليه، ويجب الاعتراف به ومعالجته بالطريقة الصحيحة.. الخ

حينها حلق الطير فوق رؤوس القوم، ولم ينبت أحدهم ببنت شفه. لم يجرؤ أحد على الكلام. وبعدها بيومين فعل فعلته التي فعلها، وزلزلت عرش الطاغية، بإعلانه الانحياز للمحتجين وحمايتهم. وبعد يومين، أو ثلاثة – ربما – ظهر الرئيس في مقابلة على قناة العربية، وفيها قال بغرور: أنا رئيس جمهورية، واللواء علي محسن ضابط عندي، مثله مثل أي ضابط، وأستطيع عزله بقرار مني.

لم يتأخر الرد كثيراً، وفي صباح اليوم التالي، كان مندوبه الخاص قد وصل باكراً إلى ساحة الاعتصام، جوار الجامعة، ليبلغهم تحيات القائد، ويتحدث باسمه. وفيما بدا أنه رد قوي على تصريحات الرئيس تلك، قال الرجل، إن القائد يريد أن يذكر الجميع بأنه هو من أتى بالرئيس صالح إلى كرسي الرئاسة من المفرق. وكان يقصد "مفرق المخا" بتعز، حيث كان الرئيس يقبع هناك في معسكر خالد بن الوليد بموقع قائد لواء تعز العسكري. ولم ينس أن يذكر أيضاً بأن القائد علي محسن، هو من حمى وأنقذ الرئيس لثلاث مرات.

(5)
كان واضحاً أن الأسد العجوز، لم يكن قد فقد قوته بعد، ومازال زئيره المرعب يرتفع بقوة. ولذلك – ربما - جاءت تلك المحاولة الأخيرة والفاشلة لاغتياله. وظهيرة الثلاثاء (5 أبريل) نجا الجنرال من محاولة اغتيال جوار بوابة الفرقة.

ولأن الأحداث والاضطرابات الأخيرة، فرضت عليه عقد صداقه مع الإعلام، تخلى عن حساسيته من عدسات التصوير، ظهر ليلتها، وللمرة الثالثة خلال أيام، ليكشف تفاصيل تلك المحاولة، التي اتهم فيها الرئيس مباشرة بتدبيرها في الرئاسة منذ أسبوع.

وعلى الرغم من أنه كان يتحدث عن مكيدة مدبرة للتخلص منه، إلا أن الجنرال ظهر على شاشة الجزيرة مطلقاً ابتسامه عريضة، ربما أراد من خلالها أن يوجه رسالة تؤكد ثقة كبيرة بالنفس، وقد تحمل عبارة مفادها "عفواً، حاول مرة أخرى".

في الواقع، لم تكن تلك المحاولة هي الأولى، وربما أنها لن تكون الأخيرة. وكان مندوبه أكد للمعتصمين، بالقول: "هذا ليس ببعيد على السلطة فقد سبق وأن حاولت اغتيال اللواء علي محسن عدة مرات كان آخرها ما كشفته وثائق ويكيليكس حول إعطاء الأمن القومي في اليمن إحداثيات خاطئة للطيران السعودي لقصف مقر اللواء علي محسن في صعدة أثناء الحرب الأخيرة هناك".

الفارق الجوهري، أن تلك المحاولات السابقة، كان يتم التعامل معها من تحت الطاولة، ولم تكن تعلن على الملأ، كما حدث اليوم، مع توجيه الاتهامات بشكل مباشر لرئاسة الجمهورية.

تتطابق المعلومات لتؤكد أن القائد كان على رأس الجنرالات الذين نصبوا صالح رئيساً للبلاد في 1978. وكما تزعم بعض التسريبات، حظي الرجل بإبرام صفقة ثنائية خاصة مع صالح، بالشراكة والوفاء، وأنه أستطاع من خلالها أن يكتسب نفوذاً كبيراً في المؤسسة العسكرية، وضمان السيولة المالية التي تمكنه من تأسيس وإدارة القلعة التي يتحصن بها اليوم.

غير أن حلم الرئيس بالتوريث، شرخ تلك العلاقة، وتدرج بها نحو نهايتها تلك. وظل القائد – وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة تقريباً - يتعرض لمحاولات أخرى هدفها القضاء على قوته ونفوذه الواسع في الجيش، وكان كل ذلك يجرى بعيداً عن ضوء الشمس، لكنه لم يكن ليعدم منفذاً للخروج وإن بصورة اتسمت بالخفوت.

حينها، بدأت الخلافات بين الشريكين تدب، حول بعض القضايا الرئيسية، لعل أبرزها "تصرفات الأولاد" الصبيانية. وبحسب مقربين، لم يكن هناك شخص باستطاعته أن يدخل مع الرئيس في نقاشات حادة، سوى اللواء علي محسن. وإن كان ذلك يتم في غرف مغلقة غالباً.

بالنسبة للجنرال، فأسباب إعلانه تأييد ثورة الشباب، يتعلق بسوء تصرفات الرئيس الأخيرة مع القضايا السياسية والوطنية. لقد تحول الرئيس ليكون هو الرجل الأوحد، القادر على كل شيء، وما دونه لا يساوون شيء. وتحت الشعور بغرور القوة، أراد أن يكون هو الدولة، والدولة هو. ذلك ما يمكن استخلاصه، من حديث طويل تطرق لسلسلة من المبررات تعلقت معظمها بالأخطاء الكبيرة لتعاملات الرئيس وتصرفاته مع قضايا الوطن، والحوار مع المعارضة. فصل الجنرال تدرج سياقات الحوار مع المعارضة. "كان الرئيس دائماً ما يطرح المبادرات ويوقع عليها، ثم سريعاً ما يتنصل عنها، وكأنها لم تكن، هكذا دون أن يأبه للعواقب المترتبة عنها". قال. وأضاف "كنت حاضراً جل تلك الاتفاقات، وكنت في كل مرة أرصد الطرف الذي ينقضها" حتى وصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم. فاليوم لم يعد هناك شرعية للسلطة القائمة، في ظل خروج بعض المحافظات عن سيطرة الدولة، بما فيها صنعاء. يؤكد. ويستدرك: "الآن هناك فوضى، لا توجد دولة، في الماضي كان الرئيس صمام أمان، أما اليوم فإنه مصدر خطر على اليمن وأمنه ووحدته". حتى حدثت مجزرة الجامعة تلك "التي يندى لها الجبين، ولا يمكن أن يرضى عنها كل صاحب قلب، أو يمني وطني شريف".

قرر الجنرال، بكل شجاعة، أن يخوض معركة علنية وشفافة أمام الجميع، للدفاع عن الطرف الأضعف في المعادلة، الذي عوضاً عن ذلك، قال إنه يمتلك مطالب مشروعة ودستورية. بعدها، كان ما كان..

(6)
حينها، حتى هو نفسه لم يسلم من الخديعة ونقض العهود. وهنا يستشهد بما حدث أثناء اتفاقه مع الرئيس. فعقب إعلانه تأييد الثورة، اتصل به صالح، طالباً حل الأزمة، وحين قال له ما هو الحل بنظرك؟ اشترط عليه أن يستقيل معه، فوافق على الفور، وطلب منه يميناً فأقسم الرئيس. اتفقا على اللقاء في اليوم التالي في منزل النائب، وقعا الاتفاقية وتسلم كل طرف نسخة منها حتى السفير الأمريكي الذي اشترط الرئيس حضوره كشاهد، تسلم هو الآخر نسخته. بعدها يقول "من باب المزاح، قلت له لدي شرط واحد، فقال لي ما هو؟ فقلت له: أن تتكفل بمصاريفي، فأنا ليس لدي أموال في البنوك الخارجية، فوافق". واليوم التالي، رفض الاتفاق واعتبره كأن لم يكن.

اليوم، يحرص الجنرال أن تتوافق توجهاته حرفياً، مع تلك المطالب، التي انحاز إليها: "البلد اليوم بحاجة إلى حكم مدني، لا عسكري" قال. وأردف "نحن بحاجة إلى دولة يسودها العدل والمساواة والفصل بين السلطات".

ولقد بات يتحدث عن الجيوش باعتبارها جزء من الشعب وحامية للأمة، لا لحماية الأشخاص، والأفراد. فالأمة باقية، والأشخاص زائلون. هكذا يتحدث اليوم عن الماضي باعتباره خطأ فادحا، أفضى بالبلد إلى الدمار. فحكم الحزب الواحد كان خطأ كبيراً، يواصل، والممارسات التي قام بها النظام أدت إلى تكدس السلطة في يد حفنة عمدت إلى إقصاء الآخرين، ليس من مشاركتهم في صناعة القرار ومستقبل البلد، بل وإقصائهم من وظائفهم. إن معظم الناس فقراء، وهم بحاجة إلى وظائف لتسيير أمور حياتهم ورعاية أسرهم، لكن النظام أفسد ودمر البلاد واستفرد بالثروات. كان الجنرال ينساب في حديثه حول هذه المعاني بطريقة أخرى، غير معهودة، ولم تسمع منه قبل اليوم.. لكنه أدرك سريعاً أنها تحمل معنى اليمن القادم، اليمن الذي واجه شباب الثورة من أجله، رصاصات السلطة وزبانيتها بصدور عارية..

حتى هذه "بصدور عارية" وضعها الجنرال في سياق حديثه عن الطريقة التي سيتم فيها مواجهة مخططات النظام، لاسيما السيناريو الذي يقول باحتمالية اقتحام الفرقة. قال "لن ننجر إلى قتل إخواننا، بل سنواجههم مثل الشباب، بصدور عارية".

وكان ذلك في سياق طمأنته الجميع أنه "لن تكون هناك حرب أهلية. وبإذن الله سنعمل على حل الأزمة سلمياً. لا قلق من الحرب الأهلية".

لكن، مع ذلك كله، يرى الجنرال –وهذا يبدو مخالفاً للسياق– بضرورة أن يحظى الرئيس، بعد هذه السنوات، بخروج مشرف، ومن الأفضل أن يخرج "وسط تصفيق الناس واحترامهم". وهو الأمر الذي –في نظره- مازال ممكناً "فالوقت لم يفت بعد".

وربما، يكشف هذا أنه، ويوم الاثنين الفائت، أعلن تأييده للمبادرة الخليجية الأخيرة بتعديلاتها المثيرة للجدل. المبادرة التي رفضها الشباب جملة وتفصيلا، ورفضتها المعارضة الاثنين الفائت بعد تعديلاتها الجديدة بتغير النص إلى نقل صلاحياته لنائبه، بعد أن كانت السابقة تشير صراحة إلى التنحي، كما أن هذه الأخيرة منحت الرئيس وأسرته ضمانات من المحاكمة والملاحقة، وهو ما يتعدى القدرة المتاحة للمعارضة.

هذا ما يجعلنا نضع جميع تحولات الجنرال، المستمدة والمدفوعة من الثورة الشعبية المتسقة معها، في كفة، مقابل البدء بتحوله الأخير، من خلال موقفه المعلن يوم الاثنين الفائت، في الكفة الأخرى. ربما يختل الميزان في اتجاه غير مستحب للجنرال. عليه أن يفكر أكثر بالأمر، فليس ثمة من يعرف تقلبات الرئيس ومؤامراته أكثر منه.

تتسارع الأحداث، ويسجل التاريخ تحولاتها، بيد أن تحولات الجنرال تظل هي الأكثر إثارة بعد تحولات الثورة الشبابية، لكنها تظل مرهونة بالمدى الذي تستمر فيه متوافقة ومنسجمة مع أهداف ومبادئ الثورة الشعبية الجديدة.  

الخميس، 7 أبريل 2011

الانتقام من تعز


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
كان مشهد حشود "جمعة الخلاص" المهيبة في ميدان الحرية بتعز، بتراتيله المنادية بالرحيل، أكثر تأثيراً على نفسية الطاغية من مشهد جموعه في ميدان السبعين بصنعاء بصراخهم المنادي ببقائه.

لقد قرر أن يثأر لكبريائه الممرغ تحت أقدامهم، فوجه معاونيه حازما أن آتوني بأبناء تعز صاغرين.

والأحد الماضي، ما كان منهم إلا أن جمعوا له ما استطاعوا، كانوا ربما هم ما تبقى لهم من أبناء المدينة الحالمة. وإلى قصره الآيل للسقوط، سيق بضعة آلاف. من على منصته المرتفعة في باحة القصر، جلس على كرسيه يرمقهم أسفل قدميه، بينما كانوا يحملون صورته هاتفين بحياته.

وسط صراخهم، وحركة رأسه المشتتة، وملامح وجه منهار، بدا وكأنه قرر ممارسة انتقامه وإن على هذا النزر اليسير من الجمع. ها هو ما كان بيده أكثر من تقرير إذلالهم ليذل بهم كارهيه.

"الشعب يحبك يا علي". هتفوا بما حفظوه، مقابل ما أخذوه. وكان هو يتصنع الاستمتاع بهتافات يدرك أنه يعجز الاستعاضة بها عما افتقده. قطعاً ما كان لتلك الأصوات النشاز، أن تسمع لأبعد من أذنيه، أمام ما يصله عنوة من هدير تلك الهتافات اليومية المتصاعدة من ساحة الحرية، إذ تغزل في أذنيه: من تعز صعدت، ومنها تسقط.
كان الطاغية، حين أصدر أوامره ليؤتى إليه بهؤلاء النفر، قد أصدر أوامره بالانتقام من تلك الحشود الملايينية التي هزت أركان ملكه في "جمعة الخلاص"، وما كان من حضروا زينته في قصره، أكثر من مجرد إيغال عرضي في الإهانة سبق بساعات قليلة تنفيذ أوامره الانتقامية بارتكاب مجزرة الأحد ضد من أهانوا غروره.

ما كان ليوم واحد حصد فيه قرابة 1500 مصاب وجريح، يكفي لإشباع نهم طاغية، ليلحقه بيوم آخر، فكان حصاد يوم أمس الاثنين، حصدت فيه آلته العسكرية قرابة 15 شهيداً ورفعت من رصيد المصابين.

كان الفرق بين مشهدي القصر والساحة، يجسد الفرق نفسه بين وطن قديم نجهد للتخلص منه، وآخر جديد ننشده ونضحي بأرواحنا من أجله.

في الأول، نقلت عدسات السلطان ابتذال القوم وهم يرومون بلوغ ولو بعض ما سلبه منهم على مدى 33 عاماً، ليهبهم اليوم بعضه بطريقة مهينة. ولم يكن أذل من الحدث نفسه سوى شخص يلوك العبارات ليتحدث باسم أبناء العاصمة الثقافية، وشاعر مبتذل لم يتقن حتى تهجئة بيت شعر واحد بطلاقة.

وفي الثاني، كان الشباب المتعلم، الأكاديميون، المثقفون، الصحفيون، الأطباء، المناضلون، رجالاً ونساء، جميعهم يسطرون ملحمة بطولية شجاعة متصدين لرصاص أزلام الطاغية وقنابله السامة بصدورهم العارية. ذلك لأنهم قرروا استعادة حقهم المسلوب بشموخ الأبطال لا بذلة الخائرين.

في المشهد الأول، أراد الديكتاتور مسخ صورة أبناء العاصمة الثقافية بإبراز صورة هزلية لثلة عقيمة والترويج لها عبر تكرار عرضها في شاشاته الفضائية.

وفي المشهد الثاني، أكمل انتقامه الهمجي السمج باستنشاق رائحة الدماء المتسربة من أجساد نبيلة عن طريق أسوأ من فيها.

غير أن تعز –مع ذلك كله– مازالت تشمخ بالملايين من أبنائها، دون أن يضرها أن يشق منها مجرى صغيرا لتصريف القاذورات، أو ترهبها آلات الترويع ورصاصات القتل وسجون الاعتقال..

ارحل.. فالشعب قرر أن ترحل!!