الأربعاء، 22 يونيو 2011

ما يمكن أن يكون خلاصاً من الانهيار الكبير


ثمة عواقب غير سارة في المشهد السياسي جلبتها تعرجات السياسة الصماء لكنها أيضا قد تجلب الانعتاق في لحظة ما يكون قد بلغ منا اليأس مبلغه


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال

حقاً لقد أنجزت الثورة اليمنية الكثير من مقاصدها، ولم تتبق سوى الخاتمة. ولكثير ما أعجزت الخاتمة، ليس أفضل وأبدع المؤلفين والكتاب والأدباء والمخرجين فحسب، بل دهاه وعباقرة السياسة أيضا.


وإذا كانت الخاتمة عند غير الساسة قد تعني في الغالب نهاية الشيء، فإنها عند هؤلاء قد تعني العكس تماما. إذ ليس ثمة نهاية أبداً للفعل السياسي، بل هناك نهاية لمرحلة ما، لتبدأ مرحلة أخرى. وإذن فالخاتمة هنا تعني في واقع الأمر: البداية الحقيقية للتحول من مرحلة الحدث أو الفعل السياسي (وهو هنا الفعل الثوري) إلى مرحلة ما بعده، والتي غالباً ما يتم تشبيهها بـ: مرحلة جني الثمار. فإما أن يكون الحصاد حلواً وإما أن يكون مراً. وكلا النتيجتان تعتمدان على ما سار عليه الفعل تخطيطاً وتنظيماً، بل ومراعاة لعوامل الزمان والمكان وملامسة الاحتياجات الطبيعية.


والآن، لقد أنجزت الثورة الكثير، فيما ما زلنا جميعاً نترقب الخاتمة. وعليه سيبدو التريث والتأني للتفكير بخاتمة مناسبة للفعل السياسي موجباً عند الساسة أكثر من غيرهم لتأكيد تحقق الأهداف وتثبيت إنجازات المرحلة السابقة (المخاض الثوري). على أن الأمر هنا سيكون متلازماً بالضرورة مع الحرص على توجيه خط الثورة ووضع اللمسات الأولى لمعالم المرحلة القادمة. إنها معالم الدولة الحديثة التي ثار من أجلها الشعب وقدم أغلى ما لديه في سبيلها.

الانفجار الذي رحّل صالح، حمل معه شظايا عدة 
لخمسة أشهر خلت هتفنا في وجهه: ارحل. لكنه رفض أن يسمعنا، ولم يلب نداء أصحاب الأرض الأصليين، وملاك السلطة الحقيقيين، بل صرخ في وجههم: لن أرحل. أرحل إلى أين..! أرحلوا أنتم..!


اعتبر كل شيء في هذا البلد –التي كانت توصف بأنها سعيدة- ملكه وأسرته، وكل ما دونهم مجرد عملاء ومتآمرين. وطوال الـ33 سنة التي سمحنا له بالبقاء فيها حاكماً علينا، جوعنا ليتسنى له أن يستولي على ثرواتنا، ويا لتعاستنا حين أفلح بأن يشتري بالقليل من أموالنا بعضاً منا. ومع أنه لم يقم بأكثر من إعادة بعض ما نهب لبعض من الشعب، إلا أنه نجح في الإبقاء على أولئك لمواصلة حمل صورته تحت حرارة الشمس كمقدس لا يمكن التفكير بإسقاطه إلى الأرض. ولو أنهم أدركوا أن لم يكن بينهم وبين أن يستعيدوا كامل حقهم سوى أن يصبروا أياماً قليلة لفعلوا..


أيام قليلة تفصلنا حتى يكتمل نصف عام على انطلاق الثورة. وحقاً، لقد أنجزنا الكثير، لكن الخاتمة، التي ما زلنا بانتظارها، تضعنا أمام مفترق طرق عدة. احترنا جميعا، ومن حولنا العالم، إذ تهنا وعجزنا أيها نسلك..!


بطريقة مفاجئة، لم تكن في حسباننا، رحل من كان يرفض الرحيل. لكن ذلك الانفجار المجهول الذي أجبره على الرحيل، عوضاً عن أن يفتح لنا الطريق، فتح أمامنا مفترق طرق عدة: فإلى الواجهة قذف الانفجار بالنجل الأكبر للرئيس -والذي كان أبوه تعهد أنه لن يورثه- ليرثنا عنوة، ويبسط (يسكن) بجسده وجيشه على "بيضة" السلطة خوفاً على ضياع تركة أبيه. فإما عودته، وإما أخذ ما يعتبره حقه في التركة. وثمة شظية أخرى رمت بنائب الرئيس -الذي يفترض أن يخلفه دستورياً– في إحداثيات أخرى ومتغير جديد. ولكن يا للحسرة، ما زال يفضل مواصلة القيام بدور "الكمبارس" بعد أن ألفه وأستحوذ عليه.


وفي الطرف المقابل، مست الشظايا جسد أحزاب المعارضة، التي يبدو أنها لا ترى من السياسة ما هو أبعد من قاعدة "السلامة"، والإبقاء على "شعرة معاوية" -تحت رهبة الخوف من أن تركها أشبه بنزع صاعق القنبلة- لتواصل القيام بدور الـ"بيج براذر" أو بالأحرى "المهتاما غاندي" وإن بنسخة عصرية محدثة.


وباتجاه هذا الطرف الآخر أيضاً، ثمة شظايا مباغتة طالت ائتلافات شباب الثورة. وإذا بهم -في الوقت الذي كانوا اعتقدوا فيه أن الانفجار فتح باباً واسعاً أمامهم، وليس ثمة ما يمنعهم من دخوله سوى أن يرغبوا بذلك- يواجهون ستاراً وحاجزاً خفياً يحول بينهم وبين تحقيق تلك الرغبة.


وفي الوسط، ثمة شظايا خلقت بقع سوداء أمام المجتمع الدولي، ورسمت هالة ضبابية على موقف دول الخليج. وإذ اعتقد الوسطاء الغربيون أن الحل لإنقاذ مصالحهم، من بين يد الحليف المتقلب، بات اليوم أقرب إليهم من أي وقت مضى، إذا بكل تلك المياه الضحلة (مواقف الأطراف السياسية الداخلية، لاسيما جيش الورثة) تصعد من قعر البركة الراكدة لتشوش عليهم الرؤية، وتعيق تحركاتهم.

أحجار الرئيس التي رمى بها في الطريق
إذن، تكشف لنا تعرجات البيئة السياسية أن ما يمكن أن نراه أفقاً جديداً للحل، يمكن أن يكون سراباً في لحظة ما. وفي اليمن العصي على الفهم أصلا، قد يبدو ذلك أكثر شبهاً بثقب كوني أسود يبتلع كل ما حوله. حتى ليكاد للمتابع الجزم على هذا النحو: أن الأمر في اليمن سيان. وليس ثمة ما يمكن اعتباره أفقاً جديداً، سواءً كان محور المشكلة اليمنية موجوداً في الداخل، أم رمت به الأقدار –بدون إشعار- خارج الحدود لينام في غرفة العناية المركزة، طالما ظلت تلك الأحجار الكثيرة والكبيرة، التي ظل يرمي بها في الطريق على مدى ثلاثة عقود ونيف، تقوم بالمهمة التي رميت لأجلها.


إنها أحجار سائلة في نظر الخصوم، لكنها "كريمة" تعمل عمل السحر في نظره وأتباعه. وتلك ترتيبات وإجراءات مسبقة حرص على التخطيط لها ليس فقط ليبسط نفوذه على الحياة العامة والسياسية ماداً رجليه دون أن يبالي، بل لمثل هذا اليوم الأسود أيضا.


وتلك الأحجار على شاكلة: إسناد قيادة الجيش والأمن العام والسري للأسرة، بناء حزب خاص يعتمد أساسا على رئيسه، ويجب أن يكون عاجزاً لأن يتحول إلى حزب حقيقي بدونه. نائب بحركة محدودة جداً، يتوجب عليه أن يألف وتسيطر عليه فكرة كونه نائبا ضعيفاً منعدم التأثير على الأحداث، زائد على الحياة السياسية، وأكثر ما يمكن عمله عند تعرضه للضغوط: الانكفاء والتهديد بمغادرة العاصمة. ودستور بمعاني فضفاضة تمنحه قدرة التلاعب بتفسير نصوصه بالطريقة التي تناسبه حينما يرغب هو بذلك. حليف دولي يمسك بيده فزاعات إرهاب يمنحها الحياة متى ما أراد لينزعها متى شاء..الخ


ووسط ذلك كله كان لابد أن ترمى مجموعة أخرى من الأحجار وتوضع في طريق أهم مؤسستين مركزيتين مؤثرتين في أي دولة: المؤسسة التمثيلية (مجلس النواب والمجالس المحلية)، والمؤسسة الحزبية (الأحزاب السياسية). لإضعافها وجعلها في الهامش حتى يتسنى السيطرة على الحياة العامة بكافة تفاصيلها دون أن يتعرض الزعيم أو سدنة النظام القائم لأي اعتراض يتسم بالقوة يكون من شأنه عرقلة رغباته وأحلامه.


وفيما تعتبر المؤسسة العسكرية هي المؤسسة المركزية الثالثة ضمن المؤسسات المهمة والمؤثرة في أي دولة. فقد تم تشويه هذه المؤسسة، بتقوية الأجزاء الخاصة والتابعة في ولائها للرئيس نفسه عبر تعيين أبنائه وأبناء أخيه وأشقائه على رأس أهمها ليعمل بعد ذلك على تعزيز القوة الضاربة لتلك الأجزاء فقط على حساب إضعاف بقية الأجزاء التي في الجيش بداية، وتاليا على حساب تهميش وإضعاف بقية المؤسستين المركزيتين الأخيرتين.


الأمر الذي، وبحسب رالف م. غولدمان، مؤلف كتاب "من الحرب إلى سياسة الأحزاب..التحول الحرج إلى السيطرة المدنية"، يبقي على فرص نشوب حرب أهلية قائماً بأكثر توقعية. إذ أنه ولكي تتخلص أي دولة من الحروب الأهلية، كان يفترض أن توضع المؤسسة العسكرية في المرتبة رقم (3) من حيث ترتيب الأهمية والتركيز ومنحها القوة التأثيرية.


حيث يقول المؤلف أنه وفي مرحلة معينة من مراحل العملية التطويرية، تعبر هذه المؤسسات الثلاث بنجاح ما أسماها بـ: مرحلة "تحول حرجة" في علاقتها بعضها ببعض. ونتيجة لذلك "يعاد تنظيم تأثير هذه المؤسسات الثلاث. فالمؤسسة العسكرية تحتل تبعا لذلك مرتبة ثانوية بعد أن كانت تحتل المرتبة العليا، أما نظام الأحزاب فإنه يحتل المرتبة العليا بعد أن كان يحتل مرتبة ثانوية. وهكذا تتحقق سيادة المجتمع المدني على المؤسسة العسكرية".

في السياسة.. ثمة أمل في الأفق البعيد
لكن، ومع ذلك كله، فتعرجات السياسة أيضاً وتقلباتها، تلك التي تضرب بيدنا في السراب كلما اعتقدنا أننا أقرب من الخاتمة المرجوة، هي نفسها تلك التعرجات والتقلبات يمكنها أن تمنحنا أملاً ببلوغ الخاتمة التي نسعى إليها. وربما يكون ذلك في اللحظة ذاتها التي نعتقد فيها أن ما نراه في الأفق ليس سوى سراب.


ما يتعين علينا فقط، أنه وإلى جانب ضرورة توخي الحذر عند المنعطفات الكبيرة، علينا أيضاً أن لا ننساق مع المثاليات الزائدة، في الوقت الذي لا ننشغل فيه بالضجيج والصراخ المرتفع عن التركيز الفعال واستلهام الحكمة، التي وحتى يتسنى لنا بلوغها سيتعين علينا الإمعان في تتبع منتهى الأفق البعيد، فهناك قد نجد ما يمكن أن نبني عليه حياة جديدة لأمل جديد بعد أن كاد ينتكس ويذوي في لحظة يأس داخل أرواحنا المرهقة عطفا على استبداد وسواس قهري زرعته آلة إعلامية تمارس التضليل في أرض خصبة تضج برأي عام يتسم بالغوغائية القاتلة.


بكل سهولة يمكننا أن ننظر إلى النصف الأعلى من الكأس لنقلب المعادلة ضداً على ما سبق ونحول الشظايا الجارحة إلى بلسم والأحجار التي تسود طريقنا إلى لآلئ مضيئة تنير لنا الطريق.


بدون تفاصيل، هكذا علينا بداية أن ننظر إلى الأمور بشكل إيجابي:
- الجيش الذي يتسنمه أفراد الأسرة، تقوده عقول شابة، ضحلة الخبرة، ولم تختبر في الملمات والدروب العصية. ما سيعني أنها قد تحبك خاتمتها بكلتا يديها.


- أجزاء الجيش الأخرى، تلك التي همشت في السابق، تشكل محور توازن رعب بخبرتها وقدراتها التخطيطية العسكرية، ما سيجعلها أقدر على إفشال أي توجه عنف يمكن أن تبدأه القوة الأسرية المتضعضعة أساساً بسبب غياب الجزء الأهم من جسدها، وهو الرأس.


- النائب الذي حددت مهامه وأضعفت شخصيته بعمد، إن لم ينتهز فرصة استعادة شخصيته المشوهة أمام الشعب، فإن تصرفات الأولاد الهوجاء المتزايدة، من شأنها أن تجبره على أحد أمرين. إما أن يتخلص من عقدته في لحظة ما يبلغ فيها نقطة "التحول الحرج" لاسيما إن وجد دعما شعبيا وسنداً دولياً. وإما أن يرديه المارد الذي يسيطر على أعماقه، للتخلي وترك مهامه. وهنا ستعمل تلك الصفات التي غرست فيه عنوة عمل الضد حين يترك مهامه مغادراً إلى مسقط رأسه.


- الحزب الحاكم الضعيف الذي تعمد إبقاءه ضعيفاً، هو الآخر، سينعكس ضعفه ليعمل كسلاح مضاد، بالعجز عن اتخاذ ذلك القرار الأنسب الذي يفترض أن يجعله حريصاً على عدم انهياره كلياً، والتفكير بالإبقاء على نفسه حزباً مؤثراً في المرحلة القادمة الجديدة والحتمية.


- إلى جانب ذلك كله، فثمة عامل آخر مهم، هو: تحركات المجتمع الدولي الحريص على نقل السلطة بشكل سلمي وسريع. حتى وإن كان ذلك نابعاً بالأساس من حرصه على ألا تتضرر مصالحه في حال نشوب حرب أهلية.


- وبالنسبة لأحزاب المعارضة، فمن المهم النظر إلى أن تخوفاتها من سحب صاعق القنبلة، هو بالأساس لمصلحة بلوغ تلك التحولات بطريقة أقل كلقة.


- وبالمثل، فرهبة شباب الثورة جراء ضعف خبرتهم وحيلتهم السياسية، وخشيتهم من الانتقال إلى الخطوة التالية لعدم قدرتهم – ربما - على التنبؤ بعواقب ما سيقدمون عليه (تشكيل المجلس الانتقالي)، هو الآخر يصب في مصلحة بلوغ التحول المطلوب دون عواقب قد تؤخر الإنجاز.


وفي المجمل: علينا أن نؤمن أن أحد تلك التوقعات إن لم يكن مجموعة منها في إطار تكاملي، ستعمل عملها عاجلاً أم آجلاً. خصوصاً أن البلد يتجه بشكل جلي ومخيف نحو الانهيار الكلي. سياسياًً، اقتصادياً، اجتماعياً.. ما يعني أن التحول سيكون حتمياً في أي لحظة.


على أن طبيعة هذا التحول وشكله المستقبلي من الصعب التنبؤ به. وهو كما قد يتكهن البعض أنه لن يكون في نهاية المطاف إلا لمصلحة البلد، إلا أن تكهنات أخرى تعتقد أنه قد يكون توجهاً فوضوياً، لن يستطيع أحد السيطرة عليه، ما لم تقف جميع الأطراف المؤثرة على قدر من المسئولية من خلال عقد صفقة سياسية، لا يخسر فيها أحد.


صفقة تكسب فيها الثورة بتحقيق أهم أهدافها وفقاً لأولوياتها الأكثر أهمية مع التنازل عن بعض المثاليات بالتمسك بحديث "الشرعية الثورية" كمقدس. في الوقت الذي يمكن أن يحصل فيه الآخرون على ما يمكن أن يسمى في الصفقات التجارية بـ "تجنب الخسارة الكلية".


وهنا علينا أن نختتم بهذه العبارات الذهبية التي تخاطب طرفي النزاع بحقائق أكد عليها غولدمان، مؤلف الكتاب –سابق الذكر:


"وكما سيؤكد لنا تاريخ أي شعب من الشعوب، فإنه ليس من السهل إيجاد قواعد يتوصل بموجبها إلى قرارات يجمع عليها الشعب. إن قواعد اتخاذ القرار الأولية توضع عادة في مكانها المناسب في ظروف نشوء الحرب أو الثورة أو اندلاع التمرد، حيث تكون النخب منقسمة فيما بينها انقساما حادا، وحيث يبلغ الشك بخصوص دوافع كل طرف من الأطراف أعلى درجاته. وتتسبب ظروف الانقسام هذه في الانكفاء المتكرر إلى الحرب وتكتيكات العنف الأخرى. ولنلاحظ كم من الثورات "أكلت أبناءها" وكم من الإمبراطوريات تحللت بسبب فشل قادتها في تحديثها لتواكب عصرها بحيث تستطيع قواعد اتخاذ القرار الجماعي تلبية طموحات الأجيال الجديدة، أو تحقيق آمال الشعوب التي هزمت حديثا".


ويضيف "إن العنف يفرخ العنف. والمؤسسات السياسية القوية والفعالة هي وحدها التي تبدو قادرة على لجم مثل هذه النزاعات واستبدالها بإجراءات تقود إلى الثقة ونبذ العنف والتكامل السياسي. إن لدى بعض المؤسسات السياسية قدرة كبيرة أكثر من غيرها، على وضع حدود لنزاع النخب العنيف، وتقليص حجم الشكوك والأخطار، وما تتسبب به النزاعات التي تحدث من خسارات". 

السبت، 11 يونيو 2011

ترتيب مصير اليمن لمرحلة ما بعد صالح


قد يعود الرئيس لكنه سيتأخر كثيرا، وربما لن يكون قادراً على إدارة البلاد..المهم الآن: هل ينجح الوسطاء"


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
نظام "علي صالح"، الذي قرر مؤخراً أن يضرم النار في البلاد دون أن يحسب جيداً للعواقب، هاهو قد ناله نصيباً مؤلماً من لظاها. ظهر الجمعة 3 يونيو أستهدف صاروخ مجهول عقر دار الرئيس صالح (دار الرئاسة)، ليطاله جزء من باروده الحارق، وتستقر بعض شظاياه في أنحاء متفرقة من جسده، ومعه تشكيلة مهمة من أعمدة حكمه، فيما قتل على أثره ضباط وصف وجنود من مرافقي الرئيس.

قرابة خمسة أشهر مضت على اندلاع الثورة الشعبية السلمية في اليمن، تخللتها أحداث ومواقف محلية ودولية وإقليمية ظلت تتراوح مابين مد (تصعيد) متواصل من جهة شباب الثورة السلمية ومعهم المعارضة، وبين جزر (قمع وعنف) من جهة السلطة أحيانا أخرى. ومع أواخر شهر مايو/ أيار المنصرم، ومطلع شهر يونيو/حزيران الحالي لجأت السلطة إلى تفجير الحروب في أماكن متفرقة من البلاد عبر معارك مسلحة وشرسة، استخدمت فيها مختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة وراح ضحيتها مئات القتلى والآف المصابين.

لكن صاروخ دار الرئاسة، الذي - بين تناقض الروايات وتعددها - تاهت حقيقته وموهت هويته، التي لم تكشف حتى الآن وفقاً لتحقيق مستقل..هذا الصاروخ بدا وكأنه أشبه بـ"بطوق النجاة" لإنقاذ اليمن، حين حمل معه الرئيس الجريح ومعظم أعمدة نظامه المصابين، إلى المملكة العربية السعودية لتلقي العلاج.

وبينما ظلت (ومازالت) قيادات في السلطة تشدد على أن صالح سيعود إلى البلاد قريباً جداً عقب الانتهاء من العلاج، كان شباب الثورة السلمية في مختلف ساحات الحرية والتغيير يصدحون بالأهازيج والأغاني الثورية ابتهاجا بما أسموه تحقيق وإنجاز أهداف المرحلة الأولى من مراحل ثورة التغير وبناء اليمن، مدشنيين انتقالهم إلى المرحلة التالية بالحديث عن تشكيل مجلس انتقالي لإدارة البلاد يعمل على تحقيق بقية الأهداف.

• الخوض في العودة من عدمها
هل يمكن أن يعود صالح مجدداً؟ وفيما لو عاد فعلاً، فكيف سيكون مصير البلاد؟ وإن لم يعد، فهل سيمثل ذلك حلا نهائياً للأزمة؟، أم أن تطورات غير متوقعة ستحدث، وتغير التوقعات؟

ربما ظلت الإجابة على هذه التساؤلات، هي المسيطرة على معظم تحليلات وكتابات المحللين والكتاب والصحفيين والمثقفين، ليس في اليمن وحدها فحسب، وإنما على مستوى العالم. ومع الكم الهائل من تصريحات قيادات في النظام والحزب الحاكم الحريصة على التأكيد والتشديد بشكل لافت على حتمية عودة صالح، خلال أيام قليلة، إلا أن عدة مراقبين محليين ودوليين، تنوعت أرائهم بين من يؤمنون بأن عدم عودته بات أمراً "نهائيا"، وبين مشككين غير قادرين على الجزم فيما يتعلق بالحالة اليمنية الفريدة. وبين أولئك وهؤلاء، ظهر طرف آخر يتجاوز الخوض في إمكانية العودة من عدمها، مفضلاً الحديث عن أمله وتطلعاته أن لا يعود، كون ذلك سيمثل فرصة ذهبية لحل الأزمة اليمنية، وذلك على عكس ما ستمثله عودته سلبا.

فأما الذين اعتقدوا أن مغادرة صالح أقرب لتكون "مغادرة نهائية"، فقد أستدل معظمهم بمؤشرات منها: وضع وحالة الرئيس المرضية وخطورتها، وتلك الأنباء التي تحدثت عن خروج عدد كبير من أسرته معه، إلى جانب نقل الرئيس صلاحياته إلى نائبه بموجب الدستور، وكذا شروع الأخير بالعمل كقائم بأعمال الرئيس. ويتعزز ذلك كله بالحديث عن دور غربي وخليجي ضاغط يسعى إلى إبقائه خارج اللعبة السياسية.

أما المشككين، فيحجمهم عن الجزم، نظرتهم إلى الواقع في سياقات تاريخية ونفسية مختلفة، تدخل في عمق نفسية الرئيس وسلوكياته التي أثبت خلالها تشبثه الجنوني بالسلطة وإن على حساب المصالح العامة للوطن، وأمن ومصالح الدول الإقليمية والغربية. وإلى جانب ذلك فثمة معطيات أخرى على الأرض يستند عليها هؤلاء وهي على سبيل المثال: عدم مغادرة أبناء الرئيس وأبناء أخيه، ومعهم أشقائه، وبقائهم في مواقعهم القيادية لمؤسسات الجيش والأمن القوية والمهمة. وظهورهم كقيادات رئيسية للبلاد مع أخبار عن تشكيل مجلس عسكري بقيادة أسرية خاصة لإدارة البلاد إلى حين عودة صالح. وهذا يترافق هو الآخر مع تسريبات تتحدث عن عدم تمكينهم لعبد ربه منصور (القائم بأعمال الرئيس بموجب الدستور) من ممارسة صلاحياته كرئيس دولة، وكقائد أعلى للقوات المسلحة..! وعلى هذا، يذهب تقرير لوكالة رويترز نشر الثلاثاء: 7 يونيو، لتعزيز تلك الشكوك، بالقول "ربما يكون الرئيس سلم السلطة لنائبه غير المعروف ولكن عددا من أبنائه وأقاربه لازالوا يسيطرون على وحدات الجيش والأمن جيدة التسليح".

كل ذلك وغيره، حدا بالبعض إلى التشكيك بأن تكون مغادرة الرئيس تعتبر مغادرة نهائية. أضف إلى ذلك، أن تسريبات غير مؤكدة، تحدثت عن أن الرئيس صالح لم يقبل بفكرة خروجه إلا بعد أن حصل على تأكيدات من العاهل السعودي بأنه سيتمكن من العودة بعد علاجه. بحسب ما نسبته وكالة رويترز لمصدر حكومي يمني.

على أن هناك أيضاً، من يحاول التوفيق بين النظرتين، من خلال توقعهم بإمكانية العودة، ولكن بعد فترة زمنية قد تطول، سيكون خلالها قد وقع على المبادرة الخليجية بحيث يتم العمل على تنفيذ بنودها أثناء غيابه. وهنا أيضاً تتفرع التوقعات بين: من يقول أن عودته ستكون رمزية وليس كرئيس للدولة، حيث سيواصل النائب عبد ربه منصور مهامه كقائم بأعمال الرئيس حتى يتم إنجاز الانتخابات الرئاسية القادمة بعد 60 يوماً(هذا الاحتمال لم تتضح معالمه بعد، ويقال أن النائب مازال ينتظر الضوء الأخضر حتى الآن). وبين طرف آخر يرى بأن التوقيع على المبادرة الخليجية سيعني بالضرورة عودته لتنفيذ بنود المبادرة واستكمال الإجراءات القانونية التي ستتطلبها الاستقالة والحصول على تشريعات قانونية تمنحه الضمانات التي تجنبه وأسرته ومعاونيه من الملاحقات القانونية. (مع أن هناك رأي آخر يقول بإمكانية التوقيع والتنفيذ دون أن يتطلب ذلك عودة صالح).

• مستقبل اليمن مابين العودة و اللاعودة
وبين متفائل ومتشائم، يفضل آخرون تجنب الخوض في مسألة عودة الرئيس من عدمه، متجاوزين ذلك إلى الحديث عن مستقبل اليمن والنتائج الإيجابية التي ستحظى بها في ظل الإبقاء على صالح خارج اللعبة السياسية بشكل دائم، محذرين من النتائج السلبية المتوقعة فيما لو تقرر عودته.

وهنا، يعتقد معظم المراقبين والخبراء في الشأن اليمني بأن بقاء صالح خارج اليمن، يعد بمثابة الفرصة الذهبية لتتجاوز وضعها الراهن والمقلق، وتجنيبها الدخول في حرب أهلية طاحنة. وبالمقابل يساور الخوف الكثير منهم، لما يمكن أن تعنيه العودة مرة أخرى في ظل أوضاع ما تزال تتأرجح على صفيح ساخن. صحيح أنها قد تكون هدأت لتوها - إلى حد ما - عقب خروجه، لكنها قد تعاود اشتعالها مجدداً، وربما بشكل أكبر، مع عودته. وهذا ما يلخصه الباحث الأمريكي جريجوري جونسن الخبير في الشؤون اليمنية، بقوله: "إذا بقي صالح خارج البلاد ولم يقم أبناؤه أو أقاربه بالتحريض أو أعمال استفزازية يمكن لليمن أن يتجنب حربا شاملة". بحسب وكالة رويترز في تقرير لها نشر الثلاثاء(7 يونيو).

في الواقع، فإن معظم الباحثين والمراقبين السياسيين، المحليين والعرب والدوليين، تنحو أرائهم إلى هذا الخيار. حتى مع أن بعض هؤلاء يعتقدون أن اليمن قد تواجه عقبات عدة وأن انتقال السلطة لن يأتي على طبق من ذهب كما قد يتصور البعض، إلا أنه بغياب صالح، ستكون فرص التغلب على تلك العقبات أسهل كثيرا وأفضل بكثير مما لو كان موجودا. وفي هذا السياق مثلا، يمكن الإستشهاد بما قاله المحلل السياسي اليمني عبد الغني الإرياني لرويترز: "إن نقل السلطة يبدو وشيكا في إطار مبادرة مجلس التعاون الخليجي. وأضاف انه ستكون هناك عقبات عديدة على الطريق لكن دون الوجود المدمر لصالح يمكن التغلب عليها". (الأربعاء:8 يونيو)

• خيارات المجتمع الدولي
بالنسبة للوسطاء الإقليميين والدوليين الفاعلين، فإنه من خلال مجموعة من التصريحات والمواقف الأخيرة، يتضح لنا أنه بات في حكم المؤكد: ميلهم إلى خيار التسريع في حسم الأزمة اليمنية في هذا التوقيت المناسب في ظل بقاء الرئيس في المملكة لتلقي العلاج. ويتضح ذلك حتى مع إهمال الحديث عن عودته من عدمها. وفي هذا تناغمت المواقف الأمريكية والأوروبية، وأحياناً..الخليجية. وفق مجموعة تصريحات نشرت خلال الأسبوع الماضي، وبدأت مباشرة مع مغادرة صالح إلى السعودية.

وأما مسألة تفضيل بقاء الرئيس خارج اللعبة السياسية "بشكل دائم"، فإنه ومن واقع التصريحات والمواقف والتحركات الأجنبية والخليجية، المعززة ببعض المؤشرات، يمكننا استخلاص احتماليين، الأول أنها تفضل وتسعى حثيثاً إلى حدوث ذلك، لكنها – وهذا الاحتمال الأخر – قد تعجز وتقبل بعودته، ولكن تحت شرط التوقيع على المبادرة الخليجية. وهنا سنخوض سريعاً في بعض تفاصيل هذين الاحتمالين.

الاحتمال الأول: أن المجتمع الدولي يفضل أن يبقى صالح خارج البلاد بشكل دائم. وهذا ما تعززه ربما بعض التحركات الدولية والتصريحات الدبلوماسية عن وجود مساع دولية حثيثة تقوم بها أمريكا ومعها الإتحاد الأوروبي وفاعلين آخرين (في الغالب تلك المساع سرية وغير معلنة) لإقناع السعودية بضرورة ممارسة الضغط على صالح لإقناعه بالبقاء خارج اليمن.

وسربت معظم وكالات الأنباء خلال الأيام الماضية تأكيدات على لسان دبلوماسيين غربيين تقول أن "الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين يضغطون سرا على السعودية لضمان أن يصبح غياب صالح عن اليمن بشكل دائم". وهو أيضاً ما أكده الصحفي "أيان بلاك" محرر شؤون الشرق الأوسط في صحيفة الغارديان البريطانية ضمن مقال نشر الأحد(5يونيو). وجاء فيه أن: الولايات المتحدة وبريطانيا تمارسان ضغوطا على السعودية لإقناع الرئيس صالح بتقديم استقالته رسميا. كما أكد بأن دبلوماسيين قالوا إن واشنطن ولندن تصران على تنازل صالح عن السلطة مقابل الحصول على حصانة من المساءلة و"ضمانات مالية" بشأن مستقبله.

• خيارات السعودية
أما الاحتمال الآخر، فهو الخيار البديل في حال لم تنجح تلك المحاولات أمام إصرار صالح على العودة بعد استكمال فترة العلاج. وهناك بعض المؤشرات التي ترجح إمكانية القبول بذلك. غير أن هذا قد يتم ولكن بعد توقيعه المبادرة الخليجية أثناء تواجده في الرياض. وربما – وهذا احتمال وارد – العودة أولا ولكن تحت اشتراط الموافقة على التوقيع فور عودته (وهذا ربما ما يلح عليه صالح: وضع التوقيع كضمان للعودة). وفي هذا السياق نسبت وكالة رويترز – الأربعاء: 8 يونيو- لمسئولين سعوديين قولهم "إن العودة إلى اليمن أمر يرجع إلى صالح وان الحلفاء الغربيين ربما يرغبون في إحياء اتفاق لنقل السلطة رعته دول خليجية يستقيل بموجبه صالح مقابل عدم محاكمته".

وفيما يفضل البعض النزوع إلى ترجيح كفة الاحتمال الأول، كونه يرتبط برغبة دولية قوية لإنهاء الأزمة بشكل نهائي والتخلص من الكابوس الذي ظلت تتعايش معه على مدى 33 عاما، وبشكل أكثر ترجيحا: خلال العقدين الأخيرين من حكمه. إلا أن الاحتمال الآخر قد يبدو أكثر ترجيحاً لدى الكثيرين، لاسيما إن صحت تلك الرواية القائلة بأن صالح حصل فعلا على تأكيدات من العاهل السعودي الملك عبدالله بضرورة عودته بعد الانتهاء من العلاج. ومثل هذا قد يكون أكثر واقعية إذا ما تم الربط مع تلك التصريحات الأخيرة المنسوبة لمسئولين سعوديين بأنهم لن يتدخلوا "في قرار صالح البقاء في السعودية أو العودة لليمن". ومع ذلك، إلا أن هذا قد يكون ممكناً فقط في حالة واحدة، هي: أن تواصل المملكة السعودية خذلانها لتطلعات الشعب اليمني والمجتمع الدولي، وذلك في حال ما إذا فضلت مواصلة سياستها السابقة بعدم استخدام كافة أوراقها المؤثرة لإجبار صالح على التنحي.

وهذا التوقع الأخير يظل ممكنا، لاسيما وأنه يستند لمعطيات سياسية وتاريخية، اقلها أن المملكة تسعى للحفاظ على سياسة توافقية متوازنة، تحاول من خلالها المقاربة بين الإبقاء على حلفائها الرئيسيين في السلطة في الوقت الذي لا يجب أن تخسر فيه حليفها التقليدي/القبيلة التي تحول معظم وأهم زعمائها إلى مربع المعارضة الداعمة للثورة، والمطالبة بإسقاط النظام.

إلا أن المملكة قد تواجه عقبة أخرى تتعلق بمصالحها الإستراتيجية. فسياسة مسك العصا من المنتصف (بالنسبة لتعاملها مع حلفاء تحكمهم الخصومة) قد لا تكون - مع تغير المعطيات السياسية - هي السياسة المجدية اليوم، في نظر بعض المحللين السياسيين، الذين يعتقدون بأن "صبر المملكة السعودية على سلوكيات صالح لن يستمر طويلا". وأنه قد بات في حكم المؤكد أن الفرصة المواتية سيتوجب استغلالها. ويقول خالد فتاح خبير الشؤون اليمنية "إن خطر انزلاق اليمن لحالة من الفوضي على غرار الصومال كان "كابوسا للأمن القومي السعودي". وعليه يضيف قائلا: "سينتهز السعوديون الفرصة..ليتحول التعافي الطبي إلى استراحة سياسية". بحسب تصريحات لرويترز. كما نقلت الوكالة أيضاً على لسان دبلوماسي غربي قوله "لا أعتقد أن السعودية أو شعبه يريدون عودته. انه لا يتمتع بتأييد في المنطقة.."، يقصد "صالح". وإذ أعتبر أن مغادرته إلى السعودية للعلاج يعد "مخرجا جيد للغاية له"، فقد قال أنه سيصاب بالدهشة "لو ترك ليعود".

في نهاية المطاف، سيتعين على المملكة حسم الأمر بطريقة ما – و قد تكون خلصت إليها - ربما وفقا لما هو متاح لها من خيارات سياسية ممكنة، وبحيث لا يمس الضرر تلك المعادلة (عدم الإخلال بسياسة التوازن بين حلفائها المتخاصمين، في الوقت الذي يمكنها فيها التخلص من كابوسها). وإن كان تجاوز مثل هذا الأمر بنجاح دون أن تطالها أية نتائج غير مرغوبة، يعد - في الظروف الطبيعية - أشبه بالمستحيل، فإن الفرصة، فإن الظروف غير الطبيعية اليوم تقدم لها الفرصة في طبق من ذهب لبلوغ إنجازه بنجاح. لن يتطلب الأمر قدرا كبيراً من الذكاء، بقدر تطلبه التنازل عن الحلقة الأضعف في المعادلة. تبدو الحالة مثيرة للغاية، ما يجعلنا نتابعها بتحفز، بانتظار ما ستسفر عنها النتيجة النهائية. هذا ما ستنبئ به الأيام القليلة القادمة.

• المبادرة أم الحالة الصحية: لمن الحسم؟
وأي يكن الأمر، فإنه يعين علينا، خلال تركيز النظر على معظم التصريحات والتحركات الدبلوماسية الغربية والخليجية، أن نكتشف أمرا في غاية الأهمية وهو: أن فكرة التشديد على "إحياء المبادرة الخليجية"، ظلت هي الفكرة المكررة على طول الخط. وهذا ربما ما يمنحها مرتبة "الثابت الوحيد" الذي لا يمكن تجاوزه. وهذا قد يعني ضمناً أن عودة الرئيس قد تكون هي الاحتمال الأكثر ترجيحاً. وفي هذه الحالة سيكون من اللازم علينا النظر في إجابة الأسئلة المعلقة التالية: متى تكون؟ وعلى أساس؟

وإذا كانت الإجابة على الشق الأول مناطة بالحالة الصحية بالمقام الأول. فإن إجابة الشق الثاني قد تستلزم متابعة ثبات ومتغيرات التصريحات الأخيرة للدول الوسيطة، وربطها بالتحركات الداخلية الأخيرة. وقبل الخوض في تفصيل كل حالة، ربما يستلزم بداية التنبيه بأن ثمة ارتباطا جوهرياً بين السؤالين وإجابتهما من زاوية: أن حالة الرئيس الصحية قد تعمل على تأخير عودته، ما يجعل فكرة التسريع في ترتيب الوضع الداخلي هو محور التحركات الدبلوماسية التي يخوضها الفاعلون الرئيسيون في الوقت الراهن.

أما متى تكون العودة، فإن الفترة التي حددها الأطباء حتى الآن تقول بعد أسبوعين. وهذا قد ترفده الأخبار الواردة من بعض المسئولين السعوديين، وأخرى منسوبة لأطباء يشرفون على علاجه، بأن حالته مستقرة وأن العمليات المهمة قد تم تجاوزها بنجاح.

على أن هذا فيما لو صح – بداية – معلق باحتمال عدم ظهور أية مستجدات أو مضاعفات جديدة لحالته. وهذا الاحتمال (المضاعفات) هو احتمال وارد بحسب ما تردد مؤخرا من قبل البعض تأسيسا على حجم الضرر، إلى جانب وجود أمراض مزمنة كالسكري والفشل الكلوي، وغيرها. 

وما سبق مبني أساسا على فرضية أن تصريحات الأطباء التي حددت الفترة قد تكون "صحيحة". وهذا أمر مشكوك فيه. إذ قد تداخل الريبة الكثيرين تأسيساً على الفكرة الشائعة التي تقول: أنه لا يمكن الوثوق غالبا بمثل تلك التصريحات الطبية، لاسيما حينما تتعلق الحالة بمرض رئيس دولة أو مسئول سياسي بارز أو حتى شخصيات فنية وكارزمية مؤثرة. إذ ربما يدخل ذلك – غالباً - في إطار التطمينات والحديث الإيجابي، لما يمكن أن تجره الحقيقة من تبعات مثيرة أو غير مرغوبة. وأحيانا بغرض التهدئة لترتيب الأوضاع. ما يعزز ذلك، هو تلك التسريبات والتصريحات لمسئولين أمريكيين وغربيين ممن تحدثوا مؤخرا عن الحالة الصحية للرئيس صالح. وخلاصة ما قال هؤلاء أن حالة الرئيس الصحية"أكثر سوء مما كان يتوقع". وجاء ذلك بعد توضيح شامل لما يعاني منه من إصابات وجروح وأمراض مزمنة.

وفيما لو صحت تلك المعلومة، فإنه قد يمكننا الاستغناء عما سبق من تفسيرات محتملة وتوقعات. إذ سيكون الاحتمال الأكثر توقعا هنا هو: أن شفاء الرئيس قد يتأخر كثيراً، بل من المتحمل ربما أنه سيدخل في مربع العجز.
وإذا كان بعض من تحدثوا عن صعوبة حالته، قد رجحوا أيضاً أن ذلك قد لا يفضي به إلى توديع الحياة، إلا أن آخرين يعتقدون أيضاً أن حالته الطبيعية وقدراته الحركية ربما تفضي به إلى توديع الحياة السياسية. أي بمعنى آخر: لن مؤهلا أو قادراً على مواصلة إدارة البلاد. وهنا، سواء تمكن من العودة أم لم يتمكن، فإن فكرة "العجز الدائم" قد تحسم الأمر وإنهاء الأزمة. وهذا ما سيفرض البدء الفوري بنقل السلطة إلى النائب وتشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات بعد 60 يوما، عملاً بمقتضى الدستور. وهذا ربما ما بدأ المجتمع الدولي الفاعل في اليمن، التفكير الجدي للعمل عليه حالياً. وهذا يدخلنا، في إطار الإجابة على الجزء الثاني من السؤال: على أي أساس؟

وبحسب ما نقلته وكالات الأنباء عن هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية، فقد أكدت "أن الولايات المتحدة تعمل مع شركائها في منطقة الخليج لتحقيق انتقال سلمي للسلطة في اليمن". كما وأضافت"سفيرنا باليمن وسفراء آخرون يواصلون لقاءاتهم مع مختلف طوائف الشعب اليمني والمعارضة حول الوضع الراهن". وكانت كلينتون تتحدث في أبو ظبي أمام الصحفيين، الخميس: 9 يونيو. وأضافت: "مستقبل اليمن يجب أن يتم من خلال الدستور". في إشارة إلى تسليم السلطة رسميا لنائب الرئيس عبد ربه منصور.

كما، ونسب لـ" سوزان رايس"، المندوب الدائم لأمريكا في الأمم المتحدة، قولها "لقد حان وقت انتقال السلطة في اليمن وفوراً"، مضيفة "وبإمكان صالح أن يفعل ذلك من السعودية". (الخميس: 9 يونيو)

إلى ذلك، نقلت صحيفة الحياة السعودية (الخميس: 9 يونيو) عن وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ألستر بيرت قوله: "نحن نعرف أن الرئيس أصيب بجروح بالغة في الانفجار. وهذه الإصابات ستبقيه في المستشفى بعض الوقت". الوزير البريطاني، أكد ضمن تصريحاته، أيضاً، بالقول "إن مجموعة أصدقاء اليمن ستبدأ من الآن الإعداد للمَرحَلة الانتقالية"، في الوقت الذي طلب فيه من الرئيس صالح البقاء في السعودية كون ذلك "سيكون مدخلاً لتسوية النزاع اليمني، ولإعطاء فُرصةً للمُبادرة الخليجيّة كي تنجح". حسب ما قال.

وإذن: قد يعود صالح، ولكن بعد وقت طويل، وعلى الأرجح أنه سيكون غير مؤهل لإدارة البلاد. وهذا ما يحتم على الفاعلين في الغرب والخليج – على الأرجح: السعودية - التفكير الجدي من الآن لترتيب نقل السلطة بشكل سريع حتى لا تطول فترة الفراغ السياسي القائم، ما قد يفتح باب واسعاً على الفوضى وربما الحرب بصورة اشمل وأكثر حدة.

• حلول جدية شاملة 
ترجح الحالة اليمنية – على الأقل حتى الآن - أن تلك المحاولات والإجراءات التي يسعى الوسطاء الدوليين ترتيبها، قد تواجه تعقيدات وعقبات كبيرة. سواء على أرض الواقع، أو من قبل الأطراف السياسية والاجتماعية اليمنية الفاعلة في الساحة، وعلى رأسها: حزب السلطة، أحزاب المعارضة، وقبلهم جميعاً: شباب الثورة، الذين جميعهم يختلفون أصلا في الرؤية السياسية لما يجب أن تسير عليه الأمور في الوقت الراهن، مما قد يؤدي إلى تصاعد الاضطرابات بشكل أقوى من السابق، لاسيما إذا واجه صالح والمجموعة العسكرية من أبنائه وأبناء شقيقه وأشقائه تلك التصعيدات بعنف من خلال القوة العسكرية والنفوذ الذي مازالوا يتمتعون به حتى الآن.

وإذا كان تأثير الوسطاء الدوليين والخليجيين، ربما ينجح في تجاوز طرفي السلطة والمعارضة عبر الصفقات السياسية، فإن ذلك قد لا ينجح مع شباب الثورة بمختلف تفرعاتهم. هؤلاء الشباب يرفضون سرقة ثورتهم من أي طرف كان، وجهودهم وتضحياتهم التي أوصلتهم إلى "النصر" وتحقيق المرحلة الأولى بـ"رحيل صالح"، هي من تجعلهم يتعهدون بمواصلة تحقيق بقية المراحل. وهاهم قد بدءوا بتدشين المرحلة الثانية: تشكيل مجلس انتقالي للثورة لإدارة البلاد. وسيعمل هذا المجلس على مواصلة إنجاز وتحقيق بقية الأهداف: من إزالة ما تبقى من النظام البائد، إلى صياغة دستور جديد للبلاد، وتعديل بقية القوانين السالبة، إلى إجراء انتخابات رئاسية، ثم نيابية..الخ, ومع، وإلى جانب ذلك كله: محاسبة ومحاكمة كل من تثبت إدانتهم في ارتكاب جرائم القتل والتعذيب التي ترافقت مع الثورة.

وبفرض أنه قد بتم تجاوز مثل تلك العقبات، وفق أي صيغة توافقية ربما تنجح في تلبية تطلعات الجميع، فسيكون من اللازم أن يترافق ذلك مع إصلاحات جوهرية شاملة تبدأ بإجراءات جادة على رأسها بالطبع تلك التي يجب أن تطال المؤسسة العسكرية. فبدون ذلك سيكون لدى صالح - عبر تلك المؤسسة التي ما تزال تحت قبضة أسرته.- الكثير مما يقوم به ليعيث الفوضى في البلاد. إن على مستوى تفجير المواجهات في الأماكن المضطربة، وإن بتنفيذ عمليات اغتيالات واسعة تطال الخصوم أو حتى الأصدقاء لخلط الأوراق وإثارة الفوضى والنزاعات السياسية والاجتماعية، وإن باستغلال وكالات الأمن الاستخباراتية للقيام بإجراءات غير قانونية تحت اسم الحفاظ على الأمن القومي وتلفيق التهم لشخصيات عملت مع الثورة، كما واستغلالها أيضا لإثارة الفوضى عبر تنظيم القاعدة ربما بتسهيل مهامها ومخططاتها باستهداف المصالح الأجنبية..الخ.

بل إلى جانب ذلك كله، سيكون من غير الممكن للمعارضة قبول خوض انتخابات أي كان شكلها في ظل وجود تلك المؤسسة بيد أسرة وحاشية الرئيس. كما سيكون من الصعب قبول المعارضة الدخول في حكومة وحدة وطنية تكون فيها غير قادرة على إدارة الشأن العسكري أو حتى مراقبته ومحاسبته وحجمه عن ممارسات عير قانونية قد تطال أنصارها أو مختلف فئات الشعب.الأخرى في سياق الانتقام أو إثارة الفوضى..الخ

وعليه، سيتعين على من يرومون إنقاذ البلاد، الذين بيدهم مفاتيح الحسم، الوقوف إمام ذلك كله، وغيرها من المعيقات، وفق نظرة جذرية شاملة للحل، مالم فإنهم يكررون الخطأ القاتل الذي وقع به ربان سفينة "التايتنك": المضي قدما دون إعارة التحذيرات أي أهمية تحت وهم "العظمة" و"القوة"..والنتيجة: تصطدم السفينة العملاقة بالجليد غير المنظور الذي حجبه الضباب عن الرؤية، تغرق السفينة ويغرق ركابها.

الجمعة، 27 مايو 2011

معارك صالح الوهمية


هل بدأت الحرب الأهلية في اليمن؟ لا لم تبدأ بعد، وما حدث ويحدث الآن ماهي إلا مجرد محاولات لحرف مسار معركة بين شعب ونظام غير شرعي إلى معركة ضغائن وأحقاد..


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
بعد يوم واحد فقط من رفضه التوقيع على اتفاقية المبادرة الخليجية وتهديده المعارضة بأنه صامد وسيواجههم ".. بكل الوسائل الممكنة في كل مكان.. إذا لم ينصاعوا.."، ها هو "علي صالح" قد أقدم على تنفيذ وعيده حين حاولت قوات جيشه من الحرس الجمهوري والنجدة اقتحام منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر الواقع في الحصبة، مساء قبل أمس الاثنين (23 مايو)، أثناء ما كانت قيادات المعارضة متواجدة فيه.

وقال القيادي في المشترك سلطان العتواني : "كنا في بيت الشيخ صادق وكنا نسمع إطلاق نار من مناطق قريبة من البيت ولم نكن نتوقع أن يستهدفوا منزل الشيخ صادق الأحمر". ويعتقد العتواني أن قادة المعارضة كانوا "بلا شك" مستهدفون من الهجوم.

في وقت متأخر من مساء الاثنين توقفت المواجهات إثر تدخل وساطة قبلية. واليوم (الثلاثاء) تجددت الاشتباكات بصورة أعنف، حين عاودت قوات صالح قصف المنزل مستخدمة هذه المرة الصواريخ إلى جانب الدبابات والمدرعات والأسلحة الثقيلة.

وفي الهجوم، قتل مشايخ وجرح آخرون ممن تواجدوا في المنزل بعضهم كانوا ضمن لجنة الوساطة والبعض الآخر من المشايخ الذي حضروا للتضامن.

لماذا؟
وإذا كان السؤال الآن هو: لماذا لجأ صالح إلى التصعيد وجر الأوضاع إلى مربع العنف وربما الحرب الأهلية؟ فإن الإجابة عليه تبدو أنها بحاجة إلى استرجاع بعض التفاصيل والتصريحات والمواقف، وربطها بالمعطيات والمؤشرات بهدف تفسير الأحداث واستخلاص الإجابة الأكثر احتمالية.

قبل الخوض في تلك العملية، دعونا هنا نقوم بعملية فرز أولية لأهم الاحتمالات، ومن ثم اختيار ما أعتقد أنه الاحتمال الأكثر منطقية عطفاً على قياسه بالمعطيات والمؤشرات التي تنظر في مدى دقته.

- أن هذا التصعيد يأتي وفقا لمخطط معد مسبقاً من أجل جر البلد إلى مربع العنف الذي يبرع فيه. الأمر الذي سيمكنه من السيطرة على الأحداث وقمع الثورة كونه مازال يمتلك أدوات القوة التي يستطيع من خلالها حسم الأمور.

- أن صالح لجأ مضطراً إلى هذا الخيار بعد أن نفذت كافة الخيارات السلمية الممكنة لتجنيب البلد حرب أهلية.
- ربما خطط فقط للقيام بعملية خاطفة وسريعة يمكنه إيقافها متى شاء. قد يكون الغرض من ذلك توصيل رسائل قوية إلى كافة الأطراف: الوسطاء الإقليميين والدوليين، المعارضة، وشباب الثورة. يقول لهم فيها إنه ما زال قوياً ويمتلك أدوات القوة والقدرة على الحسم بطريقته. كما أنه، بالنسبة لدول الخليج ومعهم الوسطاء الدوليين أيضاً، ربما حملت الرسالة معنى آخر، أبلغ. تتعلق بإثارة مخاوفهم من نشوب حرب أهلية في اليمن تؤثر على مستقبل الخليج والمنطقة والمصالح الغربية.

- أن صالح لم يخطط لشيء من ذلك كله، وأن ما حدث كان محض صدفة تطورت حتى بلغت هذا المنحى الخطير. أو أن بيت الأحمر هم الذين أطلقوا شرارة المواجهات وفق مخطط معد سلفاً للإطاحة بنظام صالح، ما أضطره للرد حفاظاً على الأمن والسكينة وهيبة الدولة.

تثبيت أهم الاحتمالات
بالطبع ليست تلك هي كافة الاحتمالات المهمة. بل قد تكون هناك أخرى، كما قد يكون هناك احتمالات لا يمكن بلوغها أو إثباتها كتلك التي تتعلق بالمواجهات اللفظية بين الأطراف والتي تدار من وراء الكواليس بعيداً عن الإعلام والنشر.

في البداية، دعوني استثني كلاً من الاحتمالين الثاني والأخير. فالثاني لأنه يأتي بعكس الحقيقة إذ أن خيارات السلم وتجنيب البلاد العنف والحرب الأهلية ظلت مفتوحة لصالح على مدى الأشهر الماضية التي يكاد الشهر الرابع منها ينقضي بعد أيام، ومع ذلك كان يرفضها ويتجنبها مع أنها بلغت حد منحه ضمانات تعفيه من المسألة القانونية على الجرائم التي ارتكبها في حق المتظاهرين السلميين هو وأفراد أسرته ونافذوه المقربون.

أما الأخير، فهو خيار لا يستقيم مع حقيقتين. الأولى: أن الهجوم جاء بعد يوم واحد من رفض صالح التوقيع على المبادرة وتهديده للمعارضة بأنه سيستخدم معها كافة الوسائل الممكنة لإخضاعها. أضف إلى ذلك أنه جاء في الوقت الذي كانت تتواجد فيه قيادات المعارضة في منزل الشيخ الأحمر. وأما الحقيقة الثانية: أن المعارك والمواجهات منحصرة في محيط منزل بيت الأحمر في الحصبة وما يجاورها. وهنا دعوني أنقل لكم تعليقاً ساخراً أعجبت به من إحدى الزميلات على الشبكة الاجتماعية "تويتر" حين علقت عند الحديث حول "من الذي بدأ؟"، ردت بشكل ساخر بالقول: ".. يعني مثلا كانوا بالصدفة ماشين بالسبعين جنب الحصبة فقالوا نشرب كلاشنكوف عند الأحمر.."!!

بالنسبة لي يمكن حصر التفسيرات على بقية الاحتمالين، وهما الأول والثالث. وقد يمكن المزج بينهما في سياق تفصيلي واحد.

التخطيط والمسوغات
وحتى نبدأ بعملية الإثبات والربط بين احتمال أن يكون الأمر جاء وفق خطة معدة مسبقاً لتحقيق أهداف محددة، وبين التفاصيل وفقاً للمعطيات والمؤشرات، دعونا نتحدث عن مسار الأحداث وطبيعتها بشكل موجز من زاويتين. الأولى: مسار الثورة الشعبية، والمحافظة على سلميتها وما ترتب عن ذلك. والأخرى: مسار الطرق والأساليب التي واجه بها صالح ونظامه الثورة وما ترتب عن ذلك.

حين حققت ثورتا تونس ومصر أهدافها بنجاح بطريقة سلمية، فرض الخيار السلمي نفسه على اليمنيين –على الرغم من حجم السلاح الذي يمتلكونه- باعتباره الخيار الأنسب والأقوى لإنجاز أهداف ثورتهم الشبيهة بأهداف ثورتي شباب تونس ومصر. ومع أنه يمكننا التأكيد أن المعارضة اليمنية كانت السباقة في التزام الخيار السلمي على مدى العقد ونصف الماضية، إلا أن كافة المحاولات كانت تصاب بخيبة أمل بسبب طغيان النظام وجبروته. فقد استخدم هذا النظام كافة الوسائل العنيفة والناعمة، واللاخلاقية لقمع أي ثورة شعبية سلمية، حتى مع أنها كانت ما تزال تنشد تحقيق أهداف إصلاحية سياسية ومعيشية بسيطة.

طوال سنوات حكمه الـ(33)، عمد "صالح" إلى بناء نظام عائلي ذي طبيعة عسكرية بوليسية للسيطرة على البلاد مدى الحياة، وتوريثه من بعده لنجليه. وطوال تلك الفترة عجزت المعارضة ومعها الأنصار ومعظم أفراد الشعب المسحوق، من تحقيق مكاسب هامة تحدث نقلة نوعية للبلاد.

وبعد ثورتي تونس ومصر، أستهلهم اليمنيين إرادتهم القوية لإنجاز ثورتهم، فخرجوا للاعتصام في الشوارع متحدين القمع والاعتقالات. ولأن نظام صالح يبرع في القمع واستخدام العنف، فقد مثل التزام وإصرار شباب الثورة بمبادئ العمل السلمي كابحاً قوياً لإحباط محاولات النظام بجرهم إلى مربع العنف. وحين خشي صالح وأعوانه من هذه القوة سارعوا بعمل مخططات تفتقر للحد الأدنى من الوطنية والمسئولية في سبيل إخراج الثورة من سلميتها. كانت البداية بتعبئة القبائل، والأنصار، لكن الأمر باء بالفشل. فجاءت مجزرة جمعة الكرامة (18 مارس) كمحاولة أخرى لإطلاق زمام العنف. غير أن المخطط انقلب على المخططين حين انعكست النتائج وأدت إلى انشقاق علي محسن ومعه قادة وضباط كبار.
حينها أوقف صالح وأعوانه مواصلة مخططهم وتريثوا لتغيره وفقا لتلك المعطيات الجديدة.

تحولات معيقة ومحاولات مستمرة
بعد أن أعلن نصف الجيش تقريباً تأييده للثورة والتزامه حماية الثوار، اضطر النظام إلى البحث عن تعزيز قوته عن طريق الحصول على دعم العاهل السعودي. لكن المحاولة نقلت المعركة إلى المفاوضات والحوارات لبلوغ تسوية سلمية تجنب اليمن العنف والحرب الأهلية التي تعتقد دول الجوار والفاعلين الدوليين أنها ستؤثر على مصالحهم الحيوية في المنطقة.

وعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية، ظل صالح يبحث عن تسوية غير عادلة محاولاً تغيير مسارات الأحداث لمصلحته ومصلحة حزبه من بعده. لكن الثورة كانت قد قطعت شوطاً كبيراً من خلال التضحيات والانتشار الكبير في الساحات. ما فرض على الوسطاء عدم تجاهلها، وبات جل مطلبهم فقط هو تجنيب البلاد أي حرب داخلية مهما كان الثمن باهظاً بالتخلي عن حليفهم. نقض صالح الاتفاق تلو الآخر، ليتحول إلى معيق للتسوية في نظر الوسطاء، لا هم له إلا تحقيق مصالحه حتى على حساب تجاهل مصالحهم.

أثناء المفاوضات حقق الوسطاء الدوليون إنجازاً بالحصول على وعود من صالح بعدم جر البلد إلى العنف. لكن صالح استغل ذلك لتحسين شروط تنحيه، فضل بين الحين والآخر يحاول إرسال رسائله عبر استخدامه العنف ليحقق بعض المطالب لمصلحته في التسوية السياسية.

ما بعد انهيار المحاولة الأخيرة
الأحد الماضي وصلت المفاوضات –كالعادة- إلى طريق مسدود حين تنصل صالح عن التزامه التوقيع على آخر مبادرة خليجية مع أنه كان تم تسويتها وتفصيلها وفقاً للاشتراطات التي كان يصر على تضمينها. وإذاك خاض صالح معركة دبلوماسية معيبة بحق الوسطاء الذين كان هاجمهم واتهمهم بالانقلاب على الشرعية في يوم التوقيع ذاته أثناء اجتماعه بأعضاء اللجنة الدائمة لحزبه. وهو اليوم الذي أطلق فيه تهديداته تلك للمعارضة. واليوم التالي فجر الأوضاع بمهاجمة منزل الشيخ الأحمر.

في الواقع، كان صالح حين دخل مع الوسطاء الخليجيين والدوليين، وينكث بتعهداته معهم كلما حان وقت التوقيع، يستغل الوقت للتخطيط المدمر. وبحسب المعلومات فقد كان يرمي -من خلال حصوله على المزيد من الوقت– إلى إنجاز مخططه العسكري وقيل إنه أعاد توزيع الجيش وأحدث تنقلات كبيرة في المعسكرات التي تتبع الحرس الجمهوري وتلك التابعة له، في الوقت الذي ظل فيه يواصل عملية توزيع الأسلحة لأنصاره في المحافظات والمديريات.

يعتقد البعض أن دخول الرئيس في حرب أهلية لن تكون في مصلحته لاسيما في ظل المستجدات الأخيرة على المستويين الداخلي والخارجي. لكن آخرون يرون أن خيار الحرب بالنسبة للرئيس هو خيار الرجل المنتحر، والذي ربما اعتقد صالح أنه الأنقى تأثيراً على قناعة الوسطاء من جهة قلقهم من نتائجها التي ستطال مصالحهم الحيوية عبر تهيئة المناخ لتنظيم القاعدة وربما دعمه. لاسيما بعد أن اعتبر أن خيار المفاوضات لن يكون قادراً على تجنيبه المسائلة القانونية على مجازره البشعة في حق شعبه المسالم والأعزل، حتى وإن تضمنت المبادرة مادة صريحة بذلك. فالقانون المحلي الذي سيصدره الاجتماع المشترك لمجلسي النواب والشورى الذي سيمنحه ضمانات عدم المسألة القانونية، يبدو أن المعلومات التي حصل عليها مؤخراً تقول إن مثل هذا الإجراء المحلي لن يكون ملزماً للمحكمة الجنائية الدولية وغيرها من المنظمات والمؤسسات الحقوقية العالمية.

وإذا كان ذلك هو القرار الأخير الذي قرر صالح المضي فيه، فإنه سيكون خياراً غير ناضج كون بعض المسئولين الدوليين في أمريكا وأوربا يتحدثون اليوم عن ضرورة استخدام مجلس الأمن لإيقاف صالح من تقتيل شعبه والزج بالبلاد في أتون حرب أهلية. هذا ما نقلته صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية أمس.

• مجرد مناورة باهضة الثمن
على أن هناك من يفضل الانحياز للاحتمال القائل بأن المواجهات الأخيرة تندرج ضمن مخطط يقوم على توجيه ضربة خاطفة وسريعة مع إمكانية التراجع عنها لاحقاً، الهدف منه هو فقط توصيل رسائله لمناوئيه وللوسطاء وفقاً للاحتمال رقم ثلاثة. غير أن مسار الأحداث نحت بالمخطط نحو التصعيد بسبب المواجهة الشرسة التي أبدتها القبائل وكبدت الجيش والحكومة خسائر كبيرة على نطاق واسع من المواجهات. الأمر الذي اضطر صالح وأبناءه إلى استخدام أسلحة متطورة جداً مثل الصواريخ التي عادة ما تستخدم في الحروب فقط.

ناهيك عن ذلك التطور الآخر يأتي بسبب مقتل بعض المشايخ الوسطاء وإصابة آخرين بسبب القصف أثناء تواجدهم في منزل الشيخ صادق. وهو ما يعني "عيباً أسود" في العرف القبلي من شأنه أن يؤدي إلى تكالب القبائل ضد صالح بما فيها بعض تلك التي ظلت مناصرة له حتى الأمس واليوم.

هناك احتمال آخر يقول به البعض: أن صالح بمهاجمته منزل الشيخ الأحمر، إنما هي محاولة لحرف مسار الثورة من خلال تصوير الصراع على أنه بين أشخاص وليس بين شعب ورئيس فقد شرعيته. ربما كان لمثل هذا الاحتمال ما يعززه من حقائق هامة. فصالح وآلته الإعلامية حاولوا منذ الأيام الأولى للثورة الشبابية حرف طبيعة الثورة باتجاه تصويرها على أنها صراع بين بيت الأحمر بقيادة الشيخ حميد، مع صالح وأسرته الحاكمة. غير أن الحقيقة هنا تؤكد الفشل ذاته الذي ترافق مع كافة تلك المحاولات السابقة.

في جميع الأحوال، الحقيقة المؤكدة هي أن صالح يواصل -يوماً إثر آخر- خسارة أنصاره الداخليين وحلفائه الخارجيين، بسبب سياساته المتخبطة ومواقفه المتقلبة.
وهو اليوم يبدو أضعف ما يكون. وسيكون ندمه أكثر حين يجد أن الفرصة التي منحت له في السابق لن تكون متوفرة بعد أيام، أو ربما بعد يوم، بل قد يكون بعد ساعات..
 

الأربعاء، 18 مايو 2011

هل تتغير "جيوبوليتيكية" السعودية "الشفافة" تجاه اليمن؟


ضرورة التعامل مع الدور السعودي بوسائل واقعية لا تاريخية


المصدر أونلاين- عبدالحكيم هلال
مجددا، لم يتوان الأمين العام لدول مجلس التعاون الخليجي، عبداللطيف الزياني، من أن يستقل طائرته، السبت الماضي، صوب مطار صنعاء. هذه المرة يظهر أن حجم المهمة أكبر لتطول قليلاً -ثلاثة أيام– ما يعني ضرورة التوصل إلى نتائج نهائية حاسمة فيما يتعلق بالموافقة أو الرفض النهائي والصريح للتوقيع على المبادرة الخليجية.
وعليه فقد أكدت مصادر دبلوماسية خليجية أمس، لوكالة فرانس برس، أن الرسالة التي يحملها "الزياني" تخاطب الرئيس اليمني فقط، لمعرفة ما إذا كان سيوقع المبادرة "صراحة" أم لا..! وأضافت: "هذه المبادرة فرصة أخيرة لا يوجد بعدها أي شي".

ومع ذلك، ترجح المعطيات أن الدكتور الزياني الحاصل على شهادة دكتوراه في بحوث العمليات من كلية الدراسات العليا للبحرية الأميركية بامتياز مع مرتبة الشرف عام 1986، لن يحظى بالنجاح المطلوب في أولى مهامه منذ تسلمه منصب الأمين العام مع مطلع شهر أبريل الماضي.

من يعرف تقلبات ومراوغات الرئيس علي صالح، يدرك سلفا أنه سيواصل مناوراته المكشوفة مع أنه –كالعادة- قد يبدي تجاوباً إيجابيا مع مهمة الأمين العام الأخيرة. عوضاً عن أن موقف أحزاب المشترك الأخير –هو بداية- تحول من رفض أي تعديلات جديدة، ليستقر –مؤخراً- عند الحديث عن "موت المبادرة"، مع تصريحات لبعض قادتها تذهب باتجاه التأكيد أنها "لم تعد معنية بمبادرة حريصة على الرئيس صالح وليس الشعب اليمني".

وحتى أمس الاثنين الذي يفترض أن يكون اليوم الأخير للزيارة، لم يعلن رسميا أن الرجل التقى بالرئيس. وحتى، مع أنه أنجز لقائين منفصلين مع قيادات الحزب الحاكم والمعارضة، إلا أن المعلومات الأولية تؤكد أنه لم يخرج بشيء يعتد به. بل المزيد من التعقيدات.

وتؤكد أخبار صحفية أن قيادات في الحزب الحاكم أبلغت الزياني أن الرئيس الذي اشترط جدولا زمنيا لتنفيذ المبادرة كـ"منظومة متكاملة" ورفع الاعتصامات، اشترط أيضاً إدراج "مشكلة الجنوب ومشكلة صعدة مع الحوثيين" في إطار الحلول التي يجب أن تقدمها المبادرة.

إصرار خليجي.. لماذا؟
لقد انتهت صلاحية المبادرة الخليجية بمجرد أن رفض صالح توقيعها في حينه قبل أسبوعين. ساعة أن كانت أحزاب المعارضة اليمنية تحت الضغط الخارجي والإقليمي مرغمة على حسم الأمر دبلوماسيا. بيد أن هناك من يجزم أن المبادرة أصلاً لم تكن أكثر من مجرد تجربة فاشلة لاختبار حقيقة مدركة سلفا. وعلى الرغم من بلوغ منتهاها مبكرا، إلا أن المساعي اللاحقة ظلت تواصل محاولاتها وفق نسق أشبه بـ"ماكنة خياطة" تفصل المبادرة على مقاس شخص الرئيس. وعلى مدى شهر ونيف، ما كان لتلك المحاولات إلا أن تثبت مزيدا من الفشل إذ تحاول عبثا قسر تلك الحقيقة.

على ضوء ذلك، برزت أهم التساؤلات: لماذا؟ وعند الإجابة كانت معظم الأنظار تتجه صوب الإرث التاريخي الذي تحمله الجارة الشمالية (المملكة العربية السعودية) كلما لزمها التعامل مع جارتها الجنوبية (اليمن). حتى مع أن تلك المبادرات الخليجية جاءت في إطار تكتل دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أن الكثيرين ما كانوا قادرين على تجاوز الحقيقة المفترضة أن المملكة هي الطرف، ليس الأكثر تأثيراً وحسب، بل الأكثر احتياجا لحدوث ذلك كله.

فيما يتعلق باليمن، يؤمن الكثيرون أن السعودية، أكثر من غيرها من دول الخليج، تحاول توجيه الثورة الشبابية الشعبية في طريق آخر تتوخى فيه حرفها عن مسارها الذي باتت تتجه إليه بعزيمة ثابتة منذ ثلاثة أشهر. ذلك أن أبسط التفسيرات المنطقية تقف عند حقيقة القول إن أي نظام "ملكي" لن يكون في مصلحته تعزيز وتقوية توجهات الشعوب الراغبة في إحداث تغيرات بنيوية في شكل النظام الديمقراطي بحيث يصبح أكثر تعددية تسهل معها عملية التداول السلمي للسلطة.

إن السماح بحدوث ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تأثيرات انعكاسية من المرجح أن تسوق معها اضطرابات داخلية تطال منظومة الحكم السلالي الملكي المتعارض مع الطبيعة البشرية.
ناهيك عن أن حدوث مثل ذلك بفعل العدوى الثورية التي طالت المنطقة العربية سيعمل أكثر على جعل التهديد أقوى من أي وقت مضى. ولعل التوجه الأخير لدول المجلس بسعيها ضم مملكتي الأردن والمغرب إلى التكتل الخليجي يأتي في هذا الاتجاه. ومع أن مثل هذا القرار قد يرتبط بالمقام الأول بمخاوف خليجية جماعية من سياسات وتوجهات دولة إيران، إلا أن ربيع الثورات العربية جاء ليكون العامل المساعد للتسريع في اتخاذه.

ذراع المملكة في اليمن جيوبوليتيكيا
منذ تأسيسها مطلع القرن الماضي، اتسمت المملكة السعودية بديناميكية حيوية في التطور والنمو وفقاً لأحد المبادئ التقليدية القديمة لعلم الجيوبوليتك الذي ينظر إلى الدولة باعتبارها "كائنا عضويا في حركة متطورة". وأن أي كائن حي لا ينمو، فإن مصيره الهلاك أو الزوال.

لقد اتجه النصيب الأكبر من هذا التوسع والنمو العضوي ليطال الجانب الحدودي اليمني أكثر من غيره. مع أن ذلك كان يتم عبر اتفاقيات ومعاهدات أبرزها اتفاقيتي "الطائف" في العهد الإمامي، و"جدة" في عهد الرئيس صالح.

وعلى مدى خمسين عاما تقريباً، احتفظت السعودية بسياسة خاصة في اليمن على قاعدة "تأثير وسيطرة الأقوى". ومع أن مثل هذا السلوك ظل –وما زال- يثير حفيظة وغضب شريحة واسعة من الشعب اليمني، إلا أنه بالنسبة للمملكة –كأي دولة قوية- لم يكن أكثر من حاجة سياسية طبيعية تفرضها مبادئ الجغرافيا السياسة (تأثير الجغرافيا وفقاً لخصائصها الطبيعية والبشرية في السياسة). وفي المقام التالي، فهو لا يخرج عن كونه تجسيدا طبيعيا آخر لأحد المعاني "الجيوبوليتكية" بجزئه المعني بالبحث "عن الاحتياجات التي تتطلبها هذه الدولة لتنمو حتى ولو كان وراء الحدود".

ممارسة المفهوم التقليدي القديم لعلم الجيوبوليتك عبر التوسع والنمو بالاحتلال العسكري أو حتى الخديعة برسم خرائط حدودية جديدة، نحا به ليصبح علما لا أخلاقيا منبوذا حتى كاد يختفي من الميدان. لكن ومع خروج الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية كأكبر قوة عالمية، ظهر على المسرح الجغرافي مفهوم جديد للجيوبوليتيك وهو "الحدود الشفافة"، بمعنى الهيمنة الاقتصادية والعسكرية دون حدود خرائطية للدولة.

وفي عصرنا الحديث المكدس بالقوانين الدولية المانعة والمعيقة للتوسع العضوي عبر الاحتلال الجغرافي، فإن فكرة السيطرة "من على بعد" بدت هي الطريقة الفضلى تجسيد لتطوير الأفكار الجيوبوليتيكية. ومنذ الثورة اليمنية الأولى في العصر الحديث (ثورة 26 سبتمبر 1962) امتدت ذراع المملكة "البعيدة" لتوجه مسار السياسات الداخلية للبلاد. فتارة بدعم الملكيين، وأخرى بدعم الجمهورين، وثالثة بدعم الشمال ضد الجنوب، ورابعة العكس..الخ
ولقد بات من شبه المؤكد لدى الكثيرين، أن التخلف القائم هنا تقف وراءه الجارة القوية. فعوضاً عن المخصصات المالية الكبيرة التي تمنحها شهرياً لمعظم المشائخ، لكسب ولائهم، فهي قد ظلت تخصص أضعافها لصناع القرار اليمني بأعلى مستوياتهم.

التحولات الأخيرة للمواقف
لا تؤثر المملكة على مسار الأحداث في اليمن وحسب، بل باتت تملك أذرعا "شفافة" تمتد إلى دول عربية عدة. حتى أنها أصبحت من أهم حلفاء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط، لسببين: الأول: لحجم ثرواتها النفطية، والآخر لنفوذها في المنطقة.

غير أنه ومع ذلك كله يبدو الأمر بحاجة إلى التريث وعدم المبالغة بالأحكام النهائية لتبدو هي الحقيقة الوحيدة المتاحة لا غيرها. من وجهة نظر عاطفية، لا ضير أن تملأ الكراهية قلوبنا لهذه الجارة. أما من وجهة نظر العقلية السياسية، فما يحدث بحده الأدنى سيفرض على أي دولة –بغض النظر عن طبيعة نظامها، ملكيا كان أم جمهوريا، ديكتاتوريا أم ديمقراطياً– التعامل مع جيرانها الضعفاء الفاشلين وفق مسارين. الأول يتعلق بالشهية والأطماع، والآخر بالتخوف من آثار ونتائج الاضطرابات.

وفي اعتقادي أن ما يحدث اليوم إزاء اليمن انتقل من المسار الأول، وباتت العلاقة محكومة بالمسار الثاني. لقد أخذت المملكة معظم ما تريده من المساحات الجغرافية الحدودية عبر الاتفاقيات مدفوعة الثمن. بيد أنها اليوم باتت تخشى من آثار الاضطرابات والصراعات في اليمن من حيث أنها ستؤدي إلى تقوية أعدائها الجدد من تنظيم القاعدة وحركة التمرد الحوثي على حدودها.

وخلال العقد الأخير، خاطب الرئيس بشكل تدريجي متصاعد تلك المخاوف من خلال دعم تلك الأطراف وتقويتها، وإن بطرق وأساليب غير مباشرة، ليكسب المزيد من الأموال والدعم والثقة. غير أن الخاتمة لم تكن تشبه النتيجة التي خطط لها. لاسيما بعد أن كشفت وثائق ويكيليكس تشكيكات أمراء القرار السعوديين بنوايا ومصداقية الرئيس "صالح".

ومع ذلك، انقسم القرار السعودي باتجاهين. الأول يتزعمه العاهل السعودي الذي ما زال متجملا من تساهل "صالح" معه بالتوقيع على تجديد اتفاقية "الطائف" بصيغتها التوسعية الجديدة تحت اسم اتفاقية "جدة". والآخر، يتوحد عليه المختلفون على العرش (سلطان ونائف) باعتبار "صالح" شخصا مخادعا و"ألعبانا" كبيرا، يتوجب عدم التعامل معه بثقة مطلقة.

إمكانية التحول السعودي نحو دعم الثورة
على هذا الأساس المتغير، مضافا إليه مسألة التعامل مع كون التأثير السعودي في اليمن أمراً واقعاً لا يمكن التخلص منه على المدى القريب على الأقل، فمن اللازم التعامل مع أي تدخل سعودي قادم في البلاد بطرق ووسائل تتناسب مع الواقع لا مع الإرث التاريخي لكل مكون من مكونات الفعل السياسي.

لا تتمتع المملكة بعلاقات تاريخية جيدة مع مختلف التيارات الحزبية للمعارضة. ومن يتحدث عن علاقات جيدة مع حزب الإصلاح مثلاً، فهو لا يفقه شيئا في تاريخ المملكة السيئ مع الإخوان المسلمين. ومع تلك الحقيقة الناصعة، إلا أن إمكانية التعامل مع الأعداء التاريخين لن يكون مستحيلا لدولة تسعى للتخلص من مخاوفها وفق أي صيغة ممكنة مبنية على تحقيق مصالح متبادلة بما فيها رحيل "صالح" الذي تدرك المملكة أن المراهنة عليه باتت أمراً خارج التاريخ والجغرافيا والسياسة وحتى مفاهيم الجيوبوليتيك التقليدية والحديثة.

ما يعزز ذلك، أن سياسة الأمر الواقع التي ظلت هذه الجارة تتعامل وفقها، جعلتها تبدل مواقفها –حتى تلك الأيديولوجية– وفقاً لبوصلة المصلحة، بدرجات وزوايا متعددة، وصلت بعضها التحول 180 درجة. فمن دعمها للملكيين، إلى التخلي عنهم، ودعم الجمهوريين في وقت لاحق. ثم من دعمها للشمال ضد الجنوب الاشتراكي قبل الوحدة، إلى دعمها هذا الأخير في حرب 1994.

وبالأمس فقط، برزت نبرة أكثر حدية إزاء الرئيس "صالح" من قبل مصادر دبلوماسية خليجية أكدت عبر الصحافة أن زيارة الزياني الأخيرة إنما تأتي فقط لتنتزع من "صالح" قراره النهائي من المبادرة بنعم أو لا. وألمحت إلى أن نتائج هذه الزيارة ستحدد طبيعة التعامل القادم مع النظام. وقبلها بيومين قال مصدر مقرب من دوائر الدبلوماسية الخليجية في صنعاء أن دول الخليج –وعلى ضوء نتائج زيارة أمينها العام- ستتخذ موقفاً قد يصل إلى حد سحب المبادرة ودعوة صالح إلى التنحي الفوري.

لعل مثل تلك التصريحات، التي سبقتها كتابات وانتقادات لاذعة لصالح ونظامه خلال الأيام الماضية، لاسيما في صحف سعودية ومن قبل كتاب سعوديين مرموقين ومقربين من أصحاب القرار، لتدل في معانيها على التوجه الخليجي والسعودي القادم إزاء هذا النظام الذي بات من يوم إلى آخر يفقد ثقة المجتمع الخليجي بعد المجتمع الدولي.

الحوثي ورسم ملامح اليمن الحديث
تتبدل المواقف السياسية وفقا للمصلحة العامة. وعليه فليس من الحصافة تكريس العداء بشكل مطلق، كما أن بعثه لن يكون هو السبيل الصحيح لدعم توجهات الثورة الشعبية، سواء في تحقيق إنجازها التاريخي، أم بعد إنجازه. الأمر بحاجة إلى خطاب تطميني أكثر منه خطاباً متهوراً، يستقوي بخيار الثورة وفق نبرة تهديدية سمجة.

ومن هنا، قد يكون من اللازم أن يفكر المحسوبون على جماعة الحوثي –إعلامياً– بطريقة سياسية أفضل من تسويق جماعة الحوثي على أنها القوة العاتية التي أذلت المملكة والتي ستهد أركان الإمبراطورية السعودية.
إن مثل هذا الخطاب القتالي الاستعدائي المترافق أصلا مع واقع قتالي توسعي نحو محافظات أخرى، لن يتمترس ضده من هم خارج الحدود اليمنية فحسب، بل من شأنه أن يخيف شركاء الثورة من المستقبل الدامي الذي يرسمه هؤلاء لما هو قادم أسوأ.

وإذا كان البعض في هذه الثورة العظيمة قد بدأ يشهد تحولا في نظرته إزاء مستقبل تلك الجماعة حينما انضوت في إطار العمل السلمي للثورة، إلا أن استمرار بعض النخبة المحسوبين على هذا التيار في بعث وتكريس حديث العداء الأيديولوجي للفكر الآخر، جنباً إلى جنب في سياقات الحديث عن الفعل الثوري، لهي حماقات سمجة تجر هذا الحدث الثوري العظيم بنقاوته وسلميته إلى مربعات الذاكرة التاريخية الأكثر بعثا على القلق.

في النهاية سيتوجب على قادة الحركة الحوثية أن يثبتوا حسن نواياهم بإعلان تخليهم عن العمل المسلح كخيار حتمي والانضواء في العمل السياسي المدني لاسيما وقد زالت مسببات حمل السلاح مع خروج معظم أبناء الشعب سلميا لإسقاط النظام الذي أذاق الجميع ويلات سياساته العمياء.